الاعتراف والهوية

الاعتراف والهوية

لا‭ ‬تنفصل‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ - ‬بآفاقها‭ ‬السردية‭ - ‬لكاتب‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬عن‭ ‬نصوصه‭ ‬الأدبية‭ ‬الأخرى،‭ ‬ويمثل‭ ‬النص‭ ‬السيري‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬نصاً‭ ‬موازياً،‭ ‬وشارحاً،‭ ‬ومحققاً،‭ ‬وقارئاً‭ ‬لأدب‭ ‬صاحب‭ ‬السيرة،‭ ‬ولمجتمعه‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬فترات‭ ‬تاريخه‭.‬

ومنطقة‭ ‬الاعتراف‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬أكثر‭ ‬المناطق‭ ‬تفاعلاً‭ ‬وتوتراً،‭ ‬وكشفاً‭ ‬وفائدة،‭ ‬تتهاوى‭ ‬عندها‭ ‬أقنعة‭ ‬الشخوص‭ ‬الروائية،‭ ‬ويتناءى‭ ‬عنها‭ ‬اليومي‭ ‬والعادي،‭ ‬وتضحى‭ ‬مركز‭ ‬الضوء‭ ‬والحقيقة،‭ ‬وبهدي‭ ‬من‭ ‬أشعة‭ ‬هذا‭ ‬المركز‭ ‬تُرصد‭ ‬حركة‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬الموازية،‭ ‬وتُسْتجلى‭ ‬بذور‭ ‬التكوين‭.‬

  ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬الاعترافية‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬الفخر‭ ‬أو‭ ‬المديح‭, ‬تجنح‭ ‬للمثال‭, ‬وتبعد‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬الإنسان‭ ‬اذلك‭ ‬الخطّاءب‭ ‬الذي‭ ‬تستبد‭ ‬به‭ ‬المنازع‭, ‬وتعتري‭ ‬نفسه‭ ‬شتى‭ ‬الأحوال‭. ‬وفي‭ ‬الاعتراف‭ ‬تكون‭ ‬زاوية‭ ‬الرؤية‭ ‬أو‭ ‬التبئير‭ ‬Focalization‭ - ‬بالتعبير‭ ‬السردي‭ - ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬درجاته‭ ‬سطوعاً‭, ‬ويغلب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬التبئير‭ ‬داخلياً‭, ‬فالسارد‭ ‬محدد‭ ‬ومعروف‭ ‬سلفاً‭, ‬وهو‭ ‬المؤلف‭, ‬لا‭ ‬يقدم‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬تعلمه‭ ‬الشخصية‭, ‬وما‭ ‬تدركه‭ ‬بمعنى‭ ‬من‭ ‬المعاني‭.‬

  ‬ويسعى‭ ‬السارد‭ ‬إلى‭ ‬رفع‭ ‬الالتباس‭, ‬فتحضُر‭ ‬الهوية‭ ‬صريحة‭, ‬وطبيعية‭ ‬بلا‭ ‬رتوش‭, ‬ويتم‭ ‬التعرّف‭ ‬عليها‭, ‬والتعريف‭ ‬بها‭, ‬ولعلها‭ ‬أجلى‭ ‬فائدة‭ ‬يمكن‭ ‬الظفر‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاعتراف‭, ‬فالسارد‭ ‬يستدعي‭, ‬ويستبطن‭, ‬ويفسّر‭, ‬ويحاول‭ ‬النفاذ‭ ‬إلى‭ ‬الجوهر‭, ‬وينقد‭ ‬الهوية‭ ‬نقداً‭ ‬ذاتياً‭, ‬ثم‭ ‬يتجاوز‭ ‬الأحداث‭ ‬العامة‭ ‬الخامدة‭, ‬ليمسك‭ ‬بالوقائع‭ ‬المهمة‭, ‬وعند‭ ‬ذاك‭ ‬يحصل‭ ‬تعريف‭ ‬الهوية‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مستوى‭: ‬هوية‭ ‬الكاتب‭, ‬والكتابة‭, ‬وهوية‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يؤثر‭ ‬ويتأثر‭, ‬ويحتضن‭ ‬سلباً‭ ‬وإيجاباً‭ ‬الهويتين‭ ‬معاً‭.‬

وتنطلق‭ ‬المقاربة‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬الهوية‭ ‬بالسرد‭ ‬والاعتراف‭, ‬لدى‭ ‬الناقد‭ ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم‭ ‬من‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬ابوصفها‭ ‬حواراً‭, ‬وبحثاً‭, ‬واعترافاً‭, ‬وإعادة‭ ‬تعريف‭ ‬بالهويةب‭, ‬فالتركيز‭ ‬على‭ ‬البعد‭ ‬االجوّانيب‭ ‬لشخصيات‭ ‬السيرة‭ ‬يراه‭ ‬االمادة‭ ‬الأكثر‭ ‬أهمية‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الاعتراف‭, ‬وليس‭ ‬الأحداث‭ ‬الخارجية‭ ‬المشاعة‭ ‬بين‭ ‬الجميع‭, ‬وقد‭ ‬نهلت‭  ‬الآداب‭ ‬السردية‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬شبه‭ ‬المحرّمة‭, ‬وبيّنتْ‭ ‬موقع‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬مجتمعه‭, ‬وهويته‭, ‬ورؤيته‭ ‬للعالمب‭.‬

  ‬وهذا‭ ‬القران‭ ‬الحاصل‭ ‬بين‭ ‬الاعتراف‭, ‬وتعريف‭ ‬الهوية‭ ‬بمستوياتها‭ ‬الفردية‭ ‬والجماعية‭ - ‬من‭ ‬منظور‭ ‬التلقي‭ - ‬في‭ ‬حركة‭ ‬دائبة‭, ‬وأخذ‭ ‬وردٍّ‭ ‬بين‭ ‬حالة‭ ‬التوق‭ ‬إلى‭ ‬البوح‭ ‬والكشف‭, ‬وحالة‭ ‬الستر‭ ‬والإخفاء‭, ‬ثم‭ ‬تردد‭ ‬صورة‭ ‬الهوية‭ ‬بين‭ ‬صورة‭ ‬الكاتب‭ ‬البطل‭ ‬المبرّأ‭ ‬من‭ ‬العيوب‭, ‬وصورة‭ ‬الشخصية‭ ‬البشرية‭ ‬حين‭ ‬تتعثر‭ ‬وتسقط‭, ‬وتضل‭ ‬الطريق‭, ‬وبهذا‭ ‬فإن‭ ‬هوية‭ ‬الكاتب‭ ‬ليست‭ ‬ثابتة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭, ‬ولا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المراحل‭, ‬وما‭ ‬ينبغي‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تركن‭ ‬إلى‭ ‬الجمود‭, ‬فالكاتب‭ ‬اصيرورة‭ ‬من‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭, ‬ولا‭ ‬يُعاب‭ ‬على‭ ‬المرء‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬الخطأ‭, ‬إنما‭ ‬يعاب‭ ‬عليه‭ ‬نكرانه‭ ‬له‭, ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬تخطّيه‭, ‬فلا‭ ‬ينبغي‭ ‬الخوف‭, ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الخجل‭, ‬من‭ ‬اقتراف‭ ‬الكاتب‭ ‬للخطأ‭, ‬ولكن‭ ‬يحسب‭ ‬عليه‭ ‬تقبّله‭, ‬والتعايش‭ ‬معه‭, ‬فالانزلاق‭ ‬إلى‭ ‬الخطأ‭ ‬أمر‭ ‬تصعب‭ ‬السيطرة‭ ‬عليه‭ ‬بسبب‭ ‬تحول‭ ‬الوعي‭ ‬الخاص‭ ‬بالكاتب‭ ‬من‭ ‬درجة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭, ‬وبين‭ ‬مرحلة‭ ‬وأخرى‭, ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يصطلح‭ ‬عليه‭ ‬لوكاش‭ ‬بـ‭ ‬االوعي‭ ‬الأصيلب‭ ‬بنفسه‭ ‬وعالمه‭, ‬وذلك‭ ‬يتأخر‭ ‬كثيراً‭, ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬يأتي‭ ‬أبداً‭.‬

  ‬لكن‭ ‬التلقي‭ ‬أيضا‭, ‬بآلياته‭ ‬الجديدة‭, ‬وانفتاح‭ ‬آفاقه‭, ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬جامداً‭, ‬أو‭ ‬ثابتاً‭ ‬عند‭ ‬صورة‭ ‬نمطية‭ ‬للكاتب‭, ‬واعتراه‭ ‬ما‭ ‬اعترى‭ ‬الكاتب‭ ‬من‭ ‬تحولات‭, ‬وصار‭ ‬في‭ ‬مقدور‭ ‬المتلقي‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬صورة‭ ‬الكاتب‭ ‬الرمز‭, ‬والقبول‭ ‬بصورة‭ ‬الكاتب‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬حالي‭ ‬سقوطه‭ ‬وصعوده‭, ‬وعلى‭ ‬وجه‭ ‬أخص‭ ‬مع‭ ‬بروز‭ ‬ثورة‭ ‬المعرفة‭ ‬الحديثة‭, ‬التي‭ ‬انطلقت‭ ‬عبر‭ ‬آليات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬التواصل‭, ‬والاتصال‭ ‬الرقمي‭, ‬وألفة‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬البعيد‭, ‬والعصي‭ ‬من‭ ‬حيوات‭ ‬الآخرين‭.‬

  ‬وقد‭ ‬حدث‭ ‬تحوّل‭ ‬بارز‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالهوية‭ ‬مع‭ ‬اعترافات‭ ‬جان‭ ‬جاك‭ ‬روسو‭ ‬
‭(‬ت‭. ‬1778م‭), ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬الاعترافات‭ ‬طقساً‭ ‬دينياً‭, ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التطهر‭, ‬وإظهار‭ ‬عظمة‭ ‬خالق‭ ‬الوجود‭ (‬اعترافات‭ ‬القديس‭ ‬أوغسطينوس‭ ‬مثالاً‭), ‬أحدثت‭ ‬اعترافات‭ ‬الأديب‭ ‬الفرنسي‭ ‬تغييراً‭ ‬جوهرياً‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الاعتراف‭ ‬وأسلوبه‭, ‬فأصبح‭ ‬اعترافاً‭ ‬إنسانياً‭, ‬يخاطب‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭, ‬ويهدف‭ ‬إلى‭ ‬جلاء‭ ‬الحقيقة‭, ‬حقيقة‭ ‬الذات‭, ‬والمجتمع‭ ‬الذي‭ ‬تتحرك‭ ‬فيه‭, ‬يقول‭ ‬روسو‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬اعترافاته‭: ‬اأنا‭ ‬اليوم‭ ‬قادم‭ ‬على‭ ‬أمر‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬إليه‭ ‬سابق‭, ‬ولن‭ ‬يلحق‭ ‬به‭ ‬لاحق‭, ‬أنا‭ ‬مزمع‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أجلو‭ ‬لإخواني‭ ‬بني‭ ‬الإنسان‭ ‬إنساناً‭ ‬على‭ ‬حقيقته‭, ‬وفي‭ ‬صميم‭ ‬طينته‭, ‬وهذا‭ ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬أنا‭..‬ب‭.‬

اتخذ‭ ‬روسو‭ ‬من‭ ‬ذاته‭ ‬معبراً‭ ‬للنفاذ‭ ‬إلى‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية‭, ‬وتقديم‭ ‬العالم‭ ‬الداخلي‭ ‬للنفس‭, ‬وظلّ‭ ‬مشغولاً‭ ‬بذلك‭ ‬زمناً‭ ‬طويلاً‭, ‬ففي‭ ‬نصه‭ ‬الأخير‭ ‬اتأملات‭ ‬لمتجول‭ ‬وحيدب‭ ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭, ‬بدا‭ ‬ذلك‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬نفسه‭, ‬الراغب‭ ‬في‭ ‬العزلة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الاكتشاف‭, ‬ودراسة‭ ‬شخصه‭, ‬وهكذا‭ ‬استسلم‭ ‬اللذة‭ ‬التحاور‭ ‬مع‭ ‬الروحب‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبيره‭ (‬د‭. ‬سليمان‭ ‬الشطي‭: ‬إضاءة‭, ‬مجلة‭ ‬الكويت‭, ‬يونيو‭ ‬2012‭).‬

 

خارج‭ ‬المكان‭ ‬

إن‭ ‬سؤال‭ ‬الذات‭ ‬لا‭ ‬يتوانى‭ ‬في‭ ‬الظهور‭ ‬بالسير‭ ‬الذاتية‭ ‬الصريحة‭, ‬فارتباك‭ ‬الهوية‭ ‬كان‭ ‬ماثلاً‭ ‬في‭ ‬اخارج‭ ‬المكانب‭ ‬لإدوارد‭ ‬سعيد‭ (‬ت‭. ‬2003م‭), ‬وهي‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬أو‭ ‬المذكرات‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬إثر‭ ‬إصابته‭ ‬بسرطان‭ ‬الدم‭, ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬فترات‭ ‬العلاج‭, ‬بان‭ ‬الارتباك‭ ‬والتردد‭ ‬المُلحّان‭ ‬الضاغطان‭ ‬على‭ ‬النفس‭, ‬فرصدتهما‭ ‬افتتاحية‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭, ‬بل‭ ‬أضاءتهما‭ ‬مقدمة‭ ‬المؤلف‭ ‬للطبعة‭ ‬العربية‭, ‬يقول‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭:‬

‭ ‬اأما‭ ‬في‭ ‬حالتي‭ ‬أنا‭, ‬فالفارق‭ ‬بين‭ ‬الإنجليزية‭ ‬والعربية‭ ‬يتخذ‭ ‬شكل‭ ‬توتر‭ ‬حاد‭ ‬غير‭ ‬محسوم‭, ‬بين‭ ‬عالمين‭ ‬مختلفين‭ ‬كلياً‭, ‬بل‭ ‬متعاديَيْن‭: ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬تنتمي‭ ‬إليه‭ ‬عائلتي‭ ‬وتاريخي‭ ‬وبيئتي‭ ‬وذاتي‭ ‬الأولية‭ ‬الحميمة‭ - ‬وهي‭ ‬كلها‭ ‬عربية‭ - ‬من‭ ‬جهة‭, ‬وعالم‭ ‬تربيتي‭ ‬الكولونياليّ‭, ‬وأذواقي‭ ‬وحساسياتي‭ ‬المكتسبة‭, ‬ومجمل‭ ‬حياتي‭ ‬المهنية‭ ‬معلِّمًا‭ ‬وكاتباً‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬لم‭ ‬يُعْفني‭ ‬هذا‭ ‬النزاعُ‭ ‬منه‭ ‬يوماً‭ ‬واحداً‭, ‬ولم‭ ‬أحظَ‭ ‬بلحظة‭ ‬راحةٍ‭ ‬واحدةٍ‭ ‬من‭ ‬ضغط‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬هاتين‭ ‬اللغتين‭ ‬على‭ ‬الأخرى‭, ‬ولا‭ ‬نعمتُ‭ ‬مرةً‭ ‬بشعور‭ ‬من‭ ‬التناغم‭ ‬بين‭ ‬ماهيتي‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬أول‭, ‬وصيرورتي‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬آخر‭, ‬وهكذا‭ ‬فالكتابة‭ ‬عندي‭ ‬فعلُ‭ ‬استذكارٍ‭, ‬وهي‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭, ‬فعلُ‭ ‬نسيانب‭.‬

تم‭ ‬الاستذكار‭ ‬والنسيان‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭, ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إنجاز‭ ‬عملية‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭ ‬وتحققها‭, ‬تم‭ ‬ذلك‭ ‬تحت‭ ‬سقف‭ ‬التوتر‭ ‬والارتباك‭, ‬والضـــــغــــط‭ ‬والتــــــنازع‭, ‬والمفارقة‭ ‬والتناقض‭, ‬ولم‭ ‬يتوقف‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬عند‭ ‬مظهر‭ ‬التردد‭ ‬بين‭ ‬لغتين‭ ‬أو‭ ‬استبدال‭ ‬اللغة‭ ‬الجديدة‭ ‬بالقديمة‭, ‬فقد‭ ‬امتد‭ ‬إلى‭ ‬مظاهر‭ ‬أخرى‭, ‬من‭ ‬أقربها‭ ‬اسم‭ ‬المؤلف‭ ‬ذاته‭ ‬أو‭ ‬اسم‭ ‬السارد‭, ‬يقول‭: ‬اهكذا‭ ‬كان‭ ‬يلزمني‭ ‬قرابة‭ ‬خمسين‭ ‬سنة؛‭ ‬لكي‭ ‬أعتاد‭ ‬على‭ ‬إدوارد‭, ‬وأخفف‭ ‬من‭ ‬الحرج‭ ‬الذي‭ ‬يسببه‭ ‬لي‭ ‬هذا‭ ‬الاسمُ‭ ‬الإنجليزيُّ‭ ‬الأخرق‭ ‬الذي‭ ‬وُضِع‭ ‬كالنير‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬سعيد‭ ‬اسم‭ ‬العائلة‭ ‬العربيّ‭ ‬القحّ‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬أمي‭ ‬أبلغتني‭ ‬أني‭ ‬سُمّيتُ‭ ‬إدوارد‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬أمير‭ ‬بلاد‭ ‬الغال‭ (‬وارث‭ ‬العرش‭ ‬البريطاني‭) ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬نجمه‭ ‬لامعاً‭ ‬عام‭ ‬1935‭, ‬وهو‭ ‬عام‭ ‬مولدي‭, ‬وأن‭ ‬سعيد‭ ‬هو‭ ‬اسم‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬العمومة‭ ‬وأبناء‭ ‬العم‭, ‬وخلال‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬محاولاتي‭ ‬المزاوجةَ‭ ‬بين‭ ‬اسمي‭ ‬الإنجليزيّ‭ ‬المفخّم‭ ‬وشريكه‭ ‬العربيّ‭, ‬كنتُ‭ ‬أتجاوز‭ ‬إدوارد،‭ ‬وأؤكد‭ ‬على‭ ‬سعيد‭ ‬تبعاً‭ ‬للظروف‭, ‬وأحياناً‭ ‬أفعل‭ ‬العكس‭, ‬أو‭ ‬كنت‭ ‬أعمد‭ ‬إلى‭ ‬لفظ‭ ‬الاسمين‭ ‬معاً‭ ‬بسرعة‭ ‬فائقة‭ ‬بحيث‭ ‬يختلط‭ ‬الأمرُ‭ ‬على‭ ‬السامع‭, ‬والأمر‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أطيقه‭, ‬مع‭ ‬اضطراري‭ ‬إلى‭ ‬تحمله‭, ‬هو‭ ‬ردود‭ ‬الفعل‭ ‬المتشككة‭ ‬والمدمِّرة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أتلقّاها‭: ‬إدوارد؟‭ ‬سعيد؟ب‭.‬

  ‬يتجه‭ ‬درس‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬اخارج‭ ‬المكانب‭ ‬إلى‭ ‬استيعاب‭ ‬أمرين‭ ‬مهمين‭, ‬بالنسبة‭ ‬لمؤلفها‭, ‬الأول‭: ‬حركية‭ ‬الهوية‭ ‬الشخصية؛‭ ‬فهي‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬تيارات‭ ‬واتجاهات‭, ‬لم‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬السارد‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة‭, ‬بل‭ ‬عبر‭ ‬مراحل‭ ‬زمنية‭ ‬متعاقبة‭, ‬تعرّضت‭ ‬فيها‭ ‬كتاباته‭ ‬إلى‭ ‬انزياحات‭ ‬وتحولات‭, ‬لم‭ ‬ينكر‭ ‬وجودها‭ ‬يوماً‭.‬

أما‭ ‬الأمر‭ ‬الثاني‭ ‬فهو‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬فكرة‭ ‬الهوية‭ ‬الأحادية‭, ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬المفارقة‭ ‬ظاهرة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬إنتاج‭ ‬السيرة‭ ‬أو‭ ‬المذكرات‭ ‬ذاتها‭, ‬إنه‭ ‬يستذكر‭ ‬نشأته‭ ‬العربية‭, ‬ليعيد‭ ‬صياغتها‭ ‬بلغة‭ ‬إنجليزية‭, ‬أي‭ ‬إن‭ ‬الذاكرة‭ ‬عربية‭, ‬والسرد‭ ‬إنجليزي‭, ‬وهذه‭ ‬العملية‭ ‬تطرح‭ ‬سؤالاً‭ ‬عن‭ ‬كيفية‭ ‬استيعاب‭ ‬لغة‭ ‬الآخر‭ ‬لحياة‭ ‬الذات‭, ‬وإلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الاستيعاب‭ ‬وافياً؟‭ ‬لكن‭ ‬التعدد‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬مثّل‭ ‬لديه‭ ‬نافذة‭ ‬للانفتاح‭ ‬على‭ ‬الآفاق‭ ‬الرحبة‭ ‬للحوار‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭.‬

  ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب؛‭ ‬فقد‭ ‬قاده‭ ‬هذا‭ ‬الدرس‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬الاعتراف‭, ‬وإلى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الصراحة‭ ‬إحدى‭ ‬سمات‭ ‬اخارج‭ ‬المكانب‭, ‬وهي‭ ‬السيرة‭ ‬التي‭ ‬تعقّبت‭ ‬تحولات‭ ‬حياته‭ ‬منذ‭ ‬الميلاد‭, ‬وحتى‭ ‬زمن‭ ‬حصوله‭ ‬على‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1962‭.‬

 

إسطنبول‭... ‬باموق

الكتابة‭ ‬هوية‭ ‬أيضاً‭, ‬من‭ ‬دون‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬ساحلها‭ ‬حوارات‭ ‬واعترافات‭, ‬وتجلّى‭ ‬ذلك‭ ‬لدى‭ ‬الروائي‭ ‬التركي‭ ‬الحاصل‭ ‬على‭ ‬انوبلب،‭ ‬أورهان‭ ‬باموق‭, ‬في‭ ‬سيرته‭ ‬اإسطنبول‭ ‬الذكريات‭ ‬والمدينةب‭, ‬وعلى‭ ‬وجه‭ ‬أخص‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬السابع‭ ‬والثلاثين‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬بعنوان‭ ‬امحادثة‭ ‬مع‭ ‬أمي‭: ‬الصبر‭ ‬والحذر‭ ‬والفنب‭. ‬كان‭ ‬المستقبل‭ ‬الغامض‭ ‬لطالب‭ ‬الهندسة‭ ‬المعمارية‭ ‬أورهان‭ ‬هو‭ ‬موضوع‭ ‬الحوارات‭ ‬الليلية‭ ‬الطويلة‭ ‬للسارد‭ ‬مع‭ ‬أمه‭, ‬وما‭ ‬لبثت‭ ‬أن‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬جدل‭ ‬مرير‭, ‬وأزمة‭ ‬هوية‭. ‬إنه‭ ‬من‭ ‬صميم‭ ‬قلبه‭ ‬يقول‭:‬

اإنني‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬مهندساً‭ ‬معمارياً‭..‬ب‭, ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭: ‬ارأيتُ‭ ‬حبي‭ ‬للرسم‭ ‬يموت‭, ‬وشعرتُ‭ ‬بالخواء‭ ‬المؤلم‭ ‬الذي‭ ‬خلّفه‭ ‬وراءهب‭ ‬والا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أستمر‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب‭ ‬والروايات‭ ‬حتى‭ ‬الصباح‭, ‬أو‭ ‬قضاء‭ ‬الليالي‭ ‬في‭ ‬التجول‭ ‬في‭ ‬الشوارعب‭.‬

  ‬وأمام‭ ‬فداحة‭ ‬الأزمة‭ ‬وخطورتها‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬السارد‭, ‬تستعين‭ ‬الأم‭ ‬بسرود‭ ‬استعادية‭, ‬لها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وجهة‭:‬

سرد‭ ‬شخصي‭ ‬يخصُّ‭ ‬حياتها‭ ‬التعليمية‭: ‬اكنتُ‭ ‬مثلك‭ ‬وأنا‭ ‬صغيرة‭, ‬كنت‭ ‬أهرب‭ ‬من‭ ‬الحياة‭...‬ب،‭ ‬سرد‭ ‬عائلي‭ ‬اعترافي‭ ‬يخصُّ‭ ‬الزوج‭ (‬والد‭ ‬السارد‭), ‬وخيانته‭ ‬الزوجية‭ ‬ابعد‭ ‬بحث‭ ‬طويل‭ ‬نجحت‭ ‬أمي‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تعثر‭ ‬على‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يقابل‭ ‬فيه‭ ‬أبي‭ ‬عشيقته‭..‬ب،‭ ‬سرد‭ ‬غيري‭ ‬يخصُّ‭ ‬الرسام‭ ‬التركي‭ ‬المشهور‭, ‬وعبرة‭ ‬قصته‭ ‬مع‭ ‬الرسم‭ ‬الن‭ ‬تتمنى‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬رساماً‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬يا‭ ‬بنيّ‭...‬ب‭. ‬

  ‬توسّلت‭ ‬الأم‭ ‬بكل‭ ‬هذه‭ ‬السرود‭ ‬لإقناع‭ ‬الابن‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬اطبيعياً‭, ‬وعادياً‭, ‬مثل‭ ‬الآخرينب،‭ ‬ومازالت‭ ‬الأم‭ ‬تتحدث‭ ‬اعليك‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬غنياً‭, ‬لذلك‭ ‬لا‭ ‬تتخلّ‭ ‬عن‭ ‬دراسة‭ ‬العمارة‭ ‬يا‭ ‬بني‭..‬ب‭, ‬ثم‭ ‬اقتضت‭ ‬اللحظة‭ ‬الحاسمة‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬المستقبل‭/ ‬المصير‭/ ‬الهوية‭ ‬الحيوية‭, ‬حضور‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج‭, ‬الذكريات‭ ‬والمدينة‭, ‬فكانت‭ ‬أشبه‭ ‬بلحظة‭ ‬التنوير‭ ‬في‭ ‬دراما‭ ‬نفسية‭, ‬تتضافر‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬العناصر‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭, ‬وبها‭ ‬تُختتم‭ ‬سيرة‭ ‬أورهان‭ ‬باموق‭: ‬

اشوارع‭ ‬بيه‭ ‬أوغلو‭, ‬وزواياها‭ ‬المظلمة‭, ‬ورغبتي‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أجري‭ ‬بعيداً‭, ‬وشعوري‭ ‬بالذنب،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬يومض‭ ‬ويخبو‭ ‬مثل‭ ‬أضواء‭ ‬النيون‭ ‬في‭ ‬رأسي‭, ‬عرفت‭ ‬حينها‭ ‬أنني‭ ‬لن‭ ‬أتشاجر‭ ‬أنا‭ ‬وأمي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭, ‬وفي‭ ‬دقائق‭ ‬معدودات‭ ‬كنت‭ ‬أفتح‭ ‬الباب‭ ‬وأهرب‭ ‬إلى‭ ‬الشوارع‭ ‬المخزية‭ ‬في‭ ‬المدينة؛‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تجولتُ‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬الليل‭ ‬عدتُ‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭, ‬وجلست‭ ‬أمام‭ ‬طاولتي‭, ‬وسجلّتُ‭ ‬كيمياءها‭ ‬على‭ ‬الورق‭. ‬قلتُ‭: ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬رساماً‭, ‬سأكون‭ ‬كاتباًب‭.‬

كان‭ ‬الاعتراف‭ ‬جسراً‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬هوية‭ ‬الكتابة‭, ‬واستدعاه‭ ‬الصراع‭ ‬الواقع‭ ‬بين‭ ‬هويتين‭ ‬من‭ ‬مستويين‭ ‬مختلفين‭: ‬هوية‭ ‬اجتماعية‭, ‬وهوية‭ ‬ذاتية؛‭ ‬فالأم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سرد‭ ‬متشعب‭ ‬الألم‭ ‬تريدها‭ ‬هوية‭ ‬اجتماعية‭, ‬تقليدية‭, ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التعايش‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬التركي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬أما‭ ‬الابن‭ ‬فقد‭ ‬أرادها‭ ‬هوية‭ ‬تخص‭ ‬الذات‭, ‬مغايرة‭, ‬متحققة‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬أو‭ ‬الكتابة‭, ‬ولا‭ ‬بديل‭.‬

هذا‭ ‬الصراع‭ ‬آزره‭ ‬حضور‭ ‬طاغ‭ ‬للمدينة‭ ‬إسطنبول‭ (‬الموزعة‭ ‬بين‭ ‬آسيا‭ ‬وأوربا‭), ‬مكان‭ ‬إقامة‭, ‬وموضوع‭ ‬كتابة‭, ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬لانشغال‭ ‬باموق‭ ‬بالهوية‭ ‬الذاتية‭ ‬الكتابية‭, ‬أثرٌ‭ ‬في‭ ‬انشغاله‭ ‬بالهوية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬رواياته‭ ‬وكتاباته‭, ‬أعني‭ ‬هوية‭ ‬وطنه‭ ‬تركيا‭, ‬وبمعنى‭ ‬أدق‭ ‬هوياتها‭ ‬المتعددة‭, ‬المشدودة‭ ‬بين‭ ‬جناحي‭ ‬التراث‭ ‬والمعاصرة‭ >‬