زهر غفران

زهر غفران

صغيرة السن، حنطية اللون، لبقة مهندمة، لم تتجاوز العاشرة من عمرها، لها عينان صغيرتان غائرتان، ووجنتان ممتلئتان، حين تبتسم تنغمر لحيمات خدها الترف وكأنها تصل الى أضراسها. 
كانت تتجول وحدها في صالة المعرض المكونة من طابقين، في حركتها الرشيقة اهتزاز جميل لجديلتها الطويلة، جعلتني أراقبها خلسة، إلى أن التقت أعيننا ببعض، وابتسمت لها، فاقتربت مني كأنها تنتظر تلك الإشارة. دار بيني وبين تلك الفتاة حوار ممتع لا يدار إلا بإعداد مسبق ومتقن، التقطت ذاكرتي منه اسمها المميز «غفران»، وشغفها بالقراءة، ولكوني أمثل مجلة العربي الصغير في ذلك المعرض، فقد سردت لي غفران ما أعجبها من قصص ومواضيع في أعداد قديمة للمجلة تحتفظ بها. 
ووسط حديثها وقعت أذني على جملة نطقتها بصوت منخفض وحزن لا يليق بها، وطلبت منها أن تعيدها فقالت: «أنا ما عنديش زهر» بتسكين حرف الزاي وفتح الهاء. ولجهلي بلهجتها التونسية، فسرت جملتها تفسيرات خاطئة عدة، وبعد الاستعانة بأحدهم فهمت أنها تقصد أن ليس لديها حظ، لأنها لا تستطيع أن تقتني المجلة حاليا!  صُدمت، لا من قولها، ولا من فحوى مقولتها، بل من وقاحة ذلك الحظ الذي ينتهك سعادتنا. 
أعلم جيدا ماذا تعني الأمنيات وماذا تفعل بنا، وكيف تتحول أحيانا إلى أحلام عصية تمهد طريق المستحيل جيدا، وتتفنن في صوره. 
صدمت، لأن غفران قالت جملتي الصديقة اللصيقة، التي لازمتني سنوات، رأيت نفسي فيها، سمعت لسان حالي على كل عائق وعثرة، يقضي على أمل لم أنله، أو مشروع لم يكتمل، أو خطوة لم تتخذ، أو مخطط لم ينجز. 
في قول غفران «أنا ما عنديش زهر» رأيت ضآلة أمنية عظَّمها عقل مبرمج، وحسرة حارقة لامست روحا رضية، ولا تستحق مهما بلغت ألم نفس وعبوس وجه، لا تستحق حين ندرك جمال الحاضر، ونتفاءل بخير المستقبل المقبل. انفعلت، وأنا أحاول إقناع غفران بالتراجع، قولاً وفكراً، عن تلك المقولة، وعدم تكرارها واستخدامها للتعقيب على أي حدث في حياتها، بل حاولت إحباط جملتها وحكمها على نفسها، بجلب زهرها بأي طريقة أو شكل يذكر. 
أغدقت عليها زهرها المتمثل في مجلة العربي الصغير، التي كانت للعرض فقط، بل أعطيتها عددين مختلفين كنت أحتفظ بهما، لأثبت لها فقط أن لديها «زهراً» كبيراً جداً. في الحقيقة، كان هناك دافع آخر لانفعالي الغريب، فمن خلالها وددت أن أؤكد لكل من يفتقد زهره (حظه)، أن الحظ خدعة ماكرة، نحن نصنعها بمهارة عالية ودقة متناهية، فنختار عناصرها، ونحبك سيناريوهاتها، ونصوغ أفكارها بترابط كبير ومحكم، لدرجة تجعلنا قادرين على إصابة التنبؤات المستقبلية المتعلقة بنا وبمحيطنا إصابة بليغة متقنة لا يضاهينا بها أمهر المتنبئين، وأبرع المنجمين، فنقتنص السيئ، ونتعلق بالرديء، ونتبع الطالح، ثم نلوم أنفسنا بهروب الحظ منا. 
عزيزتي غفران، غفر الله لي ولك، بعد أن كثرت تجاربي وزادت خبرتي مقارنة بك لا بأحد آخر، سأقول لك شيئا: زهرنا (حظنا) إن انغلق يوما ما فقد كان بأيدينا، لا بيد أخرى، نحن خططنا جيدا لغلقه.  لذا لنفتح الآن ومعاً «زهرنا» الجديد، ونتعرف على حظنا الجيد بعد سنوات من فقدانه وضياعه، من خلال النية الطيبة، والفطرة السليمة الأصيلة لنفسنا البشرية، التي يتفق فيها السبب والنتيجة على الخير، ومن خلال العمل، فالحركة صاحبة البركة، وأخت الثقة بأننا لا نستحق إلا الأفضل والأجمل من هذه الحياة .