الروائي اليمني علي المقري: الرواية لم تعد تهتم بالأبطال بل بالإنسان اللابطل

الروائي اليمني علي المقري: الرواية لم تعد تهتم بالأبطال بل بالإنسان اللابطل

تبدو‭ ‬حياة‭ ‬الروائي‭ ‬اليمنيّ‭ ‬علي‭ ‬المقري‭ (‬1966‭) ‬حالة‭ ‬مغلّفة‭ ‬بالقلق‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يستقر‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الرواية‭... ‬افتتح‭ ‬اشتغاله‭ ‬الكتابيّ‭ ‬بكتابة‭ ‬القصّة‭ ‬القصيرة‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬ينشرها‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬لكنّه‭ ‬أجّل‭ ‬نشر‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬عنها‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬المقالح‭ ‬عام‭ ‬1986‭ ‬ونشر‭ ‬بدلاً‭ ‬منها‭ ‬مجموعة‭ ‬شعرية‭ ‬له‭ ‬هي‭ ‬‮«‬نافذة‭ ‬للجسد‮»‬‭ (‬1987‭)‬،‭ ‬ليصدر‭ ‬بعدها‭ ‬‮«‬ترميمات‮»‬‭ (‬1999‭) ‬و‮«‬يحدث‭ ‬في‭ ‬النسيان‮»‬‭ (‬2003‭)‬،‭ ‬وخلال‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬لم‭ ‬تنقطع‭ ‬حلقة‭ ‬الوصل‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬العمل‭ ‬الصحافي،‭ ‬حيث‭ ‬عمل‭ ‬مشرفاً‭ ‬على‭ ‬أقسام‭ ‬ثقافية‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬جريدة‭ ‬محليّة،‭ ‬كما‭ ‬اشتغل‭ ‬بأبحاث‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬الإسلامي‭ ‬أثارت‭ ‬جدلاً‭ ‬واسعاً،‭ ‬وللأطفال‭ ‬كتب‭ ‬‮«‬أديسون‭ ‬صديقي‮»‬‭ ‬ضمن‭ ‬سلسلة‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬العربي‭ ‬الصغير‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬2007‭ ‬عاد‭ ‬المقري‭ ‬إلى‭ ‬عوالمه‭ ‬السردية‭ ‬الأولى‭ ‬متجهاً‭ ‬نحو‭ ‬الرواية‭ ‬هذه‭ ‬المرّة،‭ ‬فظهر‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬إعلان‭ ‬جاء‭ ‬متأخراً‭ ‬عن‭ ‬اشتغال‭ ‬صامت‭ ‬كان‭ ‬ينحت‭ ‬بداخله،‭ ‬وأصدر‭ ‬على‭ ‬التوالي‭ ‬‮«‬طعم‭ ‬أسود‭... ‬رائحة‭ ‬سوداء‮»‬‭ ‬و«اليهودي‭ ‬الحالي‮»‬‭ ‬وصعدتا‭ ‬إلى‭ ‬القائمة‭ ‬الطويلة‭ ‬للجائزة‭ ‬العالمية‭ ‬للرواية‭ ‬العربية‭ (‬البوكر‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬‮«‬حرمة‮»‬،‭ ‬وصولاً‭ ‬لإصداره‭ ‬الطالع‭ ‬حديثاً‭ ‬‮«‬بخور‭ ‬عدني‮»‬‭. ‬

روايته‭ ‬‮«‬اليهودي‭ ‬الحالي‮»‬‭ ‬ترجمت‭ ‬إلى‭ ‬الفرنسية‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬Le Beau Juif‮»‬،‭ ‬وإلى‭ ‬الإيطالية‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬IL BELL/EBREO‮»‬‭ ‬وستصدر‭ ‬قريباً‭ ‬بالكردية‭ ‬وغيرها،‭ ‬كما‭ ‬ستصدر‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬حرمة‮»‬‭ ‬قريباً‭ ‬بالفرنسية‭ ‬والإنجليزية‭... ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬حوار‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الروائي‭ ‬اليمني،‭ ‬وفي‭ ‬ما‭ ‬يلي‭ ‬نصه‭:‬

‭<‬‭ ‬بعد‭ ‬روايتك‭ ‬لمسيرة‭ ‬الناس‭ ‬العاديين‭ ‬والمهمّشين‭ ‬في‭ ‬‮«‬طعم‭ ‬أسود‭... ‬رائحة‭ ‬سوداء‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬مدينتك‭ ‬الأصلية‭ ‬تعز،‭ ‬ورحلتك‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬‮«‬اليهودي‭ ‬الحالي‮»‬‭ ‬و«حرمة‮»‬‭ ‬المفتوحة‭ ‬على‭ ‬همّ‭ ‬اجتماعي،‭ ‬نرى‭ ‬استقرار‭ ‬علي‭ ‬المقري‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬عدن‭ ‬لتكون‭ ‬أرضية‭ ‬لعمله‭ ‬الأخير‭ ‬‮«‬بخور‭ ‬عدني‮»‬‭!‬

‭- ‬في‭ ‬روايتيّ‭ ‬‮«‬طعم‭ ‬أسود‭... ‬رائحة‭ ‬سوداء‮»‬‭ ‬و«اليهودي‭ ‬الحالي‮»‬،‭ ‬اختبرت‭ ‬مفهوم‭ ‬الوطن‭ ‬باعتباره‭ ‬تجربة‭ ‬إنسانية‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تتحقق‭ ‬وتتحول‭ ‬إلى‭ ‬محنة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬معاشه‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬فكرته،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فئتين‭ ‬هما‭ ‬الأخدام،‭ ‬وهم‭ ‬السود‭ ‬في‭ ‬اليمن،‭ ‬واليهود،‭ ‬إذ‭ ‬يعيشان‭ ‬حالة‭ ‬نبذ‭ ‬في‭ ‬وطن‭ ‬لا‭ ‬يقبلهما‭. ‬في‭ ‬‮«‬بخور‭ ‬عدني‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الوطن‭ ‬غير‭ ‬المحقق‭ ‬موضع‭ ‬اختبار،‭ ‬وإنما‭ ‬البديل‭ ‬عن‭ ‬الوطن،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تبحث‭ ‬الرواية‭ ‬عبر‭ ‬بعض‭ ‬شخوصها‭ ‬عن‭ ‬بديل‭ ‬مكاني‭ ‬ومعيشي،‭ ‬وإنما‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬إمكان‭ ‬إيجاد‭ ‬بديل‭ ‬للوطن،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬فكرته‭ ‬ومفهومه‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬تسميته‭. ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬إمكاناً‭ ‬لاختبار‭ ‬مفهوم‭ ‬اللاوطن،‭ ‬أو‭ ‬التساؤل‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬البديل‭ ‬عنه،‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬عدن‭ ‬التي‭ ‬أظهرت‭ ‬إمكانات‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬الأعراق‭ ‬والهويّات‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬تاريخها،‭ ‬كما‭ ‬أظهرت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬مهدّدات‭ ‬هذا‭ ‬التعايش‭ ‬ومحنه‭ ‬الإنسانية‭. ‬

‭<‬‭ ‬وعلى‭ ‬الأرض،‭ ‬أو‭ ‬بشكل‭ ‬أدبي،‭ ‬كيف‭ ‬ظهر‭ ‬ذلك‭ ‬التعايش؟

‭- ‬حسب‭ ‬الساردين‭ ‬والمسرودين‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬بدت‭ ‬هناك‭ ‬إمكانات‭ ‬للعيش‭ ‬في‭ ‬عدن‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬سطوة‭ ‬المحددات‭ ‬السلطوية‭ ‬الفارضة‭ ‬لواجباتها‭ ‬الوطنية،‭ ‬ومنها‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬الحروب،‭ ‬إذ‭ ‬يُطلب‭ ‬من‭ ‬القادم‭ ‬إلى‭ ‬عدن‭ ‬المشاركة‭ ‬فيها‭ ‬كواجب‭ ‬وطني‭ ‬لا‭ ‬نقاش‭ ‬حوله،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬أظهر‭ ‬إعاقة‭ ‬جسدية‭ ‬تبرر‭ ‬له‭ ‬تقاعسه‭ ‬عن‭ ‬المشاركة،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬سيسأل‭ ‬عنها‭ ‬هي‭ ‬‮«‬الإعاقة‭ ‬الوطنية‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬تتداخل‭ ‬الشخصيات‭ ‬وتتشابه‭ ‬المواقف،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬حالة‭ ‬ارتباك،‭ ‬فميشيل‭ ‬حين‭ ‬يتحمس‭ ‬للحرب،‭ ‬دفاعاً‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭ ‬الفرنسي،‭ ‬وتحريراً‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬النازيين،‭ ‬يردد‭ ‬الكلمات‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬سمعها‭ ‬مع‭ ‬قصّة‭ ‬الجزائرية‭ ‬المكافحة‭ ‬للاستعمار‭ ‬الفرنسي‭ ‬لبلدها‭.‬

هذه‭ ‬الإمكانات‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬الواجبات‭ ‬‮«‬الوطنية‮»‬‭ ‬السلطوية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬التعايش‭ ‬المجتمعي،‭ ‬حيث‭ ‬حرّية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬والتجارة‭ ‬وإنتاج‭ ‬الفنون،‭ ‬سواء‭ ‬تلك‭ ‬المعبرة‭ ‬عن‭ ‬الهويات‭ ‬الثقافية‭ ‬أو‭ ‬الخارجة‭ ‬عنها،‭ ‬كما‭ ‬تتجلى‭ ‬إمكانات‭ ‬التعايش‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬والزواج‭ ‬المختلط‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬الأعراق‭ ‬والثقافات،‭ ‬وفي‭ ‬تجاور‭ ‬المساكن‭ ‬بأحياء‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬العيش‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬فئة‭ ‬معينة،‭ ‬مثل‭ ‬الحي‭ ‬اليهودي‭ ‬في‭ ‬عدن،‭ ‬الذي‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عُرف‭ ‬بهذا‭ ‬الاسم،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يشبه‭ ‬تجمعات‭ ‬الجيتو‭ ‬اليهودية‭ ‬المنغلقة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬البلدان،‭ ‬إذ‭ ‬سكن‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬نفسه‭ ‬المسلمون‭ ‬والمسيحيون‭ ‬والهندوس‭ ‬والزرادشتيون‭ ‬وغيرهم،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬لم‭ ‬تخل‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬من‭ ‬مهددات‭ ‬للتعايش،‭ ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬العبء‭ ‬الأسطوري‭ ‬للتاريخ‭ ‬وربطه‭ ‬بالهوية‭ ‬الدينية‭ ‬والقومية‭ ‬والوطنية،‭ ‬وهي‭ ‬هويّة‭ ‬متغيّرة‭ ‬تقدّم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمن‭ ‬أجوبتها‭ ‬الشمولية‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬يتساوى‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬والثوار‭ ‬الوطنيون‭ ‬أو‭ ‬القوميون،‭ ‬كمفهومهم‭ ‬للوطن‭ ‬وحدوده‭ ‬وسلطته‭ ‬السياسية،‭ ‬وهذا‭ ‬المهدد‭ ‬للتعايش‭ ‬ينمو‭ ‬أكثر‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬سلطة‭ ‬استعمارية‭ ‬تحتكر‭ ‬الإدارة‭ ‬السياسية‭ ‬والوظيفية،‭ ‬وتنفرد‭ ‬بوضع‭ ‬شروط‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬والمشاركة‭ ‬المجتمعية،‭ ‬فممارسات‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬المسبب‭ ‬الأول‭ ‬لتنامي‭ ‬فكرة‭ ‬الوطن‭ ‬وسلطة‭ ‬الوطنيين‭ ‬الذين‭ ‬يعتبرون‭ ‬أنفسهم‭ ‬أصحاب‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬والبحر‭ ‬والسلطة‭ ‬والمال،‭ ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬المال‭ ‬ينمو‭ ‬مع‭ ‬اتساع‭ ‬رقعة‭ ‬الفقر‭ ‬وغبن‭ ‬الفقراء‭ ‬المتراكم‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الانفجار‭ ‬والثورة‭.‬

‭<‬‭ ‬قد‭ ‬يذهب‭ ‬بنا‭ ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬لتحديد‭ ‬حجم‭ ‬المساحة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تسمح‭ ‬لنا‭ ‬بوصف‭ ‬رواية‭ ‬علي‭ ‬المقري‭ ‬بالرواية‭ ‬التاريخية‭.‬

‭- ‬في‭ ‬‮«‬بخور‭ ‬عدني‮»‬‭ ‬يمكن‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬إشارات‭ ‬تاريخية‭ ‬في‭ ‬سطور‭ ‬قليلة‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬منتصف‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬حتى‭ ‬أوائل‭ ‬سبعينياته‭, ‬لكنني‭ ‬لم‭ ‬أكتب‭ ‬رواية‭ ‬تاريخية،‭ ‬حسب‭ ‬المفهوم‭ ‬التقليدي‭ ‬أو‭ ‬الحديث‭ ‬لهذه‭ ‬الرواية،‭ ‬فالرواية‭ ‬في‭ ‬تخيلها‭ ‬التاريخي‭ ‬لا‭ ‬تنقل‭ ‬التاريخ،‭ ‬وإنما‭ ‬تضع‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬معاشه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬في‭ ‬المحك‭ ‬الروائي‭ ‬لتختبرها‭ ‬كتجربة‭ ‬إنسانية‭ ‬وتساؤلها‭ ‬في‭ ‬محك‭ ‬هذه‭ ‬التجربة،‭ ‬فأن‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬خلفية‭ ‬تاريخية‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬خلفية‭ ‬معيشة‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الحاضر،‭ ‬ألست‭ ‬هنا‭ ‬أيضاً‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬خلفية‭ ‬مكان‭ ‬وزمان؟‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬لك‭ ‬ذلك،‭ ‬فالسؤال‭ ‬ماذا‭ ‬ستكتب؟‭ ‬أو‭ ‬ماذا‭ ‬ستروي؟‭ ‬وهل‭ ‬يحمل‭ ‬ما‭ ‬تختبره‭ ‬محنة‭ ‬إنسانية‭ ‬أو‭ ‬وجودية‭ ‬لم‭ ‬تُقرأ‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أو‭ ‬تُكشف‭ ‬روائياً؟

ما‭ ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬أنّه‭ ‬إذا‭ ‬سلّمنا‭ ‬بصحة‭ ‬بعض‭ ‬التصنيفات‭ ‬الصحفية‭ ‬لمفهوم‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية،‭ ‬فسيكون‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬اعتبار‭ ‬‮«‬الصخب‭ ‬والعنف‮»‬‭ ‬لوليام‭ ‬فوكنر‭ ‬رواية‭ ‬تاريخية،‭ ‬لأن‭ ‬فوكنر‭ ‬يشير‭ ‬في‭ ‬ملحقه‭ ‬الشارح‭ ‬لحوادث‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تاريخ‭ ‬آل‭ ‬كمبسن‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1699،‭ ‬بينما‭ ‬تروى‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬أزمنة‭ ‬بين‭ ‬1910و1928،‭ ‬وتمتد‭ ‬في‭ ‬سردها‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1935،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬ست‭ ‬سنوات‭ ‬بعد‭ ‬نشر‭ ‬الرواية‭ ‬عام‭ ‬1929‭. ‬وكذلك‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬‮«‬مائة‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬العزلة‮»‬‭ ‬لماركيز‭ ‬تاريخية،‭ ‬لأن‭ ‬الرواية‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1967‭ ‬تسرد‭ ‬تحولات‭ ‬ماكوندو‭ ‬عبر‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تسمية‭ ‬المكان‭ ‬خيالية‭ ‬فإن‭ ‬أجواءه‭ ‬التاريخية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬لا‭ ‬تبتعد‭ ‬عن‭ ‬موطن‭ ‬الكاتب‭ ‬كولومبيا،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬يمكن‭ ‬تصنيف‭ ‬روايات‭ ‬التشيكي‭ ‬ميلان‭ ‬كونديرا‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تاريخية،‭ ‬لأنّه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أحداث‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬تشيكوسلوفاكيا‭ ‬وأوربا،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬سابقة‭ ‬لحياة‭ ‬الكاتب‭ ‬أو‭ ‬معاصرة‭ ‬له،‭ ‬وهكذا‭ ‬فالكاتب‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يستعيد‭ ‬حدثاً‭ ‬ما،‭ ‬سواء‭ ‬بنقله‭ ‬أو‭ ‬بالإشارة‭ ‬إليه‭ ‬إذا‭ ‬رأى‭ ‬أنّه‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬إضاءة‭ ‬المحنة‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬يتناولها،‭ ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬أنه‭ ‬فقد‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الخيال،‭ ‬كما‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يجلب‭ ‬الحاضر‭ ‬للماضي‭ ‬ويضع‭ ‬أحداث‭ ‬هذا‭ ‬الحاضر‭ ‬في‭ ‬محك‭ ‬استباقي،‭ ‬والتصور‭ ‬الملحوظ‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يقوم‭ ‬بسرد‭ ‬الماضي‭ ‬من‭ ‬الآن،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الحاضر‭ ‬نفسه‭ ‬يصبح‭ ‬ماضياً‭ ‬لديه،‭ ‬وهو‭ ‬يكتبه،‭ ‬وأحياناً‭ ‬تبدو‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬المستقبل‭ ‬أيضاً‭ ‬غير‭ ‬مبتعدة‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬الماضي،‭ ‬سواء‭ ‬القديم‭ ‬أو‭ ‬الحاضر‭ ‬المعيش‭ ‬الذي‭ ‬يتحول‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬إلى‭ ‬ماض،‭ ‬وهنا‭ ‬أشير‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬عمله‭ ‬جورج‭ ‬أورويل‭ ‬حين‭ ‬صوّر‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬1984‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1949،‭ ‬واقعاً‭ ‬مستقبلياً‭ ‬رأى‭ ‬فيه‭ ‬لندن،‭ ‬وقد‭ ‬صارت‭ ‬تحت‭ ‬سطوة‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد‭ ‬وزعيمه‭ ‬‮«‬الأخ‭ ‬الأكبر‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬رأى‭ ‬نقاد‭ ‬أن‭ ‬المدينة‭ ‬المعنية‭ ‬حينها‭ ‬كانت‭ ‬موسكو‭ ‬وليست‭ ‬لندن،‭ ‬وأن‭ ‬ستالين‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الأخ‭ ‬الأكبر‮»‬،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬رواية‭ ‬أورويل‭ ‬لا‭ ‬تقاس‭ ‬أهميتها،‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬لي،‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬تطابق‭ ‬أحداثها‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬كُتبت‭ ‬فيه،‭ ‬أو‭ ‬أعقبته،‭ ‬حيث‭ ‬هتلر‭ ‬وستالين‭ ‬والفاشية‭ ‬ودكتاتورية‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬تحقق‭ ‬توقعاتها‭ ‬لحال‭ ‬لندن‭ ‬والأماكن‭ ‬التي‭ ‬تسميها‭ ‬لعام‭ ‬1984،‭ ‬وإنما‭ ‬يمكن‭ ‬اكتشاف‭ ‬هذه‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬أوسع‭ ‬انفتاحاً‭ ‬للرواية،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬المعنونة‭ ‬به‭ ‬الرواية‭ ‬كانت‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬الفردية‭ ‬والتسلط‭ ‬الشمولي‭ ‬للحزب‭ ‬الواحد‭ ‬مازالا‭ ‬قائمين‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البلدان،‭ ‬ومنها‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬منعت‭ ‬نشر‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬على‭ ‬الأرجح،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تصدر‭ ‬ترجمة‭ ‬متكاملة‭ ‬لها‭ ‬بالعربية‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬ستين‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬نشرها،‭ ‬وإثر‭ ‬رحيل‭ ‬أبرز‭ ‬الدكتاتوريين‭ ‬العرب‭.‬

‭<‬‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬تعدد‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬ازدحمت‭ ‬بها‭ ‬‮«‬بخور‭ ‬عدني‮»‬‭ ‬مقارنة‭ ‬بإصداراتك‭ ‬السابقة،‭ ‬هل‭ ‬أتاح‭ ‬لك‭ ‬هذا‭ ‬الذهاب‭ ‬لاستثمار‭ ‬أدوات‭ ‬مغايرة‭ ‬للسرد؟

‭- ‬بالتأكيد،‭ ‬فتداخل‭ ‬الشخصيات‭ ‬المسرودة‭ ‬والساردة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها،‭ ‬كشف‭ ‬لي‭ ‬إمكانات‭ ‬سردية‭ ‬جديدة،‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬المفاهيم‭ ‬المكرّسة‭ ‬أو‭ ‬المتعارف‭ ‬عليها‭.‬

ففي‭ ‬الرواية‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يروي‭ ‬بضمير‭ ‬‮«‬الأنا‮»‬،‭ ‬مع‭ ‬تقاطعات‭ ‬سردية‭ ‬بضمير‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬هو‮»‬،‭ ‬وأحياناً‭ ‬بضمير‭ ‬المخاطب‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬أنت‮»‬‭. ‬وهي‭ ‬ضمائر‭ ‬تتداخل‭ ‬كحال‭ ‬الشخوص،‭ ‬إذ‭ ‬القادم‭ ‬إلى‭ ‬عدن‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬إخفاء‭ ‬هويته‭ ‬ولا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يفصح‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬فرانسوا‭ ‬أو‭ ‬ميشيل،‭ ‬ولهذا‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬السارد‭ ‬بضمير‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬هو‮»‬‭ ‬راوياً‭ ‬عليماً‭ ‬أو‭ ‬كليّ‭ ‬المعرفة،‭ ‬حسب‭ ‬التصنيف‭ ‬التقليدي‭ ‬لطرق‭ ‬السرد،‭ ‬وإنما‭ ‬راو‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬تداعٍ‭ ‬أو‭ ‬منولوج‭ ‬داخلي‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬الـــتـــداعــــي‭ ‬الذاتي‭ ‬في‭ ‬ضمــــير‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬أنت‮»‬‭ ‬أو‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬أنا‮»‬‭. ‬وكما‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬رواياتي،‭ ‬تبنى‭ ‬الشخصيات‭ ‬على‭ ‬تعدد‭ ‬الأصوات،‭ ‬وهناك‭ ‬مستويات‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬تعتمد‭ ‬التكثيف‭ ‬في‭ ‬الجمل‭ ‬الطويلة‭ ‬والقصيرة،‭ ‬مع‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يقترب‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬من‭ ‬نبرة‭ ‬السارد‭ ‬المفترض‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬وكيفية‭ ‬قيامه‭ ‬بالسرد،‭ ‬وألا‭ ‬يبتعد‭ ‬عن‭ ‬النبرات‭ ‬الصوتية‭ ‬للشخوص‭ ‬المتكلّمة‭ ‬وطريقة‭ ‬تعبيرها‭ ‬بالكلمات،‭ ‬لهذا‭ ‬تبدو‭ ‬المفردة‭ ‬منتقاة‭ ‬بحسب‭ ‬موقعها‭ ‬السردي،‭ ‬وقد‭ ‬تتداخل‭ ‬أحياناً‭ ‬مستويات‭ ‬لغوية‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬الواحد،‭ ‬فبعضها‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬المعيش‭ ‬اليومي،‭ ‬وبعضها‭ ‬ينحو‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬أدبية،‭ ‬لكنها‭ ‬ليست‭ ‬بلاغية،‭ ‬وإن‭ ‬بدت،‭ ‬أحياناً،‭ ‬مصوغة‭ ‬بطريقة‭ ‬شعرية،‭ ‬فالشعرية‭ ‬هنا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتحقق‭ ‬في‭ ‬بنائها‭ ‬اللغوي‭ ‬ضمن‭ ‬أي‭ ‬مستوى‭ ‬سردي‭ ‬وبأي‭ ‬مفردات،‭ ‬ولا‭ ‬تعني‭ ‬تجلّياً‭ ‬رومانتيكياً،‭ ‬كما‭ ‬يذهب‭ ‬البعض،‭ ‬حين‭ ‬يخلطون‭ ‬بين‭ ‬العبارة‭ ‬الشعرية‭ ‬والقص‭ ‬الرومانتيكي‭.‬

‭<‬‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مستوى‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬الإشكالية‭ ‬التي‭ ‬تعرضها‭ ‬‮«‬بخور‭ ‬عدنيّ‮»‬‭ ‬قد‭ ‬أتت‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭ ‬اليمن؟

‭- ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬الضرورة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬قراءات‭ ‬متعددة‭ ‬ومختلفة،‭ ‬قد‭ ‬تقارب‭ ‬محنة‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬أزمنة‭ ‬سردية‭ ‬مختلفة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬تطرّفها‭ ‬الديني‭ ‬أو‭ ‬السياسي،‭ ‬وإن‭ ‬بدت‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الاختلاف‭ ‬البسيط،‭ ‬فالرواية‭ ‬إذ‭ ‬تقارب‭ ‬بين‭ ‬محنة‭ ‬التطرّف‭ ‬الديني‭ ‬والثوري‭ ‬تضع‭ ‬تجربة‭ ‬الثورة‭ ‬في‭ ‬المحك،‭ ‬حيث‭ ‬قامت‭ ‬سلطتها‭ ‬بإعادة‭ ‬تعريف‭ ‬وتسمية‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭: ‬الدين،‭ ‬الوطن،‭ ‬الوطني،‭ ‬السلطة،‭ ‬الحرّية،‭ ‬التجارة،‭ ‬الفن،‭ ‬الأخلاق‭ ‬والحب،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسمح‭ ‬القادة‭ ‬الثوّار‭ ‬لأحد‭ ‬بأن‭ ‬يشاركهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التعريفات،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬منحى‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬في‭ ‬خطابه‭ ‬عن‭ ‬الخطاب‭ ‬الديني،‭ ‬إذ‭ ‬أصبحت‭ ‬التوجيهات‭ ‬باتباع‭ ‬أهداف‭ ‬الثورة‭ ‬والالتزام‭ ‬بقرارات‭ ‬القادة‭ ‬الثوار‭ ‬مشابهة‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬يدعو‭ ‬إليه‭ ‬رجل‭ ‬الدين،‭ ‬وهو‭ ‬الالتزام‭ ‬بطريق‭ ‬الإسلام‭ ‬الصحيح‭ ‬واتباع‭ ‬تعاليم‭ ‬مرشدي‭ ‬الأمة‭. ‬

‭<‬‭ ‬قد‭ ‬يدفعنا‭ ‬هذا‭ ‬للمرور‭ ‬عبر‭ ‬فكرة‭ ‬البطل‭ ‬أو‭ ‬المنقذ‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬إنتاجك‭ ‬الأدبي‭.‬

‭- ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تكتب‭ ‬الآن،‭ ‬أي‭ ‬رواية،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تحفل‭ ‬بمفهوم‭ ‬أو‭ ‬شخصية‭ ‬البطل،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الرواية‭ ‬بشكلها‭ ‬الجديد‭ ‬صارت‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أبطال‭. ‬ولهذا‭ ‬لا‭ ‬أهدف‭ ‬في‭ ‬رواياتي‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬منقذ‭ ‬أو‭ ‬منقذين،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬وإنما‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أستكشف‭ ‬إمكانات‭ ‬إنسانية‭ ‬في‭ ‬التعايش‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬صعوبات‭ ‬تستقوي‭ ‬بالتاريخ‭ ‬والجغرافيا‭ ‬والأيديولوجية،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬‮«‬بخور‭ ‬عدنيّ‮»‬‭ ‬تختبر‭ ‬مفهوم‭ ‬المنقذ‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تشكّله‭ ‬الجماعي،‭ ‬إذ‭ ‬بدأ‭ ‬في‭ ‬الحكاية‭ ‬مع‭ ‬الثوّار‭ ‬حين‭ ‬صاروا‭ ‬في‭ ‬سلطة‭ ‬بديلة‭ ‬عن‭ ‬الإدارة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬ومواجهتهم‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬اختلف‭ ‬معهم،‭ ‬وقبلهم‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يعتبرون‭ ‬أنفسهم‭ ‬منقذين‭ ‬أيضاً‭ ‬كرجال‭ ‬الدِّين‭ ‬أو‭ ‬أولئك‭ ‬المنادين‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬مدينة‭ ‬عدن‭ ‬خاصة‭ ‬بالعدنيين‭ ‬فقط‭.‬

‭<‬‭ ‬قد‭ ‬يُفهم‭ ‬أن‭ ‬طريقة‭ ‬وضعك‭ ‬نقطة‭ ‬أخيرة‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الرواية‭ ‬اقتراح‭ ‬بتقديم‭ ‬حلول‭ ‬ما؟

‭- ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬مهمة‭ ‬الكاتب‭ ‬تقديم‭ ‬الحلول‭ ‬والأفكار‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬روايته،‭ ‬فالرواية‭ ‬لا‭ ‬تجيب‭ ‬عن‭ ‬أسئلة،‭ ‬وليس‭ ‬مهمتها‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬حزبي‭ ‬أو‭ ‬أخلاقي،‭ ‬أو‭ ‬القيام‭ ‬بالتلميع‭ ‬والدعاية‭ ‬لأي‭ ‬وجهة‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬أيديولوجية،‭ ‬لأنها‭ ‬إذا‭ ‬قامت‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬فإنّها‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬خسرت‭ ‬صفتها‭ ‬الروائية،‭ ‬والروائي‭ ‬عبر‭ ‬سرده‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬الشخوص‭ ‬الساردة‭ ‬والمسرودة‭ ‬يقدم‭ ‬نفسه‭ ‬كمنقذ‭. ‬بناء‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬رواياتي‭ ‬يتكئ‭ ‬على‭ ‬تعدد‭ ‬الأصوات،‭ ‬وهو‭ ‬تعدد‭ ‬غير‭ ‬منحاز‭ ‬وغير‭ ‬يقيني،‭ ‬وهذه‭ ‬الأصوات‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬ما،‭ ‬من‭ ‬داخله،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬خارجه،‭ ‬لا‭ ‬تقدم‭ ‬تعدده‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬وتناقضه‭ ‬كذلك،‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الشخص‭ ‬الواحد‭ ‬أحياناً،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬هناك‭ ‬نهايات‭ ‬مفتوحة،‭ ‬وإن‭ ‬بدت‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬حدث‭ ‬أو‭ ‬حال،‭ ‬إذ‭ ‬هي‭ ‬تحفز‭ ‬على‭ ‬الأسئلة‭ ‬ولا‭ ‬تقدّم‭ ‬إجابات‭.‬

وما‭ ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬المسألة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬المحايدة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المسافة‭ ‬التي‭ ‬يضعها‭ ‬الكاتب‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬يكتبه،‭ ‬وإنّما‭ ‬في‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬الاشتغال‭ ‬بهواجس‭ ‬إنسانية‭ ‬جديدة،‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬لم‭ ‬تكتشف‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

‭<‬‭ ‬تُرهقك‭ ‬القراءات‭ ‬المُستعجلة‭ ‬الباحثة‭ ‬عن‭ ‬تأطير‭ ‬إنتاجك‭ ‬الروائي؟

‭- ‬قراءة‭ ‬الرواية،‭ ‬أي‭ ‬رواية،‭ ‬إمّا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬محسوبة‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬ومستواه‭ ‬المعرفي،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬مدى‭ ‬استيعابه‭ ‬كتابة‭ ‬غير‭ ‬نمطية،‭ ‬أو‭ ‬تكون‭ ‬محسوبة‭ ‬على‭ ‬كاتب‭ ‬النص‭ ‬ومستوى‭ ‬قدرته‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬ملامح‭ ‬تقنية‭ ‬لكتاباته،‭ ‬وهذا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬بحث‭ ‬متفحص‭ ‬يقرأ‭ ‬النص‭ ‬والقراءة‭.‬

‭<‬‭ ‬اليوم،‭ ‬وبعد‭ ‬هذه‭ ‬الإصدارات‭ ‬الروائية،‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬علي‭ ‬المقري‭ ‬الشاعر؟

‭- ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ما‭ ‬أعرفه‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكتب‭ ‬سوى‭ ‬نصوص‭ ‬شعرية‭ ‬قليلة‭ ‬جداً‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬العشر‭ ‬الأخيرة،‭ ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬الاشتغال‭ ‬بالرواية‭ ‬يتيح‭ ‬هواجس‭ ‬كتابية‭ ‬وفنية‭ ‬أخرى،‭ ‬لأن‭ ‬الرواية‭ ‬قد‭ ‬تستوعبها‭ ‬جميعاً‭ ‬بأشكال‭ ‬سردية‭ ‬مكثفة‭.‬

‭<‬‭ ‬هذا‭ ‬التكثيف‭ ‬قد‭ ‬يسمح‭ ‬لنا‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬التساؤلات‭ ‬الخاصة‭ ‬بحجم‭ ‬أعمالك‭ ‬السرديّة،‭ ‬وإذا‭ ‬يُطرح‭ ‬نقدياً‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أكثر‭ ‬توسعاً؟

‭- ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬طعم‭ ‬أسود‭... ‬رائحة‭ ‬سوداء‮»‬‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أقترب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الخدم‭ ‬معاينة‭ ‬ومعايشة،‭ ‬فرأيت‭ ‬أن‭ ‬الشخصيات‭ ‬المسرودة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تتطور‭ ‬أو‭ ‬تنمو‭ ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬متتالية،‭ ‬وإلا‭ ‬لكانت‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭ ‬الخدم‭ ‬كمهمشين‭ ‬مؤقتين،‭ ‬وليس‭ ‬سكّاناً‭ ‬مستقرين،‭ ‬ولهذا‭ ‬تبدو‭ ‬الشخصيّات‭ ‬المسرودة‭ ‬عابرة،‭ ‬تظهر‭ ‬فجأة‭ ‬حيناً،‭ ‬وتختفي‭ ‬وتغيب‭ ‬فجأة‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬أحايين‭ ‬كثيرة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬المهمش‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬عششه‭ ‬وأحواله‭ ‬الهامشية‭ ‬يواجه‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬سؤال‭ ‬الاختفاء‭ ‬المفاجئ،‭ ‬بل‭ ‬والانقراض،‭ ‬حيث‭ ‬مضت‭ ‬الجرّافات‭ ‬تزحف‭ ‬نحوه،‭ ‬مخلّفة‭ ‬لا‭ ‬شيء،‭ ‬لهذا‭ ‬تظهر‭ ‬شخصيات‭ ‬يرصدها‭ ‬السارد‭ ‬مع‭ ‬حالات‭ ‬أو‭ ‬أحداث،‭ ‬لكنها‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تختفي‭ ‬باستثناء‭ ‬القلة‭ ‬منها،‭ ‬وهذا‭ ‬التنقل‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات‭ ‬نجده‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬حرمة‮»‬‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬سردية‭ ‬مختلفة‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬التداعي‭.‬

‭<‬‭ ‬ينطبق‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬اليهودي‭ ‬الحالي‮»‬؟

‭- ‬نعم،‭ ‬ولكن‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭ ‬في‭ ‬تحولات‭ ‬شخصيات‭ ‬‮«‬اليهودي‭ ‬الحالي‮»‬‭ ‬الزمنية‭ ‬والمكانية،‭ ‬لأن‭ ‬البناء‭ ‬الفني‭ ‬اقتضى‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬في‭ ‬السرد،‭ ‬شخوص‭ ‬الرواية‭ ‬يظهرون‭ ‬في‭ ‬أزمنة‭ ‬غير‭ ‬متتابعة،‭ ‬وضمن‭ ‬سياق‭ ‬سردي‭ ‬يستفيد‭ ‬من‭ ‬فنيات‭ ‬السرد‭ ‬العربية،‭ ‬ومنها‭ ‬شكل‭ ‬كتابة‭ ‬الحوليات‭ ‬التاريخية،‭ ‬فمن‭ ‬سطرها‭ ‬الأول‭ ‬تبدأ‭ ‬هكذا‭: ‬‮«‬ودخلت‭ ‬سنة‭...‬‮»‬،‭ ‬والحوليات‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تبدأ‭ ‬بخبر‭ ‬الوفاة،‭ ‬بحيث‭ ‬يبدأ‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الشخوص‭ ‬وحياتهم‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬خبر‭ ‬وفاتهم‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬المؤطِّرة‭ ‬للأحداث‭ ‬وأخبار‭ ‬الوفيات،‭ ‬مع‭ ‬تداخل‭ ‬أزمنة‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬المحدد،‭ ‬بعضها‭ ‬قديمة،‭ ‬وبعضها‭ ‬معيشة،‭ ‬فالذين‭ ‬فاجأتهم‭ ‬وفاة‭ ‬فاطمة‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬لم‭ ‬ينتبهوا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬السرد‭ ‬بدأ‭ ‬بخبرها،‭ ‬وإن‭ ‬بكلمات‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬والاستفادة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنجز‭ ‬السردي‭ ‬اقتضته‭ ‬سياقات‭ ‬سردية‭ ‬وفنية،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬ربّما‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬شغف‭ ‬شخصي‭ ‬لما‭ ‬اكتشفته‭ ‬من‭ ‬إمكانات‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬السرد‭ ‬العربي،‭ ‬مع‭ ‬حرص‭ ‬بالطبع‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬مطابقة‭ ‬أسلوب‭ ‬ولغة‭ ‬الحوليات‭.‬

‭<‬‭ ‬لهذا‭ ‬الاشتغال‭ ‬علاقة‭ ‬بالسرد‭ ‬الحديث‭ ‬الذي‭ ‬تطرقت‭ ‬إليه‭ ‬سابقاً؟

‭- ‬هي‭ ‬محاولة‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬سرد،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تستفيد‭ ‬من‭ ‬المنجز‭ ‬الفني‭ ‬للرواية‭ ‬خلال‭ ‬أربعة‭ ‬قرون،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬طرق‭ ‬مختلفة‭ ‬تستكشفها‭ ‬أو‭ ‬تستدعيها‭ ‬عملية‭ ‬الكتابة‭ ‬نفسها،‭ ‬فقد‭ ‬استفدت‭ ‬من‭ ‬تقنية‭ ‬الرواية‭ ‬الحديثة،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مماثلتها،‭ ‬فتفاصيل‭ ‬فلوبير‭ ‬وبرست،‭ ‬مثلاً،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قابلة‭ ‬للمماثلة‭ ‬في‭ ‬نصي،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬ليس‭ ‬بالإمكان‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬سيرفانتس،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬فن‭ ‬الرواية‭ ‬الحديثة،‭ ‬ويبدو‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬استكشاف‭ ‬أي‭ ‬نص،‭ ‬ومدى‭ ‬حداثته،‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬عبر‭ ‬بناء‭ ‬شخوصه‭ ‬وتحولاتهم‭ ‬السردية‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تفحص‭ ‬المفردة‭ ‬وتركيب‭ ‬الجملة‭ ‬وبناء‭ ‬الفقرة،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬المشهدية‭ ‬الرابطة‭ ‬لسياق‭ ‬الأحداث‭ ‬والشخوص‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬مفتوحة‭ ‬لا‭ ‬تتقيد‭ ‬بتقاليد‭ ‬القص‭ ‬الحبكية‭ ‬المؤطرة‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬وتسلسل‭ ‬الأحداث‭ ‬أو‭ ‬تصاعدها‭ .