الحفر عميقاً في تربة صعبة

أي حديث سريع عن مارجريت أوبانك الكاتبة والناشرة، لا يفيها حقّها، لما قدمتّه من إنجاز نوعي للثقافة العربيّة، من محيطها إلى خليجها كما درجت التسمية. وهي بمعيّة أحد أصدقاء الماضي الجميل و«المَهاجر» بفتح الميم، الأكثر حناناً وإدهاشاً من نقيضها وفق المتداول في الثقافة الثنائيّة، أسسّا بدأب وكدْح لجسْر الترجمة والتفاعل الخلاّق بين العربيّة والإنجليزيّة عبر مجلة «بانيبال»، التي قطعتْ شوطاً من الكمّ والإنجاز بمكان محفوظ وأكيد في ذاكرة الثقافة والأدب.
وإذ أؤجل الحديث عن الصديق (التاريخي) صموئيل شمعون؛ فإن مارجريت أوبانك الإنجليزية الأصيلة التي تتحدر من أسرة ناشرين وكتّاب إنجليز، وهبتْ نفسها ومالها وجهدَها لثقافة العرب وأدبهم في شتى المناحي والتجليّات.
والإشارة هنا إلى أصالة اماجيب الإنجليزية بالمعنى الإبداعي المفارق للكولونياليّة وقيم الاستعمار الإمبراطوري التي طبعتْ العالم بالقسوة والاستغلال وتجعلها االأصالةب لصيقة بتلك القيم القادمة من نهر المعرفة والأدب الإنجليزيّين المنفتحة على المدار الإنساني والجمالي، أي ما هو نقيض تلك القيم.
وإذ كانت ابانيبالب وما يتبعها من مطبوعات ونشاطات استطاعت عبر السنين، أن توجد مثل هذه المكانة في أوساط اللغة الإنجليزية ومؤسساتها ومنتدياتها المختلفة الأمكنة والأنماط، فيخال المرء أن وراء المشروع فريق عمل كبيراً، وليس اماجيب مع صموئيل، ومثل هذه المكانة من الصعب إيجادها في أوساط اللغة المهيمنة على مفاصل العالم والتاريخ المعاصر، حتى من قبل مؤسسات مموّلة من دول ومبرمجة؛ إنه الإصرار والصبْر في الحَفر عميقاً في التربة الصعبة، ليس في الإنجليزية فحسب، بل في العربيّة التي لا تُولي أوساطُها ومؤسساتها الرسميّة أي أهميّة للثقافة والأدب، خارج الدعاية والإعلام الرسمييّن. لكن مارجريت، ورثتْ روح التضحيّة والمحبّة للأسرة الإنسانية، والعرب المنكوبين شعوباً وثقافة، وبخاصة في هذه اللحظة التراجيديّة التي يُستباح فيها ما تبقى من إنسان وقيم، فطرة وأخلاق، تحت آلة الهمجيّة والسحَق، أمام أعين العالم المتحضر القادر والقوي، على وقف المجزرة في أي لحظة ومكان، لكن لا ضمير ولا وجدان ولا من يحزنون. وقبل توجيه الكَلام الدامي إلى االآخرب المهيمن، هو موجه بالدرجة الأولى والألف إلى قادة هذه الأمة وشعوبها المفجوعة، الذين سمحوا للوصول إلى قعْر هذه الهاوية والحضيض.
قلت إن مارجريت أوبانك، ورثت روح التضحية والجَلد من تقاليد الثقافة الإنجليزيّة والأوربية التنويريّة المؤمنة بقيم الخير والجمال والأخوّة، مع غض النظر عن العرق والدين، القوة والضعف... إلخ.
بعد هذه السنين التي تراكمت بسرعة صاعقة تقصف أعمارنا من غير هوادة وليست الرحمة من طبيعتها، وبعد إنجاز مشروع ابانيبالب، وكنت قد شهدت ولادة المشروع الناجح، لا يسعني إلا أن أوجه التحيّة عالية محلقّة كالطيور المهاجرة المرِحة من سماء عُمان إلى اماجيب وصموئيل في لندن، بذلك المنزل الواقع قرب مطار هيثرو قريباً من قنوات االتيمزب الخصيبة دائماً، والذي ما زلتُ أمتلك وردة في حديقته، وردة تقول اماجيب إنها الوحيدة التي لا يكسرها البرد القارس ولا الرياح الهوجاء.
تحية ومحبّة .