مدني صالح... بين الأدب والفلسفة

مدني صالح... بين الأدب والفلسفة

ولد‭ ‬مدني‭ ‬صالح‭ ‬في‭ ‬هيت‭ ‬من‭ ‬محافظة‭ ‬الأنبار‭ ‬سنة‭ ‬1932م‭, ‬وحصل‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬الماجستير‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬كامبردج‭ ‬بإنجلترا‭, ‬ورفض‭ ‬أن‭ ‬يناقش‭ ‬رسالته‭ ‬للدكتوراه‭ ‬على‭ ‬الطريقة‭ ‬التقليدية،‭ ‬عُيِّن‭ ‬أستاذاً‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬الفلسفة‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ - ‬جامعة‭ ‬بغداد‭, ‬كتب‭ ‬الشعر‭ ‬والقصة‭ ‬والمقالة‭ ‬الأدبية‭ ‬بأسلوب‭ ‬انتقادي‭ ‬ساخر،‭ ‬ومزج‭ ‬بين‭ ‬التصور‭ ‬الواقعي‭ ‬للأشياء‭ ‬والتحليل‭ ‬الفلسفي‭ ‬لها،‭ ‬جريء‭ ‬في‭ ‬كتاباته،‭ ‬لذا‭ ‬أحبه‭ ‬الجمهور‭, ‬بـدأ‭ ‬النشر‭ ‬منذ‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬فأصدر‭ ‬عام‭ ‬1955م‭ ‬كتاباً‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الوجود‮»‬،‭ ‬وهـو‭ ‬بحـث‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وبحثاً‭ ‬عام‭ ‬1956م‭ ‬ضمَّ‭ ‬حكايات‭ ‬شعبية‭ ‬ونقدات‭ ‬اجتماعية‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬أشكال‭ ‬وألوان‮»‬‭. ‬

مدني‭ ‬صالح‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الأدب‭: ‬‮«‬الفيلسوفة‭ ‬رباب‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬قصص‭ ‬للأطفال‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1985م‭, ‬و«مقامات‭ ‬مدني‭ ‬صالح‮»‬،‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1989م‭. ‬وفي‭ ‬ميدان‭ ‬النقد‭ ‬له‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬هو‭ ‬السياب‮»‬،‭ ‬صدر‭ ‬عام‭ ‬1989م‭, ‬و«هذا‭ ‬هو‭ ‬البياتي‮»‬،‭ ‬صدر‭ ‬عام‭ ‬1986م‭, ‬‮«‬هذا‭ ‬هو‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬ميدان‭ ‬الفلسفة‭ ‬له‭: ‬‮«‬ابن‭ ‬طفيل‭... ‬قضايا‭ ‬ومواقف‮»‬،‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1986م‭, ‬و«ابن‭ ‬طفيل‭ ‬وقصة‭ ‬حي‭ ‬بن‭ ‬يقظان‭ - ‬نظرية‭ ‬ومنهج‭ ‬وتطبيق‮»‬،‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1989م‭, ‬و«مع‭ ‬ابن‭ ‬طفيل‭ ‬–‭ ‬بحث‭ ‬نقدي‭ ‬وتحقيق‭ ‬ودراسة‮»‬‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1979م،‭ ‬و«التربيع‭ ‬والتدوير‭ - ‬نظرية‭ ‬ومنهج‭ ‬وتطبيق‮»‬،‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1985م‭, ‬و«هذا‭ ‬هو‭ ‬الفارابي‭ - ‬مدخل‭ ‬وتمهيد‮»‬،‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1980م‭, ‬و«الفارابي‭ ‬من‭ ‬أسس‭ ‬الميتافيزياء‭ ‬إلى‭ ‬الحتمية‭ ‬السببية‮»‬‭ (‬بحث‭). ‬توفي‭ ‬مدني‭ ‬صالح‭ ‬في‭ ‬19‭/ ‬7‭/ ‬2007م،‭ ‬فانطوت‭ ‬صفحة‭ ‬خالدة‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬كاتب‭ ‬مقالي‭ ‬أدبي‭ ‬متميز‭ ‬وناقد‭ ‬فيلسوف‭ ‬ثرٍ‭.‬

لقد‭ ‬حاكى‭ ‬مدني‭ ‬صالح‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬الجدل‭ ‬والمناكدة‭ ‬وإثارة‭ ‬الأسئلة‭ ‬لغرض‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬أجوبة‭ ‬فكرية‭ ‬ذات‭ ‬عمق‭ ‬فلسفي،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬تتخذ‭ ‬أسلوب‭ ‬الأدب،‭ ‬أو‭ ‬الرسالة‭ ‬الأدبية‭ ‬رداءً‭ ‬لها،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الخلاف‭ ‬الواضح‭ ‬بين‭ ‬الأسلوب‭ ‬والمعنى‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ (‬الكاتب‭)‬،‭ ‬وأن‭ ‬الظاهر‭ ‬يشي‭ ‬بجزء‭ ‬من‭ ‬الباطن،‭ ‬ولا‭ ‬يفصح‭ ‬عنه‭ ‬تماماً،‭ ‬فالجاحظ‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬‮«‬التربيع‭ ‬والتدوير‮»‬‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬وكيف‭ ‬يعرف‭ ‬الفصل‭ ‬من‭ ‬يجهل‭ ‬الفصل،‭ ‬وكيف‭ ‬يعرف‭ ‬الحدود‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬الفصول،‭ ‬بل‭ ‬كيف‭ ‬يعرف‭ ‬الحجة‭ ‬من‭ ‬الشبهة،‭ ‬والغدر‭ ‬من‭ ‬الحيلة،‭ ‬والواجب‭ ‬من‭ ‬الممكن،‭ ‬والفعل‭ ‬من‭ ‬الموسوم‭ ‬والمحال‭ ‬من‭ ‬الصحيح؟‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬أسلوب‭ ‬أبي‭ ‬عثمان‭ ‬أسلوب‭ ‬مضلل،‭ ‬وشخصيته‭ ‬مضللة،‭ ‬وقد‭ ‬انساق‭ ‬مدني‭ ‬صالح‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التضليل‭, ‬فراح‭ ‬ينبش‭ ‬في‭ ‬خفايا‭ ‬حياة‭ ‬الجاحظ،‭ ‬وبناء‭ ‬شخصيته‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬تبنت‭ ‬الصراع،‭ ‬واتخذت‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وسيلة‭ ‬لإثارة‭ ‬الجدل،‭ ‬فرأى‭ ‬أن‭ ‬حياة‭ ‬اليتم‭ ‬والعوز‭ ‬كانا‭ ‬سبباً‭ ‬لمناكدته،‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬وكُن‭ ‬الجاحظ،‭ ‬ضع‭ ‬نفسك‭ ‬موضعه‭ ‬وقف‭ ‬موقفاً‭ ‬في‭ ‬الكبر‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬يلعبون‭ ‬ويمرحون‭ ‬ويشربون‭ ‬ويطربون،‭ ‬والصالحية‭ ‬سكرانة‭ ‬بأشعار‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وتغنيها‭ ‬في‭ ‬أجل‭ ‬مجالس‭ ‬العراق‭ ‬قدراً‭ ‬وأعلاها‭ ‬منزلة‭ ‬وأكثرها‭ ‬بذخاً‭ ‬وترفاً‭ ‬وتلويناً‭ ‬للأنس‭ ‬والمؤانسة‭ ‬والمباهج‭ ‬واللذائذ‭ ‬والأفراح‭... ‬ألا‭ ‬تحسدهم‭ ‬وأرزاقك‭ ‬لا‭ ‬تجري‭ ‬إلا‭ ‬شحيحة‭ ‬بـــــــشق‭ ‬الأنــــــفس‭ ‬من‭ ‬شق‭ ‬القصبة‭ ‬والقرطاس؟‮»‬‭.‬

فمدني‭ ‬صالح‭ ‬يرى‭ ‬لتضخم‭ ‬نزعة‭ ‬الحسد‭ ‬لدى‭ ‬الجاحظ‭ ‬سبباً‭ ‬نفسياً،‭ ‬لإظهار‭ ‬هذه‭ ‬المحاسدة‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬شبه‭ ‬عداوة،‭ ‬والملاحظ‭ ‬أن‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬رسالته‭ ‬‮«‬التربيع‭ ‬والتدوير‮»‬‭ ‬يناكد‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬ويفضل‭ ‬عليه‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬السندي،‭ ‬ثم‭ ‬صبَّ‭ ‬جلَّ‭ ‬مناكداته‭ ‬عليه،‭ ‬متحدثاً‭ ‬عنه‭ ‬بضمير‭ ‬المخاطب‭ (‬أنت‭) ‬أو‭ ‬بضمير‭ ‬الغيبة‭ (‬هو‭)‬،‭ ‬لذا‭ ‬بقي‭ ‬حضور‭ ‬أحمد‭ ‬ابن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬مركزياً،‭ ‬وبالذات‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرسالة‭... ‬من‭ ‬هنا‭ ‬رأى‭ ‬مدني‭ ‬صالح‭ ‬في‭ ‬الجاحظ‭ ‬أنه‭ ‬أمير‭ ‬هجاء‭ ‬وأحقاد‭ ‬وبيان،‭ ‬وأنه‭ ‬اتخذ‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬رمزاً‭ ‬دالاً‭ ‬على‭ ‬الجهل‭ ‬والعناد‭ ‬والمماراة،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يشنه‭ ‬بما‭ ‬يشين‭ ‬الرجال،‭ ‬وإن‭ ‬كل‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬التربيع‭ ‬والتدوير‮»‬‭ ‬برأيه‭: ‬‮«‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يسيء‭ ‬إلى‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬بأي‭ ‬من‭ ‬مقاييس‭ ‬الثــقافة‭ ‬والأخلاق‭ ‬والحضارة‭ ‬والأدب‮»‬‭. ‬

وهذه‭ ‬لمحة‭ ‬ذكية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬اكتشاف‭ ‬المعنى‭ ‬الخفي،‭ ‬الذي‭ ‬يشتغل‭ ‬عليه‭ ‬الجاحظ،‭ ‬لأنه‭ ‬كاتب‭ ‬مضلل‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬إيهامنا‭ ‬بالحقيقة‭ ‬أو‭ ‬بغيرها،‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬يسوقه‭ ‬من‭ ‬مقولات‭ ‬الجدل‭ ‬والمماحكة‭.‬

ويرى‭ ‬مدني‭ ‬صالح‭ ‬في‭ ‬الجاحظ‭ ‬كاتباً‭ ‬ساخراً‭ ‬متهكماً‭, ‬يتخذ‭ ‬من‭ ‬قِصَر‭ ‬قامة‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وسيلة‭ ‬لإشاعة‭ ‬روح‭ ‬التندر،‭ ‬ولأنه‭ ‬اتخذه‭ ‬رمزاً‭ ‬للعناد‭ ‬وللمراء‭ ‬وللادعاء‭, ‬وقِصَر‭ ‬القامة‭ ‬واستفاضة‭ ‬الخاصرة‭ ‬والجهل‭ ‬والتظاهر‭ ‬بالمعرفة‭ ‬والحكمة،‭ ‬وأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬رمزاً‭ ‬اعتباطياً،‭ ‬وأنه‭ ‬لم‭ ‬يوفق‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬لكونه‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬قوة‭ ‬الرمز‭ ‬الأدبي‭ ‬لا‭ ‬تاريخياً‭ ‬ولا‭ ‬طبيعياً‭ ‬ولا‭ ‬اعتباطياً‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬صاحب‭ ‬جدل‭ ‬وحوار،‭ ‬يُكثر‭ ‬من‭ ‬طرح‭ ‬الأسئلة،‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬الأجوبة‭ ‬المقنعة‭ ‬عنها،‭ ‬ثم‭ ‬يتوقف‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬تتبعه‭ ‬له،‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬أجل‭ ‬إنك‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تُعجز‭ ‬الدنيا‭ ‬كلها‭ ‬بمليون‭ ‬سؤال‭ ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العجز‭ ‬جهل‭... ‬وإلا‭ ‬فما‭ ‬عليك‭ ‬من‭ ‬جهل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تعرفه‭ ‬أنت‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يعرفه‭ ‬أحد‮»‬‭. ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬مدني‭ ‬صالح‭ ‬قد‭ ‬جارى‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬حسده‭ ‬لأحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬وسخريته‭ ‬منه‭ ‬فحسده‭ ‬فغمط‭ ‬حقه،‭ ‬ولم‭ ‬يجعله‭ ‬رائداً‭ ‬مبتكراً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬السردي،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬صرح‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬هنا‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬ضد‭ ‬أذكى‭ ‬أدباء‭ ‬العرب‭ ‬جميعاً‭ ‬لا‭ ‬نستثني‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأدباء‭ ‬أحداً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬تاريخ‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‮»‬‭.‬

إذن،‭ ‬جدال‭ ‬الجاحظ‭ ‬وسخطه‭ ‬على‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬يوازيه‭ ‬جدال‭ ‬وسخط‭ ‬من‭ ‬مدني‭ ‬صالح‭ ‬على‭ ‬الجاحظ،‭ ‬متبرعاً‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬وهو‭ ‬يتبنى‭ ‬منهج‭ ‬السفسطة‭ ‬أو‭ ‬التمويه،‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬‮«‬الأخذ‭ ‬بالأقاويل‭ ‬اللفظية‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬الجد‭ ‬والرصانة،‭ ‬وتمويه‭ ‬الحقائق‭... ‬بقصد‭ ‬خداع‭ ‬الخصم‭ ‬وإسكاته‮»‬‭. ‬

وهو‭ ‬ما‭ ‬اتبعه‭ ‬الطرفان‭ ‬الجاحظ‭ ‬ومدني‭ ‬صالح،‭ ‬لذا‭ ‬استخدم‭ ‬الأخير‭ ‬أسلوباً‭ ‬سردياً‭ ‬ساخراً‭ ‬مشحوناً‭ ‬بطاقة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬المماحكة‭ ‬في‭ ‬الكلام،‭ ‬قصده‭ ‬الإقناع،‭ ‬وتسفيه‭ ‬عقلية‭ ‬الجاحظ،‭ ‬ونزوعها‭ ‬نحو‭ ‬الحسد،‭ ‬وليس‭ ‬نحو‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬اللاذع،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استخدام‭ ‬أسلوب‭ ‬المقالة‭ ‬الــساخـــرة،‭ ‬وهي‭ ‬مقــــالة‭ ‬نثــــرية‭ ‬محكــــمة‭ ‬النسج‭, ‬بليغة‭ ‬الألفاظ،‭ ‬عبقة‭ ‬المعاني،‭ ‬لها‭ ‬امتداد‭ ‬واضح‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬ذلك،‭ ‬لأنه‭ ‬يعول‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬خفي‭ ‬وبعد‭ ‬مرماه،‭ ‬ولا‭ ‬يعول‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ظهر‭ ‬منه‭ ‬واستبان‭.‬

يرى‭ ‬مدني‭ ‬صالح‭ ‬أن‭ ‬الفارابي‭ ‬واقعي‭ ‬نقدي،‭ ‬وعلمي‭ ‬تبريري‭ ‬بتعليقه‭ ‬أهمية‭ ‬كبيرة‭ ‬على‭ ‬الظن‭ ‬والوهم،‭ ‬في‭ ‬وهم‭ ‬المظان‭ ‬وظن‭ ‬المتوهم‭ ‬حين‭ ‬يحسب‭ ‬الظان‭ ‬الحوادث‭ ‬المرافقة‭ ‬اتفاقاً‭ ‬للظاهرة‭ ‬سبباً‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الأخذ‭ ‬بمعطيات‭ ‬الحس‭ ‬والعقل،‭ ‬ضمن‭ ‬حدود‭ ‬الواقعية‭ ‬الساذجة‭ ‬حين‭ ‬ظاهر‭ ‬الحس‭ ‬وظاهر‭ ‬العقل‭. ‬وهو‭ ‬يؤكد‭ ‬ضرورة‭ ‬ديمومة‭ ‬فعل‭ ‬السبب‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬حفظ‭ ‬إدامة‭ ‬الوجود‭ ‬منذ‭ ‬الأزل‭, ‬حتى‭ ‬الأبد‭ ‬بلا‭ ‬انفكاك،‭ ‬مؤيداً‭ ‬تأكده‭ ‬هذا‭ ‬بالأدلة‭ ‬والبراهين‭ ‬الموطدة‭ ‬لأسس‭ ‬تلازم‭ ‬الحتمية‭ ‬السببية،‭ ‬وحتمية‭ ‬الوجود‭ ‬تلازماً‭ ‬ضرورياً،‭ ‬فلا‭ ‬انفكاك‭ ‬دوام‭ ‬إدامة‭ ‬السبب‭ ‬لوجود‭ ‬الموجودات‭ ‬ودوام‭ ‬فعله‭ ‬في‭ ‬نفي‭ ‬العدم‭ ‬عنها‭ .