افتقر للدقة العلمية «نظرية كل شيء»... فيلم يصور قصة حياة ستيفن هوكينغ
سيكون شيئاً جميلاً لو بذل منتجو الأفلام التي تتناول أموراً علمية جهوداً في التأكد من صحة المفاهيم العلمية نصف الوقت الذي يبذلونه مثلاً في اختيار الأزياء وتصفيفات الشعر.
لقد تعبنا من الشكوى من هذه المسألة، لكننا نشهد الآن تعاقباً غير عادي لمثل هذه الأفلام، ونود أن نرى فيلماً لا يجعلنا نجز على أسناننا.
في العام الماضي، قــــدّم فيلم «الجاذبية» - الذي فاز بسبع جوائــــز أوسكار - صوراً واقعيــــة بدرجـــة مذهــــلة للعتــــاد الفضائي وانعدام الوزن في الفضاء، لكنه أخفق في أبسط قواعد الميكانيكا المدارية. وأخيراً، كان لنا موعد مع فيلمَيْن يتمحوران حول الثقوب السوداء، الأول هو «نظرية كل شيء» الذي يتحدث عن مستهل حياة الفيزيائي البريطاني والمؤلف الأكثر مبيعاً ستيفن هوكينغ وأزمنته المبكرة، والثاني «بين النجوم»، وهو فيلم من إخـــــراج وتأليف الأخوين كريســتوفر وجوناثان نولان، ويدور حول سفر رواد الفضاء عبر ثقب دودي للعثور على موطن جديد للبشرية (الشيء المثير هنا أنه مستوحى من عمل قام به أحد أقدم أصدقاء الدكتور هوكينغ وهو كِب ثورن، الأستاذ بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا).
يتميز فيلم «نظرية كل شيء» بمزايا كثيرة، فإيدي ريدماين يستحق عن جدارة ما يجري حالياً من ترويج له لترشيحه لنيل جائزة الأوسكار عن براعته المذهلة في أداء دور الدكتور هوكينغ وتصوير الآثار الضمورية المتواصلة الناجمة عن مرض التصلب الضموري الجانبي (المعروف أيضاً باسم مرض لو غيريغ)، وهو المرض الذي تصدى، من أجل التوعية به ودعم بحوثه، عدد كبير من المشاهير لتحدي «دلو الثلج» أخيراً.
إن ملايين الأشخاص وعشاق العلوم الذين قرأوا كتب الدكتور هوكينغ وتوافدوا على محاضراته وشاهدوه في مسلسلات «عائلة سيمبسون» و«ستار تريك» و«نظرية الانفجار الكبير» لم يعرفوه قط إلا كشخص أسير كرسيّ مدولب يتحدث بصوت روبوتي؛ لأن كل ما يعرفونه أنه كان دائماً هكذا ونزل إلى الأرض على متن مذنّب، كـ «فينوس» التي انساقت إلى كوكبنا على متن نصف صَدَفة.
اتسم أداء السيد ريدماين بالدقة البالغة، من تجسيد أصابع الدكتور هوكينغ المشلولة المتغضنة إلى تصوير النضارة المازحة التي تضيء وجهه - الذي هو في ما عدا ذلك جامد- عندما يستعذب نكتة أو فكاهة. والذروة الدرامية عندما ينقر بفأرة فتنساب الكلمات «My name is Stephen Hawking» (اسمي ستيفن هوكينغ) من سماعة خارجية بلكنة أمريكية روبوتية، هي لحظة إبداع عبقري تجعل أعيننا تفيض بالدمع.
تشويه علمي
لكن الفيلم لا يستحق أي جوائز بسبب اللامبالاة بتشويه عمل الدكتور هوكينغ العلمي، ما يترك المشاهدين وهم لا يعرفون بالضبط لماذا يتمتع بهذه الشهرة الكبيرة، فبدلاً من بيان كيف قوض الدكتور هوكينغ الأفكار التقليدية عن المكان والزمان، نجد الفيلم يتزلف إلى الأحاسيس الدينية بشأن ما يقوله عمل الدكتور هوكينغ، وما لا يقوله في ما يخص وجود الرب، وهو في حقيقة الأمر شيء قليل جداً.
ما يُحسب للفيلم أنه لا يتحاشى تناول الأجزاء التي لا يسلط عليها ضوء من قصة الدكتور هوكينغ، فهو مستند إلى مذكرات زوجته الأولى جين وايلد التي نُشرت في عام 2007 بعنوان «سفر إلى ما لا نهاية... حياتي مع ستيفن»، وتمثل أحد كتابيْن وضعتهما جين وتصور فيهما كيف كان وقوعها في حبّ عبقري متزايد الإعاقة والشهرة ثم رعايتها إيّاه. ترتبط جين في النهاية بقائد الكورس في كنيستها، أما ستيفن فيرحل مع ممرضته إلين ميسون، التي تزوجها في ما بعد ثم طلقها.
يقال إن الدكتور هوكينغ البالغ من العمر 72 سنة أعطى موافقته - وإن على مضض - على الفيلم الذي سيلقي الضوء على الجانب الشخصي من حياته، ومن بين الأشياء الشجاعة التي فعلها هوكينغ، وربما يكون هذا أشجعها، أن يعهد بقصة حياته إلى زوجة سابقة.
سمح الدكتــــور هوكيــــنغ للمنتجـــــين باســتخــدام تســـجيلات فعلية لصــــوته الأيقــــوني، وبعد رؤيـــته الفيـــلم قالها صريحــــة: «صادق بوجه عام»، حـــسبما قال المخـــرج جيمـــس مارش، الذي فاز بجائزة أوسكار سنة 2008 عن فيلمه الوثائقي «رجل فوق السلك».
تناقضات تاريخية
لكن في ما يخص العلم، يجعلنا الفيلم لا نستطيع مقاومة الجز على أسناننا، هيا بنا ننس للحظة أننا نرى الشخصيات في بداية القصة جالسين في ندوة بلندن يتحدثون عن الثقوب السوداء - وهي تلك الهوات الثقالية السحيقة التي لا قعر لها ولا يمكن أن يفلت منها أي شيء حتى الضوء - قبل أن يُسَك ذلك المصطلح بسنوات، المحزن أن بعض التناقضات التاريخية على الأرجح شيء حتمي في أي تصوير شعبي لميدان علمي مستغلق كالفيزياء الفضائية.
لكن الأمر يزداد سوءاً عند تخطي بعض المشاهد والسنوات إلى الأمام، حتى تصل إلى مشهد الدكتور هوكينغ الذي يتهيأ ليأوي إلى الفراش، وهو يحدق في قطع فحم متوهجة في المستوقد فتنتابه خيالات ثقوب سوداء تفور وتتسرب منها الحرارة.
الشيء التالي الذي نتعرف عليه هو ما يقوله الدكتور هوكينغ لجمهوره في إحدى قاعات المحاضرات بجامعة أكسفورد من أن الثقوب السوداء - على النقيض مما تقوله الأساطير والنظريات السابقة - لا تبقى إلى الأبد، بل تتسرب منها الجزيئات وتنكمش وفي النهاية تنفجر، قبل أن يُقْدم مدير الجلسة، متذمراً مما يقال، على إعلان نهاية الجلسة، واصفاً هذه الفكرة بـ«الهراء».
إشعاع هوكينغ
التنبؤ بإشعاع هوكينغ، كما يسمى، هو أعظم إنجازات الدكتور هوكينغ، وهو الإنجاز الذي سيفوز على الأرجح بجائزة نوبل من أجله، لكن هذا الإنجاز لم يتأت نتيجة لحظة إلهام أثناء التحديق في المستوقد، وبرواية القصة على هذا النحو، يكون المنتجون زيّفوا اللحظة الأشد دراماتيكية في مشواره العلمي.
كان هوكينغ قد استلهم من عمل قام به ألكسي ستاروبنسكي في موسكو وجاكوب بيكنشتاين في برنستون كي يحاول تقرير خواص الثقوب السود الميكروسكوبية، وقد تطلب ذلك حساباً مرهقاً سيجمع بين النظرية الكمومية وجاذبية أينشتين، وهما ركيزتان ثنائيتان للفيزياء النظرية، على الرغم من أنهما كانتا حتى ذلك الحين غير متوافقتين رياضياً.
استغرق الأمر شهوراً، وكان أصدقاؤه وزملاؤه أثناءها متيقنين من أنه سيفشل... فتحوا أمامه الكتب الدراسية التي تتحدث عن الكمومية ثم مضوا، متسائلين عما سيخرج به، هذا إن خرج بشيء. عندما اكتشف الدكتور هوكينغ أن التأثيرات الكمومية ستجعل الثقوب السود تسرب الحرارة والجزيئات، سار ذلك على عكس كل تخميناته وتوقعاته، فأمضى بضعة أشهر منعزلاً في محاولة للتوصل إلى موضع خطئه، حتى وصل به الأمر في بعض الأحيان أن كان يحبس نفسه داخل حمام كي يفكر، كانت ظلال اللايقين والعشوائية التي حبيت بها الطبيعة على أصغر المقاييس ستثقب من الناحية العملية سطح الثقب الأسود الذي كان في ما سبق لا يُخترق، تبين أن اكتشافه ذو شأن كبير جداً، لأنه يعني ضمناً، من بين ما يعنيه، أن «الفضاء ثلاثي الأبعاد» وهم.
مع الأسف لم يتضمن الفيلم أياً من هذه الأمور، هذا التصرف أكثر من مجرد تأريخ سيئ. المعادلات المسجلة على السبورة تبدو أصلية (الأفلام بارعة دائماً في عرض تفاصيل التصميمات بشكل صحيح)، لكن كما هو معتاد، الأمر تنقصه الصورة الكبيرة، المسار المتعرج من التعاون والتنافس، بل حتى الاحتراب الذي يمضي فيه العلم في الواقع، والفيلم بإغفاله أشخاصاً مثل الدكتور بيكنشتاين والدكتور ستاروبنسكي يعزز قالب العبقري الأوحد، ذلك القالب الجامد الراسخ بالفعل في وسائل الإعلام وجوائز نوبل.
عالم وكاهنة
وفي حالة الدكتور هوكينغ نجد أن إعاقته تعزز هذا القالب الجامد، ما يتسبب في نظر سائر العالم، ولاسيما وسائل الإعلام، في الإيحاء بأن كل مقولة تصدر عنه، وكأنها آتية من كاهنة دِلفي التي تشير إليها كثير من المصادر، على أنها فيلسوفة ومعلمة للفيلسوف وعالم الرياضيات فيثاغوراس (580 - 500 ق.م).
كما أن الفيلم يحط من قدر العمل الذي قام به الدكتور هوكينغ نفسه، تلك الشهور من الحسابات المكثفة التي يقتضيها تحويل إلهام إلى نظرية حقيقية، بجعله يبدو هيناً، فالعلم ليس بالشيء الهين، حتى بالنسبة لأنداد أينشتاين من بيننا، لكن هذا لا يعني أنه ليس بمتعة.
«نظرية كل شيء» مجرد فيلم، وينبغي أن يسرنا أن نرى الدكتور هوكينغ في النهاية ينال ما يستحق من آلة الشاشة الكبيرة الصانعة للنجوم، وأنه حتى الثقوب السود صارت جزءاً من الحديث الثقافي، ومن ثم يجعلنا نشعر بالسرور، فالفيلم - كما قال الدكتور هوكينغ - «صادق بوجه عام», لكن كنا نود أن يلتزم صناع الفيلم بمستوى أعلى من الحجية .