«أيهـا القمـر» مع الشاعر المصري فوزي العنتيل وألحان البدايات

«أيهـا القمـر» مع الشاعر المصري فوزي العنتيل وألحان البدايات

بين عاميْ 1924 و1981، عاش الشاعر  المصري فوزي العنتيل، الذي ينتمي إلى جيل الحداثة الشعرية ومعه صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي ومحمد الفيتوري وكمال نشأت. لكنه لم ينل من الشهرة – لدى النقاد والقراء – ما لقيه بعض أبناء جيله، الذين كانوا أكثر  التصاقاً بالحياة الثقافية والاجتماعية، في حين كان هو أكثر ميلاً للتوحُّد والانعزال، وإيثار الجو الهادئ  والمتأمل، والعكوف على داخله ومكنونات وجدانه، المفعم بكثير من أشواق الإنسان ومعاناته ومكابداته، وبخاصة الإنسان الذي عاش معه عن كثب في قريته «علوان» – إحدى قرى محافظة أسيوط – حياة الفلاح المصري الكادح، المصفود في سلاسل الفقر والجهل والمرض وهموم الحياة والأرض وقسوة الواقع الذي جعل منه صوت هذا الإنسان، والناطق في شعره بما عجز عنه صريع القهر  والعسف والمذلة والحرمان.


أتيح‭ ‬للشاعر‭ ‬أن‭ ‬ينشر‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬مجموعتَيْن‭ ‬شعريتَيْن‭: ‬اعبير‭ ‬الأرضب‭ ‬عام‭ ‬1956‭ ‬ثم‭ ‬ارحلة‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬الكلماتب‭ ‬عام‭ ‬1980،‭ ‬بعد‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬على‭ ‬صدور‭ ‬الأولى،‭ ‬انشغل‭ ‬خلاله‭ ‬الشاعر‭ ‬بدراسة‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منحة‭ ‬دراسية‭ ‬إلى‭ ‬أيرلندا‭ ‬لمدة‭ ‬عامين،‭ ‬عاد‭ ‬بعدهما‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬ليوجِّه‭ ‬اهتمامه‭ ‬إلى‭ ‬حقل‭ ‬الدراسات‭ ‬الشعبية،‭ ‬حيث‭ ‬أصدر‭ ‬ثلاثة‭ ‬كتب‭ ‬هي‭: ‬االفولكلور‭ ‬ما‭ ‬هو؟ب،‭ ‬وابين‭ ‬الفولكلور‭ ‬والثقافة‭ ‬الشعبيةب،‭ ‬واعالم‭ ‬الحكايات‭ ‬الشعبيةب‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬بعد‭ ‬رحيله‭ ‬بعامين‭.‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬بروز‭ ‬لاسم‭ ‬الشاعر‭ ‬فوزي‭ ‬العنتيل‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية‭ ‬والشعرية‭ ‬المصرية‭ ‬حين‭ ‬أصبح‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الثلاثة‭ ‬الذين‭ ‬كونوا‭ ‬رابطة‭ ‬االنهر‭ ‬الخالدب،‭ ‬وهم‭: ‬محمد‭ ‬الفيتوري‭ ‬وكمال‭ ‬نشأت‭ ‬وفوزي‭ ‬العنتيل،‭ ‬وائتلف‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرابطة‭ ‬شعراء‭ ‬مصريون‭ ‬وسودانيون‭ ‬جمع‭ ‬بينهم‭ ‬الميل‭ ‬إلى‭ ‬نهج‭ ‬تحرري‭ ‬وتجديدي‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬أفق‭ ‬جماعة‭ ‬أبولّو،‭ ‬والحركة‭ ‬الشعرية‭ ‬الرومانسية‭ ‬إلى‭ ‬أعتاب‭ ‬الحركة‭ ‬الشعرية‭ ‬الحديثة،‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬بمنزلة‭ ‬ثورة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬والمضمون‭ ‬والصورة‭ ‬الشعرية،‭ ‬وهي‭ ‬الحركة‭ ‬التي‭ ‬لحق‭ ‬بها‭ ‬الشعراء‭ ‬الثلاثة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حققوا‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬نضج‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬واكتمالها‭. ‬وقد‭ ‬عكفت‭ ‬زوجة‭ ‬الشاعر‭ ‬ورفيقته‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ذ‭ ‬بعد‭ ‬خمس‭ ‬وثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬غيابه‭ ‬ذ‭ ‬على‭ ‬قصائده‭ ‬وأعماله‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يتضمنها‭ ‬ديواناه‭ ‬الأول‭ ‬والثاني،‭ ‬ورأت‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يصلح‭ ‬لإضاءة‭ ‬البواكير‭ ‬الأولى‭ ‬للشاعر،‭ ‬والطبيعة‭ ‬الغنائية‭ ‬التي‭ ‬لازمته‭ ‬في‭ ‬مفتتح‭ ‬مسيرته‭ ‬الشعرية،‭ ‬والتمهيد‭ ‬اللازم‭ ‬والضروري‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الشاعر‭ ‬بالتذوق‭ ‬والدراسة‭ ‬والتحليل،‭ ‬فكان‭ ‬ديوانه‭ ‬الجديد‭ ‬اأيها‭ ‬القمرب‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬أخيراً،‭ ‬والذي‭ ‬يمثل‭ ‬مفاجأة‭ ‬للحياة‭ ‬الأدبية‭ ‬والشعرية،‭ ‬وإضاءة‭ ‬لمسيرة‭ ‬الشاعر‭ ‬منذ‭ ‬صباه‭ ‬المبكر‭ ‬ويفاعته‭ ‬وشبابه،‭ ‬وهو‭ ‬فيها‭ ‬وبها‭ ‬يقدم‭ ‬لقارئه‭ ‬حلم‭ ‬البدايات،‭ ‬ويكشف‭ ‬عن‭ ‬المفاتيح‭ ‬والأسرار‭ ‬الأولى،‭ ‬ويقدم‭ ‬في‭ ‬كؤوس‭ ‬شعره‭ ‬المترعة‭ ‬جدلية‭ ‬الذات‭ ‬والوجود‭ ‬الذي‭ ‬تملأه‭ ‬كائنات‭ ‬معذبة‭ ‬وأرواح‭ ‬هائمة،‭ ‬تنسكب‭ ‬عليها‭ ‬أوهام‭ ‬الشاعر‭ ‬وخيالاته،‭ ‬حالـماً‭ ‬بحياة‭ ‬تشبه‭ ‬الخميلة‭ ‬لشدوه‭ ‬وطيرانه‭ ‬وتحليقه‭ ‬وذوبانه‭ ‬فيها،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬يفيق‭ ‬على‭ ‬نبض‭ ‬شعب‭ ‬يكافح‭ ‬ويناضل‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬حريته،‭ ‬وانتصاره‭ ‬على‭ ‬قيوده‭ ‬وأغلاله،‭ ‬مبدعاً‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬الشعرية‭ ‬المعبرة‭ ‬عن‭ ‬الحالين‭:‬

وهمي‭ ‬يُصوّر‭ ‬لي‭ ‬السعادة‭ ‬جدولا

نشوان‭ ‬كالقيثار‭ ‬بالنغماتِ

والزهر‭ ‬فوق‭ ‬ضفافه‭ ‬متعانق

‭ ‬في‭ ‬لهفة‭ ‬مشبوبة‭ ‬الهمساتِ

وهمي‭ ‬يصوّر‭ ‬لي‭ ‬السعادة‭ ‬جدولاً

يُطفي‭ ‬بأدمعه‭ ‬لهيب‭ ‬شكاتي

يحنو‭ ‬على‭ ‬روحي،‭ ‬فينضح‭ ‬جرحها

وتذوب‭ ‬في‭ ‬أمواجه‭ ‬نفحاتي

حتى‭ ‬إذا‭ ‬جمح‭ ‬الحنين‭ ‬وصفّقت

روحي،‭ ‬وصاح‭ ‬الشرق‭ ‬في‭ ‬جنباتي

ودنوت‭ ‬أرشف‭ ‬من‭ ‬مباهج‭ ‬عرسه

خمر‭ ‬المنى‭ ‬الوهاج‭ ‬كالقبلات

أيْقَظتني‭ ‬من‭ ‬نشوتي،‭ ‬وبَعثتْني

شبحاً،‭ ‬يئنّ‭ ‬الحزن‭ ‬في‭ ‬قسماتي

‭ ‬وعندما‭ ‬تجتاحه‭ ‬مع‭ ‬رفيقيه‭ ‬في‭ ‬رابطة‭ ‬النهر‭ ‬الخالد‭ ‬عاصفة‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬عام‭ ‬1952،‭ ‬وتشتعل‭ ‬فيهم‭ ‬حرارة‭ ‬توهجها‭ ‬ونيران‭ ‬إبداعها،‭ ‬يلقي‭ ‬الشاعر‭ ‬بنفسه‭ ‬وبشعره‭ ‬في‭ ‬حميّا‭ ‬هذا‭ ‬المعترك‭ ‬الوطني‭ ‬الجديد‭ ‬هاتفاً‭:‬

سمِّها‭ ‬ما‭ ‬تشاءُ،‭ ‬لست‭ ‬أراها

‭ ‬في‭ ‬فنون‭ ‬الأسماء‭ ‬والأوصاف

هي‭ ‬معنى‭ ‬في‭ ‬خاطري‭ ‬للبطولاتِ

وللمـــــــــجد‭ ‬والخــــــلود‭ ‬الضافي‭ ‬

وهي‭ ‬إن‭ ‬شئت‭ ‬‮«‬ابنة‭ ‬النيل‮»‬‭ ‬شبّت

‭ ‬في‭ ‬الرياض‭ ‬العذراء‭ ‬فوق‭ ‬الضفافِ

‭ ‬في‭ ‬رفيف‭ ‬الضياء،‭ ‬أنبتها‭ ‬الفجرُ

على‭ ‬شاطئ‭ ‬الغدير‭ ‬الصافي‭ ‬

وسقاها‭ ‬النبع‭ ‬الإلهيُّ‭ ‬خمراً

من‭ ‬عبير‭ ‬الخمائل‭ ‬الرفّاف

فسرى‭ ‬لحــــــنها‭ ‬المــــــــعطّرُ‭ ‬روحاً

ذاب‭ ‬في‭ ‬خَفْقهِ‭ ‬النسيم‭ ‬الغافي‭ ‬

زهرة‭ ‬النيل،‭ ‬وابنة‭ ‬الشاطئين،

ونجوى‭ ‬الـــــــحمام‭ ‬للصفصافِ

وهبت‭ ‬عمرها‭ ‬لمجدك‭ ‬يا‭ ‬مصرُ

لمــــــــــجد‭ ‬الأجــــــــــيال‭ ‬والأسلافِ

 

***

ودنـــــــــــا‭ ‬الـــــــــفجر‭ ‬فـــــــاحــــــــتمى

شـــــــــــبحُ‭ ‬الـــــليــــــــل‭ ‬بالغـــــــصونْ

وســـــــــرت‭ ‬نفــــــــــــــــحةُ‭ ‬الــــــــرُّبى

تــــــــنشرُ‭ ‬العــــــــــــطر‭ ‬والفــــــنون

ومــــــــــضى‭ ‬الركــــــــــبُ‭ ‬ســـــــــــابحاً

‭ ‬فـــي‭ ‬رؤى‭ ‬الشــــاطئ‭ ‬الــــحزين

 

***

أشرق‭ ‬الفجر‭ ‬بالضياء‭ ‬وطيف‭ ‬الـــ

ليل‭ ‬يحبو‭ ‬على‭ ‬الضفاف‭ ‬الحبيبة

وتهادى‭ ‬النشيد‭ ‬في‭ ‬مزهر‭ ‬الأُفـــ

ـقِ،‭ ‬وفي‭ ‬هدأة‭ ‬الليالي‭ ‬الرهيبة

عانق‭ ‬النهر‭ ‬والخمائل‭ ‬وهْناً

فــــــــتغّنت‭ ‬به‭ ‬المـــــروج‭ ‬الـــقشيبة

ودنا‭ ‬موكب‭ ‬الصباح‭ ‬وهبّت

قسمـــــــــاتُ‭ ‬مُرنّحـــاتٌ‭ ‬رطـــــــــــيبة

 

***

ولعلّ‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬يصور‭ ‬لنا‭ ‬فوزي‭ ‬العنتيل‭ ‬شاعراً‭ ‬وإنساناً،‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬عنه‭ ‬رفيقه‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬والشعر‭ ‬وفي‭ ‬رابطة‭ ‬النهر‭ ‬الخالد‭ ‬الشاعر‭ ‬السوداني‭ ‬محمد‭ ‬الفيتوري‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬الو‭ ‬تصورت‭ ‬طفولة‭ ‬غريبة‭ ‬عرفت‭ ‬صرامة‭ ‬الأبوة،‭ ‬وصرامة‭ ‬الأرض،‭ ‬وصرامة‭ ‬الواقع،‭ ‬وصرامة‭ ‬الهزيمة‭: ‬فهذه‭ ‬الطفولة‭ ‬هي‭ ‬طفولة‭ ‬الشاعر‭. ‬ولو‭ ‬تصورت‭ ‬مجتمعاً‭ ‬مقفلاً،‭ ‬منغلقاً‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬يكفر‭ ‬بكل‭ ‬القيم،‭ ‬وبكل‭ ‬شيء،‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬ماضيه‭ ‬العريق‭ ‬المشحون‭ ‬بالخرافات‭ ‬والمتناقضات‭ ‬والعقول‭ ‬الصفراء‭ ‬والوجوه‭ ‬العابسة‭ ‬في‭ ‬بلاده،‭ ‬الراضي‭ ‬في‭ ‬خمول‭: ‬فهذا‭ ‬هو‭ ‬المجتمع‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬نشأ‭ ‬فيه‭. ‬ولو‭ ‬تصوَّرت‭ ‬إنساناً‭ ‬طويلاً‭ ‬نحيلاً،‭ ‬حزين‭ ‬الوجه،‭ ‬رقيق‭ ‬المزاج،‭ ‬يحمل‭ ‬داخل‭ ‬نفسه‭ ‬كلَّ‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭: ‬إذن‭ ‬لتكونت‭ ‬لديك‭ ‬شخصية‭ ‬الشاعر‭ ‬فوزي‭ ‬العنتيلب‭.‬

ثم‭ ‬يقول‭ ‬محمد‭ ‬الفيتوري‭ ‬في‭ ‬اللوحة‭ ‬القلمية‭ ‬البديعة‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬لصديقه‭ ‬الشاعر‭: ‬اوإذن‭ ‬فطبيعي‭ ‬جدّاً‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مفتاح‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬شاعراً،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬شعره‭ ‬انعكاساً‭ ‬لواقعه،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬شعره‭ ‬مثله‭ ‬حبّاً‭ ‬للناس‭ ‬كلهم‭ ‬إلا‭ ‬الجانب‭ ‬الشرير‭ ‬فيهم،‭ ‬وعناقاً‭ ‬للطبيعة‭ ‬كلها‭ ‬إلا‭ ‬الجانب‭ ‬غير‭ ‬المضيء‭ ‬منها،‭ ‬وتجاوباً‭ ‬بعيداً‭ ‬عميقاً‭ ‬عُمق‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬تجاوب‭. ‬والذى‭ ‬يلتقي‭ ‬عنده‭ ‬الدارسون‭ ‬لشعره،‭ ‬أنه‭ ‬ظاهرة‭ ‬شعرية‭ ‬منبئة،‭ ‬ونقلة‭ ‬فوقية‭ ‬رحبة‭ ‬للتعبير‭ ‬الشعبي‭ ‬الجماعي‭ ‬المصري،‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬تجربة‭ ‬الموال‭ ‬المحلية‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬الإنسانيةب‭.‬

يكمل‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬القلمية‭ ‬البديعة‭ ‬التي‭ ‬تنطق‭ ‬بروح‭ ‬الشعر‭ ‬وتوهجه،‭ ‬كما‭ ‬رسمها‭ ‬الشاعر‭ ‬المصور‭ ‬محمد‭ ‬الفيتوري‭ ‬لصديق‭ ‬ورفيق‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬رابطة‭ ‬النهر‭ ‬الخالد‭ ‬ذ‭ ‬ما‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬الناقد‭ ‬الكبير‭ ‬
د‭. ‬محمد‭ ‬مندور‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬للديوان‭ ‬الأول‭ ‬للشاعر،‭ ‬وهو‭ ‬ديوانه‭ ‬اعبير‭ ‬الأرضب‭. ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شدّ‭ ‬انتباهه‭ ‬عكوف‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬القرية‭ ‬بهذا‭ ‬العمق‭ ‬والشمول،‭ ‬منحازاً‭ ‬إلى‭ ‬الفقراء‭ ‬المطحونين‭ ‬والأُجراء‭ ‬المستذلين‭ ‬قائلاً‭: ‬القد‭ ‬تقيد‭ ‬الشاعر‭ ‬بمذهب‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬صدق‭ ‬الوجدان‭ ‬وصدق‭ ‬التجربة‭ ‬البشرية،‭ ‬وإن‭ ‬يكن‭ ‬وجدان‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬الاتساع‭ ‬بحيث‭ ‬لم‭ ‬ينطو‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬ولا‭ ‬اقتصر‭ ‬على‭ ‬حياته‭ ‬الخاصة،‭ ‬بل‭ ‬شمل‭ ‬الأرض‭ ‬والسماء‭ ‬والريف‭ ‬وأهله‭. ‬وتوحّدت‭ ‬فيه‭ ‬مشاعر‭ ‬الجمال‭ ‬والإحساس‭ ‬به،‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬هذا‭ ‬الجمال‭ ‬شيئاً‭ ‬يُمسّ،‭ ‬أم‭ ‬شوقاً‭ ‬تهفو‭ ‬إليه‭ ‬الروح‭.‬

ولا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فالحب‭ ‬هو‭ ‬منبع‭ ‬الشعر‭ ‬الأصيل،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬حب‭ ‬المرأة‭ ‬أو‭ ‬حب‭ ‬الذات،‭ ‬بل‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬حب‭ ‬الطبيعة،‭ ‬بل‭ ‬وحب‭ ‬الله،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬حب‭ ‬المجتمع،‭ ‬وحب‭ ‬الغير،‭ ‬والحنوّ‭ ‬على‭ ‬آلام‭ ‬الناس‭ ‬وآمالهمب‭.‬

يقول‭ ‬فوزي‭ ‬العنتيل‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬حمل‭ ‬اسمها‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬اعبير‭ ‬الأرضب‭:‬

مازلت‭ ‬أشدو،‭ ‬ولحني‭ ‬يهزّ‭ ‬حولي‭ ‬القرونا

لقد‭ ‬بذرت‭ ‬غنائي،‭ ‬في‭ ‬الكائنات،‭ ‬حنينا

فأزهرت‭ ‬كلماتي،‭ ‬فوق‭ ‬الربى‭ ‬ياسمينا

وشققّت‭ ‬صرخاتي،‭ ‬حناجرُ‭ ‬الثائرينا

فإنَّ‭ ‬شعبيَ‭ ‬ما‭ ‬عادَ‭ ‬ضائعاً‭ ‬مستكينا

لقد‭ ‬أحبَّ‭ ‬ضياء‭ ‬الحياة،‭ ‬يهدي‭ ‬العيونا

أحبَّ‭ ‬فوق‭ ‬رباه،‭ ‬هذا‭ ‬التراب‭ ‬الثمينا

 

***

يا‭ ‬أرضُ،‭ ‬يا‭ ‬أمُّ،‭ ‬إني‭ ‬ظامٍ‭ ‬إلى‭ ‬فيض‭ ‬نورك

فأنتِ‭ ‬أفراح‭ ‬عمرٍ،‭ ‬عمّقْته‭ ‬في‭ ‬جذورك

إني‭ ‬خلطْتُ‭ ‬دمائي‭ ‬وثورتي‭ ‬بعبيركْ

فأَنْبتي‭ ‬في‭ ‬ضلوعي،‭ ‬نور‭ ‬الضحى،‭ ‬من‭ ‬بذورك

لأشرب‭ ‬الفجر‭ ‬خمراً،‭ ‬عتَّقْتُها‭ ‬في‭ ‬ضميركْ

إني‭ ‬أحبُّكِ،‭ ‬إني‭ ‬أُحبُّ‭ ‬فيك‭ ‬وجودي

يا‭ ‬أرض،‭ ‬يا‭ ‬أمُّ،‭ ‬هبّت‭ ‬على‭ ‬صباي‭ ‬البعيد

نسائمُ‭ ‬الفجر‭ ‬تندى،‭ ‬على‭ ‬خطايَ‭ ‬الشريدِ

 

***

إني‭ ‬هنا‭ ‬يا‭ ‬حقولي،‭ ‬يا‭ ‬جنتي‭ ‬يا‭ ‬خلودي‭ ‬

مازلتُ،‭ ‬كالأمسِ‭ ‬طفلاً،‭ ‬يُحبّ‭ ‬كلَّ‭ ‬الوجودِ

مازلتُ‭ ‬أنفخُ‭ ‬نايَ‭ ‬الضحى،‭ ‬لشعبي‭ ‬الشهيدِ

حتى‭ ‬يُفيق‭ ‬ويمضي،‭ ‬مدمدماً‭ ‬كالرعودِ

ولنتأمل‭ ‬معاً،‭ ‬هذا‭ ‬التدفق‭ ‬الشعري‭ ‬الآسر،‭ ‬وهذا‭ ‬الانسياب‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬والتصوير،‭ ‬وهذا‭ ‬الإيقاع‭ ‬الموسيقي‭ ‬الجياش،‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬يلازم‭ ‬شعر‭ ‬فوزي‭ ‬العنتيل،‭ ‬من‭ ‬بداياته‭ ‬حتى‭ ‬خواتيمه،‭ ‬وهذه‭ ‬اللغة‭ ‬الشفيفة‭ ‬الطيِّعة،‭ ‬التي‭ ‬يصنع‭ ‬منها‭ ‬ذ‭ ‬بكل‭ ‬يُسر‭ ‬ومهارة‭ ‬ذ‭ ‬أبهاء‭ ‬عالمه‭ ‬الشعري،‭ ‬في‭ ‬تواضع‭ ‬الكبار،‭ ‬وأصالة‭ ‬البنائين‭ ‬العظام‭. ‬وهو‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البواكير‭ ‬الشعرية،‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬إبداع‭ ‬البدايات،‭ ‬وجينات‭ ‬التكوين‭ ‬الأول،‭ ‬وتحمل‭ ‬طقوس‭ ‬التقاليد‭ ‬والعادات‭ ‬والموروثات‭ ‬الشعبية‭ ‬القديمة،‭ ‬وروح‭ ‬الحضارات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬فرعونية‭ ‬ومسيحية‭ ‬وإسلامية،‭ ‬يفصح‭ ‬عن‭ ‬وجدان‭ ‬استقر‭ ‬فيه‭ ‬مخزون‭ ‬ذكرياته‭ ‬الأولى،‭ ‬وعن‭ ‬انتماء‭ ‬حميم‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬البيئة‭ ‬المصرية‭ ‬الصميمة‭ - ‬في‭ ‬صعيد‭ ‬مصر‭ - ‬التي‭ ‬سبقه‭ ‬إلى‭ ‬التعبير‭ ‬عنها‭ ‬ذ‭ ‬ولكن‭ ‬بطريقته‭ ‬الخاصة‭ ‬ذ‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬محمود‭ ‬حسن‭ ‬إسماعيل‭ ‬الذي‭ ‬يجمعه‭ ‬بالعنتيل‭ ‬انتماؤهما‭ ‬لمحافظة‭ ‬أسيوط‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬صعيد‭ ‬مصر‭.‬

في‭ ‬قصيدته‭ ‬اأيها‭ ‬القمرب‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬عنواناً‭ ‬لديوانه‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬البواكير،‭ ‬يقول‭ ‬فوزي‭ ‬العنتيل‭:‬

هل‭ ‬في‭ ‬سمائك‭ ‬للحزين‭ ‬العاني

يا‭ ‬بدر،‭ ‬ترياقٌ‭ ‬من‭ ‬الأشجان؟

الكون‭ ‬حولك‭ ‬ساكنٌ‭ ‬متخشعٌ

والأرض‭ ‬تحتك‭ ‬لُجَّةُ‭ ‬البركانِ

تلهو‭ ‬وتسبح‭ ‬في‭ ‬مياهك‭ ‬ضاحكاً

فتُصفّقُ‭ ‬الأمواج‭ ‬للشطآنِ

ونجومُك‭ ‬الزهراء‭ ‬غضّت‭ ‬طرْفها

خجلاً،‭ ‬لمطلع‭ ‬وجهك‭ ‬الفتانِ

باح‭ ‬الوجود‭ ‬بسرِّها،‭ ‬فتحجّبت

والحسنُ‭ ‬لا‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬الفنانِ

 

***

يا‭ ‬بدر‭ ‬أنت‭ ‬حقيقة‭ ‬طافت‭ ‬بها‭ ‬الـ

أوهام‭ ‬ترقصُ‭ ‬في‭ ‬الدجى‭ ‬الوسنانِ

نبع‭ ‬من‭ ‬الأنوارِ‭ ‬فجَّرهُ‭ ‬الهوى

أضحت‭ ‬به‭ ‬الأشجارُ‭ ‬في‭ ‬فيضانِ

عطرُ‭ ‬الأزاهر‭ ‬في‭ ‬الرياض‭ ‬سكبْتَهُ

فانساب‭ ‬بين‭ ‬جداولٍ‭ ‬ومغاني

وخطرْتَ‭ ‬في‭ ‬ظلل‭ ‬الغمام‭ ‬على‭ ‬الرُّبا

متلفعاً‭ ‬بقلائد‭ ‬المرجانِ

مُتوشِّحاً‭ ‬بالسّحبِ‭ ‬تشرقُ‭ ‬باسماً

بين‭ ‬الخمائل،‭ ‬كالربيع‭ ‬الحاني

والعاشقون‭ ‬لنور‭ ‬وجهك‭ ‬خُشّعاً

يتقدمون‭ ‬إليك‭ ‬بالقربانِ

ناجى‭ ‬الأحبةُ‭ ‬بدرهم،‭ ‬فتمثلوا

فيك‭ ‬الحبيبَ،‭ ‬ومُلهم‭ ‬التبيانِ

 

***

أمؤذنٌ‭ ‬يا‭ ‬بدر،‭ ‬تهتف‭ ‬في‭ ‬السّما

باسْم‭ ‬العليِّ‭ ‬الواحدِ‭ ‬الدّيانِ

أم‭ ‬شاعرٌ‭ ‬سكب‭ ‬المساءُ‭ ‬المُزهرُ

‭ ‬في‭ ‬روحه‭ ‬قبساً‭ ‬من‭ ‬التحنانِ

فشدا‭ ‬بقيثارٍ‭ ‬تردّد‭ ‬لحنهُ

عطراً،‭ ‬تضوّع‭ ‬في‭ ‬النسيم‭ ‬الواني

أم‭ ‬عاشقٌ‭ ‬مسَّ‭ ‬الغرامُ‭ ‬جفونَهُ

فطوى‭ ‬جوانحهُ‭ ‬على‭ ‬الأحزانِ

نشوان،‭ ‬ضاق‭ ‬الكون‭ ‬عن‭ ‬أحلامه

فسما‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬الإنسانِ

عَبرتْ‭ ‬ضفافكَ‭ ‬لوعتي،‭ ‬فتقاسَمتْ

أمواج‭ ‬ضوئك‭ ‬حيرتي‭ ‬وحناني‭ ‬

أنا‭ ‬شاعرٌ‭ ‬عصفت‭ ‬به‭ ‬ريحُ‭ ‬النّوى

فرمتْهُ‭ ‬خلف‭ ‬حواجز‭ ‬النسيانِ‭!‬

وفي‭ ‬قصيدة‭ ‬عنوانها‭ ‬االنسر‭ ‬الجريحب،‭ ‬يقدم‭ ‬الشاعر‭ ‬صورة‭ ‬لذاته‭ ‬وما‭ ‬امتلأت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أصداء‭ ‬الحياة‭ ‬وتحديات‭ ‬الزمن،‭ ‬وفواجع‭ ‬الأيام،‭ ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬النسر‭ ‬الجريح‭ ‬مقابلاً‭ ‬فنيّاً‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬رفرفته‭ ‬وتحليقه،‭ ‬وضعفه‭ ‬وانكساره،‭ ‬وتجرؤ‭ ‬الطيور‭ ‬على‭ ‬نقْره‭ ‬واستغلال‭ ‬مواطن‭ ‬ضعفه،‭ ‬فيقول‭:‬

هبط‭ ‬النسر‭ ‬من‭ ‬رحاب‭ ‬سمائه‭ ‬

مُغلقاً‭ ‬روحهُ‭ ‬على‭ ‬أرزائه

طاوياً‭ ‬قلبهُ‭ ‬الكبير‭ ‬على‭ ‬الجرحِ

مُذيباً‭ ‬أحزانهُ‭ ‬في‭ ‬إبائه

غرَّهُ‭ ‬السَّفحُ‭ ‬ترقص‭ ‬الطير‭ ‬فيه

بين‭ ‬أعشابه‭ ‬وسحر‭ ‬رُوائه

غرّهُ‭ ‬الجدولُ‭ ‬المرنّمُ،

تسري‭ ‬همساتُ‭ ‬الغصون‭ ‬في‭  ‬أنحائه

والعصافيرُ‭ ‬حُوُّمٌ،

واثباتٌ،‭ ‬بين‭ ‬أضوائهِ‭ ‬وزُرقة‭ ‬مائه

فانثنى‭ ‬خافق‭ ‬الجناحيْن،‭ ‬يطوي

شاطئ‭ ‬الأفق،‭ ‬سابحاً‭ ‬في‭ ‬رجائه

فاحتوتهُ‭ ‬حُبالةٌ

أحكم‭ ‬الصائدُ‭ ‬إرسالها‭ ‬على‭ ‬أرجائهْ

 

***

والجناح‭ ‬الذي‭ ‬يُصفّق‭ ‬للنجمِ

ويروي‭ ‬أشواقهُ‭ ‬من‭ ‬ضيائهُ

نقرتْهُ‭ ‬الطيورُ،

والطيرُ‭ ‬تُغْرَى

بالضعيف‭ ‬القويّ‭ ‬في‭ ‬بُرحائه

وأطلّ‭ ‬الصباحُ‭ ‬من‭ ‬كُوّة‭ ‬الأفْقِ

على‭ ‬شاطئ‭ ‬الزمانِ‭ ‬السّجينِ

شارباً‭ ‬أدمع‭ ‬الزهور،‭ ‬مُريقاً

بسماتِ‭ ‬الطيور‭ ‬فوق‭ ‬الغصونِ

ومشى‭ ‬النسرُ‭ ‬في‭ ‬القبور،‭ ‬فدوَّتْ

زعقاتُ‭ ‬المُصفّدِ‭ ‬المحزونِ

غزلَ‭ ‬الضوءُ‭ ‬فوق‭ ‬جفنيْهِ‭ ‬حُلماً

ظامئَ‭ ‬الشوقِ،‭ ‬مستهام‭ ‬الحنينِ

مبهم‭ ‬الخطوِ،‭ ‬شاحباً،‭ ‬سكب‭ ‬النجمُ

على‭ ‬ظلّه‭ ‬بقايا‭ ‬الأنينِ

 

***

مدّ‭ ‬عينيّه‭ ‬للسماءِ،

وألقى

ضعفهُ‭ ‬المستباحَ‭ ‬عبْرَ‭ ‬الظنونِ

رفرفت‭ ‬روحُه،‭ ‬فشدَّ‭ ‬جناحا

يضربُ‭ ‬الريح،‭ ‬عاصفاً‭ ‬في‭ ‬جنونِ

ناسياً‭ ‬جرحهُ‭ ‬العميقُ،‭ ‬وقيداً

ضمَّ‭ ‬فكّيْهِ‭ ‬–‭ ‬كانطباقِ‭ ‬المنونِ

فهوى‭ ‬النسر‭ ‬خائراً‭ ‬يتلوّى

فوق‭ ‬آلامه‭ ‬أسير‭ ‬الشجونِ

والجناح‭ ‬الجبار‭ ‬أثقله‭ ‬اليأسُ

فأودى‭ ‬بقلبه‭ ‬المطعونِ

 

***

ومضى‭ ‬النسرُ‭ ‬قصةً‭ ‬ردَّدتْها

همساتُ‭ ‬الأمواجِ‭ ‬بين‭ ‬الصخورِ

‭ ‬في‭ ‬صباحٍ

يغشى‭ ‬الضبابُ‭ ‬حوافيه

فيهتزُّ‭ ‬بالسّنا‭ ‬المقرورِ

حطَّمته‭ ‬الأقدار،‭ ‬لم‭ ‬تُشفق‭ ‬الرِّيحُ

على‭ ‬قلبه‭ ‬الأبيِّ‭ ‬الكسيرِ

لا،‭ ‬ولم‭ ‬تعطف‭ ‬الطيور‭ ‬عليه

رُوحَها،‭ ‬في‭ ‬صراعهِ‭ ‬المقهورِ

 

***

يا‭ ‬صباحَ‭ ‬الأوهامِ

لملمْ‭ ‬رفات‭ ‬النسرِ؟

وانضح‭ ‬جراحهُ‭ ‬بالعطورِ

روِّ‭ ‬أحلامه‭ ‬الجميلة،‭ ‬واسكبْ

فوق‭ ‬أشواقه‭ ‬دموع‭ ‬الغديرِ

بأغاني‭ ‬الطيور،‭ ‬ملْءَ‭ ‬لياليه،

وعطِّرْ‭ ‬أَجواءها‭ ‬بالزهورِ

***

إن‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬قضى،

فإن‭ ‬أمانيه‭ ‬وأحلام‭ ‬صمته‭ ‬المسحورِ

أطلقت‭ ‬رُوحَهُ

فأبحر‭ ‬في‭ ‬الأفْقِ

إلى‭ ‬شاطئ‭ ‬الوجودِ‭ ‬الكبيرِ

بشراع‭ ‬مُنوَّرٍ‭ ‬مستهامٍ

دفَّ‭ ‬في‭ ‬هدأة‭ ‬السكون‭ ‬المثيرِ

ناشراً‭ ‬في‭ ‬الغروب‭ ‬ظلَّ‭ ‬جناحِ

شاعريٍّ‭ ‬يجوبُ‭ ‬ليل‭ ‬العصورِ‭!‬

ونختتم‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬الثرية‭ ‬مع‭ ‬بواكير‭ ‬شعر‭ ‬فوزي‭ ‬العنتيل،‭ ‬بزغرودته‭ ‬للحرية،‭ ‬واحتفاله‭ ‬بيوم‭ ‬التحرير،‭ ‬وفرحته‭ ‬الغامرة‭ ‬بانتصار‭ ‬الوطن،‭ ‬وسموق‭ ‬رايته‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬شعبه‭ ‬العريق‭. ‬إنها‭ ‬فرحة‭ ‬النهر‭ ‬والأرض،‭ ‬فرحةُ‭ ‬الشرف‭ ‬والعِرْض،‭ ‬وفرحة‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬مستضعفين‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬فهبوا‭ ‬ينشُدون‭ ‬الخلاص،‭ ‬وأشرق‭ ‬يوم‭ ‬التحرير‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭:‬

نورٌ‭ ‬على‭ ‬الأفْق‭ ‬البعيدِ

وغيمة‭ ‬بيضاءُ‭ ‬حفّت‭ ‬فجْركَ‭ ‬الموعودا

ورؤى‭ ‬شراع‭ ‬سابحٍ

يطوي‭ ‬على‭ ‬ثبج‭ ‬البحار‭ ‬عواصفاً‭ ‬ورعودا

النهر‭ ‬صفّق‭ ‬هائماً،‭ ‬مُترنِّحاً

والروض‭ ‬رفَّ‭ ‬أزاهراً‭ ‬وورودا

واهتزَّ‭ ‬ليل‭ ‬الساهرينَ،

وضوّأت‭ ‬قمم‭ ‬الجبالِ،

روابياً‭ ‬ونُجودا

يوم‭ ‬الخلاص‭ ‬طوى‭ ‬الوجود‭ ‬صباحُه

شوقاً،‭ ‬ورفرف‭ ‬في‭ ‬الكنانةِ‭ ‬عيدا

 

***

يا‭ ‬طالما‭ ‬عانقتهُ‭ ‬في‭ ‬خاطري

حُلماً‭ ‬على‭ ‬شغف‭ ‬الخيال‭ ‬وليدا

قبّلْتُ‭ ‬لحنك‭ ‬في‭ ‬شفاه‭ ‬مزاهري

وعزْفتُ‭ ‬صُبْحكَ‭ ‬للزمان‭ ‬نشيدا

وهتفتُ‭ ‬باسمك‭ ‬شادياً‭ ‬مترنِّما

ونظمتهُ‭ ‬للملهمين‭ ‬عقودا

يا‭ ‬حسن‭ ‬عوْدكَ،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عصف‭ ‬الأسى

بالنيل،‭ ‬يرعش‭ ‬ضفتيْهِ‭ ‬شرودا

***

سبعون‭ ‬عاما‭ ‬في‭ ‬القيود،‭ ‬فما‭ ‬ترى

إلا‭ ‬أسيراً‭ ‬مُجهداً‭ ‬مكدودا

سبعون‭ ‬عاما‭ ‬يا‭ ‬زمان‭ ‬تجمَّدتْ

فيها‭ ‬السنون،‭ ‬فما‭ ‬نُحسُّ‭ ‬وجودا

سبعون‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬عذابك،‭ ‬ليلها

سُهْدٌ‭ ‬ترامى‭ ‬خلْفنا‭ ‬مشدودا

ضربت‭ ‬يد‭ ‬الفولاذ‭ ‬حول‭ ‬جراحنا

سدّاً،‭ ‬وشدَّ‭ ‬الظالمون‭ ‬قيودا

سبعون‭ ‬عاما،‭ ‬كلَّما‭ ‬نضج‭ ‬الأسى

‭ ‬في‭ ‬وهمنا‭ ‬عاد‭ ‬الشقاءُ‭ ‬جديدا

 

***

والشعب،‭ ‬كان‭ ‬الشعب‭ ‬قصة‭ ‬تاجرٍ

يقتاتُ‭ ‬أنّات‭ ‬الشعوب‭ ‬رغيدا

عصر‭ ‬الدموع‭ ‬بكأسه،‭ ‬وبنى‭ ‬له‭ ‬

قصراً‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الجراح‭ ‬مَشِيدا

الشعب،‭ ‬كان‭ ‬الشعب‭ ‬دمية‭ ‬عابثٍ

يـلهو،‭ ‬وكان‭ ‬الكادحون‭ ‬عبيدا

البؤس‭ ‬والشوك‭ ‬المدُمَّى‭ ‬زادُهم

واليأس‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬لظًى‭ ‬ووقودا

 

***

الهائمون‭ ‬بكلِّ‭ ‬أرض،‭ ‬لا‭ ‬ترى

إلا‭ ‬شقيّاً‭ ‬منهمو،‭ ‬وشريدا

الشاربون‭ ‬دموعهم‭ ‬في‭ ‬حرّها

نارٌ‭ ‬تُمزِّقهم،‭ ‬أسًى‭ ‬وهمودا

‭ ‬الكادحون‭ ‬المجهدون،‭ ‬هوى‭ ‬بهم

لهبُ‭ ‬الحقول‭ ‬على‭ ‬الحقول‭ ‬حصيداً

الكادحون‭ ‬على‭ ‬ضراعات‭ ‬الدجى

النائمون‭ ‬على‭ ‬التراب‭ ‬قُعودا

 

***

كم‭ ‬من‭ ‬شقيٍّ‭ ‬بات‭ ‬قيْدَ‭ ‬دموعه

ومُشرَّدٍ،‭ ‬عبرَ‭ ‬الحياةَ‭ ‬شهيدا

مات‭ ‬الصباح‭ ‬على‭ ‬شكاية‭ ‬نايهِ

فمشى‭ ‬على‭ ‬أشلائهِ‭ ‬مصفودا

لفّ‭ ‬الضبابُ‭ ‬شراعهُ،‭ ‬يرمي‭ ‬به

فوق‭ ‬العباب‭ ‬مُشرَّداً‭ ‬منكودا

يتقاذف‭ ‬الموجُ‭ ‬العتيُّ‭ ‬مصيرهُ

والريح‭ ‬تطوي‭ ‬حُلمه‭ ‬الموءودا

وهنا‭ ‬وراء‭ ‬الغيب‭ ‬كانت‭ ‬قصة‭ ‬

حمراء،‭ ‬ينسجها‭ ‬القضاءُ‭ ‬بعيدا

عاشت‭ ‬بآفاق‭ ‬النجوم‭ ‬على‭ ‬الذرى‭ ‬الـــ

ـمجهولِ‭ ‬تصنع‭ ‬يومك‭ ‬المشهودا

 

***

فتيانُك‭ ‬الأحرار‭ ‬حين‭ ‬دعوتهم

طاروا‭ ‬على‭ ‬لهب‭ ‬الحتوف‭ ‬أسودا

واستقبل‭ ‬الليل‭ ‬الرهيب‭ ‬كتائباً

كالبحر‭ ‬ثار‭ ‬شواطئا‭ ‬وسدودا

وطفت‭ ‬على‭ ‬الأفق‭ ‬القتيم‭ ‬مشاعل

نفضتْ‭ ‬عليك‭ ‬شعاعها‭ ‬الممدودا

 

***

في‭ ‬وثبة‭ ‬التحرير‭ ‬حين‭ ‬تمرّدتْ

آلام‭ ‬سجنك،‭ ‬فاحتوتْك‭ ‬خلوداً

وهبتْك‭ ‬مجداً،‭ ‬أنت‭ ‬في‭ ‬قانونه

شعب‭ ‬يسودُ،‭ ‬وكنت‭ ‬قبلُ‭ ‬مَسُوداً

كسَّرت‭ ‬قيدك،‭ ‬وانطلْقتَ‭ ‬مُغرِّداً

نشوان‭ ‬تحتضن‭ ‬الوجود‭ ‬سعيداً

غنَّتْ‭ ‬بثورتك‭ ‬الحياةُ‭ ‬ملاحماً

ملأت‭ ‬بها‭ ‬قمم‭ ‬الرُّبى‭ ‬ترديداً

دقَّ‭ ‬الصباحُ‭ ‬على‭ ‬شجيِّ‭ ‬لحونها

ومشى‭ ‬الحنينُ‭ ‬بها،‭ ‬فلفَّ‭ ‬البيدا

وأضاءت‭ ‬الدنيا‭ ‬على‭ ‬أنغامها

يوماً‭ ‬تألق‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬فريداً

وشكراً‭ ‬لزوجة‭ ‬الشاعر‭ ‬ورفيقة‭ ‬حياته،‭ ‬التي‭ ‬استطاعت‭ ‬بعد‭ ‬رحيله‭ ‬بخمسة‭ ‬وثلاثين‭ ‬عاماً،‭ ‬أن‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬بواكيره‭ ‬الشعرية،‭ ‬وأن‭ ‬تُصنّفها‭ ‬وتُحقّقها،‭ ‬ليكون‭ ‬منها‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬الجديد‭ ‬البديع‭ >‬