اللوحة الفنية بين الحقيقة والسراب

اللوحة الفنية بين الحقيقة والسراب

استرعت‭ ‬اهتمامي‭ ‬قضية‭ ‬جوهرية‭ ‬متعلقة‭ ‬بأبجديات‭ ‬التشكيل‭ ‬الفني،‭ ‬وهي‭ ‬قضية‭ ‬بلغت‭ ‬من‭ ‬الشيوع‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬منها‭ ‬ظاهرة،‭ ‬بل‭ ‬أضحت‭ ‬المبدأ‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬منه‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬تشكيلي،‭ ‬وقد‭ ‬ألحّت‭ ‬عليّ‭ ‬نفسي‭ ‬مراراً‭ ‬أن‭ ‬ألتفت‭ ‬إليها،‭ ‬ورأيت‭ ‬أن‭ ‬أخصص‭ ‬لها‭ ‬حيزاً‭ ‬من‭ ‬وقتي،‭ ‬وأوليها‭ ‬ما‭ ‬تستحقه‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬لوصف‭ ‬حقائقها‭ ‬وإبداء‭ ‬تصوّراتها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬مناقشتها‭ ‬والحكم‭ ‬عليها،‭ ‬راجياً‭ ‬الإحاطة‭ ‬والشمول‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فهي‭ ‬قضية‭ ‬حساسة‭ ‬حسب‭ ‬رأيي،‭ ‬لأنها‭ ‬تمس‭ ‬القاعدة‭ ‬العامة‭ ‬للعمل‭ ‬الفني،‭ ‬وتخرق‭ ‬قانون‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬منطق‭ ‬العقل‭ ‬ولغة‭ ‬الصورة‭. ‬

لست‭ ‬هنا‭ ‬لتصحيح‭ ‬مفاهيم‭ ‬أو‭ ‬لإلغاء‭ ‬قوانين،‭ ‬وإنما‭ ‬لمعالجة‭ ‬ظاهرة‭ ‬أقل‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬عنها‭ ‬إنها‭ ‬تزامنت‭ ‬مع‭ ‬عزوف‭ ‬المجتمعات‭ ‬عن‭ ‬تقبُّل‭ ‬فلسفات‭ ‬وتوجهات‭ ‬المشهد‭ ‬الفني،‭ ‬والتفاعل‭ ‬معه،‭ ‬بل‭ ‬شهدت‭ ‬ردود‭ ‬أفعال‭ ‬متباينة‭ ‬بين‭ ‬الاستنكار‭ ‬والاستهجان‭ ‬والمقت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اجتهادي‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬مجموعة‭ ‬آراء‭ ‬وتصورات،‭ ‬رأيت‭ ‬فيها‭ ‬نجوعاً‭ ‬لتقويم‭ ‬هذا‭ ‬الاعتقاد،‭ ‬والتي‭ ‬تبقى‭ ‬قابلة‭ ‬للمناقشة‭ ‬والمراجعة‭ ‬والتعقيب،‭ ‬عسى‭ ‬أن‭ ‬أفيد‭ ‬لأستفيد،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬العرض‭ ‬المختصر‭.‬

بديهي‭ ‬أن‭ ‬الفنان‭ ‬لا‭ ‬يرسم‭ ‬لنفسه،‭ ‬بل‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الجمهور‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬تحقيق‭ ‬غاية‭ ‬ما،‭ ‬وصحيح‭ ‬أن‭ ‬النص‭ ‬نتاج‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬ثلاثية‭ ‬‮«‬الذات‭ ‬المبدعة‭ ‬وحركية‭ ‬النص‭ ‬وطبيعة‭ ‬الجمهور‮»‬‭ ‬أثناء‭ ‬الممارسة‭ ‬الفنية،‭ ‬وهو‭ ‬ركن‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬وجود‭ ‬الحقيقة‭ ‬الفنية،‭ ‬تفرضه‭ ‬معادلة‭ ‬التأثر‭ ‬والتأثير،‭ ‬لكن‭ ‬النتيجة‭ ‬الحاسمة‭ ‬لا‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬التفاعل،‭ ‬وإنما‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬ينتجه‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬تحقيق‭ ‬الغاية‭ ‬المرجوّة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬محاولة‭ ‬فهم‭ ‬هذه‭ ‬الغاية‭ ‬إنما‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬الفني‭ ‬مرجعاً‭ ‬لها‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬الفنان،‭ ‬وتصبح‭ ‬الإشارة‭ ‬داخل‭ ‬النص‭ ‬الشاهد‭ ‬الوحيد‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬تحقق‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬عدمه،‭ ‬والسؤال‭ ‬المطروح‭: ‬ما‭ ‬مدى‭ ‬قدرة‭ ‬الإشارة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الهدف؟

ونرى‭ ‬أن‭ ‬قراءة‭ ‬سريعة‭ ‬لبعض‭ ‬الآراء،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬بعزلها‭ ‬عن‭ ‬مصادرها‭ ‬وملابساتها‭ ‬الخارجية،‭ ‬تكشف‭ ‬بوضوح‭ ‬مدى‭ ‬ارتجالية‭ ‬الممارسة‭ ‬الفنية،‭ ‬وتوجّهاتها‭ ‬غير‭ ‬المنطقية،‭ ‬التي‭ ‬ضللت‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬حقيقة‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬ورسالته‭ ‬السامية،‭ ‬ويعود‭ ‬السبب‭ ‬الأول‭ ‬والأساس‭ ‬لهذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬إدراك‭ ‬مفهوم‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬النقدية‭ ‬بـ«القراءة‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬مقرونة‭ ‬بمفهوم‭ ‬الحرية،‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬الحرية‮»‬‭ ‬من‭ ‬معانٍ،‭ ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬بدوره‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬تبني‭ ‬أفكار‭ ‬وأساليب‭ ‬بعض‭ ‬التوجهات،‭ ‬وهو‭ ‬التبني‭ ‬الذي‭ ‬يفتقد‭ ‬النظرة‭ ‬العلمية،‭ ‬والذي‭ ‬بسط‭ ‬سيطرته‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الفنية‭ ‬باسم‭ ‬الانفتاح‭ ‬والعصرنة،‭ ‬وساعدته‭ ‬ظروف‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬ترسيم‭ ‬وجوده‭ ‬وتبريره،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬يرجع‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تلقي‭ ‬مبادئ‭ ‬ومفاهيم‭ ‬تلقياً‭ ‬عفوياً،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تتطلب‭ ‬بُعد‭ ‬نظر‭ ‬وسعة‭ ‬فكر‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬اختراق‭ ‬آفاقها‭ ‬وبلوغ‭ ‬مقاصدها،‭ ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬القراءة‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬بديهيات‭ ‬الخطاب‭ ‬الفني‭ ‬التواصلي،‭ ‬ومحاورتها،‭ ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نرصد‭ ‬حركية‭ ‬التفاعل‭ ‬الدلالي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬ينتج‭ ‬إلا‭ ‬مما‭ ‬يحتويه‭.‬

هي‭ ‬إشكالية‭ ‬معقدة‭ ‬ومتداخلة،‭ ‬ولها‭ ‬فروع‭ ‬وامتدادات‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬كيانها،‭ ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬شيء،‭ ‬فإن‭ ‬بلوغ‭ ‬مبتغى‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬يبدأ‭ ‬بعملية‭ ‬الإدراك‭ ‬الحسي،‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬هو‭ ‬من‭ ‬الوجهة‭ ‬النفسية‭ ‬أساس‭ ‬العمليات‭ ‬العقلية،‭ ‬وهو‭ ‬يعني‭ ‬الفهم‭ ‬أو‭ ‬التعقل‭ ‬بواسطة‭ ‬الحواس،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يدرك‭ ‬بحاسة‭ ‬من‭ ‬الحواس‭ ‬يسمى‭ ‬مدركاً‭ ‬حسياً‮»‬،‭ ‬واللوحة‭ ‬الفنية‭ ‬تدخل‭ ‬ضمن‭ ‬هذه‭ ‬المدركات‭ ‬الحسية‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬المنطق‭ ‬إلا‭ ‬موجودة‭. ‬وتتحقق‭ ‬الرسالة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وعينا‭ ‬بهذا‭ ‬الإدراك،‭ ‬معنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬دلالة‭ ‬محققة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬علاقات‭ ‬وتراكيب‭ ‬شكلية‭ ‬ولونية‭ ‬ذات‭ ‬معنى،‭ ‬ولا‭ ‬تتم‭ ‬عملية‭ ‬الوعي‭ ‬أو‭ ‬الفهم‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬قرائن‭ ‬دالة،‭ ‬يرتبط‭ ‬بعضها‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬بطريقة‭ ‬منطقية،‭ ‬وتتحرك‭ ‬وفقاً‭ ‬لما‭ ‬تمليه‭ ‬طبيعة‭ ‬الرسالة‭ ‬وأسلوب‭ ‬المبدع‭.‬

 

الانصات‭ ‬إلى‭ ‬موضوع‭ ‬اللوحة

صحيح‭ ‬أن‭ ‬‮«‬النشاط‭ ‬الفني‭ ‬يمثل‭ ‬فاعلية‭ ‬حرة‭ ‬هي‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬عن‭ ‬مجرد‭ ‬الخضوع‭ ‬للطبيعة‭ ‬أو‭ ‬التعبد‭ ‬للواقع‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الحرية‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬حرية‭ ‬تسبح‭ ‬في‭ ‬ذاتية‭ ‬الموضوع‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تترجمها‭ ‬ذاتية‭ ‬المبدع،‭ ‬معنى‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬لابد‭ ‬للفنان‭ ‬أثناء‭ ‬الممارسة‭ ‬الفنية‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬دائم‭ ‬الإنصات‭ ‬إلى‭ ‬نداء‭ ‬الموضوع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬هو،‭ ‬كاللاعب‭ ‬الذي‭ ‬يتمتع‭ ‬بحرية‭ ‬مداعبة‭ ‬الكرة‭ ‬وتأليف‭ ‬لقطات‭ ‬جديدة،‭ ‬لكنه‭ ‬ملزم‭ ‬باحترام‭ ‬قانون‭ ‬اللعبة،‭ ‬وهنا‭ ‬يكمن‭ ‬الإبداع‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬الفنان‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬يعد‭ ‬قانوناً‭ ‬لنفسه،‭ ‬فإن‭ ‬القانون‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬يحكمه‭ ‬هو‭ ‬قانون‭ ‬التعايش‭ ‬والانسجام‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬ومع‭ ‬الكائنات‭ ‬والأحداث،‭ ‬وما‭ ‬يفرضه‭ ‬نظام‭ ‬الظواهر‭ ‬ومنطق‭ ‬الأشياء‭ ‬ومتطلبات‭ ‬الضرورة‭ ‬القصوى‭ ‬لمعادلة‭ ‬التأثر‭ ‬والتأثير،‭ ‬وما‭ ‬على‭ ‬الفنان‭ ‬إلا‭ ‬التأمل‭ ‬والتنظيم‭ ‬والترتيب‭ ‬فالكشف،‭ ‬وبالتالي‭ ‬الإبداع،‭ ‬يقول‭ ‬أوجست‭ ‬كونت‭ ‬Auguste Cont‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬لابد‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ننظم‭ ‬الداخل‭ ‬Le dedans‭ ‬بالاستناد‭ ‬إلى‭ ‬الخارج،‭ ‬ومعنى‭ ‬هذا‭ ‬أنه‭ ‬لابد‭ ‬للفنان‭ ‬أن‭ ‬ينظم‭ ‬أفكاره‭ ‬وخواطره‭ ‬وعواطفه،‭ ‬بالرجوع‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي،‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬قواعد‭ ‬وضرورات‭ ‬وأنظمة‮»‬‭.‬

إن‭ ‬العقل‭ ‬لا‭ ‬يفكر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬كائن،‭ ‬ولا‭ ‬توجد‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬عملية‭ ‬تخيلية‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬الواقع،‭ ‬والصور‭ ‬غير‭ ‬المألوفة‭ ‬المستحضرة‭ ‬ذهنياً،‭ ‬لكونها‭ ‬خيالية،‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬نتاج‭ ‬عملية‭ ‬تركيبية‭ ‬لعناصر‭ ‬مألوفة‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أدركها‭ ‬العقل‭ ‬وسجلتها‭ ‬الذاكرة‭ ‬الدلالية،‭ ‬وما‭ ‬جرى‭ ‬عكس‭ ‬ذلك‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬العبثية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬أساس‭ ‬منطقي،‭ ‬يقول‭ ‬ألان‭: ‬‮«‬فكِّر‭ ‬ملياً‭ ‬في‭ ‬عملك،‭ ‬ولكن‭ ‬تذكَّر‭ ‬دائما‭ ‬أن‭ ‬المرء‭ ‬لا‭ ‬يفكر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موجود،‭ ‬وإذن‭ ‬فإن‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تحقق‭ ‬عملك‮»‬‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬يعني‭ ‬الوجود‭ ‬الطبيعي،‭ ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الفني‭ ‬يعني‭ ‬شيئاً‭ ‬آخر،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الفنان‭ ‬ملزم‭ ‬بخلق‭ ‬وجود‭ ‬جديد‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬الطبيعي،‭ ‬وهو‭ ‬وجه‭ ‬الحقيقة‭ ‬الفنية،‭ ‬ومبدأ‭ ‬من‭ ‬مبادئ‭ ‬الإبداع‭.‬

وتأخذ‭ ‬الإشارة‭ ‬معناها‭ ‬داخل‭ ‬النص‭ ‬وليس‭ ‬داخل‭ ‬القاموس‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وما‭ ‬تمثله‭ ‬من‭ ‬معانٍ‭ ‬خارجية‭ ‬يبقى‭ ‬خارجه،‭ ‬لذا‭ ‬وجب‭ ‬على‭ ‬الفنان‭ ‬أن‭ ‬يتجه‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬التركيبة‭ ‬الفنية‭ ‬ويصوغها‭ ‬وفقاً‭ ‬لما‭ ‬يحقق‭ ‬الدلالة‭ ‬المناسبة،‭ ‬هذا‭ ‬إذا‭ ‬سلَّمنا‭ ‬بأن‭ ‬الفنان‭ ‬قد‭ ‬اعتبر‭ ‬لهذه‭ ‬التركيبة‭ ‬دلالات‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬يحققها‭ ‬النص‭ ‬زيادة‭ ‬على‭ ‬دلالتها‭ ‬النصية،‭ ‬إذ‭ ‬إنّ‭ ‬من‭ ‬الإشارات‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬شيئاً،‭ ‬وربما‭ ‬يعني‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬إلا‭ ‬نفسه،‭ ‬وربما‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬النقائض،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬فقدان‭ ‬الهوية‭.‬

 

الحقيقة‭ ‬الفنية

إن‭ ‬الفكرة‭ ‬تحيا‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الشيء‭ ‬ثم‭ ‬تتطور‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬فنية،‭ ‬ويتطلب‭ ‬ذلك‭ ‬وجود‭ ‬ملكة‭ ‬الإبداع،‭ ‬أي‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬طبائع‭ ‬الأشياء‭ ‬ومعرفة‭ ‬حقائقها‭ ‬والتغلغل‭ ‬في‭ ‬صميمها‭ ‬وقراءته‭ ‬قراءة‭ ‬واعية،‭ ‬ثم‭ ‬الارتقاء‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬إبداعي‭ ‬يعبِّر‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭ ‬عن‭ ‬موضوع‭ ‬من‭ ‬الموضوعات،‭ ‬مع‭ ‬الإحاطة‭ ‬بما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تؤديه‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬دلالات‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الدلالة‭ ‬المقصودة،‭ ‬أو‭ ‬تغييبها،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬حمايتها‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬ارتجاج‭ ‬أو‭ ‬تيه‭. ‬

ولما‭ ‬كانت‭ ‬اللوحة‭ ‬الفنية‭ ‬لا‭ ‬تُرى‭ ‬بعين‭ ‬واحدة،‭ ‬لما‭ ‬يحمله‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬مفاهيم‭ ‬تجاه‭ ‬الشيء‭ ‬الواحد،‭ ‬ونظراً‭ ‬لاختلاف‭ ‬الثقافات،‭ ‬وجب‭ ‬الإلمام‭ ‬بمختلف‭ ‬الآراء‭ ‬والتصورات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالدال،‭ ‬حتى‭ ‬يتسنى‭ ‬للوحة‭ ‬الفنية‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الأشخاص،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬نجاح‭ ‬العمل‭ ‬الفني،‭ ‬وهو‭ ‬نتيجة‭ ‬تلقائية‭ ‬لما‭ ‬يكتسبه‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬مطالعاته‭ ‬المختلفة‭ ‬وانفتاحه‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الوقائع‭ ‬والثقافات‭. ‬

ويعد‭ ‬الجمال‭ ‬عنصراً‭ ‬فعالاً‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬اللوحة‭ ‬الفنية،‭ ‬بل‭ ‬ثابتاً‭ ‬من‭ ‬ثوابتها،‭ ‬ومن‭ ‬دونه‭ ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬لها‭ ‬أي‭ ‬وجود‭ ‬فني،‭ ‬فهو‭ ‬هندام‭ ‬الموضوع‭ ‬ولغته،‭ ‬وهو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الدلالة،‭ ‬يقول‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬جواد‭ ‬مغنية‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬مذاهب‭ ‬فلسفية‭ ‬وقاموس‭ ‬مصطلحات‮»‬‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الفن‭ ‬يتصف‭ ‬بالحسن‭ ‬والجمال‭, ‬حقيقة‭ ‬لا‭ ‬مجازاً‭ ‬باتفاق‭ ‬الأطراف‭ ‬والفئات،‭ ‬بل‭ ‬الجمال‭ ‬هو‭ ‬الفن‭ ‬بالذات،‭ ‬وعليه‭ ‬يكون‭ ‬إنكار‭ ‬الجمال‭ ‬إنكاراً‭ ‬للفن‭ ‬من‭ ‬الأساس‮»‬،‭ ‬ويضيف‭: ‬‮«‬كان‭ ‬طاغور‭ ‬شاعراً‭ ‬وكاتباً‭ ‬ورسَّاماً‭ ‬وملحناً،‭ ‬وقد‭ ‬اعترف‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬بتفوقه‭ ‬وعظمته‭... ‬وتحدث‭ ‬طاغور‭ ‬عن‭ ‬الفن‭ ‬والجمال،‭ ‬ومن‭ ‬جملة‭ ‬ما‭ ‬قال‭: ‬الفقيه‭ ‬يفسر‭ ‬النصوص،‭ ‬ويستخرج‭ ‬منها‭ ‬الأوامر‭ ‬والنواهي،‭ ‬والفيلسوف‭ ‬يضع‭ ‬مذهباً‭ ‬عقلياً‭ ‬يهتدي‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الحقائق،‭ ‬والعالم‭ ‬يكشف‭ ‬قوانين‭ ‬الطبيعة،‭ ‬أما‭ ‬الفنان‭ ‬فإنه‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬الجمال‭ ‬الكامن‭ ‬في‭ ‬الكون،‭ ‬ويملك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‮»‬‭. ‬لكن‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬الجمال‭ ‬له‭ ‬حدود‭ ‬ومسارات،‭ ‬ويجب‭ ‬ألا‭ ‬يطغى‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬طغياناً‭ ‬يفقده‭ ‬هدفه‭ ‬الأسمى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬مفهومه‭ ‬عميقاً‭ ‬وشائكاً‭ ‬في‭ ‬تصورنا،‭ ‬وعلى‭ ‬الفنان‭ ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬المعايير‭ ‬والمكونات‭ ‬وفقاً‭ ‬لما‭ ‬يراه‭ ‬مناسباً‭ ‬لتجسيد‭ ‬تطلعاته‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬الفنان‭ ‬يمارس‭ ‬هذا‭ ‬النشاط‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬تحقيق‭ ‬غاية‭ ‬ما،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬تجسيد‭ ‬فكرة‭ ‬معينة،‭ ‬بل‭ ‬تتعداه‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬منفعة‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬تلك‭ ‬الفكرة،‭ ‬ولا‭ ‬أريد‭ ‬بالمنفعة‭ ‬هنا‭ ‬ما‭ ‬أراده‭ ‬أصحاب‭ ‬مذهب‭ ‬المنفعة‭ (‬من‭ ‬استبعاد‭ ‬لكل‭ ‬نشاط‭ ‬لا‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬نفع‭ ‬عاجل‭ ‬ملموس،‭ ‬فكانت‭ ‬الفنون‭ ‬والفلسفة‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬النشاط‭ ‬المستبعد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يجلب‭ ‬المنفعة‭ ‬للناس‭ ‬في‭ ‬نظرهم‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬أريد‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬لابد‭ ‬للوحة‭ ‬الفنية‭ ‬من‭ ‬تبرير‭ ‬وجودها‭ ‬بمشاركتها‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬اللوحة‭ ‬الفنية‭ ‬تعمل‭ ‬جاهدة‭ ‬لإدراك‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المعايير،‭ ‬فإنها‭ ‬برغم‭ ‬ذلك‭ ‬تظل‭ ‬شاخصة‭ ‬بوجه‭ ‬من‭ ‬النسبية،‭ ‬فهي‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬نتيجة‭ ‬فعالة‭ ‬وجادة،‭ ‬ولا‭ ‬تهدف‭ ‬بالضرورة‭ ‬إلى‭ ‬تحطيم‭ ‬رقم‭ ‬قياسي‭ ‬معيَّن‭ .