الروائي اليمني علي المقري: الرواية لم تعد تهتم بالأبطال بل بالإنسان اللابطل
تبدو حياة الروائي اليمنيّ علي المقري (1966) حالة مغلّفة بالقلق قبل أن يستقر في عالم الرواية... افتتح اشتغاله الكتابيّ بكتابة القصّة القصيرة التي بدأ ينشرها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لكنّه أجّل نشر مجموعة قصصية كان قد كتب عنها عبدالعزيز المقالح عام 1986 ونشر بدلاً منها مجموعة شعرية له هي «نافذة للجسد» (1987)، ليصدر بعدها «ترميمات» (1999) و«يحدث في النسيان» (2003)، وخلال هذا كله لم تنقطع حلقة الوصل بينه وبين العمل الصحافي، حيث عمل مشرفاً على أقسام ثقافية في أكثر من جريدة محليّة، كما اشتغل بأبحاث في التراث الإسلامي أثارت جدلاً واسعاً، وللأطفال كتب «أديسون صديقي» ضمن سلسلة كتاب «العربي الصغير». وفي عام 2007 عاد المقري إلى عوالمه السردية الأولى متجهاً نحو الرواية هذه المرّة، فظهر كما لو أنه إعلان جاء متأخراً عن اشتغال صامت كان ينحت بداخله، وأصدر على التوالي «طعم أسود... رائحة سوداء» و«اليهودي الحالي» وصعدتا إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، ثم «حرمة»، وصولاً لإصداره الطالع حديثاً «بخور عدني».
روايته «اليهودي الحالي» ترجمت إلى الفرنسية بعنوان «Le Beau Juif»، وإلى الإيطالية بعنوان «IL BELL/EBREO» وستصدر قريباً بالكردية وغيرها، كما ستصدر رواية «حرمة» قريباً بالفرنسية والإنجليزية... كان لنا حوار مع هذا الروائي اليمني، وفي ما يلي نصه:
< بعد روايتك لمسيرة الناس العاديين والمهمّشين في «طعم أسود... رائحة سوداء» التي تجري في مدينتك الأصلية تعز، ورحلتك في تاريخ «اليهودي الحالي» و«حرمة» المفتوحة على همّ اجتماعي، نرى استقرار علي المقري في مدينة عدن لتكون أرضية لعمله الأخير «بخور عدني»!
- في روايتيّ «طعم أسود... رائحة سوداء» و«اليهودي الحالي»، اختبرت مفهوم الوطن باعتباره تجربة إنسانية قد لا تتحقق وتتحول إلى محنة، سواء في معاشه أو في فكرته، وذلك من خلال فئتين هما الأخدام، وهم السود في اليمن، واليهود، إذ يعيشان حالة نبذ في وطن لا يقبلهما. في «بخور عدني» لم يعد الوطن غير المحقق موضع اختبار، وإنما البديل عن الوطن، إذ لا تبحث الرواية عبر بعض شخوصها عن بديل مكاني ومعيشي، وإنما تبحث عن إمكان إيجاد بديل للوطن، سواء في فكرته ومفهومه أو في تسميته. وقد بدا لي أن هناك إمكاناً لاختبار مفهوم اللاوطن، أو التساؤل والبحث عن البديل عنه، في مدينة عدن التي أظهرت إمكانات التعايش بين مختلف الأعراق والهويّات في فترة من تاريخها، كما أظهرت في الوقت نفسه مهدّدات هذا التعايش ومحنه الإنسانية.
< وعلى الأرض، أو بشكل أدبي، كيف ظهر ذلك التعايش؟
- حسب الساردين والمسرودين في الرواية، بدت هناك إمكانات للعيش في عدن بعيداً عن سطوة المحددات السلطوية الفارضة لواجباتها الوطنية، ومنها المشاركة في الحروب، إذ يُطلب من القادم إلى عدن المشاركة فيها كواجب وطني لا نقاش حوله، حتى إذا أظهر إعاقة جسدية تبرر له تقاعسه عن المشاركة، فإن ما سيسأل عنها هي «الإعاقة الوطنية». وقد تتداخل الشخصيات وتتشابه المواقف، دون أن تكون هناك حالة ارتباك، فميشيل حين يتحمس للحرب، دفاعاً عن الوطن الفرنسي، وتحريراً له من النازيين، يردد الكلمات نفسها التي كان قد سمعها مع قصّة الجزائرية المكافحة للاستعمار الفرنسي لبلدها.
هذه الإمكانات لا تكمن في عدم وجود الواجبات «الوطنية» السلطوية فحسب، بل في حال التعايش المجتمعي، حيث حرّية الاعتقاد والتجارة وإنتاج الفنون، سواء تلك المعبرة عن الهويات الثقافية أو الخارجة عنها، كما تتجلى إمكانات التعايش أيضاً في الحب والزواج المختلط بين كل الأعراق والثقافات، وفي تجاور المساكن بأحياء لا يقتصر العيش فيها على فئة معينة، مثل الحي اليهودي في عدن، الذي وإن كان قد عُرف بهذا الاسم، فلم يكن يشبه تجمعات الجيتو اليهودية المنغلقة في معظم البلدان، إذ سكن في الحي نفسه المسلمون والمسيحيون والهندوس والزرادشتيون وغيرهم، لكن في المقابل لم تخل هذه الحال من مهددات للتعايش، وقد بدا ذلك في العبء الأسطوري للتاريخ وربطه بالهوية الدينية والقومية والوطنية، وهي هويّة متغيّرة تقدّم في كل زمن أجوبتها الشمولية عن كل شيء، يتساوى في ذلك رجال الدين والثوار الوطنيون أو القوميون، كمفهومهم للوطن وحدوده وسلطته السياسية، وهذا المهدد للتعايش ينمو أكثر مع وجود سلطة استعمارية تحتكر الإدارة السياسية والوظيفية، وتنفرد بوضع شروط الحق في العمل والمشاركة المجتمعية، فممارسات مثل هذه قد تكون المسبب الأول لتنامي فكرة الوطن وسلطة الوطنيين الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق في الأرض والبحر والسلطة والمال، وخاصة إذا كان هذا المال ينمو مع اتساع رقعة الفقر وغبن الفقراء المتراكم إلى حد الانفجار والثورة.
< قد يذهب بنا هذا الطرح لتحديد حجم المساحة التي قد تسمح لنا بوصف رواية علي المقري بالرواية التاريخية.
- في «بخور عدني» يمكن العثور على إشارات تاريخية في سطور قليلة تعود إلى سنوات تمتد من منتصف أربعينيات القرن الماضي حتى أوائل سبعينياته, لكنني لم أكتب رواية تاريخية، حسب المفهوم التقليدي أو الحديث لهذه الرواية، فالرواية في تخيلها التاريخي لا تنقل التاريخ، وإنما تضع جوانب من معاشه الاجتماعي والسياسي في المحك الروائي لتختبرها كتجربة إنسانية وتساؤلها في محك هذه التجربة، فأن تكتب عن خلفية تاريخية في الماضي مثل ما تكتب عن خلفية معيشة في الزمن الحاضر، ألست هنا أيضاً تتحدث عن خلفية مكان وزمان؟ إذا كان لك ذلك، فالسؤال ماذا ستكتب؟ أو ماذا ستروي؟ وهل يحمل ما تختبره محنة إنسانية أو وجودية لم تُقرأ من قبل أو تُكشف روائياً؟
ما يبدو لي أنّه إذا سلّمنا بصحة بعض التصنيفات الصحفية لمفهوم الرواية التاريخية، فسيكون من الممكن اعتبار «الصخب والعنف» لوليام فوكنر رواية تاريخية، لأن فوكنر يشير في ملحقه الشارح لحوادث الرواية إلى أن تاريخ آل كمبسن يرجع إلى عام 1699، بينما تروى القصة في أزمنة بين 1910و1928، وتمتد في سردها إلى عام 1935، أي إلى ست سنوات بعد نشر الرواية عام 1929. وكذلك يمكن اعتبار «مائة عام من العزلة» لماركيز تاريخية، لأن الرواية الصادرة في عام 1967 تسرد تحولات ماكوندو عبر قرن من الزمن، وإن كانت تسمية المكان خيالية فإن أجواءه التاريخية الاجتماعية لا تبتعد عن موطن الكاتب كولومبيا، وعلى هذا النحو يمكن تصنيف روايات التشيكي ميلان كونديرا على أنها تاريخية، لأنّه يشير إلى أحداث وقعت في تشيكوسلوفاكيا وأوربا، سواء كانت سابقة لحياة الكاتب أو معاصرة له، وهكذا فالكاتب بإمكانه أن يستعيد حدثاً ما، سواء بنقله أو بالإشارة إليه إذا رأى أنّه يسهم في إضاءة المحنة الإنسانية التي يتناولها، ولا يعني هذا أنه فقد القدرة على الخيال، كما يمكنه أن يجلب الحاضر للماضي ويضع أحداث هذا الحاضر في محك استباقي، والتصور الملحوظ هو أن الكاتب عادة ما يقوم بسرد الماضي من الآن، بل إن الحاضر نفسه يصبح ماضياً لديه، وهو يكتبه، وأحياناً تبدو الكتابة عن المستقبل أيضاً غير مبتعدة تماماً عن الماضي، سواء القديم أو الحاضر المعيش الذي يتحول مع كل لحظة إلى ماض، وهنا أشير إلى ما عمله جورج أورويل حين صوّر في روايته «1984» التي كتبها في عام 1949، واقعاً مستقبلياً رأى فيه لندن، وقد صارت تحت سطوة الحزب الواحد وزعيمه «الأخ الأكبر»، وقد رأى نقاد أن المدينة المعنية حينها كانت موسكو وليست لندن، وأن ستالين هو «الأخ الأكبر»، إلا أن رواية أورويل لا تقاس أهميتها، كما يبدو لي، في مدى تطابق أحداثها مع الزمن الذي كُتبت فيه، أو أعقبته، حيث هتلر وستالين والفاشية ودكتاتورية الحزب الواحد، أو في مدى تحقق توقعاتها لحال لندن والأماكن التي تسميها لعام 1984، وإنما يمكن اكتشاف هذه الأهمية في قراءة أوسع انفتاحاً للرواية، ومن ذلك أن في هذا العام المعنونة به الرواية كانت الدكتاتورية الفردية والتسلط الشمولي للحزب الواحد مازالا قائمين في كثير من البلدان، ومنها البلدان العربية التي منعت نشر هذه الرواية، على الأرجح، إذ لم تصدر ترجمة متكاملة لها بالعربية إلا بعد ستين عاماً من نشرها، وإثر رحيل أبرز الدكتاتوريين العرب.
< بالنظر إلى تعدد الشخصيات التي ازدحمت بها «بخور عدني» مقارنة بإصداراتك السابقة، هل أتاح لك هذا الذهاب لاستثمار أدوات مغايرة للسرد؟
- بالتأكيد، فتداخل الشخصيات المسرودة والساردة في ما بينها، كشف لي إمكانات سردية جديدة، بعيدة عن المفاهيم المكرّسة أو المتعارف عليها.
ففي الرواية هناك من يروي بضمير «الأنا»، مع تقاطعات سردية بضمير الـ «هو»، وأحياناً بضمير المخاطب الـ «أنت». وهي ضمائر تتداخل كحال الشخوص، إذ القادم إلى عدن يعمل على إخفاء هويته ولا يريد أن يفصح هل هو فرانسوا أو ميشيل، ولهذا لا يبدو السارد بضمير الـ «هو» راوياً عليماً أو كليّ المعرفة، حسب التصنيف التقليدي لطرق السرد، وإنما راو في حال تداعٍ أو منولوج داخلي لا يختلف عن الـــتـــداعــــي الذاتي في ضمــــير الـ «أنت» أو الـ «أنا». وكما في كل رواياتي، تبنى الشخصيات على تعدد الأصوات، وهناك مستويات عدة في اللغة، تعتمد التكثيف في الجمل الطويلة والقصيرة، مع الحرص على أن يقترب هذا المنحى من نبرة السارد المفترض في الرواية وكيفية قيامه بالسرد، وألا يبتعد عن النبرات الصوتية للشخوص المتكلّمة وطريقة تعبيرها بالكلمات، لهذا تبدو المفردة منتقاة بحسب موقعها السردي، وقد تتداخل أحياناً مستويات لغوية عدة في السرد الواحد، فبعضها يقترب من المعيش اليومي، وبعضها ينحو إلى لغة أدبية، لكنها ليست بلاغية، وإن بدت، أحياناً، مصوغة بطريقة شعرية، فالشعرية هنا يمكن أن تتحقق في بنائها اللغوي ضمن أي مستوى سردي وبأي مفردات، ولا تعني تجلّياً رومانتيكياً، كما يذهب البعض، حين يخلطون بين العبارة الشعرية والقص الرومانتيكي.
< إلى أي مستوى يمكن اعتبار الإشكالية التي تعرضها «بخور عدنيّ» قد أتت في سياق الوضع الراهن الذي يعيشه اليمن؟
- لا أظن أن من الضرورة أن تكون الرواية في سياق الوضع الراهن، ولكن هذا لا يمنع أن تكون هناك قراءات متعددة ومختلفة، قد تقارب محنة الصراع بين أزمنة سردية مختلفة، سواء في تطرّفها الديني أو السياسي، وإن بدت في حال من الاختلاف البسيط، فالرواية إذ تقارب بين محنة التطرّف الديني والثوري تضع تجربة الثورة في المحك، حيث قامت سلطتها بإعادة تعريف وتسمية كلّ شيء: الدين، الوطن، الوطني، السلطة، الحرّية، التجارة، الفن، الأخلاق والحب، دون أن يسمح القادة الثوّار لأحد بأن يشاركهم في هذه التعريفات، وذلك في منحى لا يختلف في خطابه عن الخطاب الديني، إذ أصبحت التوجيهات باتباع أهداف الثورة والالتزام بقرارات القادة الثوار مشابهة لما كان يدعو إليه رجل الدين، وهو الالتزام بطريق الإسلام الصحيح واتباع تعاليم مرشدي الأمة.
< قد يدفعنا هذا للمرور عبر فكرة البطل أو المنقذ في ثنايا إنتاجك الأدبي.
- يبدو لي أن الرواية التي تكتب الآن، أي رواية، لم تعد تحفل بمفهوم أو شخصية البطل، بل يمكن القول إن الرواية بشكلها الجديد صارت من دون أبطال. ولهذا لا أهدف في رواياتي إلى البحث عن منقذ أو منقذين، سواء في الماضي أو في الحاضر، وإنما أحاول أن أستكشف إمكانات إنسانية في التعايش في ظل صعوبات تستقوي بالتاريخ والجغرافيا والأيديولوجية، بل يمكن القول إن «بخور عدنيّ» تختبر مفهوم المنقذ نفسه من خلال تشكّله الجماعي، إذ بدأ في الحكاية مع الثوّار حين صاروا في سلطة بديلة عن الإدارة الاستعمارية ومواجهتهم لكل من اختلف معهم، وقبلهم كان هناك من يعتبرون أنفسهم منقذين أيضاً كرجال الدِّين أو أولئك المنادين بأن تكون مدينة عدن خاصة بالعدنيين فقط.
< قد يُفهم أن طريقة وضعك نقطة أخيرة على صفحات الرواية اقتراح بتقديم حلول ما؟
- لا أظن أن من مهمة الكاتب تقديم الحلول والأفكار من خلال روايته، فالرواية لا تجيب عن أسئلة، وليس مهمتها التعبير عن موقف حزبي أو أخلاقي، أو القيام بالتلميع والدعاية لأي وجهة سياسية أو أيديولوجية، لأنها إذا قامت بمثل هذا فإنّها تكون قد خسرت صفتها الروائية، والروائي عبر سرده على هذا النحو ومن خلال الشخوص الساردة والمسرودة يقدم نفسه كمنقذ. بناء الشخصيات في رواياتي يتكئ على تعدد الأصوات، وهو تعدد غير منحاز وغير يقيني، وهذه الأصوات قد تكون في مجتمع ما، من داخله، وليس من خارجه، لا تقدم تعدده فقط، بل وتناقضه كذلك، حتى على مستوى الشخص الواحد أحياناً، وفي كل حال هناك نهايات مفتوحة، وإن بدت في خاتمة حدث أو حال، إذ هي تحفز على الأسئلة ولا تقدّم إجابات.
وما يبدو لي أن المسألة ليست في المحايدة، أو في المسافة التي يضعها الكاتب بينه وبين ما يكتبه، وإنّما في قدرته على الاشتغال بهواجس إنسانية جديدة، من زاوية لم تكتشف من قبل.
< تُرهقك القراءات المُستعجلة الباحثة عن تأطير إنتاجك الروائي؟
- قراءة الرواية، أي رواية، إمّا أن تكون محسوبة على القارئ ومستواه المعرفي، ومن ذلك مدى استيعابه كتابة غير نمطية، أو تكون محسوبة على كاتب النص ومستوى قدرته في إيجاد ملامح تقنية لكتاباته، وهذا يحتاج إلى بحث متفحص يقرأ النص والقراءة.
< اليوم، وبعد هذه الإصدارات الروائية، هل يمكن أن نبحث عن علي المقري الشاعر؟
- لا أعرف في الحقيقة، ما أعرفه أنني لم أكتب سوى نصوص شعرية قليلة جداً خلال السنوات العشر الأخيرة، ولا أظن أن الاشتغال بالرواية يتيح هواجس كتابية وفنية أخرى، لأن الرواية قد تستوعبها جميعاً بأشكال سردية مكثفة.
< هذا التكثيف قد يسمح لنا بالحديث عن بعض التساؤلات الخاصة بحجم أعمالك السرديّة، وإذا يُطرح نقدياً أنها من الممكن أن تكون أكثر توسعاً؟
- في رواية «طعم أسود... رائحة سوداء» حاولت أن أقترب أكثر من عالم الخدم معاينة ومعايشة، فرأيت أن الشخصيات المسرودة لا يمكن لها أن تتطور أو تنمو في أحداث متتالية، وإلا لكانت بعيدة عن هذا العالم الذي يعيش فيه الخدم كمهمشين مؤقتين، وليس سكّاناً مستقرين، ولهذا تبدو الشخصيّات المسرودة عابرة، تظهر فجأة حيناً، وتختفي وتغيب فجأة أيضاً في أحايين كثيرة، بل إن المهمش نفسه في عششه وأحواله الهامشية يواجه في النهاية سؤال الاختفاء المفاجئ، بل والانقراض، حيث مضت الجرّافات تزحف نحوه، مخلّفة لا شيء، لهذا تظهر شخصيات يرصدها السارد مع حالات أو أحداث، لكنها سرعان ما تختفي باستثناء القلة منها، وهذا التنقل بين الشخصيات نجده أيضاً في رواية «حرمة» ولكن من زاوية سردية مختلفة تعتمد على التداعي.
< ينطبق هذا على رواية «اليهودي الحالي»؟
- نعم، ولكن بشكل مختلف، إذ لا يوجد كثير من التفاصيل في تحولات شخصيات «اليهودي الحالي» الزمنية والمكانية، لأن البناء الفني اقتضى هذا المنحى في السرد، شخوص الرواية يظهرون في أزمنة غير متتابعة، وضمن سياق سردي يستفيد من فنيات السرد العربية، ومنها شكل كتابة الحوليات التاريخية، فمن سطرها الأول تبدأ هكذا: «ودخلت سنة...»، والحوليات عادة ما كانت تبدأ بخبر الوفاة، بحيث يبدأ الحديث عن الشخوص وحياتهم انطلاقاً من خبر وفاتهم في السنة المؤطِّرة للأحداث وأخبار الوفيات، مع تداخل أزمنة أخرى، في الزمان المحدد، بعضها قديمة، وبعضها معيشة، فالذين فاجأتهم وفاة فاطمة في الرواية لم ينتبهوا إلى أن السرد بدأ بخبرها، وإن بكلمات غير مباشرة، والاستفادة من هذا المنجز السردي اقتضته سياقات سردية وفنية، لكنه في الأساس ربّما يرجع إلى شغف شخصي لما اكتشفته من إمكانات في تاريخ السرد العربي، مع حرص بالطبع على عدم مطابقة أسلوب ولغة الحوليات.
< لهذا الاشتغال علاقة بالسرد الحديث الذي تطرقت إليه سابقاً؟
- هي محاولة في كتابة سرد، بقدر ما تستفيد من المنجز الفني للرواية خلال أربعة قرون، بقدر ما تبحث عن طرق مختلفة تستكشفها أو تستدعيها عملية الكتابة نفسها، فقد استفدت من تقنية الرواية الحديثة، ولكن من دون مماثلتها، فتفاصيل فلوبير وبرست، مثلاً، لم تعد قابلة للمماثلة في نصي، وفي المقابل ليس بالإمكان العودة إلى ما قبل سيرفانتس، أو ما قبل فن الرواية الحديثة، ويبدو لي أن استكشاف أي نص، ومدى حداثته، لا يكون عبر بناء شخوصه وتحولاتهم السردية فقط، وإنما أيضاً من خلال تفحص المفردة وتركيب الجملة وبناء الفقرة، إلى جانب المشهدية الرابطة لسياق الأحداث والشخوص في حركة مفتوحة لا تتقيد بتقاليد القص الحبكية المؤطرة في الزمان والمكان وتسلسل الأحداث أو تصاعدها .