د. أيمن فؤاد السيد: انحسار النشر العلمي الجاد للتراث العربي
كانت كلمات الدكتور عبادة كحيلة - رحمه الله - صاحب فكرة كتاب البحوث المُهداة إلى الدكتور أيمن فؤاد السيد حاضرة بقوة في ذهني عندما فكرت في إجراء حوار معه، حيث استهل مُقدمة الكتاب قائلا: «أيمن فؤاد سيد أرَّخ فكان غاية في التأريخ، وحقق فكان غاية في التحقيق، مع أن الجمع بين هذين الفنين والإجادة فيهما جدير بهما أن يعطيا لصاحبهما مكانة هو أهل لها، فإن هناك قوماً أكل الحسد قلوبهم، فمن انتسب منهم إلى التأريخ قال: «هو محقق وليس مؤرخاً»، ومن انتسب منهم إلى التحقيق قال: «هو مؤرخ وليس محققاً» وقد نسي هؤلاء أو تناسوا أنه أرَّخ فجوَّد في التأريخ وحقق فجوَّد في التحقيق، في حين أنهم لم يجوِّدوا حين أرخوا وحين حققوا».
ساهم أيمن فؤاد السيد في إثراء الثقافة العربية والإسلامية في جوانب تحقيق المخطوطات, وأخذ من المُستشرقين منهج تحقيقها, وأخلص فيه إخلاصاً كاملاً, كما أن المقدمات التي قدم بها تحقيقاته كافية وافية لمضمون المخطوط المُحقق, وعلمه واجتهاده أنصفاه ضد ظُلم البعض له, من خلال تفرُّده في تحقيقاته وتمسكه بمبادئه. التقيت أيمن فؤاد السيد، وكان هذا اللقاء:
< كيف يمكننا إعادة بناء النُّصوص القديمة الضائعة؟
- يُعد ذلك أحد أهداف النشر النقدي للنصوص، وذلك من خلال نشر ما لم يسبق نشره من الكتب ذات القيمة, وإعادة نشر الكتب التي صدرت في طبعات غير علمية في بولاق والجوائب وغيرهما من المطابع، ولا نعرف على أي نسخ اعتمدت, والنشرات النقدية التي ظهرت لها نسخ ذات قيمة أو نفدت طبعاتها الأصلية الأولى، ثم إعادة بناء النصوص المفقودة، الأمر الذي يتطلب إحاطة بالموضوع المعني واطلاعاً على ما نُشر منه، أو لايزال مخطوطاً منه وبالتالي يجعلنا نعتمد على المصادر الأصلية بدلاً من المصادر الوسيطة, وهو عمل لا يتصدى له إلا شخص مهموم بقضية ويستطيع تتبع مصادرها ومظانها حتى يُعيد بناء النص القديم، مثال ذلك: اللبناني ميخائيل عواد قام بنشر صفحات نصوص ضائعة من كتاب «الوزراء» للجهشياري, بينما قمت بنشر نصوص ضائعة لكل من المسبحي, ابن المأمون, ابن الطوير.
< مهنة التحقيق العلمي والنقدي للنصوص حالياً, هل هي في حال جيدة؟
- برغم أن الجيل الذي تصدى لنشر التراث في النصف الأول من القرن العشرين كان أغلبه من المهتمين بقــــضايا التراث في عمومه، ولم يكونوا من الأكاديمييـــــن، فإن عطـــاءهم في هذا المجال يفوق بكثير عطاء الدارسين الأكاديميين في النصف الثاني من القرن العشرين من ناحية القيمة وخدمة النص أمثال: محمد كرد علي، الشقيقين أحمد ومحمود شاكر, محمد أبوالفضل إبراهيم, السيد أحمد صقر, محمد محيي الدين عبدالحميد, مصطفى جواد, محمد بهجت الأثري, فؤاد سيد، وربما يرجع ذلك إلى أن الجامعات لا تعتبر النشر النقدي للنصوص عملا إبداعيا تعتمده لجان الترقيات، برغم أنه الباب الرئيس الذي يدخل منه الباحث إلى المكتبة العربية، ويتعرف من خلاله على الثقافة العربية الموسوعية، إضافة إلى ما ورد في السابق، فإن التحقيق العلمي والنقدي للنصوص يتطلب جهدا كبيرا ووقتا طويلا يجعل بعض الباحثين يفضل كتابة مقالة في دورية علمية على أن يتصدى لنص قد تصل مجلداته إلى أكثر من 4 مجلدات، برغم أن كثيراً من المستشرقين الذين اهتموا بنشر النصوص القديمة عندما سألتهم عن نشاطهم العلمي كانت إجابتهم أن أساتذتهم طلبوا منهم أن ينشروا على الأقل نصين مهمين، قبل أن ينخرطوا في دراستهم الأكاديمية. كما أن الجيل الذي يستطيع أن يوجه أو يُشرف على أمثال هذه الأعمال قد انقضى برحيل جيل الرواد، بالإضافة إلى أن أقسام الجامعات العربية لا تُخصص منهجا علميا للقواعد العلمية لتحقيق النصوص حتى يمكن تخريج جيل من شباب المُحققين. وقد يمثل الحصول على النُسخ الخطية من المخطوطات صعوبة وإن كان أسلوب التصوير الرقمي للنسخ الخطية من شأنه أن ييسر هذه المهمة، وخصوصا مع وجود كُتب مرجعية، مثل: «تاريخ الأدب العربي» لبروكلمان, «تاريخ التراث العربي» لفؤاد سيزكين.
< حركة النشر في التراث العربي إلى أين؟
- ربما يكون النشر العلمي الجاد للتراث العربي آخذاً في الانحسار، في الوقت الذي تظهر فيه نشرات تجارية وغير علمية للعديد من النصوص، وانصراف المحققين التجاريين إلى نشر كُتب السحر والجماع وما شابهها ولم يوجهوا اهتمامهم إلى النشر العلمي الحقيقي للمصادر المعتبرة، سواء في التاريخ أو الأدب أو علم الكلام أو العلوم البحتة. كما أن المراكز المتخصصة في الجامعات والمؤسسات الثقافية تحتاج إلى دعم للتصدي لإخراج النصوص المُهمة والضخمة التي لا يقوى على إخراجها الناشرون التجاريون. ولدينا مراكز ومؤسسات لتحقيق المخطوطات تتوافر بها الإمكانيات المادية واللجان العلمية المُتخصصة والتي تقوم بالاختيار ووضع السياسات مثل: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن, المعهد الألماني للأبحاث الاستشراقية في بيروت, المعهد الإسماعيلي في لندن, مركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية, وهذه يقع على كاهلها عبء نشر التراث.
< نال أيمن فؤاد السيد العديد من الجوائز، ما الجائزة التي تعتز بها؟
- جائزة الكويت في مجال التراث العلمي العربي والإسلامي والتي تُعد بحق - كما سبق أن أطلقت عليها - نوبل العرب, في موضوع «الخـطط والتـسـجيل الطبوغرافي للمدن» لعام 2009, وهناك زيارة ضمن برنامج الفائزين السابقين بالجائزة، بهدف توطيد الروابط بين المؤسسة والفائزين بجوائزها في شتى مجالات العلوم والآداب، من خلال إقامة اللقاءات والمحاضرات في العديد من المؤسسات العلمية في دولة الكويت، ويعد ذلك شيئاً طيباً.
< ما مشروعاتك الحالية؟
- حاليا تحت الطبع كتاب «القاهرة: خططها وتطورها العمراني» وقد استغرق مني وقتا طويلا في إعداده، وربما يكون أول كتاب يتناول نشأة وتطور عواصم مصر الإسلامية مُنذ ما قبل الفسطاط إلى منتصف القرن العشرين، وهو مزود بخرائط مساحية وتاريخية بالإضافة إلى ملف كامل للصور يُعد وصفاً مرئياً للقاهرة، وسوف يصدر عن الهيئة المصرية للكتاب. وهناك سلسلة بعنوان «مصادر مصر الإسلامية» وسوف تصدر بالتعاون مع دار الكتب المصرية وهي إعادة نشر مع التحديث لكُتب: «أخبار مصر» للمسبحي, «السيرة المأمونية» لابن مأمون, «أخبار مصر» لابن الميسر, «نزهة المقلتين» لابن الطوير, «ممالك مصر والشام والحجاز واليمن من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» لابن فضل الله العُمري، بالإضافة إلى إعادة نشر مع تحديث لكتاب «طبقات المعتزلة» لأبي قاسم البلخي, والقاضي عبدالجبار, والحاكم الجشمي.
< نصــيحة يُــسديها أيـــــمن فؤاد لـــــشباب المؤرخين؟
- حتى يمكنك أن تكتب تاريخا حقيقياً، لابد أن تعتمد على الوثائق والمصادر الأصلية, وأن تكون مُلما بمظان هذه المصادر وما تضمنته من أحداث، وهذا لا يتم إلا إذا تصديت لنشر عدد كبير مما لم يسبق نشره من النصوص, وأن تُعيد قراءة المصادر المُتاحة في ضوء هذه المُعطيات, ومناهج التفسير التاريخي للأحداث، مما يُتيح لك أن تكتب باطمئنان تفسيرا جديدا لأحداث العصر موضوع الدراسة. وأنا شخصيا قُمت بذلك عندما أصدرت كتابي «الدولة الفاطمية في مصر- تفسير جديد» و«القاهرة»، اعتمادا على «المواعظ والاعتبار» للمقريزي, وكتاب «وصف مصر» وغيرهما من المصادر المعنية بالخطط وتواريخ الملوك.
< ما المواقف التي فوجئت بها خلال تحقيقك للمخطوطات؟
- أثناء قيامي بتحقيق كتاب «المواعظ والاعتبار» للمقريزي كان من حُسن الحظ أن وقفت على المسودة الأولى التي كتبها المقريزي بخط يده للكتاب، وهي تمثل الشكل الأول لإخراج الكتاب قبل أن تكتمل صورته ويتعرف المؤلف على العديد من المصادر الجديدة، التي أتاحت له إعادة تبويب فصول الكتاب وتفسير الكثير من أحداثه، ثم وقفت بعد ذلك على أصل المُجلد الثالث من الكتاب في إخراجه الأخير بخط المقريزي، ووجدت تطابقاً تاماً بينه وبين النُسخ التي نُقلت عن هذا الأصل بخط المؤلف الذي أوضح لنا الأماكن التي أضافها المقريزي في فترات لاحقة، وتمكنت عن طريقها من تتبع مراحل مراجعة المقريزي لكتابه. كذلك النسخة التي نُقلت من دستور محمد بن إسحاق النديم لكتاب «الفهرست» والتي تمثل الأصل الذي اعتمده ابن النديم لكتابه والتي حرص الناسخ على أن يُحاكي فيها خط النديم وطريقته في إثبات معلوماته, فالكتاب هو قائمة بكتب المؤلفين المختلفين في فنون الثقافة العربية المختلفة وتطلب طريقة مُبتكرة في إخراجه، وحرص الناسخ على مُحاكاتها في النسخة التي نقلها من دستور المؤلف.
< للبيئة دور كبير في اتجاهك إلى عالم تحقيق المخطوطات... كيف كان ذلك؟
- توفي والدي فؤاد السيد وأنا في السابعة عشرة من عمري حينذاك, وكان - رحمه الله- يُشركني معه أثناء إجراء مُقابلات (مُطابقة) تجارب الطبع وكنت أقرأ من صورة المخطوط وأحيانا كان يتوقف أمام بعض المسائل المُعلقة, وكيفية مُعاملاته مع المكتبات, وأشركني معه في كتاب «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» لتقي الدين الفاسي المكي، وتعلمت كيفية البحث عن النسب, المواضع, المسائل التاريخية, وتخريج الأحاديث. كما كنت أحضر معه الجلسات العلمية التي كانت تضم العمالقة: شوقي ضيف, رشاد عبدالمطلب, خليل يحيى نامي, محمود شاكر, ناصر الدين الأسد, محمود محمد الطناحي,
عبدالفتاح الحلو, ومن المستشرقين الألمان هانز رويمر, هانز آرنست, والفرنسي شارل كوينتس, والأب قنواتي من مصر.
< مــــاذا عـــن رئـــاســـتك للجمعية المصرية للدراسات التاريخية؟
- باعتبارها أول جمعيـة متخصصة في الوطن العربي، حيث يرجع تاريخها إلى عام 1945، فإنها في حاجة إلى إعادة تنشيط دوريها الإقليمي والدولي، وهو ما أحرص عليه ومجلس إدارتها، كما أسعى إليه بكل جهد من خلال تنظيم الندوات والمواسم الثقافية، لتشمل مختلف مناحي التاريخ، بالإضافة إلى تطوير دوريتها العلمية, وإصدار كُتب خاصة مُلحقة بالمجلة, وجعل ندوتها السنوية ذات صبغة دولية من خلال مشاركة مؤرخين وأكاديميين ومتخصصين من أنحاء العالم, وموضوع الندوة السنوية الخامسة عشرة القادمة (ربيع 2015) «المؤرخون العرب والدراسات التاريخية منذ إنشاء الجامعة المصرية».
< موقف أو تصرف أسعدك خلال مشوارك العلمي؟
- إصدار كتاب تذكاري ضم 20 بحثاً في 684صفحة، بأقلام نُخبة من المؤرخين والمَحققين, والآثاريين من تونس, إيران, اليمن, لبنان, الولايات المتحدة الأمريكية, ومصر, وقيام زملائي وتلاميذي، بالإضافة إلى الناشر محمد رشاد مدير الدار المصرية اللبنانية، بتنظيم احتفالية بالمجلس الأعلى المصري للثقافة لهذه المناسبة، ما أسعدني وأدخل البهجة إلى قلبي .