الاعتراف والهوية
لا تنفصل السيرة الذاتية - بآفاقها السردية - لكاتب من الكتاب عن نصوصه الأدبية الأخرى، ويمثل النص السيري في هذا الإطار نصاً موازياً، وشارحاً، ومحققاً، وقارئاً لأدب صاحب السيرة، ولمجتمعه في آن، في فترة من فترات تاريخه.
ومنطقة الاعتراف في فضاء السيرة الذاتية أكثر المناطق تفاعلاً وتوتراً، وكشفاً وفائدة، تتهاوى عندها أقنعة الشخوص الروائية، ويتناءى عنها اليومي والعادي، وتضحى مركز الضوء والحقيقة، وبهدي من أشعة هذا المركز تُرصد حركة النصوص الأدبية الموازية، وتُسْتجلى بذور التكوين.
السيرة الذاتية الخالية من الصور الاعترافية أقرب إلى أن تكون قصيدة في الفخر أو المديح, تجنح للمثال, وتبعد عن واقع الإنسان اذلك الخطّاءب الذي تستبد به المنازع, وتعتري نفسه شتى الأحوال. وفي الاعتراف تكون زاوية الرؤية أو التبئير Focalization - بالتعبير السردي - في أعلى درجاته سطوعاً, ويغلب أن يكون التبئير داخلياً, فالسارد محدد ومعروف سلفاً, وهو المؤلف, لا يقدم إلا ما تعلمه الشخصية, وما تدركه بمعنى من المعاني.
ويسعى السارد إلى رفع الالتباس, فتحضُر الهوية صريحة, وطبيعية بلا رتوش, ويتم التعرّف عليها, والتعريف بها, ولعلها أجلى فائدة يمكن الظفر بها من خلال الاعتراف, فالسارد يستدعي, ويستبطن, ويفسّر, ويحاول النفاذ إلى الجوهر, وينقد الهوية نقداً ذاتياً, ثم يتجاوز الأحداث العامة الخامدة, ليمسك بالوقائع المهمة, وعند ذاك يحصل تعريف الهوية على أكثر من مستوى: هوية الكاتب, والكتابة, وهوية المجتمع الذي يؤثر ويتأثر, ويحتضن سلباً وإيجاباً الهويتين معاً.
وتنطلق المقاربة التي تصل الهوية بالسرد والاعتراف, لدى الناقد عبدالله إبراهيم من النظر إلى الكتابة ابوصفها حواراً, وبحثاً, واعترافاً, وإعادة تعريف بالهويةب, فالتركيز على البعد االجوّانيب لشخصيات السيرة يراه االمادة الأكثر أهمية في أدب الاعتراف, وليس الأحداث الخارجية المشاعة بين الجميع, وقد نهلت الآداب السردية من هذه المنطقة شبه المحرّمة, وبيّنتْ موقع الكاتب في مجتمعه, وهويته, ورؤيته للعالمب.
وهذا القران الحاصل بين الاعتراف, وتعريف الهوية بمستوياتها الفردية والجماعية - من منظور التلقي - في حركة دائبة, وأخذ وردٍّ بين حالة التوق إلى البوح والكشف, وحالة الستر والإخفاء, ثم تردد صورة الهوية بين صورة الكاتب البطل المبرّأ من العيوب, وصورة الشخصية البشرية حين تتعثر وتسقط, وتضل الطريق, وبهذا فإن هوية الكاتب ليست ثابتة في كل الأحوال, ولا في كل المراحل, وما ينبغي لها أن تركن إلى الجمود, فالكاتب اصيرورة من التحولات التي لا تنتهي, ولا يُعاب على المرء الوقوع في الخطأ, إنما يعاب عليه نكرانه له, أو عدم تخطّيه, فلا ينبغي الخوف, أو حتى الخجل, من اقتراف الكاتب للخطأ, ولكن يحسب عليه تقبّله, والتعايش معه, فالانزلاق إلى الخطأ أمر تصعب السيطرة عليه بسبب تحول الوعي الخاص بالكاتب من درجة إلى أخرى, وبين مرحلة وأخرى, وصولاً إلى ما يصطلح عليه لوكاش بـ االوعي الأصيلب بنفسه وعالمه, وذلك يتأخر كثيراً, وقد لا يأتي أبداً.
لكن التلقي أيضا, بآلياته الجديدة, وانفتاح آفاقه, لم يعد جامداً, أو ثابتاً عند صورة نمطية للكاتب, واعتراه ما اعترى الكاتب من تحولات, وصار في مقدور المتلقي التخلي عن صورة الكاتب الرمز, والقبول بصورة الكاتب الإنسان في حالي سقوطه وصعوده, وعلى وجه أخص مع بروز ثورة المعرفة الحديثة, التي انطلقت عبر آليات واسعة من التواصل, والاتصال الرقمي, وألفة التعرف على البعيد, والعصي من حيوات الآخرين.
وقد حدث تحوّل بارز في علاقة الاعتراف بالهوية مع اعترافات جان جاك روسو
(ت. 1778م), فبعد أن كانت الاعترافات طقساً دينياً, من أجل التطهر, وإظهار عظمة خالق الوجود (اعترافات القديس أوغسطينوس مثالاً), أحدثت اعترافات الأديب الفرنسي تغييراً جوهرياً في مفهوم الاعتراف وأسلوبه, فأصبح اعترافاً إنسانياً, يخاطب الناس في المقام الأول, ويهدف إلى جلاء الحقيقة, حقيقة الذات, والمجتمع الذي تتحرك فيه, يقول روسو في مستهل اعترافاته: اأنا اليوم قادم على أمر لم يسبق إليه سابق, ولن يلحق به لاحق, أنا مزمع على أن أجلو لإخواني بني الإنسان إنساناً على حقيقته, وفي صميم طينته, وهذا الإنسان هو أنا..ب.
اتخذ روسو من ذاته معبراً للنفاذ إلى الذات الإنسانية, وتقديم العالم الداخلي للنفس, وظلّ مشغولاً بذلك زمناً طويلاً, ففي نصه الأخير اتأملات لمتجول وحيدب الذي نشر بعد وفاته, بدا ذلك الباحث عن حقيقة نفسه, الراغب في العزلة من أجل الاكتشاف, ودراسة شخصه, وهكذا استسلم اللذة التحاور مع الروحب على حد تعبيره (د. سليمان الشطي: إضاءة, مجلة الكويت, يونيو 2012).
خارج المكان
إن سؤال الذات لا يتوانى في الظهور بالسير الذاتية الصريحة, فارتباك الهوية كان ماثلاً في اخارج المكانب لإدوارد سعيد (ت. 2003م), وهي السيرة الذاتية أو المذكرات التي كتبها إثر إصابته بسرطان الدم, وفي أثناء فترات العلاج, بان الارتباك والتردد المُلحّان الضاغطان على النفس, فرصدتهما افتتاحية الفصل الأول, بل أضاءتهما مقدمة المؤلف للطبعة العربية, يقول في المقدمة:
اأما في حالتي أنا, فالفارق بين الإنجليزية والعربية يتخذ شكل توتر حاد غير محسوم, بين عالمين مختلفين كلياً, بل متعاديَيْن: العالم الذي تنتمي إليه عائلتي وتاريخي وبيئتي وذاتي الأولية الحميمة - وهي كلها عربية - من جهة, وعالم تربيتي الكولونياليّ, وأذواقي وحساسياتي المكتسبة, ومجمل حياتي المهنية معلِّمًا وكاتباً من جهة أخرى. لم يُعْفني هذا النزاعُ منه يوماً واحداً, ولم أحظَ بلحظة راحةٍ واحدةٍ من ضغط واحدة من هاتين اللغتين على الأخرى, ولا نعمتُ مرةً بشعور من التناغم بين ماهيتي على صعيد أول, وصيرورتي على صعيد آخر, وهكذا فالكتابة عندي فعلُ استذكارٍ, وهي إلى ذلك, فعلُ نسيانب.
تم الاستذكار والنسيان في آن واحد, من أجل إنجاز عملية البحث عن الهوية وتحققها, تم ذلك تحت سقف التوتر والارتباك, والضـــــغــــط والتــــــنازع, والمفارقة والتناقض, ولم يتوقف هذا البحث عند مظهر التردد بين لغتين أو استبدال اللغة الجديدة بالقديمة, فقد امتد إلى مظاهر أخرى, من أقربها اسم المؤلف ذاته أو اسم السارد, يقول: اهكذا كان يلزمني قرابة خمسين سنة؛ لكي أعتاد على إدوارد, وأخفف من الحرج الذي يسببه لي هذا الاسمُ الإنجليزيُّ الأخرق الذي وُضِع كالنير على عاتق سعيد اسم العائلة العربيّ القحّ. صحيح أن أمي أبلغتني أني سُمّيتُ إدوارد على اسم أمير بلاد الغال (وارث العرش البريطاني) الذي كان نجمه لامعاً عام 1935, وهو عام مولدي, وأن سعيد هو اسم عدد من العمومة وأبناء العم, وخلال سنوات من محاولاتي المزاوجةَ بين اسمي الإنجليزيّ المفخّم وشريكه العربيّ, كنتُ أتجاوز إدوارد، وأؤكد على سعيد تبعاً للظروف, وأحياناً أفعل العكس, أو كنت أعمد إلى لفظ الاسمين معاً بسرعة فائقة بحيث يختلط الأمرُ على السامع, والأمر الوحيد الذي لم أكن أطيقه, مع اضطراري إلى تحمله, هو ردود الفعل المتشككة والمدمِّرة التي كنت أتلقّاها: إدوارد؟ سعيد؟ب.
يتجه درس الهوية في اخارج المكانب إلى استيعاب أمرين مهمين, بالنسبة لمؤلفها, الأول: حركية الهوية الشخصية؛ فهي تتكون من تيارات واتجاهات, لم يمر بها السارد دفعة واحدة, بل عبر مراحل زمنية متعاقبة, تعرّضت فيها كتاباته إلى انزياحات وتحولات, لم ينكر وجودها يوماً.
أما الأمر الثاني فهو الشك في فكرة الهوية الأحادية, خاصة أن المفارقة ظاهرة في عملية إنتاج السيرة أو المذكرات ذاتها, إنه يستذكر نشأته العربية, ليعيد صياغتها بلغة إنجليزية, أي إن الذاكرة عربية, والسرد إنجليزي, وهذه العملية تطرح سؤالاً عن كيفية استيعاب لغة الآخر لحياة الذات, وإلى أي مدى يكون هذا الاستيعاب وافياً؟ لكن التعدد في الهوية مثّل لديه نافذة للانفتاح على الآفاق الرحبة للحوار بين الثقافات.
ليس هذا فحسب؛ فقد قاده هذا الدرس إلى منطقة الاعتراف, وإلى أن تكون الصراحة إحدى سمات اخارج المكانب, وهي السيرة التي تعقّبت تحولات حياته منذ الميلاد, وحتى زمن حصوله على الدكتوراه في عام 1962.
إسطنبول... باموق
الكتابة هوية أيضاً, من دون الوصول إلى ساحلها حوارات واعترافات, وتجلّى ذلك لدى الروائي التركي الحاصل على انوبلب، أورهان باموق, في سيرته اإسطنبول الذكريات والمدينةب, وعلى وجه أخص في الفصل السابع والثلاثين الذي جاء بعنوان امحادثة مع أمي: الصبر والحذر والفنب. كان المستقبل الغامض لطالب الهندسة المعمارية أورهان هو موضوع الحوارات الليلية الطويلة للسارد مع أمه, وما لبثت أن تحوّلت إلى جدل مرير, وأزمة هوية. إنه من صميم قلبه يقول:
اإنني لا يمكن أن أكون مهندساً معمارياً..ب, وفي الوقت نفسه: ارأيتُ حبي للرسم يموت, وشعرتُ بالخواء المؤلم الذي خلّفه وراءهب والا يمكن أن أستمر إلى الأبد في قراءة الكتب والروايات حتى الصباح, أو قضاء الليالي في التجول في الشوارعب.
وأمام فداحة الأزمة وخطورتها على حياة السارد, تستعين الأم بسرود استعادية, لها أكثر من وجهة:
سرد شخصي يخصُّ حياتها التعليمية: اكنتُ مثلك وأنا صغيرة, كنت أهرب من الحياة...ب، سرد عائلي اعترافي يخصُّ الزوج (والد السارد), وخيانته الزوجية ابعد بحث طويل نجحت أمي في أن تعثر على المكان الذي يقابل فيه أبي عشيقته..ب، سرد غيري يخصُّ الرسام التركي المشهور, وعبرة قصته مع الرسم الن تتمنى أن تصبح رساماً في هذه البلاد يا بنيّ...ب.
توسّلت الأم بكل هذه السرود لإقناع الابن بأن يكون اطبيعياً, وعادياً, مثل الآخرينب، ومازالت الأم تتحدث اعليك أن تكون غنياً, لذلك لا تتخلّ عن دراسة العمارة يا بني..ب, ثم اقتضت اللحظة الحاسمة في تحديد المستقبل/ المصير/ الهوية الحيوية, حضور الداخل والخارج, الذكريات والمدينة, فكانت أشبه بلحظة التنوير في دراما نفسية, تتضافر فيها كل العناصر من أجل الوصول إليها, وبها تُختتم سيرة أورهان باموق:
اشوارع بيه أوغلو, وزواياها المظلمة, ورغبتي في أن أجري بعيداً, وشعوري بالذنب، كل ذلك كان يومض ويخبو مثل أضواء النيون في رأسي, عرفت حينها أنني لن أتشاجر أنا وأمي في تلك الليلة, وفي دقائق معدودات كنت أفتح الباب وأهرب إلى الشوارع المخزية في المدينة؛ وبعد أن تجولتُ حتى منتصف الليل عدتُ إلى البيت, وجلست أمام طاولتي, وسجلّتُ كيمياءها على الورق. قلتُ: لا أريد أن أكون رساماً, سأكون كاتباًب.
كان الاعتراف جسراً للوصول إلى هوية الكتابة, واستدعاه الصراع الواقع بين هويتين من مستويين مختلفين: هوية اجتماعية, وهوية ذاتية؛ فالأم من خلال سرد متشعب الألم تريدها هوية اجتماعية, تقليدية, قادرة على التعايش مع الواقع التركي في ذلك الوقت. أما الابن فقد أرادها هوية تخص الذات, مغايرة, متحققة في الرسم أو الكتابة, ولا بديل.
هذا الصراع آزره حضور طاغ للمدينة إسطنبول (الموزعة بين آسيا وأوربا), مكان إقامة, وموضوع كتابة, وربما كان لانشغال باموق بالهوية الذاتية الكتابية, أثرٌ في انشغاله بالهوية الكبرى في رواياته وكتاباته, أعني هوية وطنه تركيا, وبمعنى أدق هوياتها المتعددة, المشدودة بين جناحي التراث والمعاصرة >