اللوحة الفنية بين الحقيقة والسراب

استرعت اهتمامي قضية جوهرية متعلقة بأبجديات التشكيل الفني، وهي قضية بلغت من الشيوع ما جعل منها ظاهرة، بل أضحت المبدأ الأساس الذي ينطلق منه كل عمل تشكيلي، وقد ألحّت عليّ نفسي مراراً أن ألتفت إليها، ورأيت أن أخصص لها حيزاً من وقتي، وأوليها ما تستحقه من الاهتمام لوصف حقائقها وإبداء تصوّراتها، ومن ثم مناقشتها والحكم عليها، راجياً الإحاطة والشمول في ذلك، فهي قضية حساسة حسب رأيي، لأنها تمس القاعدة العامة للعمل الفني، وتخرق قانون الحوار بين منطق العقل ولغة الصورة.
لست هنا لتصحيح مفاهيم أو لإلغاء قوانين، وإنما لمعالجة ظاهرة أقل ما يقال عنها إنها تزامنت مع عزوف المجتمعات عن تقبُّل فلسفات وتوجهات المشهد الفني، والتفاعل معه، بل شهدت ردود أفعال متباينة بين الاستنكار والاستهجان والمقت من خلال اجتهادي في تقديم مجموعة آراء وتصورات، رأيت فيها نجوعاً لتقويم هذا الاعتقاد، والتي تبقى قابلة للمناقشة والمراجعة والتعقيب، عسى أن أفيد لأستفيد، وهو ما جاء به هذا العرض المختصر.
بديهي أن الفنان لا يرسم لنفسه، بل يهدف إلى التواصل مع الجمهور في سبيل تحقيق غاية ما، وصحيح أن النص نتاج التفاعل بين ثلاثية «الذات المبدعة وحركية النص وطبيعة الجمهور» أثناء الممارسة الفنية، وهو ركن أساس من أركان وجود الحقيقة الفنية، تفرضه معادلة التأثر والتأثير، لكن النتيجة الحاسمة لا تنظر إلى هذا التفاعل، وإنما إلى ما استطاع أن ينتجه في سبيل تحقيق الغاية المرجوّة، وبالتالي فإن محاولة فهم هذه الغاية إنما تتخذ من النص الفني مرجعاً لها وليس من الفنان، وتصبح الإشارة داخل النص الشاهد الوحيد على مدى تحقق الهدف من عدمه، والسؤال المطروح: ما مدى قدرة الإشارة على تحقيق هذا الهدف؟
ونرى أن قراءة سريعة لبعض الآراء، أو بالأحرى الأعمال الفنية بعزلها عن مصادرها وملابساتها الخارجية، تكشف بوضوح مدى ارتجالية الممارسة الفنية، وتوجّهاتها غير المنطقية، التي ضللت إلى حد بعيد حقيقة الفن التشكيلي ورسالته السامية، ويعود السبب الأول والأساس لهذه الظاهرة إلى عدم إدراك مفهوم ما يسمى في الساحة النقدية بـ«القراءة»، التي أصبحت مقرونة بمفهوم الحرية، بكل ما تحمله كلمة «الحرية» من معانٍ، ولعل هذا بدوره يعود إلى تبني أفكار وأساليب بعض التوجهات، وهو التبني الذي يفتقد النظرة العلمية، والذي بسط سيطرته على الساحة الفنية باسم الانفتاح والعصرنة، وساعدته ظروف أخرى على ترسيم وجوده وتبريره، أو ربما يرجع ذلك إلى تلقي مبادئ ومفاهيم تلقياً عفوياً، وهي التي تتطلب بُعد نظر وسعة فكر وقدرة على اختراق آفاقها وبلوغ مقاصدها، والحقيقة أن القراءة تستند إلى معرفة بديهيات الخطاب الفني التواصلي، ومحاورتها، ومن هذا المنطلق يمكننا أن نرصد حركية التفاعل الدلالي الذي لا يمكنه أن ينتج إلا مما يحتويه.
هي إشكالية معقدة ومتداخلة، ولها فروع وامتدادات تعبر عن كيانها، ومهما يكن من شيء، فإن بلوغ مبتغى العمل الفني يبدأ بعملية الإدراك الحسي، الذي «هو من الوجهة النفسية أساس العمليات العقلية، وهو يعني الفهم أو التعقل بواسطة الحواس، وكل ما يدرك بحاسة من الحواس يسمى مدركاً حسياً»، واللوحة الفنية تدخل ضمن هذه المدركات الحسية التي لن تكون في لغة المنطق إلا موجودة. وتتحقق الرسالة من خلال وعينا بهذا الإدراك، معنى ذلك أن هناك دلالة محققة من خلال علاقات وتراكيب شكلية ولونية ذات معنى، ولا تتم عملية الوعي أو الفهم إلا في وجود قرائن دالة، يرتبط بعضها مع بعض بطريقة منطقية، وتتحرك وفقاً لما تمليه طبيعة الرسالة وأسلوب المبدع.
الانصات إلى موضوع اللوحة
صحيح أن «النشاط الفني يمثل فاعلية حرة هي أبعد ما تكون عن مجرد الخضوع للطبيعة أو التعبد للواقع»، لكن هذه الحرية إنما هي حرية تسبح في ذاتية الموضوع قبل أن تترجمها ذاتية المبدع، معنى ذلك أنه لابد للفنان أثناء الممارسة الفنية أن يبقى دائم الإنصات إلى نداء الموضوع الذي لا يمكنه أن يكون إلا هو، كاللاعب الذي يتمتع بحرية مداعبة الكرة وتأليف لقطات جديدة، لكنه ملزم باحترام قانون اللعبة، وهنا يكمن الإبداع.
وإذا كان الفنان من هذا المنطلق يعد قانوناً لنفسه، فإن القانون الأول الذي يحكمه هو قانون التعايش والانسجام مع الواقع ومع الكائنات والأحداث، وما يفرضه نظام الظواهر ومنطق الأشياء ومتطلبات الضرورة القصوى لمعادلة التأثر والتأثير، وما على الفنان إلا التأمل والتنظيم والترتيب فالكشف، وبالتالي الإبداع، يقول أوجست كونت Auguste Cont إنه «لابد لنا من أن ننظم الداخل Le dedans بالاستناد إلى الخارج، ومعنى هذا أنه لابد للفنان أن ينظم أفكاره وخواطره وعواطفه، بالرجوع إلى العالم الخارجي، بما فيه من قواعد وضرورات وأنظمة».
إن العقل لا يفكر إلا في ما هو كائن، ولا توجد على الإطلاق عملية تخيلية مبنية على غير الواقع، والصور غير المألوفة المستحضرة ذهنياً، لكونها خيالية، ما هي إلا نتاج عملية تركيبية لعناصر مألوفة كان قد أدركها العقل وسجلتها الذاكرة الدلالية، وما جرى عكس ذلك ضرب من العبثية التي لا تستند إلى أي أساس منطقي، يقول ألان: «فكِّر ملياً في عملك، ولكن تذكَّر دائما أن المرء لا يفكر إلا في ما هو موجود، وإذن فإن عليك أن تحقق عملك». وإذا كان هذا الكيان في الواقع يعني الوجود الطبيعي، فإنه في المجال الفني يعني شيئاً آخر، ذلك أن الفنان ملزم بخلق وجود جديد بناء على هذا الوجود الطبيعي، وهو وجه الحقيقة الفنية، ومبدأ من مبادئ الإبداع.
وتأخذ الإشارة معناها داخل النص وليس داخل القاموس الاجتماعي، وما تمثله من معانٍ خارجية يبقى خارجه، لذا وجب على الفنان أن يتجه مباشرة إلى التركيبة الفنية ويصوغها وفقاً لما يحقق الدلالة المناسبة، هذا إذا سلَّمنا بأن الفنان قد اعتبر لهذه التركيبة دلالات أخرى لا يحققها النص زيادة على دلالتها النصية، إذ إنّ من الإشارات ما لا يعني شيئاً، وربما يعني كل شيء إلا نفسه، وربما جمع بين النقائض، وذلك من علامات فقدان الهوية.
الحقيقة الفنية
إن الفكرة تحيا في ذات الشيء ثم تتطور إلى حقيقة فنية، ويتطلب ذلك وجود ملكة الإبداع، أي القدرة على فهم طبائع الأشياء ومعرفة حقائقها والتغلغل في صميمها وقراءته قراءة واعية، ثم الارتقاء بها إلى عمل فني إبداعي يعبِّر بطريقة أو بأخرى عن موضوع من الموضوعات، مع الإحاطة بما يمكن أن تؤديه هذه الأشياء في تكوين دلالات أخرى من شأنها السيطرة على الدلالة المقصودة، أو تغييبها، ومن هنا حمايتها من أي ارتجاج أو تيه.
ولما كانت اللوحة الفنية لا تُرى بعين واحدة، لما يحمله كل فرد من مفاهيم تجاه الشيء الواحد، ونظراً لاختلاف الثقافات، وجب الإلمام بمختلف الآراء والتصورات المتعلقة بالدال، حتى يتسنى للوحة الفنية الحديث إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص، وهو من أسباب نجاح العمل الفني، وهو نتيجة تلقائية لما يكتسبه الفرد من مطالعاته المختلفة وانفتاحه على مختلف الوقائع والثقافات.
ويعد الجمال عنصراً فعالاً في تكوين اللوحة الفنية، بل ثابتاً من ثوابتها، ومن دونه لا يكتب لها أي وجود فني، فهو هندام الموضوع ولغته، وهو جزء من الدلالة، يقول د. محمد جواد مغنية في كتابه «مذاهب فلسفية وقاموس مصطلحات»: «إن الفن يتصف بالحسن والجمال, حقيقة لا مجازاً باتفاق الأطراف والفئات، بل الجمال هو الفن بالذات، وعليه يكون إنكار الجمال إنكاراً للفن من الأساس»، ويضيف: «كان طاغور شاعراً وكاتباً ورسَّاماً وملحناً، وقد اعترف العالم كله بتفوقه وعظمته... وتحدث طاغور عن الفن والجمال، ومن جملة ما قال: الفقيه يفسر النصوص، ويستخرج منها الأوامر والنواهي، والفيلسوف يضع مذهباً عقلياً يهتدي به إلى الحقائق، والعالم يكشف قوانين الطبيعة، أما الفنان فإنه يكشف عن الجمال الكامن في الكون، ويملك القدرة على التعبير عنه». لكن في المقابل الجمال له حدود ومسارات، ويجب ألا يطغى على العمل الفني طغياناً يفقده هدفه الأسمى وإن كان مفهومه عميقاً وشائكاً في تصورنا، وعلى الفنان أن يجمع بين مختلف المعايير والمكونات وفقاً لما يراه مناسباً لتجسيد تطلعاته.
وإذا كان الفنان يمارس هذا النشاط في سبيل تحقيق غاية ما، فإن هذه الأخيرة لا تتوقف عند النجاح في تجسيد فكرة معينة، بل تتعداه إلى تحقيق منفعة من وراء تلك الفكرة، ولا أريد بالمنفعة هنا ما أراده أصحاب مذهب المنفعة (من استبعاد لكل نشاط لا يؤدي إلى نفع عاجل ملموس، فكانت الفنون والفلسفة في دائرة النشاط المستبعد الذي لا يجلب المنفعة للناس في نظرهم)، بل أريد القول إنه لابد للوحة الفنية من تبرير وجودها بمشاركتها في خدمة الفرد والمجتمع.
وإذا كانت اللوحة الفنية تعمل جاهدة لإدراك كل هذه المعايير، فإنها برغم ذلك تظل شاخصة بوجه من النسبية، فهي تهدف إلى تحقيق نتيجة فعالة وجادة، ولا تهدف بالضرورة إلى تحطيم رقم قياسي معيَّن .