فنَّان وطبَّاخ

أركيلة... فتاة صبيّة عمرها فوق العشرين قليلاً... شاب... بشع يرافق الفتاة. هي ليست جميلة وليست بشعة. بين شفتيها نربيج أحمر. الشفتان مصبوغتان بالأحمر. تُدخل النربيج الأحمر وتخرجه مع دخان كثيف بوجه صديقها وهي تبتسم. تحدّثه بنظرات حميمة كاذبة هي ونظراتها. تنادي النادل المختص بتغذية نار النرجيلة أو الأركيلة لوضع فحم طازج أحمر اللون كشفتيها وكنربيج الأركيلة. لا تشكره، هذه وظيفته، وضع النار على رأس الأركيلة. لا تنظر إليه. النادل يضع الفحمة وهو ينظر إلى شفتيها. هي ليست جميلة وليست بشعة. معها مَن يساعدها على نشر الدخان في الأجواء.
سيكارته التي تذوب سريعاً يأخذ غيرها ويولعها ويدخلها بين شفــــتيه، هو بشع وهي ليست بشعة وليست جميلة. صادف أن دخلتُ المقهى، أنا أدخل هذه المقهى كل يوم قبل الظهر ومراراً لا أذهب إليها، قلت إليها... المقهى إليها... هل المقهى ذكر أو أنثى؟... بعد تفكير لدقائق قرّرت ألا أدخل في مشكلات جديدة... ذكر أو أنثى... إلى آخره؟ هذا هو الهروب الشريف... إلى آخره.
***
قلت إنه بشع... هذا حرام... هو لم يختر ذاته... خُلق هكذا لم تكن له إرادة في موضوع الاختيار... اختيار شكل الوجه والأنف والأذنين والفم... حرام أن أصفه بالبشاعة... أمّا هي، فقد اختارت أن تكون بين البشاعة والجمال... أو أن قدرها أن تكون كذلك... وهي راضية عن حالها... وهو راضٍ عن حاله... أمّا أنا فحرام عليّ أن أعطي لكلٍّ منهما صفة وصفات... ومَن أكون أنا؟ وأذكر عندما أنظر إلى ذاتي في المرآة، أقول: ياي... يا ساتر... ثم أغمض عينيّ وأبتعد عن هذه اللعينة... المرآة... التي تقول الحق ولا تقول إلا الحق وتظهره بلا تردّد... إلى أن وصل الذي كنت أنتظر وصوله.
- مرحباً.
- موعدنا الساعة العاشرة... الآن...
- نعم الآن الحادية عشرة... اعذرني.
- أعذرك دائماً... ثم قام صديقي واقترب منهما وبدأ السّلام بالقبل... وجلس معهما وناداني لأن أقترب منهم. اقتربت منهم.
- الآنسة نعمت والسيد يوسف، صديقان من أيام الجامعة.
- آه... قلت بتعجّب، وقدّمني إليهما: أنيس.
- قلت ضاحكاً: أعرفهما منذ ساعة.
ابتسمتْ وأخرجتْ النربيج من فمها: ساعة؟ - تقريباً.
ومضى بعض الوقت... علمت أنه موسيقي... موسيقي صحيح... سألته أي موسيقى؟
- التي يسمّونها «كلاسيكية»... أعني الجيّدة... الصحيحة.
- أنا... هذا ما أختاره من الموسيقى.
- تعني؟...
- أعني بدءاً من «باخ» إلى «ماهلر».
في هذا الوقت كان صديقي في حديث مع الآنسة نعمت.
- تبدين بحالة جيدة... جداً.
- جداً... قالت وهي تضحك.
- منذ متى تروق لك الموسيقى؟
- تعني الموسيقى... أو الموسيقي؟ الموسيقى... أنت تعلم مستوى اهتمامي بها... الآن... الموسيقي عندي هو الأهم...
- منذ متى؟... اعذريني... اعذري تدخلي...
- كنت سأخبرك...
- بماذا؟ بزواجك من يوسف؟
- منذ سنتين.
- مبروك... (وقام وقبّل يوسف زوج الصديقة نعمت، الذي كان يحدّثني ويستمع إلى صديقه ونعمت في الوقت نفسه... ولست أدري كيف صار حديثنا يدور حول الأكل والطبخ... كنت أحاول الخروج من هذا الموضوع وأعود إلى الموسيقى فيجيبني متحدثاً بولعه بالطبخ... علمت عندئذٍ أنه لا يريد التكلّم والتحدّث في الموسيقى).
- يوسف... الساعة الواحدة... قالت له.
- الواحدة أو الثانية أو الثالثة.
كرّرت نعمت: الساعة الواحدة... نسيت؟
- كلا... لكن...
- تعطي موعداً ولا تذهب إليه... طيب...!
- نعمت... دعوت صديقينا إلى الغداء... وأطيب الأكل هو أكل المنزل.
بعدما انتهينا من الغداء، وحقاً كان أكلاً شهيّاً... من صنع الموسيقي... المنزل مفروش بكل ما هو ثمين... ولكن يـــــنقصه الذوق السليم... إن ما لفت نظري هو اللوحات «الفنيّة» التي كانت لوحات فـــقــــط وغير فنيَّة... ثم «بيانو» عليه تماثيل صغــــار تمثّل «فينوس» رحمها الله... ورأس «بتـــهــــوفن» ورأس «شوبان»... كنّا إذن في الصّالون لشرب فنجان القهوة بعد الغداء... وهنا أخذ «الموسيقي» يتحدّث عن موسيقاه وسأل إذا كنا نرغب في سماع بعض مؤلفاته... وكانت أغاني ملحّنة منه... وهي من عائلة الأغاني التي نسمعها ليل نهار في الراديو والتلفزيون... استغربت أنا... وعلمت كما كنت أعلم أن الفن لا يحتاج إلى الكلام... الموسيقى للسمع والرسم للنظر.
عندما طال استماعنا أو استماعي أنا، شعرت بوجع في معدتي، وتساءلت إذا كانت هي «الألحان والأغاني» السبب في الوجع أو طعام «الموسيقي الطبّاخ»؟
***
ما إن صرنا خارج البيت، نظرت إلى صديقي وقلت له: لعنة الله على هذا الطعام والألحان وعلى من صنعها... وطبخها وغنّاها ووزّعها في الإذاعات والتلفـــــزيونات، وعلــــى من نشر الجهل ومَن نشر قلة الذّوق والفهم، ووصلت إلى منزلي وزال الوجع من أذنيّ ومن معدتي ونمت.