عن شِعْرية أمل دنقل

عن شِعْرية أمل دنقل

تتميز‭ ‬صور‭  ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬الشعرية‭ ‬بالغرابة‭ ‬والجسارة‭ ‬والجدة‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬ولهذا‭ ‬تفاجئنا‭ ‬قصائده‭ ‬بمفرداتها‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬رمزية‭ ‬أحيانا،‭ ‬وواقعية‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى،‭ ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬البلاغي‭ ‬تتراوح‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الكنائية‭ ‬والاستعارية‭ ‬واضعة‭ ‬مكاناً‭ ‬خاصاً‭ ‬للتشبيه‭

خذ‭ ‬مثلاً‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬يستهل‭ ‬بها‭ ‬قصيدته‭ ‬اسفر‭ ‬ألف‭ ‬دالب،‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭ ‬فيها‭:‬

القطارات‭ ‬ترحل‭ ‬فوق‭ ‬قضيبين‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬–‭ ‬ما‭ ‬سيكون

والسماء‭ ‬رماد،‭ ‬به‭ ‬صنع‭ ‬الموت‭ ‬قهوته،

ثم‭ ‬ذراه‭ ‬كي‭ ‬تتنشقه‭ ‬الكائنات

فينسل‭ ‬بين‭ ‬الشرايين‭ ‬والأفئدة

 

وقارنها‭ ‬بالصورة‭ ‬التالية‭:‬

على‭ ‬محطات‭ ‬القرى‭...‬

ترسو‭ ‬قطارات‭ ‬السهاد

فتنطوي‭ ‬أجنحة‭ ‬الغبار‭ ‬في‭ ‬استرخاءة‭ ‬الدنو

والنسوة‭ ‬المتشحات‭ ‬بالسواد

تحت‭ ‬المصابيح،‭ ‬على‭ ‬أرصفة‭ ‬الرسو

ذابت‭ ‬عيونهن‭ ‬في‭ ‬التحديق‭ ‬والرنو

على‭ ‬وجوه‭ ‬الغائبين‭ ‬منذ‭ ‬أعوام‭ ‬الحداد

تشرق‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬الأحزان‭ ‬والسلو

ينتظرن‭... ‬حتى‭ ‬تتآكل‭ ‬العيون

تتآكل‭ ‬الليالى

تتآكل‭ ‬القطارات‭ ‬من‭ ‬الرواح‭ ‬والغدو

والغائبون‭ ‬في‭ ‬تراب‭ ‬الوطن‭ - ‬العدو

لا‭ ‬يرجعون‭ ‬للبلاد

لا‭ ‬يخلعون‭ ‬معطف‭ ‬الوحشة‭ ‬عن‭ ‬مناكب‭ ‬الأعياد‭!‬

وإذا‭ ‬تأملنا‭ ‬هاتين‭ ‬الصورتين‭ ‬متكاملتين‭ ‬لاحظنا‭ ‬أن‭ ‬كلتيهما‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬قطارات؛‭ ‬الأولى‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬قطارات‭ ‬ترحل‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والمستقبل،‭ ‬والثانية‭ ‬عن‭ ‬قطارات‭ ‬ترحل‭ ‬من‭ ‬محطات‭ ‬القرى‭. ‬كأن‭ ‬العنصر‭ ‬المشترك‭ ‬بين‭ ‬الصورتين‭ ‬هو‭ ‬تصوير‭ ‬لحظة‭ ‬الما‭ ‬بين‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬ما‭ ‬بعدها‭ ‬إما‭ ‬سلباً‭ ‬أو‭ ‬إيجاباً‭. ‬فهي‭ ‬صور‭ ‬تتراوح‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والمستقبل‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحلم‭ ‬والكابوس‭. ‬والموت‭ ‬عنصر‭ ‬تكويني‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬الصورتين،‭ ‬ففي‭ ‬الصورة‭ ‬الأولى‭ ‬السماء‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬رماد‭ ‬يصنع‭ ‬به‭ ‬الموت‭ ‬قهوته‭ ‬ثم‭ ‬يذروه‭ ‬كي‭ ‬تتنشقه‭ ‬الكائنات،‭ ‬فينسل‭ ‬بين‭ ‬الشرايين‭ ‬والأفئدة،‭ ‬وهو‭ ‬معنى‭ ‬رمزي‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الموت‭ ‬يتسرب‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬كالرماد،‭ ‬متخللاً‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬شيء‭ ‬حياً‭ ‬ولا‭ ‬يبقى‭ ‬شيء‭ ‬ثابتاً،‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬يفر‭ ‬خلال‭ ‬الزجاج‭ ‬الذي‭ ‬ينظر‭ ‬منه‭ ‬راكب‭ ‬القطار‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬خارج‭ ‬النافذة،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬رذاذ‭ ‬غبار‭ ‬أو‭ ‬صوت‭ ‬الريح‭ ‬أو‭ ‬قنطرة‭ ‬النهر‭ ‬أو‭ ‬سرب‭ ‬العصافير‭ ‬والأعمدة،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يمر‭ ‬سريعاً‭ ‬على‭ ‬العين‭ ‬المستقرة‭ ‬في‭ ‬القطار،‭ ‬فلا‭ ‬يبقى‭ ‬شيء‭ ‬ثابتاً‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬اليد‭ ‬أن‭ ‬تمسك‭ ‬بأي‭ ‬شيء‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬تمضي‭ ‬العين‭ ‬مع‭ ‬أحلامها‭. ‬وأخيراً‭ ‬تظل‭ ‬رحلة‭ ‬القطارات‭ ‬مستمرة‭. ‬لكنّ‭ ‬الراحلين‭ ‬يصلون‭ ‬ولا‭ ‬يصلون‭. ‬وليس‭ ‬القطار‭ ‬هنا‭ ‬سوى‭ ‬تعبير‭ ‬رمزي‭ ‬عن‭ ‬رحلة‭ ‬الحياة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬ماضي‭ ‬البشر‭ ‬ومستقبلهم،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬المستقبل‭ ‬يبدو‭ ‬معتماً‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬تدني‭ ‬بينه‭ ‬والموت،‭ ‬وهو‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬يحمله‭ ‬المقطع‭ ‬الثاني‭ ‬المرتبط‭ ‬بمحطات‭ ‬القرى،‭ ‬حيث‭ ‬تتحول‭ ‬القطارات‭ ‬إلى‭ ‬قطارات‭ ‬للسهاد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬فيه‭ ‬الأعين‭ ‬النوم‭ ‬ولا‭ ‬تلمح‭ ‬سوى‭ ‬أجنحة‭ ‬الغبار‭ ‬المتطاير‭ ‬الذي‭ ‬تهدأ‭ ‬حركته‭ ‬في‭ ‬استرخاءة‭ ‬الدنو،‭ ‬فلا‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬عداه‭ ‬سوى‭ ‬النسوة‭ ‬المتشحات‭ ‬بالسواد،‭ ‬ذابت‭ ‬أعينهن‭ ‬من‭ ‬التحديق‭ ‬والتطلع‭ ‬إلى‭ ‬وجوه‭ ‬الغائبين‭ ‬منذ‭ ‬أعوام‭ ‬الحداد‭. ‬والمقصود‭ ‬هنا‭ ‬أعوام‭ ‬هزيمة‭ ‬1967‭ ‬التي‭ ‬رسمت‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بالسواد‭ ‬وأطلقت‭ ‬الموت‭ ‬كالغبار‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬محطات‭ ‬الحياة،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬سوى‭ ‬النسوة‭ ‬المتشحات‭ ‬بالسواد‭ ‬وهن‭ ‬يتطلعن‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬القطار‭ ‬لعله‭ ‬يحمل‭ ‬أبناءهن‭ ‬الغائبين،‭ ‬ويطول‭ ‬انتظارهن‭ ‬حتى‭ ‬تتآكل‭ ‬العيون،‭ ‬كناية‭ ‬عن‭ ‬لا‭ ‬نهائية‭ ‬أيام‭ ‬الانتظار،‭ ‬وتتآكل‭ ‬الليالي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬المرور‭ ‬بل‭ ‬تتآكل‭ ‬القطارات‭ ‬من‭ ‬الرواح‭ ‬والغدو،‭ ‬ولكن‭ ‬الغائبين‭ ‬عن‭ ‬تراب‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬كالجمر،‭ ‬يضيق‭ ‬بأبنائه‭ ‬ويلقي‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬فيصبح‭ ‬صورة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬العدو‭. ‬ويطول‭ ‬الانتظار‭ ‬بالأمهات‭ ‬المتشحات‭ ‬بالسواد،‭ ‬ولكن‭ ‬الأبناء‭ ‬لا‭ ‬يرجعون‭ ‬إلى‭ ‬البلاد‭ ‬ولا‭ ‬يبعثون‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬الفرح‭ ‬أو‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬مناسبات‭ ‬الأعياد‭. ‬والفارق‭ ‬بين‭ ‬الصورتين‭ ‬هو‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬قصيدة‭ ‬اسفر‭ ‬ألف‭ ‬دالب‭ ‬المتأخرة‭ ‬نسبياً‭ ‬وقصيدة‭ ‬االموت‭ ‬في‭ ‬الفراشب‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬أعوام‭ ‬سابقة،‭ ‬ونشرها‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول،‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬القصيدتين‭ ‬تتنوع‭ ‬صور‭ ‬أمل‭ ‬كالعادة،‭ ‬فلا‭ ‬يكتفي‭ ‬بالرمزية‭ ‬التي‭ ‬تفترش‭ ‬دوالها‭ ‬الصورتين‭ ‬الأوليين،‭ ‬بل‭ ‬تمضي‭ ‬قصائده‭ ‬منطوية‭ ‬على‭ ‬غبار‭ ‬الموت‭ ‬الذي‭ ‬ينسل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قصائده‭.‬

ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬هاتين‭ ‬الصورتين،‭ ‬صورة‭ ‬كنائية‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬االموت‭ ‬في‭ ‬الفراشب،‭ ‬خصوصاً‭ ‬المقطع‭ ‬الثاني‭ ‬منها،‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭:‬

نافورة‭ ‬حمراء

طفل‭ ‬يبيع‭ ‬الفل‭ ‬بين‭ ‬العربات

مقتولة‭ ‬تنتظر‭ ‬السيارة‭ ‬البيضاء

كلب‭ ‬يحك‭ ‬أنفه‭ ‬على‭ ‬عمود‭ ‬النور

مقهى،‭ ‬ومذياع،‭ ‬ونرد‭ ‬صاخب،‭ ‬وطاولات

ألوية‭ ‬ملوية‭ ‬الأعناق‭ ‬فوق‭ ‬الساريات

أندية‭ ‬ليلية

كتابة‭ ‬ضوئية

الصحف‭ ‬الدامية‭ ‬العنوان‭: ‬بيض‭ ‬الصفحات‭.‬

حوائط،‭ ‬وملصقات‭...‬

تدعو‭ ‬لرؤية‭ (‬الأب‭ ‬الجالس‭ ‬فوق‭ ‬الشجرة‭)‬

والثورة‭ ‬المنتصرة‭!‬

ومجمل‭ ‬الأسطر‭ ‬السابقة‭ ‬يصنع‭ ‬كناية‭ ‬ضخمة،‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الكنايات‭ ‬الصغيرة‭. ‬والطابع‭ ‬البصري‭ ‬غالب‭ ‬عليها‭ ‬تماماً،‭ ‬فهي‭ ‬أسطر‭ ‬تخاطب‭ ‬العين‭ ‬وتجذبها‭ ‬إليها‭. ‬وهذه‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬الكناية‭ ‬في‭ ‬البلاغة‭ ‬العربية،‭ ‬فالكناية‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬إحساس‭ ‬بصري،‭ ‬ولا‭ ‬تخلو‭ ‬الأسطر‭ ‬من‭ ‬سخرية‭ (‬الأب‭ ‬الجالس‭ ‬فوق‭ ‬الشجرة‭) ‬والثورة‭ ‬المنتصرة؛‭ ‬فالأب‭ ‬الجالس‭ ‬فوق‭ ‬الشجرة‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬شهير‭ ‬لعبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬لإحسان‭ ‬عبدالقدوس،‭ ‬مؤداها‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬الآباء‭ ‬ذهب‭ ‬ابنه‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬لقضاء‭ ‬عطلة‭ ‬الصيف،‭ ‬وبلغ‭ ‬الأب‭ ‬أن‭ ‬ابنه‭ ‬انحرف‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬راقصة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الملاهي،‭ ‬فيذهب‭ ‬الأب‭ ‬لينقذ‭ ‬الابن،‭ ‬ولكنه‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬يقع‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬الغواية‭. ‬وهكذا‭ ‬أصبح‭ ‬كالطائر‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬شراك‭ ‬أحد‭ ‬الفخاخ‭ ‬المنصوبة‭ ‬فوق‭ ‬شجرة‭ ‬من‭ ‬أشجار‭ ‬الغابة‭. ‬والمفارقة‭ ‬واضحة‭ ‬تماماً‭ ‬في‭ ‬الفارق‭ ‬الكبير‭ ‬والساخر‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬فيلم‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬غواية‭ ‬أب‭ ‬وابنه‭ ‬والثورة‭ ‬المنتصرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تشهد‭ ‬انتصاراً‭ ‬حقيقياً‭ ‬قط،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬حالها‭ ‬حال‭ ‬الأب‭ ‬الذي‭ ‬ذهب‭ ‬لإنقاذ‭ ‬ابنه‭ ‬من‭ ‬الغواية‭ ‬فوقع‭ ‬فيها‭. ‬ولو‭ ‬عاودنا‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬مجموع‭ ‬الأسطر‭ ‬السابقة‭ ‬لاكتشفنا‭ ‬أنها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المشاهد‭ ‬المتلاصقة‭ ‬والمتجاورة‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬التقطيع‭ ‬السينمائي‭ ‬للمشاهد‭ ‬التي‭ ‬ترينا‭ ‬عدداً‭ ‬غير‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬المشاهد‭ ‬الموصولة‭ ‬التي‭ ‬قصد‭ ‬بها‭ ‬أن‭ ‬تؤدي‭ ‬انطباعاً‭ ‬كلياً‭ ‬عما‭ ‬كان‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬المدينة‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬الهزيمة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬1967‭. ‬ولذلك‭ ‬فهي‭ ‬مشاهد‭ ‬يفترشها‭ ‬الموت‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬آخر،‭ ‬فهناك‭ ‬ذ‭ ‬أولاً‭ - ‬مشهد‭ ‬المقتولة‭ ‬التي‭ ‬دهستها‭ ‬سيارة‭ ‬عجلى،‭ ‬وهناك‭ ‬ذ‭ ‬ثانياً‭ - ‬النافورة‭ ‬الحمراء‭ ‬كلون‭ ‬الدم‭ ‬المسفوح‭ ‬في‭ ‬هزيمة‭ ‬1967،‭ ‬وهناك‭ ‬ذ‭ ‬أخيراً‭ - ‬الصحف‭ ‬الدامية‭ ‬العنوان‭. ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬الموت‭ ‬مذكوراً‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مباشر‭ ‬في‭ ‬الصور‭ ‬الجزئية‭ ‬السابقة،‭ ‬ولكن‭ ‬الحمرة‭ ‬الملازمة‭ ‬للعناوين‭ ‬هي‭ ‬لازمة‭ ‬من‭ ‬لوازم‭ ‬صور‭ ‬الموت‭. ‬

هذا‭ ‬الموت‭ ‬يفترش‭ ‬الصور‭ ‬الشعرية‭ ‬لأمل‭ ‬دنقل،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬االبكاء‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامةب،‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬67‭ ‬ليؤكد‭ ‬احتجاج‭ ‬الشاعر‭ ‬عليها،‭ ‬وإدانته‭ ‬لكل‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إليها،‭ ‬ومنها‭ ‬غياب‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬والاستبداد‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يسمح‭ ‬بوصول‭ ‬الأصوات‭ ‬الصادقة‭ ‬المخلصة‭ ‬للقيادة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬تحذيراً‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬الفخ‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬منصوباً‭ ‬لها،‭ ‬ولذلك‭ ‬فالحزن‭ ‬والغضب‭ ‬هما‭ ‬النغمتان‭ ‬التحتيتان‭ ‬اللتان‭ ‬تستند‭ ‬إليهما‭ ‬أغلب‭ ‬صور‭ ‬ديوان‭ ‬االبكاء‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامةب،‭ ‬وهو‭ ‬عنوان‭ ‬يلفت‭ ‬الانتباه‭ ‬بالكلمة‭ ‬الاستهلالية‭ ‬فيه،‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬االبكاءب‭ ‬التي‭ ‬ليست‭ ‬بكاء‭ ‬على‭ ‬الأطلال‭ ‬وإنما‭ ‬بكاء‭ ‬على‭ ‬الشهداء‭ ‬الذين‭ ‬سقطوا‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬67،‭ ‬وسخرية‭ ‬من‭ ‬السياسات‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إليها،‭ ‬ولذلك‭ ‬تتناثر‭ ‬في‭ ‬الديوان‭ ‬الصور‭ ‬الكنائية‭ ‬الموجوعة‭ ‬والحزينة‭ ‬والإنسانية‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬الدالة‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬الصورة‭ ‬التالية‭ ‬التي‭ ‬تتصدرها‭ ‬أرملة‭ ‬أحد‭ ‬الشهداء‭ ‬في‭ ‬الحرب‭:‬

من‭ ‬شرفتي‭ ‬كنت‭ ‬أراها‭ ‬في‭ ‬صباح‭ ‬العطلة‭ ‬الهادئ

تنشر‭ ‬في‭ ‬شرفتها‭ ‬على‭ ‬خيوط‭ ‬النور‭ ‬والغناء

ثياب‭ ‬طفليها،‭ ‬ثياب‭ ‬زوجها‭ ‬الرسمية‭ ‬الصفراء

قمصانه‭ ‬المغسولة‭ ‬البيضاء

تنشر‭ ‬حولها‭ ‬نقاء‭ ‬قلبها‭ ‬الهانئ‭ ‬وهي‭ ‬تروح‭ ‬وتجيء

‭...  ... ...‬

والآن‭ ‬بعد‭ ‬أشهر‭ ‬الصيف‭ ‬الرديء

رأيتها‭... ‬ذابلة‭ ‬العينين‭ ‬والأعضاء

تنشر‭ ‬في‭ ‬شرفتها‭ ‬على‭ ‬حبال‭ ‬الصمت‭ ‬والبكاء

ثيابها‭ ‬السوداء‭!‬

وواضح‭ ‬أننا‭ ‬هنا‭ ‬إزاء‭ ‬كناية‭ ‬ممتدة‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬مقطعين،‭ ‬المقطع‭ ‬الأول‭ ‬مملوء‭ ‬بالبهجة‭ ‬والنور‭ ‬والغناء‭ ‬المقترن‭ ‬بالهناء‭ ‬والآمال‭. ‬وكلها‭ ‬صفات‭ ‬للعالم‭ ‬البهيج‭ ‬الذي‭ ‬تعيش‭ ‬فيه‭ ‬زوجة‭ ‬أحد‭ ‬الضباط‭ ‬الذين‭ ‬حاربوا‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬السابع‭ ‬والستين،‭ ‬ويأتي‭ ‬نقيض‭ ‬هذا‭ ‬القسم‭ ‬ختاماً‭ ‬للكناية‭ ‬المركبة‭ ‬عما‭ ‬حدث‭ ‬بعد‭ ‬أشهر‭ ‬الصيف‭ ‬الرديء‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬يونيو‭ ‬1967،‭ ‬فينقلب‭ ‬المشهد‭ ‬ونرى‭ ‬المرأة‭ ‬نفسها‭ ‬ذابلة‭ ‬العينين‭ ‬والأعضاء‭. ‬وذبول‭ ‬العين‭ ‬كناية‭ ‬عن‭ ‬كثرة‭ ‬البكاء‭ ‬والحزن،‭ ‬أما‭ ‬ذبول‭ ‬الأعضاء‭ ‬فكناية‭ ‬موازية‭ ‬عن‭ ‬هزال‭ ‬الجسد‭ ‬بعد‭ ‬صدمة‭ ‬حزن‭ ‬موجعة‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد،‭ ‬وضياع‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬ولذلك‭ ‬تقترن‭ ‬بالأسطر‭ ‬الكنائية‭ ‬استعارة‭ ‬مكنية‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬حبال‭ ‬الصمت‭ ‬والبكاء‭ ‬التي‭ ‬يأتي‭ ‬بعدها‭ ‬ما‭ ‬يوضحها‭ ‬من‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬الثياب‭ ‬السوداء‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬ترتديها‭ ‬أرملة‭ ‬الشهيد‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬ترتدي‭ ‬الثياب‭ ‬الملونة‭ ‬البهيجة‭. ‬والسواد‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬لون‭ ‬المشهد،‭ ‬ولون‭ ‬المأساة‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬وتمتد‭ ‬الصور‭ ‬الكنائية‭ ‬المركبة‭ ‬عند‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬لتملأ‭ ‬قصيدة‭ ‬افقرات‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬الموتب،‭ ‬حيث‭ ‬نقرأ‭:‬

كل‭ ‬صباح‭..‬

أفتح‭ ‬الصنبور‭ ‬في‭ ‬إرهاق

مغتسلاً‭ ‬في‭ ‬مائه‭ ‬الرقراق

فيسقط‭ ‬الماء‭ ‬على‭ ‬يدي‭... ‬دما‭!‬

‭... ... ..‬

وعندما‭ ‬أجلس‭ ‬للطعام‭... ‬مرغماً

أبصر‭ ‬في‭ ‬دوائر‭ ‬الأطباق

جماجماً‭...‬

جماجماً‭...‬

مفغورة‭ ‬الأفواه‭ ‬والأحداق‭!‬

وإذا‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬تأمل‭ ‬الصورة‭ ‬الكنائية‭ ‬في‭ ‬مجملها،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الواقعية‭ ‬فيها‭ ‬موجعة،‭ ‬فهي‭ ‬عن‭ ‬مواطن‭ ‬بائس،‭ ‬بؤسه‭ ‬مقترن‭ ‬بإرهاقه‭ ‬من‭ ‬كوارث‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬التي‭ ‬يعيشها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يفتتح‭ ‬صباحه‭ ‬مرهقا،‭ ‬محطم‭ ‬الأعضاء‭ ‬فلا‭ ‬يملك‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يفتح‭ ‬صنبور‭ ‬الماء‭ ‬كي‭ ‬يغسل‭ ‬وجهه‭ ‬في‭ ‬إرهاق،‭ ‬ولكن‭ ‬الماء‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬يسقط‭ ‬على‭ ‬وجهه،‭ ‬كما‭ ‬توقعنا،‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬دم‭. ‬والصدمة‭ ‬مقصودة،‭ ‬ويراد‭ ‬بها‭ ‬إيقاظ‭ ‬وعي‭ ‬القارئ‭ ‬ولفت‭ ‬انتباهه‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬يعيش‭ ‬فيه،‭ ‬وهو‭ ‬عالم‭ ‬محاصر‭ ‬بالموت‭. ‬ولكي‭ ‬يتأكد‭ ‬حضور‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬نمضي‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬الصورة‭ ‬الكنائية،‭ ‬فيجلس‭ ‬المواطن‭ ‬نفسه‭ ‬للطعام‭ ‬مرغماً‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭ ‬أو‭ ‬مرغماً‭ ‬من‭ ‬نفسه،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬شهية‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬اليقين‭ ‬بسبب‭ ‬الحزن‭ ‬الأسود‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭. ‬وتتكرر‭ ‬المفاجأة‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬الأول،‭ ‬فبدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬الطعام‭ ‬في‭ ‬الأطباق،‭ ‬يرى‭ ‬جماجم‭ ‬الموتى‭ ‬الذين‭ ‬سقطوا‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬67،‭ ‬مفغورة‭ ‬الأفواه‭ ‬والأحداق،‭ ‬كأنها‭ ‬تنقل‭ ‬إليه‭ ‬دهشتها‭ ‬وصرخة‭ ‬الألم‭ ‬الفظيع‭ ‬الذي‭ ‬عانته‭ ‬قبل‭ ‬موتها‭.‬

وما‭ ‬أكثر‭ ‬الصور‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬الديوان‭ ‬الأول‭ ‬لأمل‭ ‬دنقل،‭ ‬وقد‭ ‬سبق‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬قدمت‭ ‬تحليلاً‭ ‬نقدياً‭ ‬لقصائد‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬االبكاء‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامةب‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬في‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترهص‭ ‬بهزيمة‭ ‬67‭. ‬ولكني‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أتوقف‭ ‬عند‭ ‬قصيدة‭ ‬أجدها‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬الحزن‭ ‬والموت‭ ‬اللذين‭ ‬ينسربان‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬القصائد،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كل‭ ‬قصائد‭ ‬االبكاء‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬زرقاء‭ ‬اليمامةب‭. ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬قصيدة‭ ‬اصفحات‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬الصيف‭ ‬والشتاءب،‭ ‬التي‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬مقاطع،‭ ‬المقطع‭ ‬الأول‭ ‬بعنوان‭: ‬احمامةب،‭ ‬ويمضي‭ ‬كالتالي‭:‬

حين‭ ‬سرت‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬الضوضاء

واندفعت‭ ‬سيارة‭ ‬مجنونة‭ ‬السائق

تطلق‭ ‬صوت‭ ‬بوقها‭ ‬الزاعق

في‭ ‬كبد‭ ‬الأشياء

تفزعت‭ ‬حمامة‭ ‬بيضاء

‭(‬كانت‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬تمثال‭ ‬نهضة‭ ‬مصر‭...‬

تحلم‭ ‬في‭ ‬استرخاء‭)‬

‭... ... ...‬

طارت‭ ‬وحطت‭ ‬فوق‭ ‬قبة‭ ‬الجامعة‭ ‬النحاس

لاهثة‭ ‬تلتقط‭ ‬الأنفاس

وفجأة‭: ‬دندنت‭ ‬الساعة

ودقت‭ ‬الأجراس

فحلقت‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬–‭ ‬مرتاعة

‭... ... ...‬

أيتها‭ ‬الحمامة‭ ‬التي‭ ‬استقرت

‭ ‬فوق‭ ‬رأس‭ ‬الجسر

‭(‬وعندما‭ ‬أدار‭ ‬شرطي‭ ‬المرور‭ ‬يده

ظننته‭ ‬ناطوراً‭... ‬يصد‭ ‬الطير

فامتلأت‭ ‬رعبا‭!)‬

أيتها‭ ‬الحمامة‭ ‬التعبى‭:‬

دوري‭ ‬على‭ ‬قباب‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬الحزينة

وأنشدي‭ ‬للموت‭ ‬فيها‭... ‬والأسى‭... ‬والذعر

حتى‭ ‬نرى‭ ‬عند‭ ‬قدوم‭ ‬الفجر‭ ‬جناحك‭ ‬الملقى‭...‬

على‭ ‬قاعدة‭ ‬التمثال‭ ‬في‭ ‬المدينة

وتعرفين‭ ‬راحة‭ ‬السكينة‭!‬

والصورة‭ ‬الكنائية‭ ‬الممتدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع،‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬حمامة‭ ‬فعلية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ونرى‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬لهذه‭ ‬الحمامة‭ ‬عندما‭ ‬تفزع‭ ‬من‭ ‬صوت‭ ‬بوق‭ ‬سيارة‭ ‬يقودها‭ ‬سائق‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬التعقل‭ ‬وبأقصى‭ ‬سرعة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يراعي‭ ‬شيئاً،‭ ‬فتفزع‭ ‬الحمامة‭ ‬البيضاء‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترقد‭ ‬فوق‭ ‬تمثال‭ ‬نهضة‭ ‬مصر‭ ‬الذي‭ ‬يقبع‭ ‬في‭ ‬مدخل‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬حديقتي‭ ‬الحيوان‭ ‬والأورمان‭. ‬ويقضي‭ ‬فزع‭ ‬هذه‭ ‬الحمامة‭ ‬على‭ ‬أحلامها‭ ‬في‭ ‬استرخاءتها‭ ‬الهادئة‭ ‬فوق‭ ‬تمثال‭ ‬نهضة‭ ‬مصر،‭ ‬فتطير‭ ‬مفزوعة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تحط‭ ‬فوق‭ ‬قبة‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬لاهثة‭ ‬تلتقط‭ ‬أنفاسها،‭ ‬لكن‭ ‬قبة‭ ‬الجامعة‭ ‬تجاور‭ ‬ساعتها‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬تدق‭ ‬دقات‭ ‬مزعجات،‭ ‬فتعاود‭ ‬الحمامة‭ ‬الطيران‭ ‬مرتاعة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تستقر‭ ‬فوق‭ ‬رأس‭ ‬الجسر،‭ ‬أول‭ ‬كوبري‭ ‬الجامعة،‭ ‬لكنها‭ ‬ترى‭ ‬شرطي‭ ‬المرور‭ ‬الذي‭ ‬يحرك‭ ‬يده‭ ‬لينظم‭ ‬السير،‭ ‬فتظنه‭ ‬حارساً‭ ‬يصد‭ ‬الطير،‭ ‬فتمتلئ‭ ‬رعباً‭ ‬وتعاود‭ ‬الطيران‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يعاجلها‭ ‬الموت‭ ‬فترتمي‭ ‬مع‭ ‬قدوم‭ ‬الفجر‭ ‬محطمة‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬تمثال‭ ‬نهضة‭ ‬مصر‭. ‬وينتهي‭ ‬فزعها‭ ‬مع‭ ‬الموت،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬الحمامة‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نقرأها‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الرمزي،‭ ‬فنرى‭ ‬فيها‭ ‬رمز‭ ‬الأمان‭ ‬والسلام‭ ‬والهدوء‭ ‬والسكينة،‭ ‬وهي‭ ‬المفردات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬دائماً‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يقطع‭ ‬أمامها‭ ‬طريق‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬فتغادر‭ ‬المدينة‭ ‬السكينة‭ ‬ويرحل‭ ‬عنها‭ ‬الأمان‭ ‬ويغيب‭ ‬في‭ ‬لهيبها‭ ‬السلام‭ ‬فتغدو‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬بلا‭ ‬سلام‭ ‬ولا‭ ‬هدوء‭ ‬ولا‭ ‬سكينة‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬براءة،‭ ‬وكلها‭ ‬مجازات‭ ‬لما‭ ‬ينسرب‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬مدينة‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬سوى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يطارد‭ ‬كل‭ ‬الدوال‭ ‬والمدلولات‭ ‬التي‭ ‬تشير‭ ‬إليها‭ ‬رمزية‭ ‬الحمامة‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬على‭ ‬قباب‭ ‬مدينة‭ ‬حزينة‭ ‬كأنها‭ ‬تنشد‭ ‬فيها‭ ‬للموت‭ ‬والأسى‭ ‬والذعر،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬نرى‭ ‬هذه‭ ‬الحمامة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬ترمز‭ ‬إليه‭ ‬ملقاة‭ ‬عند‭ ‬قدوم‭ ‬الفجر‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬تمثال‭ ‬نهضة‭ ‬مصر،‭ ‬وكأن‭ ‬هذه‭ ‬الحمامة‭ ‬هي‭ ‬دوال‭ ‬ومدلولات‭ ‬الرمز‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬راحة‭ ‬السكينة‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الموت‭.‬

ويأتي‭ ‬المقطع‭ ‬الثاني‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬كنايات‭ ‬الحزن‭ ‬والموت،‭ ‬وهو‭ ‬بعنوان‭: ‬اساق‭ ‬صناعيةب،‭ ‬ويمضي‭ ‬كالتالي‭:‬

في‭ ‬الفندق‭ ‬الذي‭ ‬نزلت‭ ‬فيه‭ ‬قبل‭ ‬عام

شاركني‭ ‬الغرفة

فأغلق‭ ‬الشرفة

وعلق‭ ‬‮«‬السترة‮»‬‭ ‬فوق‭ ‬المشجب‭ ‬المقام

وعندما‭ ‬رأى‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬والسلام‮»‬

بين‭ ‬يدي‭ ‬إربد‭ ‬وجهه

‭ ‬ورف‭ ‬جفنه‭... ‬رفة

فغالب‭ ‬الرجفة

وقص‭ ‬عن‭ ‬صبية‭ ‬طارحها‭ ‬الغرام

وكان‭ ‬عائداً‭ ‬من‭ ‬الحرب‭... ‬بلا‭ ‬وسام

فلم‭ ‬تطق‭ ‬ضعفه

ولم‭ ‬يجد‭- ‬حين‭ ‬صحا‭- ‬إلا‭ ‬بقايا‭ ‬الخمر‭ ‬والطعام‭!‬

‭... ... ...‬

ثم‭ ‬روى‭ ‬حكاية‭ ‬عن‭ ‬الدم‭ ‬الحرام

‭(... ‬الصحراء‭ ‬لم‭ ‬تطق‭ ‬رشفة‭:‬

فظل‭ ‬فيها،‭ ‬يشتكي‭ ‬ربيعه‭ ‬صيفه‭...)‬

وظل‭ ‬يروي‭ ‬قصصه‭ ‬الحزينة‭ ‬الختام

حتى‭ ‬تلاشى‭ ‬وجهه

في‭ ‬سحب‭ ‬الدخان‭ ‬والكلام

وعندما‭ ‬تحشرج‭ ‬الصوت‭ ‬به،‭ ‬وطالت‭ ‬الوقفة

أدرت‭ ‬رأسي‭ ‬عنه‭...‬

حتى‭ ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬دمعته‭ ‬العفة

ومن‭ ‬خلايا‭ ‬جسدي‭ ‬تفصد‭ ‬الحزن‭...‬

‭ ... ‬وبلل‭ ‬المسام

‭... ... ...‬

وحين‭ ‬ظن‭ ‬أنني‭ ‬أنام

رأيته‭ ‬يخلع‭ ‬ساقه‭ ‬الصناعية‭ ‬في‭ ‬الظلام

مصعداً‭ ‬تنهيدة‭...‬

قد‭ ‬أحرقت‭ ‬جوفه‭!‬

وما‭ ‬أكثر‭ ‬الحزن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬السردي‭ ‬الذي‭ ‬نرى‭ ‬فيه‭ ‬الصوت‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬ينام‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬غرف‭ ‬الفنادق‭ ‬الرخيصة،‭ ‬ويتصادف‭ ‬أن‭ ‬يشاركه‭ ‬الغرفة‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬جرحى‭ ‬حرب‭ ‬67‭ ‬الذي‭ ‬يدخل‭ ‬الغرفة‭ ‬لينام‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬سرير‭ ‬مواجه‭ ‬لسرير‭ ‬الشاعر،‭ ‬وتنفتح‭ ‬حدقتا‭ ‬عين‭ ‬الشاعر‭ ‬لتلتقط‭ ‬دقائق‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬يربد‭ ‬فيه‭ ‬وجه‭ ‬الجندي‭ ‬حين‭ ‬يرى‭ ‬عنوان‭ ‬كتاب‭ ‬االحرب‭ ‬والسلامب‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬ساكن‭ ‬الغرفة‭ ‬قبله،‭ ‬فقد‭ ‬ذكره‭ ‬العنوان‭ ‬بالحرب‭ ‬التي‭ ‬يسقط‭ ‬فيها‭ ‬مئات‭ ‬القتلى،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬تركهم‭ ‬صرعى‭ ‬من‭ ‬زملائه‭ ‬وأصدقائه‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الحرب،‭ ‬فغالب‭ ‬رجفته‭ ‬وحزنه،‭ ‬ولكي‭ ‬يتخلص‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الحزن،‭ ‬انطلق‭ ‬يحكي‭ ‬لزميله‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬عن‭ ‬صبية‭ ‬أحبها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬بلا‭ ‬شيء‭ ‬يشرفه،‭ ‬حاملاً‭ ‬عار‭ ‬الهزيمة،‭ ‬هذا‭ ‬العار‭ ‬الذي‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬ضعف‭ ‬شديد‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬إلى‭ ‬العجز‭ ‬الجنسي،‭ ‬ففارقته‭ ‬المرأة‭ ‬وهو‭ ‬نائم،‭ ‬فلم‭ ‬يجد‭ ‬حين‭ ‬صحا‭ ‬في‭ ‬الصباح،‭ ‬سوى‭ ‬بقايا‭ ‬وليمة‭ ‬المساء‭. ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬انطلق‭ ‬يحكي‭ ‬عن‭ ‬الدماء‭ ‬الحرام‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬مراقة‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الصحراء‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تمتصها‭ ‬لكثرتها،‭ ‬وظل‭ ‬يروي‭ ‬قصص‭ ‬الحرب‭ ‬الحزينة‭ ‬الختام‭ ‬وينفث‭ ‬دخاناً‭ ‬ملأ‭ ‬الغرفة‭ ‬كلها‭. ‬وانتهت‭ ‬حكاياته‭ ‬بالدموع‭ ‬التي‭ ‬أخذت‭ ‬تترقرق‭ ‬من‭ ‬عينيه‭ ‬وحشرجة‭ ‬الصوت‭ ‬التي‭ ‬أوقفت‭ ‬كلامه،‭ ‬فنقل‭ ‬حزنه‭ ‬إلى‭ ‬زميله‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬الذي‭ ‬غرق‭ ‬بدوره‭ ‬في‭ ‬حزنه،‭ ‬وعندما‭ ‬ظن‭ ‬المحارب‭ ‬أن‭ ‬زميله‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬قد‭ ‬نام،‭ ‬خلع‭ ‬ساقه‭ ‬الصناعية‭ ‬في‭ ‬الظلام،‭ ‬مصعداً‭ ‬تنهيدة‭ ‬بدت‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬أحرقت‭ ‬جوفه‭. ‬والرمزية‭ ‬منسربة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬الكنائية‭ ‬المركبة‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬مشهد‭ ‬قصصي‭ ‬أو‭ ‬مشهد‭ ‬سينمائي،‭ ‬فالبصرية‭ ‬فيها‭ ‬غالبة‭ ‬وطاغية،‭ ‬والغرفة‭ ‬التي‭ ‬يقطنها‭ ‬المحارب‭ ‬المهزوم‭ ‬والراوي‭ ‬الشاعر‭ ‬نراها‭ ‬بعين‭ ‬الخيال،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنا‭ ‬نشاهدها‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬السينما‭. ‬ولا‭ ‬يتردد‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬الحيل‭ ‬السينمائية‭ ‬التي‭ ‬تعلم‭ ‬استخدامها‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬قصائده‭ ‬من‭ ‬قطع‭ ‬أو‭ ‬وصل‭ ‬أو‭ ‬ترتيب‭ ‬أو‭ ‬تقريب‭ (‬close up‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬يجعلنا‭ ‬نحن‭ ‬القراء‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنا‭ ‬نشاركه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الغرفة‭ ‬ونشعر‭ ‬بمشاعره‭ ‬الحزينة‭ ‬ونتنهد‭ ‬أسى‭ ‬وحزناً‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المحارب‭ ‬المهزوم‭ ‬الذي‭ ‬يعدينا‭ ‬بانكساره‭ ‬وهزيمته،‭ ‬ويتحدث‭ ‬عن‭ ‬الموت‭ ‬والدم‭ ‬المراق‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭. ‬لكن‭ ‬الرمزية‭ ‬المنسربة‭ ‬في‭ ‬الكناية‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬فقد‭ ‬ساقه‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬مثالاً‭ ‬على‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬فقدوا‭ ‬أعضاءهم،‭ ‬والمثال‭ ‬دال‭ ‬على‭ ‬عديد‭ ‬غيره‭ ‬بما‭ ‬يقودنا‭ ‬إلى‭ ‬التمثيل‭ ‬الذي‭ ‬يدخل‭ ‬بممثولاته‭ ‬إلى‭ ‬دائرة‭ ‬الرموز‭. ‬

أما‭ ‬المقطع‭ ‬الثالث‭ ‬فهو‭ ‬بعنوان‭: ‬اشتاء‭ ‬عاصفب،‭ ‬ويصف‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر‭ ‬مدينة‭ ‬الإسكندرية‭ ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬فيها‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يبدو،‭ ‬ونقرأ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭:‬

كان‭ ‬‮«‬ترام‭ ‬الرمل‮»‬

‭ ‬منبعجا‭ ‬كامرأة‭ ‬في‭ ‬أخريات‭ ‬الحمل

وكنت‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬أرى‭ ‬شتاء‭ (‬الغضب‭ ‬الساطع‭)‬

يكتسح‭ ‬الأوراق‭ ‬والمعاطفا

وكانت‭ ‬الأحجار‭ ‬في‭ ‬سكونها‭ ‬الناصع

مغسولة‭ ‬بالمطر‭ ‬الذي‭ ‬توقفا

وكان‭ ‬في‭ ‬المذياع

أغنية‭ ‬حزينة‭ ‬الإيقاع

عن‭ (‬ظالم‭ ‬لاقيت‭ ‬منه‭ ‬ما‭ ‬كفى‭..)‬

قد‭ (‬علموه‭ ‬كيف‭ ‬يجفو‭... ‬فجفا‭)‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬نرى‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬التقنيات‭ ‬اللافتة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يستغلها‭ ‬أو‭ ‬يستخدمها‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬في‭ ‬كتاباته،‭ ‬أولاها‭ ‬جسارة‭ ‬التشبيه‭ ‬حين‭ ‬نرى‭ ‬ترام‭ ‬الرمل،‭ ‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬الترام‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬محطة‭ ‬الرمل‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬منبعجاً‭ ‬كامرأة‭ ‬في‭ ‬أخريات‭ ‬الحمل‭. ‬والتشبيه‭ ‬غريب‭ ‬وبالغ‭ ‬الجسارة،‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬البلاغيون‭ ‬القدماء‭ ‬تشبيه‭ ‬الاستطراف،‭ ‬ووجه‭ ‬الطرافة‭ ‬في‭ ‬التشبيه‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬اعتياد‭ ‬قراء‭ ‬الشعر‭ ‬على‭ ‬مثله،‭ ‬فمن‭ ‬ذا‭ ‬الذي‭ ‬فكر‭ ‬أو‭ ‬تخيل‭ ‬أن‭ ‬الترام‭ ‬المزدحم‭ ‬بالركاب‭ ‬الذين‭ ‬يقفون‭ ‬على‭ ‬أبوابه‭ ‬يبدو‭ ‬في‭ ‬انبعاجه‭ ‬كامرأة‭ ‬في‭ ‬أخريات‭ ‬الحمل؟‭! ‬أما‭ ‬التقنية‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬يستخدمها‭ ‬أمل،‭ ‬فهي‭ ‬التضمين‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬إيقاع‭ ‬المفارقة‭ ‬في‭ ‬الدلالة،‭ ‬وهكذا‭ ‬نقرأ‭: ‬اشتاء‭ ‬الغضب‭ ‬الساطعب،‭ ‬وهو‭ ‬تضمين‭ ‬لأغنية‭ ‬فيروز‭ ‬الشهيرة‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬غضب‭ ‬ساطع‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يدفع‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬هزيمة‭ ‬عدوهم،‭ ‬ولكن‭ ‬العدو‭ ‬لم‭ ‬ينهزم،‭ ‬وإنما‭ ‬هزم‭ ‬العرب‭ ‬شر‭ ‬هزيمة‭. ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬سوى‭ ‬الغضب‭ ‬الساطع‭ ‬للهواء‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬وهو‭ ‬يكتسح‭ ‬الأوراق‭ ‬برياح‭ ‬الخريف‭ ‬التي‭ ‬تشتد‭ ‬في‭ ‬الشتاء،‭ ‬فتنقلب‭ ‬الرياح‭ ‬إلى‭ ‬عواصف‭ ‬تتطاير‭ ‬معها‭ ‬معاطف‭ ‬المارين‭ ‬المرتجفين‭ ‬من‭ ‬برد‭ ‬الشتاء‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه،‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬تضمين‭ ‬أغنية‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الظالم‭ ‬الذي‭ ‬يلاقي‭ ‬منه‭ ‬العاشق‭ ‬ما‭ ‬يكفيه،‭ ‬فيقول‭ ‬عن‭ ‬حبيبه‭ ‬قد‭ ‬علموه‭ ‬كيف‭ ‬يجفو‭ ‬فجفا،‭ ‬فالإشارة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أغنية‭ ‬شهيرة‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي،‭ ‬وغناء‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬يقلب‭ ‬الشاعر‭ ‬معناها‭ ‬كي‭ ‬يمضي‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬مقطع‭ ‬القصيدة‭ ‬الذي‭ ‬يمتلئ‭ ‬بالسخرية،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتخلى‭ ‬عن‭ ‬الخصائص‭ ‬الكنائية‭ ‬للمقطع‭ ‬كله،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المقطعين‭ ‬السابقين‭. ‬وأخيراً‭ ‬تأتي‭ ‬خاتمة‭ ‬القصيدة‭:‬

جلست‭ ‬فوق‭ ‬الشاطئ‭ ‬اليابس

وكان‭ ‬موج‭ ‬البحر‭ ‬يصفع‭ ‬خد‭ ‬الصخر

وينطوي‭ - ‬حيناً‭ - ‬أمام‭ ‬وجهه‭ ‬العابس‭-‬

‭... ‬وترجع‭ ‬الأمواج

تنطحه‭ ‬برأسها‭ ‬المهتاج

ودون‭ ‬أن‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬صراعها‭ ‬اليائس‭...!‬

ويختم‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬الأخير‭ ‬سياق‭ ‬القصيدة‭ ‬بمقاطعها‭ ‬الثلاثة‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مباشر‭ ‬وغير‭ ‬مباشر‭ ‬على‭ ‬الموت‭ ‬الذي‭ ‬يفترش‭ ‬حتى‭ ‬الهواء‭. ‬والمقطع‭ ‬يبدأ‭ ‬بجلسة‭ ‬فوق‭ ‬شاطئ‭ ‬البحر‭ ‬اليابس‭ ‬العاري‭ ‬من‭ ‬العشب‭ ‬أو‭ ‬الطحالب،‭ ‬فلا‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشاطئ‭ ‬اليابس‭ ‬سوى‭ ‬الصخر‭ ‬الذي‭ ‬يندفع‭ ‬إليه‭ ‬موج‭ ‬البحر‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يصفعه‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يخيفه‭ ‬بوجه‭ ‬عابس‭. ‬وتنطوي‭ ‬الأبيات‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬التشخيص‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬شاطئ‭ ‬البحر‭ ‬إلى‭ ‬موج‭ ‬البحر،‭ ‬فيبدو‭ ‬الصخر‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬خد،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬الموج‭ ‬الذي‭ ‬ينطح‭ ‬هذا‭ ‬الخد‭ ‬أو‭ ‬يتراجع‭ ‬الخد‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬أمام‭ ‬موجه‭ ‬المهتاج‭ ‬كي‭ ‬يرجع‭ ‬لينطح‭ ‬الشاطئ‭ ‬برأسه‭ ‬كالثور‭ ‬الهائج‭. ‬وتمضي‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬صخر‭ ‬اليابسة‭ ‬وموج‭ ‬البحر‭ ‬اليائس‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬كلاهما‭ ‬عن‭ ‬الصراع‭ ‬اليائس‭ ‬والبائس،‭ ‬فالصورة‭ ‬بما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬صراع‭ ‬هي‭ ‬امتداد‭ ‬للمقاطع‭ ‬الثلاثة‭ ‬السابقة‭ ‬التي‭ ‬نرى‭ ‬فيها‭ ‬الموت‭ ‬يضرب‭ ‬الحياة‭ ‬كما‭ ‬يضرب‭ ‬موج‭ ‬البحر‭ ‬خد‭ ‬الصخر،‭ ‬ولكن‭ ‬خد‭ ‬الصخر‭ ‬يتصدى‭ ‬لموج‭ ‬البحر‭ ‬ويواجهه‭ ‬كما‭ ‬يقاومه،‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬تقاوم‭ ‬الحياة‭ ‬الموت‭ ‬الذي‭ ‬يهزمها‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬المقاطع‭ ‬الثلاثة‭ ‬السابقة‭. ‬ولكن‭ ‬الموت‭ ‬لا‭ ‬يهزم‭ ‬الحياة‭ ‬دائماً‭ ‬وأبداً،‭ ‬فهناك‭ ‬ذلك‭ ‬الصراع‭ ‬الدائم‭ ‬والمستمر‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬مقاطع‭ ‬القصيدة‭ ‬السابقة‭ ‬لم‭ ‬تُرِنا‭ ‬سوى‭ ‬الموت،‭ ‬فإن‭ ‬الخاتمة‭ ‬التي‭ ‬تصف‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الشاطئ‭ ‬تؤكد‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬تفنى‭ ‬ولا‭ ‬تتبدد،‭ ‬وأنها‭ ‬تناطح‭ ‬الموت‭ ‬كما‭ ‬يناطح‭ ‬الصخر‭ ‬البحر،‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نعاود‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬وفي‭ ‬دلالات‭ ‬الموت‭ ‬التي‭ ‬تنسرب‭ ‬فيها،‭ ‬مدركين‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬مشاهد‭ ‬الموت‭ ‬السابقة‭ ‬تبقى،‭ ‬وإذا‭ ‬انهزمت‭ ‬في‭ ‬جبهة‭ ‬فإنها‭ ‬تصارع‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬جبهة‭ ‬أخرى،‭ ‬ما‭ ‬يعطي‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬الأمل‭ ‬يضيفه‭ ‬المقطع‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ ‬المقاطع‭ ‬السابقة،‭ ‬فيبدو‭ ‬المقطع‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الدلالة‭ ‬المضافة‭ ‬إلى‭ ‬الشتاء‭ ‬العاصف،‭ ‬كالحياة‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬الموت‭ ‬مهما‭ ‬بلغ‭ ‬حجمه‭ ‬وانتصاره‭ ‬أو‭ ‬تعددت‭ ‬مرات‭ ‬ضرباته‭ >‬