عن شِعْرية أمل دنقل
تتميز صور أمل دنقل الشعرية بالغرابة والجسارة والجدة على السواء، ولهذا تفاجئنا قصائده بمفرداتها التي تبدو رمزية أحيانا، وواقعية في أحيان أخرى، وعلى المستوى البلاغي تتراوح ما بين الكنائية والاستعارية واضعة مكاناً خاصاً للتشبيه
خذ مثلاً هذه الصورة التي يستهل بها قصيدته اسفر ألف دالب، حيث نقرأ فيها:
القطارات ترحل فوق قضيبين ما كان – ما سيكون
والسماء رماد، به صنع الموت قهوته،
ثم ذراه كي تتنشقه الكائنات
فينسل بين الشرايين والأفئدة
وقارنها بالصورة التالية:
على محطات القرى...
ترسو قطارات السهاد
فتنطوي أجنحة الغبار في استرخاءة الدنو
والنسوة المتشحات بالسواد
تحت المصابيح، على أرصفة الرسو
ذابت عيونهن في التحديق والرنو
على وجوه الغائبين منذ أعوام الحداد
تشرق من دائرة الأحزان والسلو
ينتظرن... حتى تتآكل العيون
تتآكل الليالى
تتآكل القطارات من الرواح والغدو
والغائبون في تراب الوطن - العدو
لا يرجعون للبلاد
لا يخلعون معطف الوحشة عن مناكب الأعياد!
وإذا تأملنا هاتين الصورتين متكاملتين لاحظنا أن كلتيهما تتحدث عن قطارات؛ الأولى تتحدث عن قطارات ترحل بين الماضي والمستقبل، والثانية عن قطارات ترحل من محطات القرى. كأن العنصر المشترك بين الصورتين هو تصوير لحظة الما بين التي يمكن أن يتحقق ما بعدها إما سلباً أو إيجاباً. فهي صور تتراوح ما بين الماضي والمستقبل أو ما بين الحلم والكابوس. والموت عنصر تكويني أساسي في الصورتين، ففي الصورة الأولى السماء تتحول إلى رماد يصنع به الموت قهوته ثم يذروه كي تتنشقه الكائنات، فينسل بين الشرايين والأفئدة، وهو معنى رمزي يشير إلى أن الموت يتسرب في الهواء كالرماد، متخللاً كل شيء. ولذلك لا يبقى شيء حياً ولا يبقى شيء ثابتاً، فكل شيء يفر خلال الزجاج الذي ينظر منه راكب القطار إلى ما هو خارج النافذة، سواء كان ما في الخارج رذاذ غبار أو صوت الريح أو قنطرة النهر أو سرب العصافير والأعمدة، كل شيء يمر سريعاً على العين المستقرة في القطار، فلا يبقى شيء ثابتاً ولا تستطيع اليد أن تمسك بأي شيء ولا حتى أن تمضي العين مع أحلامها. وأخيراً تظل رحلة القطارات مستمرة. لكنّ الراحلين يصلون ولا يصلون. وليس القطار هنا سوى تعبير رمزي عن رحلة الحياة ما بين ماضي البشر ومستقبلهم، لكن من الواضح أن المستقبل يبدو معتماً إلى درجة تدني بينه والموت، وهو المعنى الذي يحمله المقطع الثاني المرتبط بمحطات القرى، حيث تتحول القطارات إلى قطارات للسهاد الذي لا ترى فيه الأعين النوم ولا تلمح سوى أجنحة الغبار المتطاير الذي تهدأ حركته في استرخاءة الدنو، فلا نرى في ما عداه سوى النسوة المتشحات بالسواد، ذابت أعينهن من التحديق والتطلع إلى وجوه الغائبين منذ أعوام الحداد. والمقصود هنا أعوام هزيمة 1967 التي رسمت كل شيء بالسواد وأطلقت الموت كالغبار على كل محطات الحياة، حيث لم يبق سوى النسوة المتشحات بالسواد وهن يتطلعن إلى هذا القطار لعله يحمل أبناءهن الغائبين، ويطول انتظارهن حتى تتآكل العيون، كناية عن لا نهائية أيام الانتظار، وتتآكل الليالي التي لا تتوقف عن المرور بل تتآكل القطارات من الرواح والغدو، ولكن الغائبين عن تراب الوطن الذي أصبح كالجمر، يضيق بأبنائه ويلقي بهم إلى الموت فيصبح صورة أخرى من العدو. ويطول الانتظار بالأمهات المتشحات بالسواد، ولكن الأبناء لا يرجعون إلى البلاد ولا يبعثون شيئاً من الفرح أو الأمل في مناسبات الأعياد. والفارق بين الصورتين هو الفارق بين قصيدة اسفر ألف دالب المتأخرة نسبياً وقصيدة االموت في الفراشب التي كتبها أمل في أعوام سابقة، ونشرها في ديوانه الأول، وما بين القصيدتين تتنوع صور أمل كالعادة، فلا يكتفي بالرمزية التي تفترش دوالها الصورتين الأوليين، بل تمضي قصائده منطوية على غبار الموت الذي ينسل في كل قصائده.
ويمكن أن نضع إلى جانب هاتين الصورتين، صورة كنائية موجودة في قصيدة االموت في الفراشب، خصوصاً المقطع الثاني منها، حيث نقرأ:
نافورة حمراء
طفل يبيع الفل بين العربات
مقتولة تنتظر السيارة البيضاء
كلب يحك أنفه على عمود النور
مقهى، ومذياع، ونرد صاخب، وطاولات
ألوية ملوية الأعناق فوق الساريات
أندية ليلية
كتابة ضوئية
الصحف الدامية العنوان: بيض الصفحات.
حوائط، وملصقات...
تدعو لرؤية (الأب الجالس فوق الشجرة)
والثورة المنتصرة!
ومجمل الأسطر السابقة يصنع كناية ضخمة، تتكون من مجموعة من الكنايات الصغيرة. والطابع البصري غالب عليها تماماً، فهي أسطر تخاطب العين وتجذبها إليها. وهذه من خصائص الكناية في البلاغة العربية، فالكناية غالباً ما تنطوي على إحساس بصري، ولا تخلو الأسطر من سخرية (الأب الجالس فوق الشجرة) والثورة المنتصرة؛ فالأب الجالس فوق الشجرة إشارة إلى فيلم شهير لعبدالحليم حافظ عن قصة لإحسان عبدالقدوس، مؤداها أن أحد الآباء ذهب ابنه إلى الإسكندرية لقضاء عطلة الصيف، وبلغ الأب أن ابنه انحرف على يد راقصة في أحد الملاهي، فيذهب الأب لينقذ الابن، ولكنه بدلاً من ذلك يقع هو في فخ الغواية. وهكذا أصبح كالطائر الذي وقع في شراك أحد الفخاخ المنصوبة فوق شجرة من أشجار الغابة. والمفارقة واضحة تماماً في الفارق الكبير والساخر ما بين فيلم يتحدث عن غواية أب وابنه والثورة المنتصرة التي لم تشهد انتصاراً حقيقياً قط، كما لو كانت حالها حال الأب الذي ذهب لإنقاذ ابنه من الغواية فوقع فيها. ولو عاودنا النظر في مجموع الأسطر السابقة لاكتشفنا أنها مجموعة من المشاهد المتلاصقة والمتجاورة على طريقة التقطيع السينمائي للمشاهد التي ترينا عدداً غير قليل من المشاهد الموصولة التي قصد بها أن تؤدي انطباعاً كلياً عما كان يحدث في عالم المدينة الكبيرة في سنوات الهزيمة التي جاءت في أعقاب 1967. ولذلك فهي مشاهد يفترشها الموت بشكل أو آخر، فهناك ذ أولاً - مشهد المقتولة التي دهستها سيارة عجلى، وهناك ذ ثانياً - النافورة الحمراء كلون الدم المسفوح في هزيمة 1967، وهناك ذ أخيراً - الصحف الدامية العنوان. وقد لا يكون الموت مذكوراً على نحو مباشر في الصور الجزئية السابقة، ولكن الحمرة الملازمة للعناوين هي لازمة من لوازم صور الموت.
هذا الموت يفترش الصور الشعرية لأمل دنقل، خصوصاً في ديوانه الأول االبكاء بين يدي زرقاء اليمامةب، الذي جاء بعد هزيمة 67 ليؤكد احتجاج الشاعر عليها، وإدانته لكل الأسباب التي أدت إليها، ومنها غياب الديمقراطية، والاستبداد الذي لم يسمح بوصول الأصوات الصادقة المخلصة للقيادة السياسية في ذلك الوقت، تحذيراً لها من السقوط في الفخ الذي كان منصوباً لها، ولذلك فالحزن والغضب هما النغمتان التحتيتان اللتان تستند إليهما أغلب صور ديوان االبكاء بين يدي زرقاء اليمامةب، وهو عنوان يلفت الانتباه بالكلمة الاستهلالية فيه، وهي كلمة االبكاءب التي ليست بكاء على الأطلال وإنما بكاء على الشهداء الذين سقطوا في حرب 67، وسخرية من السياسات التي أدت إليها، ولذلك تتناثر في الديوان الصور الكنائية الموجوعة والحزينة والإنسانية في الوقت نفسه. ومن هذه الصور الدالة بالتأكيد، الصورة التالية التي تتصدرها أرملة أحد الشهداء في الحرب:
من شرفتي كنت أراها في صباح العطلة الهادئ
تنشر في شرفتها على خيوط النور والغناء
ثياب طفليها، ثياب زوجها الرسمية الصفراء
قمصانه المغسولة البيضاء
تنشر حولها نقاء قلبها الهانئ وهي تروح وتجيء
... ... ...
والآن بعد أشهر الصيف الرديء
رأيتها... ذابلة العينين والأعضاء
تنشر في شرفتها على حبال الصمت والبكاء
ثيابها السوداء!
وواضح أننا هنا إزاء كناية ممتدة تتكون من مقطعين، المقطع الأول مملوء بالبهجة والنور والغناء المقترن بالهناء والآمال. وكلها صفات للعالم البهيج الذي تعيش فيه زوجة أحد الضباط الذين حاربوا في العام السابع والستين، ويأتي نقيض هذا القسم ختاماً للكناية المركبة عما حدث بعد أشهر الصيف الرديء الذي وقع في شهر يونيو 1967، فينقلب المشهد ونرى المرأة نفسها ذابلة العينين والأعضاء. وذبول العين كناية عن كثرة البكاء والحزن، أما ذبول الأعضاء فكناية موازية عن هزال الجسد بعد صدمة حزن موجعة إلى أبعد حد، وضياع الثقة في المستقبل، ولذلك تقترن بالأسطر الكنائية استعارة مكنية نراها في حبال الصمت والبكاء التي يأتي بعدها ما يوضحها من إشارة إلى الثياب السوداء التي أصبحت ترتديها أرملة الشهيد بعد أن كانت ترتدي الثياب الملونة البهيجة. والسواد هنا هو لون المشهد، ولون المأساة على السواء. وتمتد الصور الكنائية المركبة عند أمل دنقل لتملأ قصيدة افقرات من كتاب الموتب، حيث نقرأ:
كل صباح..
أفتح الصنبور في إرهاق
مغتسلاً في مائه الرقراق
فيسقط الماء على يدي... دما!
... ... ..
وعندما أجلس للطعام... مرغماً
أبصر في دوائر الأطباق
جماجماً...
جماجماً...
مفغورة الأفواه والأحداق!
وإذا عدنا إلى تأمل الصورة الكنائية في مجملها، نجد أن الواقعية فيها موجعة، فهي عن مواطن بائس، بؤسه مقترن بإرهاقه من كوارث الحياة اليومية التي يعيشها، ومن ثم يفتتح صباحه مرهقا، محطم الأعضاء فلا يملك إلا أن يفتح صنبور الماء كي يغسل وجهه في إرهاق، ولكن الماء بدل أن يسقط على وجهه، كما توقعنا، يتحول إلى دم. والصدمة مقصودة، ويراد بها إيقاظ وعي القارئ ولفت انتباهه إلى العالم الذي أصبح يعيش فيه، وهو عالم محاصر بالموت. ولكي يتأكد حضور هذا العالم نمضي مع بقية الصورة الكنائية، فيجلس المواطن نفسه للطعام مرغماً من الآخرين أو مرغماً من نفسه، فهو لا شهية له على وجه اليقين بسبب الحزن الأسود الذي يعيش فيه. وتتكرر المفاجأة كما حدث في المقطع الأول، فبدلاً من أن يرى الطعام في الأطباق، يرى جماجم الموتى الذين سقطوا في حرب 67، مفغورة الأفواه والأحداق، كأنها تنقل إليه دهشتها وصرخة الألم الفظيع الذي عانته قبل موتها.
وما أكثر الصور الدالة على الموت في الديوان الأول لأمل دنقل، وقد سبق لي أن قدمت تحليلاً نقدياً لقصائد من طراز االبكاء بين يدي زرقاء اليمامةب وغيرها من الصور في القصائد التي كانت ترهص بهزيمة 67. ولكني أحب أن أتوقف عند قصيدة أجدها دالة على الحزن والموت اللذين ينسربان في أغلب القصائد، إن لم يكن كل قصائد االبكاء بين يدي زرقاء اليمامةب. ومن هذه القصائد قصيدة اصفحات من كتاب الصيف والشتاءب، التي تتكون من ثلاثة مقاطع، المقطع الأول بعنوان: احمامةب، ويمضي كالتالي:
حين سرت في الشارع الضوضاء
واندفعت سيارة مجنونة السائق
تطلق صوت بوقها الزاعق
في كبد الأشياء
تفزعت حمامة بيضاء
(كانت تقف على تمثال نهضة مصر...
تحلم في استرخاء)
... ... ...
طارت وحطت فوق قبة الجامعة النحاس
لاهثة تلتقط الأنفاس
وفجأة: دندنت الساعة
ودقت الأجراس
فحلقت في الأفق – مرتاعة
... ... ...
أيتها الحمامة التي استقرت
فوق رأس الجسر
(وعندما أدار شرطي المرور يده
ظننته ناطوراً... يصد الطير
فامتلأت رعبا!)
أيتها الحمامة التعبى:
دوري على قباب هذه المدينة الحزينة
وأنشدي للموت فيها... والأسى... والذعر
حتى نرى عند قدوم الفجر جناحك الملقى...
على قاعدة التمثال في المدينة
وتعرفين راحة السكينة!
والصورة الكنائية الممتدة في هذا المقطع، تشير إلى حمامة فعلية على مستوى الحقيقة، ونرى ما يحدث لهذه الحمامة عندما تفزع من صوت بوق سيارة يقودها سائق لا يعرف التعقل وبأقصى سرعة دون أن يراعي شيئاً، فتفزع الحمامة البيضاء التي كانت ترقد فوق تمثال نهضة مصر الذي يقبع في مدخل جامعة القاهرة ما بين حديقتي الحيوان والأورمان. ويقضي فزع هذه الحمامة على أحلامها في استرخاءتها الهادئة فوق تمثال نهضة مصر، فتطير مفزوعة إلى أن تحط فوق قبة جامعة القاهرة لاهثة تلتقط أنفاسها، لكن قبة الجامعة تجاور ساعتها التاريخية التي تدق دقات مزعجات، فتعاود الحمامة الطيران مرتاعة إلى أن تستقر فوق رأس الجسر، أول كوبري الجامعة، لكنها ترى شرطي المرور الذي يحرك يده لينظم السير، فتظنه حارساً يصد الطير، فتمتلئ رعباً وتعاود الطيران إلى أن يعاجلها الموت فترتمي مع قدوم الفجر محطمة على قاعدة تمثال نهضة مصر. وينتهي فزعها مع الموت، ولكن هذه الحمامة من ناحية أخرى ينبغي أن نقرأها على المستوى الرمزي، فنرى فيها رمز الأمان والسلام والهدوء والسكينة، وهي المفردات التي تواجه دائماً بكل ما يقطع أمامها طريق الحضور في الحياة، فتغادر المدينة السكينة ويرحل عنها الأمان ويغيب في لهيبها السلام فتغدو هذه المدينة بلا سلام ولا هدوء ولا سكينة ولا حتى براءة، وكلها مجازات لما ينسرب في شوارع مدينة لا تعرف سوى كل ما يطارد كل الدوال والمدلولات التي تشير إليها رمزية الحمامة التي تدور على قباب مدينة حزينة كأنها تنشد فيها للموت والأسى والذعر، وسرعان ما نرى هذه الحمامة بكل ما ترمز إليه ملقاة عند قدوم الفجر على قاعدة تمثال نهضة مصر، وكأن هذه الحمامة هي دوال ومدلولات الرمز الذي لا يعرف راحة السكينة إلا في الموت.
ويأتي المقطع الثاني بمزيد من كنايات الحزن والموت، وهو بعنوان: اساق صناعيةب، ويمضي كالتالي:
في الفندق الذي نزلت فيه قبل عام
شاركني الغرفة
فأغلق الشرفة
وعلق «السترة» فوق المشجب المقام
وعندما رأى كتاب «الحرب والسلام»
بين يدي إربد وجهه
ورف جفنه... رفة
فغالب الرجفة
وقص عن صبية طارحها الغرام
وكان عائداً من الحرب... بلا وسام
فلم تطق ضعفه
ولم يجد- حين صحا- إلا بقايا الخمر والطعام!
... ... ...
ثم روى حكاية عن الدم الحرام
(... الصحراء لم تطق رشفة:
فظل فيها، يشتكي ربيعه صيفه...)
وظل يروي قصصه الحزينة الختام
حتى تلاشى وجهه
في سحب الدخان والكلام
وعندما تحشرج الصوت به، وطالت الوقفة
أدرت رأسي عنه...
حتى لا أرى دمعته العفة
ومن خلايا جسدي تفصد الحزن...
... وبلل المسام
... ... ...
وحين ظن أنني أنام
رأيته يخلع ساقه الصناعية في الظلام
مصعداً تنهيدة...
قد أحرقت جوفه!
وما أكثر الحزن في هذا المقطع السردي الذي نرى فيه الصوت الذي يمثل الشاعر الذي ينام في إحدى غرف الفنادق الرخيصة، ويتصادف أن يشاركه الغرفة واحد من جرحى حرب 67 الذي يدخل الغرفة لينام فيها في سرير مواجه لسرير الشاعر، وتنفتح حدقتا عين الشاعر لتلتقط دقائق هذا المشهد الذي يربد فيه وجه الجندي حين يرى عنوان كتاب االحرب والسلامب بين يدي ساكن الغرفة قبله، فقد ذكره العنوان بالحرب التي يسقط فيها مئات القتلى، إن لم يكن آلاف من الذين تركهم صرعى من زملائه وأصدقائه على أرض الحرب، فغالب رجفته وحزنه، ولكي يتخلص من هذا الحزن، انطلق يحكي لزميله في الغرفة عن صبية أحبها بعد أن عاد من الحرب بلا شيء يشرفه، حاملاً عار الهزيمة، هذا العار الذي تحول إلى ضعف شديد أقرب ما يكون إلى العجز الجنسي، ففارقته المرأة وهو نائم، فلم يجد حين صحا في الصباح، سوى بقايا وليمة المساء. وبعد ذلك انطلق يحكي عن الدماء الحرام التي ظلت مراقة على أرض الصحراء التي لم تستطع أن تمتصها لكثرتها، وظل يروي قصص الحرب الحزينة الختام وينفث دخاناً ملأ الغرفة كلها. وانتهت حكاياته بالدموع التي أخذت تترقرق من عينيه وحشرجة الصوت التي أوقفت كلامه، فنقل حزنه إلى زميله في الغرفة الذي غرق بدوره في حزنه، وعندما ظن المحارب أن زميله في الغرفة قد نام، خلع ساقه الصناعية في الظلام، مصعداً تنهيدة بدت كما لو كانت قد أحرقت جوفه. والرمزية منسربة في هذه الصورة الكنائية المركبة التي تبدو وكأنها أقرب إلى مشهد قصصي أو مشهد سينمائي، فالبصرية فيها غالبة وطاغية، والغرفة التي يقطنها المحارب المهزوم والراوي الشاعر نراها بعين الخيال، كما لو كنا نشاهدها على شاشة السينما. ولا يتردد أمل دنقل في استخدام الحيل السينمائية التي تعلم استخدامها في بناء قصائده من قطع أو وصل أو ترتيب أو تقريب (close up)، حيث يجعلنا نحن القراء كما لو كنا نشاركه في هذه الغرفة ونشعر بمشاعره الحزينة ونتنهد أسى وحزناً على هذا المحارب المهزوم الذي يعدينا بانكساره وهزيمته، ويتحدث عن الموت والدم المراق في الصحراء. لكن الرمزية المنسربة في الكناية تجعل من الرجل الذي فقد ساقه في الحرب مثالاً على غيره من الذين فقدوا أعضاءهم، والمثال دال على عديد غيره بما يقودنا إلى التمثيل الذي يدخل بممثولاته إلى دائرة الرموز.
أما المقطع الثالث فهو بعنوان: اشتاء عاصفب، ويصف فيه الشاعر مدينة الإسكندرية التي كتب فيها هذه القصيدة في ما يبدو، ونقرأ في هذا الجزء:
كان «ترام الرمل»
منبعجا كامرأة في أخريات الحمل
وكنت في الشارع أرى شتاء (الغضب الساطع)
يكتسح الأوراق والمعاطفا
وكانت الأحجار في سكونها الناصع
مغسولة بالمطر الذي توقفا
وكان في المذياع
أغنية حزينة الإيقاع
عن (ظالم لاقيت منه ما كفى..)
قد (علموه كيف يجفو... فجفا)
وفي هذا المقطع نرى عدداً من التقنيات اللافتة التي كان يستغلها أو يستخدمها أمل دنقل في كتاباته، أولاها جسارة التشبيه حين نرى ترام الرمل، وهو اسم الترام الذي ينطلق ويعود إلى محطة الرمل في الإسكندرية، منبعجاً كامرأة في أخريات الحمل. والتشبيه غريب وبالغ الجسارة، من النوع الذي يطلق عليه البلاغيون القدماء تشبيه الاستطراف، ووجه الطرافة في التشبيه هو عدم اعتياد قراء الشعر على مثله، فمن ذا الذي فكر أو تخيل أن الترام المزدحم بالركاب الذين يقفون على أبوابه يبدو في انبعاجه كامرأة في أخريات الحمل؟! أما التقنية الثانية التي يستخدمها أمل، فهي التضمين على سبيل إيقاع المفارقة في الدلالة، وهكذا نقرأ: اشتاء الغضب الساطعب، وهو تضمين لأغنية فيروز الشهيرة التي تتحدث عن غضب ساطع لابد أن يدفع العرب إلى هزيمة عدوهم، ولكن العدو لم ينهزم، وإنما هزم العرب شر هزيمة. ولم يبق سوى الغضب الساطع للهواء في مدينة الإسكندرية، وهو يكتسح الأوراق برياح الخريف التي تشتد في الشتاء، فتنقلب الرياح إلى عواصف تتطاير معها معاطف المارين المرتجفين من برد الشتاء في الإسكندرية، وهو الأمر نفسه، الذي يقع في تضمين أغنية عن ذلك الظالم الذي يلاقي منه العاشق ما يكفيه، فيقول عن حبيبه قد علموه كيف يجفو فجفا، فالإشارة هنا إلى أغنية شهيرة من تأليف أحمد شوقي، وغناء محمد عبدالوهاب، يقلب الشاعر معناها كي يمضي في سياق مقطع القصيدة الذي يمتلئ بالسخرية، دون أن يتخلى عن الخصائص الكنائية للمقطع كله، كما في غيره من المقطعين السابقين. وأخيراً تأتي خاتمة القصيدة:
جلست فوق الشاطئ اليابس
وكان موج البحر يصفع خد الصخر
وينطوي - حيناً - أمام وجهه العابس-
... وترجع الأمواج
تنطحه برأسها المهتاج
ودون أن تكف عن صراعها اليائس...!
ويختم هذا المقطع الأخير سياق القصيدة بمقاطعها الثلاثة الدالة على نحو مباشر وغير مباشر على الموت الذي يفترش حتى الهواء. والمقطع يبدأ بجلسة فوق شاطئ البحر اليابس العاري من العشب أو الطحالب، فلا شيء في هذا الشاطئ اليابس سوى الصخر الذي يندفع إليه موج البحر كما لو كان يصفعه أو كما لو كان يخيفه بوجه عابس. وتنطوي الأبيات على ذلك التشخيص الذي يضم شاطئ البحر إلى موج البحر، فيبدو الصخر كما لو كان له خد، في مقابل الموج الذي ينطح هذا الخد أو يتراجع الخد من جديد أمام موجه المهتاج كي يرجع لينطح الشاطئ برأسه كالثور الهائج. وتمضي الصورة الشعرية على هذا النحو في صراع ما بين صخر اليابسة وموج البحر اليائس دون أن يتوقف كلاهما عن الصراع اليائس والبائس، فالصورة بما تنطوي عليه من صراع هي امتداد للمقاطع الثلاثة السابقة التي نرى فيها الموت يضرب الحياة كما يضرب موج البحر خد الصخر، ولكن خد الصخر يتصدى لموج البحر ويواجهه كما يقاومه، تماماً كما تقاوم الحياة الموت الذي يهزمها كما في المقاطع الثلاثة السابقة. ولكن الموت لا يهزم الحياة دائماً وأبداً، فهناك ذلك الصراع الدائم والمستمر ما بين الحياة والموت، وإذا كانت مقاطع القصيدة السابقة لم تُرِنا سوى الموت، فإن الخاتمة التي تصف البحر في مواجهة الشاطئ تؤكد لنا أن الحياة لا تفنى ولا تتبدد، وأنها تناطح الموت كما يناطح الصخر البحر، ما يجعلنا نعاود النظر في القصيدة وفي دلالات الموت التي تنسرب فيها، مدركين في النهاية أن الحياة مع كل مشاهد الموت السابقة تبقى، وإذا انهزمت في جبهة فإنها تصارع الموت في جبهة أخرى، ما يعطي نوعاً من الأمل يضيفه المقطع الأخير إلى المقاطع السابقة، فيبدو المقطع الأخير في النهاية كما لو كان الدلالة المضافة إلى الشتاء العاصف، كالحياة التي تواجه الموت مهما بلغ حجمه وانتصاره أو تعددت مرات ضرباته >