جماليات العلم وفن البحث العلمي

جماليات العلم وفن البحث العلمي

يُعدّ‭ ‬العلم‭ ‬والبحث‭ ‬العلمي‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬فاعليات‭ ‬النشاط‭ ‬الإنساني‭ ‬وأرقاها،‭ ‬سعياً‭ ‬وراء‭ ‬إدراك‭ ‬الأشياء‭ ‬على‭ ‬حقيقتها‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬العقل‭ ‬البشري،‭ ‬باعتباره‭ ‬مناط‭ ‬التكليف‭ ‬وأهم‭ ‬الأدوات‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬هذا‭ ‬النشاط،‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تدريب‭ ‬وإعداد‭ ‬وتوجيه،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالقواعد‭ ‬والخطوات‭ ‬العملية‭ ‬لمنظومة‭ ‬المنهج‭ ‬العلمي‭ ‬الرشيد،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بالأسس‭ ‬الفكرية‭ ‬والفنّية‭ ‬التي‭ ‬تكفل‭ ‬الانتفاع‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬حد،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يستشعر‭ ‬نشوة‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬النواحي‭ ‬الجمالية‭ ‬والجوانب‭ ‬الإنسانية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بقيم‭ ‬الحق‭ ‬والخير‭ ‬والجمال،‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬قوة‭ ‬التوجيه‭ ‬والدفع‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬والتي‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬البشرية‭ ‬غاية‭ ‬سامية‭ ‬لخدمة‭ ‬المجتمع‭ ‬الإنساني‭ ‬بأسره‭. ‬

إذا‭ ‬قصرنا‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصَّدد‭ ‬عن‭ ‬قيمة‭ ‬الجمال‭ ‬وأثره‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬العقل،‭ ‬وتغذية‭ ‬الوجدان،‭ ‬وتقويم‭ ‬السلوك،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬التجربة‭ ‬الجمالية‭ ‬للإنسان‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭ ‬قد‭ ‬أسفرت‭ ‬عن‭ ‬تكوين‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬والأفكار‭ ‬الجمالية‭ ‬التي‭ ‬حددت‭ ‬الإطار‭ ‬العام‭ ‬لما‭ ‬يسمى‭ ‬بعلم‭ ‬الجمال‭ ‬وما‭ ‬يتضمنه‭ ‬من‭ ‬مذاهب‭ ‬فلسفية‭ ‬وفنية‭ ‬متعددة‭. ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬إحساس‭ ‬الإنسان‭ ‬بالجمال‭ ‬إنما‭ ‬تكفي‭ ‬فيه‭ ‬الفطرة‭ ‬النقية‭ ‬فقط،‭ ‬فما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬استجابة‭ ‬طبيعية‭ ‬للعلاقات‭ ‬المتوافقة‭ ‬والمتوازنة‭ ‬بين‭ ‬الأجزاء‭ ‬والظواهر‭ ‬التي‭ ‬يقع‭ ‬عليها‭ ‬بصره‭ ‬في‭ ‬جنبات‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭ ‬الفسيح‭ ‬الذي‭ ‬خلقه‭ ‬الله‭ ‬–‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬–‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬الترتيب‭ ‬والنظام‭ ‬والكمال‭ ‬والجمال‭. ‬

وقد‭ ‬أكد‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬–‭ ‬فى‭ ‬مواضع‭ ‬كثيرة‭ ‬–‭ ‬أهمية‭ ‬العناصر‭ ‬الجمالية‭ ‬في‭ ‬الكون‭ ‬العجيب‭ ‬التكوين‭ ‬والتلوين،‭ ‬لكي‭ ‬يتدبره‭ ‬العلماء،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬تأمل‭ ‬الجمال‭ ‬الكوني‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬حقيقتها‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬التفوق‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العلوم‭ ‬الكونية‭ ‬المعنية‭ ‬بدراسة‭ ‬ظواهر‭ ‬الكون‭ ‬والحياة‭ ‬للإفادة‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬حياة‭ ‬البشر‭ ‬وفهم‭ ‬أسرار‭ ‬الوجود،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: ‬‭{‬الَّذِي‭ ‬خَلَقَ‭ ‬سَبْعَ‭ ‬سَمَاوَاتٍ‭ ‬طِبَاقًا‭ ‬مَا‭ ‬تَرَى‭ ‬فِي‭ ‬خَلْقِ‭ ‬الرَّحْمنِ‭ ‬مِنْ‭ ‬تَفَاوُتٍ‭ ‬فَارْجِعِ‭ ‬الْبَصَرَ‭ ‬هَلْ‭ ‬تَرَى‭ ‬مِنْ‭ ‬فُطُورٍ‭} (‬سورة‭ ‬الملك‭: ‬2‭) ‬وقال‭ ‬سبحانه‭:‬‭ ‬‭{‬أَلَمْ‭ ‬تَرَ‭ ‬أَنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬أَنْزَلَ‭ ‬مِنَ‭ ‬السَّمَاءِ‭ ‬مَاءً‭ ‬فَأَخْرَجْنَا‭ ‬بِهِ‭ ‬ثَمَرَاتٍ‭ ‬مُخْتَلِفًا‭ ‬أَلْوَانُهَا‭ ‬وَمِنَ‭ ‬الْجِبَالِ‭ ‬جُدَدٌ‭ ‬بِيضٌ‭ ‬وَحُمْرٌ‭ ‬مُخْتَلِفٌ‭ ‬أَلْوَانُهَا‭ ‬وَغَرَابِيبُ‭ ‬سُودٌ‮ ‬‭(‬27‭) ‬وَمِنَ‭ ‬النَّاسِ‭ ‬وَالدَّوَابِّ‭ ‬وَالْأَنْعَامِ‭ ‬مُخْتَلِفٌ‭ ‬أَلْوَانُهُ‭ ‬كَذلِكَ‭ ‬إِنَّمَا‭ ‬يَخْشَى‭ ‬اللَّهَ‭ ‬مِنْ‭ ‬عِبَادِهِ‭ ‬الْعُلَمَاءُ‭ ‬إِنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬عَزِيزٌ‭ ‬غَفُورٌ‭} (‬سورة‭ ‬فاطر‭: ‬27،‭ ‬28‭) ‬

ومن‭ ‬المنطقي‭ ‬أن‭ ‬يقابل‭ ‬هذا‭ ‬الجمال‭ ‬الكوني‭ ‬المقصود‭ ‬قصداً‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬الكائنات‭ ‬بُعدٌ‭ ‬جمالي‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الكون‭ ‬والإنسان،‭ ‬فالمتأمل‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬وما‭ ‬يدور‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬كواكب‭ ‬وشموس‭ ‬وأقمار‭ ‬وما‭ ‬ينشر‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬أفلاك‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يغفل‭ ‬عن‭ ‬زينتها‭ ‬التي‭ ‬نبه‭ ‬إليها‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: ‬‭{‬وَلَقَدْ‭ ‬جَعَلْنَا‭ ‬فِي‭ ‬السَّمَاءِ‭ ‬بُرُوجًا‭ ‬وَزَيَّنَّاهَا‭ ‬لِلنَّاظِرِينَ‭}‬‮ ‬‭(‬سورة‭ ‬الحجر‭: ‬16‭) ‬وعند‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الأنعام‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬فوائدها‭ ‬المادّية‭ ‬وقيمتها‭ ‬كثروة‭ ‬حيوانية،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نحافظ‭ ‬على‭ ‬الصورة‭ ‬الجمالية‭ ‬التي‭ ‬أشار‭ ‬إليها‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬بقوله‭: ‬‭{‬وَالْأَنْعَامَ‭ ‬خَلَقَهَا‭ ‬لَكُمْ‭ ‬فِيهَا‭ ‬دِفْءٌ‭ ‬وَمَنَافِعُ‭ ‬وَمِنْهَا‭ ‬تَأْكُلُونَ‮ ‬‭(‬5‭) ‬وَلَكُمْ‭ ‬فِيهَا‭ ‬جَمَالٌ‭ ‬حِينَ‭ ‬تُرِيحُونَ‭ ‬وَحِينَ‭ ‬تَسْرَحُونَ‭}‬‮ ‬‭(‬سورة‭ ‬النحل‭: ‬5،‭ ‬6‭). ‬وعند‭ ‬استقصاء‭ ‬حكمة‭ ‬الخالق‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬الكون‭ ‬وإنبات‭ ‬النبات،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نستشعر‭ ‬معنى‭ ‬البهجة،‭ ‬التي‭ ‬تشيع‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬النفس‭ ‬عندما‭ ‬ترى‭ ‬منظر‭ ‬الخضرة،‭ ‬مصداقاً‭ ‬لقوله‭ ‬تعالى‭: ‬‭{‬أَمَّنْ‭ ‬خَلَقَ‭ ‬السَّمَاوَاتِ‭ ‬وَالْأَرْضَ‭ ‬وَأَنْزَلَ‭ ‬لَكُمْ‭ ‬مِنَ‭ ‬السَّمَاءِ‭ ‬مَاءً‭ ‬فَأَنْبَتْنَا‭ ‬بِهِ‭ ‬حَدَائِقَ‭ ‬ذَاتَ‭ ‬بَهْجَةٍ‭ ‬مَا‭ ‬كَانَ‭ ‬لَكُمْ‭ ‬أَنْ‭ ‬تُنْبِتُوا‭ ‬شَجَرَهَا‭}‬‭ (‬سورة‭ ‬النمل‭: ‬60‭). ‬والذي‭ ‬يقطف‭ ‬ثمرة‭ ‬ليأكلها‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬أولاً‭ ‬في‭ ‬جمال‭ ‬منظرها‭ ‬وروعة‭ ‬تكوينها‭ ‬يد‭ ‬الخالق‭ ‬وبديع‭ ‬صنعه؛‭ ‬‭{‬انْظُرُوا‭ ‬إِلَى‭ ‬ثَمَرِهِ‭ ‬إِذَا‭ ‬أَثْمَرَ‭ ‬وَيَنْعِهِ‭}‬‭ (‬سورة‭ ‬الأنعام‭: ‬99‭)‬،‭ ‬ولقد‭ ‬ذهب‭ ‬بعض‭ ‬العلماء‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬التقدير‭ ‬القرآني‭ ‬لقيمة‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬الكون‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو،‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الاعتداء‭ ‬على‭ ‬البيئة‭ ‬وتوازنها،‭ ‬والنظر‭ ‬البليد‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬والسماء‭ ‬دون‭ ‬إحساس‭ ‬بالجمال،‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬المعصية‭ ‬ينبغي‭ ‬لفاعله‭ ‬أن‭ ‬يتوب‭ ‬عنه‭. ‬

ولما‭ ‬كان‭ ‬الجمال‭ ‬مقصوداً‭ ‬قصداً‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬الكون،‭ ‬وكان‭ ‬البعد‭ ‬ضرورياً‭ ‬في‭ ‬تعامل‭ ‬الإنسان‭ ‬مع‭ ‬عناصر‭ ‬الكون‭ ‬المختلفة،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬يعيش‭ ‬عليها،‭ ‬والبيئة‭ ‬التي‭ ‬يحيا‭ ‬في‭ ‬كنفها،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التلوث‭ ‬البيئي‭ ‬المختلفة‭ ‬يجب‭ ‬النظر‭ ‬إليه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬اعتداء‭ ‬أثيم‭ ‬على‭ ‬توازن‭ ‬البيئة‭ ‬المحكم،‭ ‬وتشويه‭ ‬متعمد‭ ‬لشكلها‭ ‬الجمالي‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يكون‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬البيئة‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬أشكال‭ ‬التلوث،‭ ‬والإبقاء‭ ‬على‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬صفحات‭ ‬الكون،‭ ‬مطلباً‭ ‬إسلامياً‭ ‬عزيزاً‭ ‬تُستثار‭ ‬لأجله‭ ‬الهمم،‭ ‬وتستحث‭ ‬العزائم‭. ‬وقد‭ ‬شهدت‭ ‬ميادين‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأخيرة‭ ‬ميلاد‭ ‬وتطور‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بـ«العلوم‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬الخضراء‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬وسائل‭ ‬نظيفة‭ ‬وصديقة‭ ‬للبيئة،‭ ‬للحيلولة‭ ‬دون‭ ‬تردّي‭ ‬الوضع‭ ‬البيئي،‭ ‬وكانت‭ ‬البداية‭ ‬العملية‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬باعتماد‭ ‬برنامج‭ ‬وسياسات‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بـ«الكيمياء‭ ‬الخضراء‮»‬‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية؛‭ ‬وهي‭ ‬كيمياء‭ ‬مثالية‭ ‬وجميلة،‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬تطبيقات‭ ‬أنيقة‭ ‬للمركبات‭ ‬والعمليات‭ ‬الكيميائية،‭ ‬تتوافق‭ ‬منها‭ ‬الفعالية‭ ‬مع‭ ‬الأمان‭.‬‭ ‬

 

مواقف‭ ‬الفلاسفة

وإذا‭ ‬استعرضنا‭ ‬مواقف‭ ‬بعض‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والعلماء‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الجمال‭ ‬ومدى‭ ‬تأثرهم‭ ‬بها،‭ ‬فإننا‭ ‬نجد‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬ولم‭ ‬تزل‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬العموم‭ ‬مبدأ‭ ‬أساسياً‭ ‬من‭ ‬مبادئ‭ ‬المعرفة‭ ‬وتحصيلها‭ ‬عبر‭ ‬العصور،‭ ‬ودليلاً‭ ‬يهدي‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬أبحاثهم،‭ ‬بدرجات‭ ‬متفاوتة‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬التأثير‭ ‬والتأثر،‭ ‬وإن‭ ‬شئنا‭ ‬إيراد‭ ‬أمثلة‭ ‬لتوضيح‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬العلوم‭ ‬وسير‭ ‬العلماء،‭ ‬فلنبدأ‭ ‬بالحسن‭ ‬بن‭ ‬الهيثم‭ (‬965-‭ ‬1042م‭) ‬مؤسس‭ ‬المنهج‭ ‬العلمي‭ ‬التجريبي‭ ‬الاستقرائي‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أول‭ ‬تحليل‭ ‬علمي‭ ‬للجمال‭ ‬في‭ ‬المبصرات‭ (‬أي‭ ‬المرئيات‭)‬،‭ ‬تناوله‭ ‬كعالم‭ ‬بصريات‭ ‬ورياضيات،‭ ‬وأيضاً‭ ‬كفيلسوف‭ ‬علم‭ ‬يدرك‭ ‬مسائل‭ ‬الشكل‭ ‬والحجم‭ ‬والتناسب‭: ‬وكلامه‭ ‬مفصَّل‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الذائع‭ ‬الصيت‭ ‬‮«‬المناظر‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬رسالته‭ ‬المنسية‭ ‬المغمورة‭ ‬‮«‬ثمرة‭ ‬الحكمة‮»‬،‭ ‬ويتلخص‭ ‬رأيه‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬المرئيات‭ ‬فيها‭ ‬معانٍ‭ ‬جزئية،‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬انفراد‭ ‬‮«‬يفعل‭ ‬الحُسْن‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬يجعل‭ ‬الشيء‭ ‬حسناً،‭ ‬وهو‭ ‬يفعله‭ ‬أيضاً‭ ‬مقترناً‭ ‬بغيره،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬تناسب‭ ‬مع‭ ‬غيره،‭ ‬فهو‭ ‬هنا‭ ‬يقر‭ ‬بوجود‭ ‬عمق‭ ‬جمالي‭ ‬في‭ ‬الجسم‭ ‬المرئي‭ ‬ذاته،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬إدراك‭ ‬الحسن‭ ‬عنده‭ ‬أمر‭ ‬نفسي،‭ ‬لأنه‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬المعاني‭ ‬الجزئية‭ ‬تفعل‭ ‬الحسن،‭ ‬أي‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬النفس،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬تعبيره‭ ‬‮«‬استحسان‭ ‬الصورة‭ ‬المستحسنة‮»‬‭ ‬ويسهب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬تفصيل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬الجزئية‭ ‬للعناصر‭ ‬الجمالية‭ ‬في‭ ‬الأجسام‭ ‬المرئية‭ ‬من‭ ‬ضوء،‭ ‬ولون،‭ ‬ووضع،‭ ‬وبُعد‭ ‬معين،‭ ‬وتجسُّم،‭ ‬وشكل،‭ ‬وحجم‭ ‬مناسب،‭ ‬وحركة،‭ ‬وشفيف،‭ ‬وتماثل‭ (‬سيمترية‭)‬،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬التناسب‭ ‬والائتلاف‭. ‬وكانت‭ ‬روح‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم،‭ ‬شأنه‭ ‬شأن‭ ‬كل‭ ‬عالم‭ ‬حقيقي،‭ ‬تشرئب‭ ‬إلى‭ ‬إدراك‭ ‬الكون‭ ‬وتخيله‭ ‬على‭ ‬حقيقته،‭ ‬بمنهج‭ ‬علمي‭ ‬رصين،‭ ‬يوصل،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬إلى‭ ‬الحق‭ ‬الذي‭ ‬يثلج‭ ‬به‭ ‬الصدر‭... ‬وإلى‭ ‬الغاية‭ ‬التي‭ ‬عندها‭ ‬يقع‭ ‬اليقين‭... ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ومن‭ ‬الله‭ ‬نستمد‭ ‬المعونة‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأمور‮»‬‭. ‬

لكن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬المادة‭ ‬إلا‭ ‬خواصها‭ ‬الكمية،‭ ‬كالوزن‭ ‬والحجم‭ ‬والشكل‭ ‬والعدد،‭ ‬وحيث‭ ‬إن‭ ‬الجمال‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬جملة‭ ‬هذه‭ ‬الخواص،‭ ‬فإنه‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬خواص‭ ‬المراقب‭ ‬أو‭ ‬المشاهد،‭ ‬لا‭ ‬صفة‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬الأشياء‭ ‬الطبيعية‭ ‬في‭ ‬الكون‭. ‬وقد‭ ‬كتب‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والفيزيائي‭ ‬والرياضي‭ ‬الفرنسي‭ ‬‮«‬رينيه‭ ‬ديكارت‮»‬‭ ‬Rene Descartes‭ (‬1596-1650م‭)‬،‭ ‬مؤسس‭ ‬الفلسفة‭ ‬الحديثة،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬لا‭ ‬يدل‭ ‬الجميل،‭ ‬ولا‭ ‬البهيج،‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬موقفنا‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬الشيء‭ ‬المتكلَّم‭ ‬عنه‮»‬‭. ‬ويوافق‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الهولندي‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬يهودي‭ ‬‮«‬باروخ‭ ‬إسبينوزا‮»‬‭ ‬Baruch Spinoza‭ (‬1632-1677م‭) ‬على‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬ديكارت‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬الجمال‭ ‬ليس‭ ‬صفة‭ ‬في‭ ‬الشيء‭ ‬المدروس‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الأثر‭ ‬الذي‭ ‬ينشأ‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يدرس‭ ‬ذاك‭ ‬الشيء‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬أحدث‭ ‬هذان‭ ‬المفكران‭ (‬ديكارت‭ ‬وإسبينوزا‭)‬،‭ ‬وآخرون‭ ‬غيرهما،‭ ‬تياراً‭ ‬قوياً‭ ‬دام‭ ‬زماناً‭ ‬طويلاً،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أبان‭ ‬العالم‭ ‬البريطاني‭ ‬تشارلز‭ ‬دارون‭ ‬Charles Darwin‭ (‬1809-1882م‭) ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬النظرة‭ ‬العلمية‭ ‬آنذاك‭ ‬من‭ ‬الجمال،‭ ‬فكــــتب‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬من‭ ‬الجليّ‭ ‬أن‭ ‬الإحساس‭ ‬بالجمال‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬العقل،‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬صفة‭ ‬حقيقية‭ ‬في‭ ‬الشيء‭ ‬محل‭ ‬الإعجاب‮»‬‭. ‬وكان‭ ‬طبيب‭ ‬الأمراض‭ ‬العصبية‭ ‬النمساوي‭ ‬سيجمـــوند‭ ‬فرويد‭ ‬Sigmund Freud‭ (‬1856-1939م‭) ‬مؤسس‭ ‬طريقة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬Psychoanalysis،‭ ‬يشعر‭ ‬أنه‭ ‬مضطر‭ ‬إلى‭ ‬حصر‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الغريزة،‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬من‭ ‬دواعي‭ ‬الأسف‭ ‬أن‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬ليس‭ ‬عنده‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬عن‭ ‬الجمال‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬مؤكداً‭ ‬أنه‭ ‬مستمَد‭ ‬من‭ ‬مجـــال‭ ‬الشعور‭ ‬الجنسي‮»‬‭. ‬

 

الجمال‭ ‬والجدل‭ ‬العلمي

ويعقب‭ ‬صاحبا‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬العلم‭ ‬في‭ ‬منظوره‭ ‬الجديد‮»‬‭ (‬روبرت‭ ‬م‭. ‬أغروس‭ ‬وجورج‭ ‬ن‭. ‬ستانسيو،‭ ‬الترجمة‭ ‬العربية،‭ ‬سلسلة‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة،‭ ‬الكويت‭ ‬1989م‭) ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الآراء‭ ‬ذات‭ ‬الصبغة‭ ‬المادية‭ ‬في‭ ‬الجمال،‭ ‬قائلين‭ ‬إنه‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الجمال‭ ‬صفة‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬الطبيعة،‭ ‬فهناك‭ ‬أمران‭ ‬اثنان‭ ‬يترتبان‭ ‬على‭ ‬ذلك‭: ‬أولهما‭ ‬أن‭ ‬الجمال،‭ ‬على‭ ‬احتمال‭ ‬كونه‭ ‬متعة‭ ‬شخصية،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬موضع‭ ‬جدل‭ ‬علمي،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يعنينا‭ ‬بتاتاً‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬حقائق‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وثانيهما‭ ‬أن‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تنشد‭ ‬الجمال،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬العلوم‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬مشترك،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬تبدو‭ ‬باردة‭ ‬المشاعر،‭ ‬ولكنها‭ ‬واقعية،‭ ‬بينما‭ ‬تصوّر‭ ‬الفنون‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬دافئة‭ ‬المشاعر،‭ ‬ولكنها‭ ‬هوائية‭ ‬المضمون،‭ ‬بحيث‭ ‬يتوقع‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬الحشرات‭ ‬مثلاً‭ ‬أن‭ ‬يسكت‭ ‬عن‭ ‬جمال‭ ‬الفراشة،‭ ‬سكوت‭ ‬الشعر‭ ‬عن‭ ‬خمائرها‭ ‬الهضمية‭. ‬

وعلى‭ ‬نقيض‭ ‬ذلك،‭ ‬يجمع‭ ‬أبرز‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الجمال‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬اكتشاف‭ ‬الحقيقة‭ ‬العلمية،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هو‭ ‬المقياس‭ ‬الأساسي‭ ‬لها‭. ‬وقد‭ ‬أحرزوا‭ ‬بالفعل‭ ‬كشوفاً‭ ‬ثورية،‭ ‬حسب‭ ‬منطق‭ ‬فيلسوف‭ ‬العلم‭ ‬المعاصر‭ ‬توماس‭ ‬كون‭ ‬Th‭. ‬Kuhn‭ (‬1922-1996م‭) ‬بفضل‭ ‬إحساسهم‭ ‬وإدراكهم‭ ‬قيمة‭ ‬الجمال‭ ‬فــــي‭ ‬البحــــث‭ ‬العلمي،‭ ‬فــــها‭ ‬هو‭ ‬الفيزيائي‭ ‬الألماني‭ ‬الشهير‭ ‬فيرنر‭ ‬هـــيزنبـــرج‭ ‬W‭. ‬Heisenberg‭ (‬1901-1976م‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬مُنح‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬في‭ ‬الفيزياء‭ ‬عام1932م‭ ‬لأبحاثه‭ ‬في‭ ‬الفيزياء‭ ‬النووية‭ ‬ونظرية‭ ‬الكم،‭ ‬يعلن‭ ‬‮«‬أن‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬البحتة‭ ‬أو‭ ‬الدقيقة،‭ ‬وفي‭ ‬الفنون‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬هو‭ ‬أهم‭ ‬مصدر‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬الاستنارة‭ ‬والوضوح،‭ ‬وأن‭ ‬نظريته‭ ‬في‭ ‬ميكانيكا‭ ‬الكم‭ ‬مقنعة‭ ‬بفضل‭ ‬كمالها‭ ‬وجمالها‭ ‬التجريدي‮»‬‭. ‬وها‭ ‬هو‭ ‬ألبرت‭ ‬أينشتين‭ ‬Albert Einstein‭ (‬1979–1955م‭) ‬أشهر‭ ‬علماء‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬والحائز‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬عام‭ ‬1921م،‭ ‬يشير‭ ‬بنفسه‭ ‬إلى‭ ‬جمال‭ ‬نظريته‭ ‬في‭ ‬النسبية‭ ‬العامة‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬أحد‭ ‬يفهم‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬تمام‭ ‬الفهم‭... ‬يفلت‭ ‬من‭ ‬سحرها‮»‬،‭ ‬ويشيد‭ ‬بها‭ ‬الفيزيائي‭ ‬النمساوي‭ ‬آرفين‭ ‬شرودنجر‭ ‬Erwin Schrodinger‭ (‬1887‭ - ‬1961م‭)‬،‭ ‬الحائز‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬عام‭ ‬1933م‭ ‬وصاحب‭ ‬المعادلة‭ ‬الموجبة‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬ميكانيكا‭ ‬الكم‭ ‬الحديثة،‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬إن‭ ‬نظرية‭ ‬أينشتين‭ ‬المذهلة‭ ‬في‭ ‬الجاذبية‭ ‬لا‭ ‬يتأتى‭ ‬اكتشافها‭ ‬إلا‭ ‬لعبقري‭ ‬رُزق‭ ‬إحساساً‭ ‬عميقاً‭ ‬ببساطة‭ ‬في‭ ‬درجة‭ ‬جمالها،‭ ‬يوجد‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬ما‭ ‬يرقى‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬الجمال،‭ ‬حيث‭ ‬يرى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الفيزيائيين‭ ‬أن‭ ‬نظرية‭ ‬النسبية‭ ‬العامة‭ ‬لأينشتين‭ ‬هي‭ ‬أجمل‭ ‬النظريات‭ ‬الفيزيائية‭ ‬الموجودة‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬ولهذا‭ ‬فإننا‭ ‬نثق‭ ‬بصاحب‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬العلمية‭ ‬الأجمل‭ ‬عندما‭ ‬يلخص‭ ‬عناصر‭ ‬الجمال‭ ‬العلمي‭ ‬بعبارة‭ ‬واحدة،‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬‮«‬النظرية‭ ‬العلمية‭ ‬تكون‭ ‬أدعى‭ ‬إلى‭ ‬إثارة‭ ‬الإعجاب‭ ‬كلما‭ ‬كانت‭ ‬مقدماتها‭ ‬أبسط،‭ ‬والأشياء‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬بينها‭ ‬أشد‭ ‬اختلافاً،‭ ‬وصلاحيتها‭ ‬للتطبيق‭ ‬أوسع‭ ‬نطاقاً‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الجمال‭ ‬الذي‭ ‬ينشده‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬بحثهم‭ ‬العلمي‭ ‬عن‭ ‬الحقائق‭ ‬الكونية‭ ‬ليس‭ ‬نتاج‭ ‬عاطفة‭ ‬فردية،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬عن‭ ‬الأسلوب‭ ‬غير‭ ‬العلمي،‭ ‬وعناصره‭ ‬التي‭ ‬تبث‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬لها‭ ‬نظائر‭ ‬موازية‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬الأخرى‭. ‬

 

تنمية‭ ‬ملكات‭ ‬الخيال

من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬يؤدي‭ ‬تأمل‭ ‬الجمال‭ ‬العلمي‭ ‬وتذوقه‭ ‬إلى‭ ‬تنمية‭ ‬وتعظيم‭ ‬ملكات‭ ‬التخيل‭ ‬والتفكر‭ ‬والحدس‭ ‬لدى‭ ‬الذات‭ ‬الباحثة‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الكونية،‭ ‬فهذه‭ ‬جميعها‭ ‬من‭ ‬المبادئ‭ ‬الأساسية‭ ‬والأساليب‭ ‬الذهنية‭ ‬التي‭ ‬تشترك‭ ‬فيها‭ ‬أغلب‭ ‬أنواع‭ ‬البحث‭ ‬العلمي،‭ ‬وتقوم‭ ‬بدور‭ ‬المهندس‭ ‬الذي‭ ‬يضع‭ ‬تصميم‭ ‬النظرية‭ ‬العلمية،‭ ‬مستعيناً‭ ‬بما‭ ‬تنقله‭ ‬الملاحظات‭ ‬والتجارب‭ ‬الدقيقة،‭ ‬وبما‭ ‬لديه‭ ‬من‭ ‬ذخيرة‭ ‬معرفية‭ ‬وخبرات‭ ‬عملية‭ ‬متنوعة‭. ‬ومن‭ ‬المفيد‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أفكار‭ ‬مبتكرة‭ ‬إطلاق‭ ‬العنان‭ ‬لهذه‭ ‬الملكات‭ ‬المعرفية‭ ‬على‭ ‬سجيتهاحتى‭ ‬تتمخض‭ ‬عن‭ ‬أفكار‭ ‬ونتائج‭ ‬نافعة،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الوقائع‭ ‬والأفكار‭ ‬ميّتة‭ ‬في‭ ‬ذاتها،‭ ‬والتأمل‭ ‬الجمالي،‭ ‬بما‭ ‬يصحبه‭ ‬من‭ ‬تفكير‭ ‬واع‭ ‬وخيال‭ ‬بنّاء‭ ‬وحدس‭ ‬صادق،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يهبها‭ ‬الحياة،‭ ‬ويتيح‭ ‬لنا‭ ‬‮«‬رؤيتها‮»‬‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬الباحثين‭.‬

‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬جون‭ ‬تندال‭ ‬J‭. ‬Tyndall‭ (‬1820-1893م‭) ‬الفيزيائي‭ ‬الأيرلندي‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬التأمل‭ ‬والخيال‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬الصور‭ ‬الذهنية‭ ‬للمشكلات‭ ‬العلمية،‭ ‬قائلاً‭: ‬

‮«‬لقد‭ ‬كان‭ ‬اهتمام‭ ‬اسحق‭ ‬نيوتن‭ ‬من‭ ‬تفاحه‭ ‬ساقطة‭ ‬إلى‭ ‬قمر‭ ‬ساقط،‭ ‬عملاً‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬الخيال‭ ‬المتأهب‭... ‬واستطاع‭ ‬خيال‭ ‬دالتون‭ ‬البنَّاء‭ ‬أن‭ ‬يشيّد‭ ‬النظرية‭ ‬الذرية،‭ ‬أما‭ ‬فاراداي‭ ‬فقد‭ ‬مارس‭ ‬هذه‭ ‬الموهبة‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬فكانت‭ ‬سابقة،‭ ‬ومصاحبة،‭ ‬ومرشدة‭ ‬لجميع‭ ‬تجاربه،‭ ‬وترجع‭ ‬قدرته‭ ‬وخصوبته‭ ‬كمكتشف‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬إلى‭ ‬القوة‭ ‬الدافعة‭ ‬للخيال‮»‬‭. ‬

ودونما‭ ‬استطراد‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬أقوال‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬‮«‬العلماء‭ ‬الحقيقيين‮»‬‭ ‬يتضح‭ ‬لنا‭ ‬أنه‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يستبين‭ ‬الحقيقة‭ ‬العلمية،‭ ‬أولاً‭ ‬بفضل‭ ‬جمالها‭ ‬وبساطتها‭ ‬وتناسقها‭ ‬وتألقها،‭ ‬لأن‭ ‬الجمال‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬بنية‭ ‬الكون،‭ ‬وثانياً‭ ‬بفضل‭ ‬ما‭ ‬يصاحب‭ ‬التأمل‭ ‬الجمالي‭ ‬الدافع‭ ‬إلى‭ ‬تنمية‭ ‬ملكات‭ ‬الحدس‭ ‬والتفكر‭ ‬والخيال‭. ‬ولا‭ ‬نملك‭ ‬إزاء‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نسجد‭ ‬شكراً‭ ‬لله‭ ‬الخالق‭ ‬الواحد‭ ‬‭{‬الَّذِي‭ ‬أَحْسَنَ‭ ‬كُلَّ‭ ‬شَيْءٍ‭ ‬خَلَقَهُ‭}‬‭ (‬سورة‭ ‬السجدة‭: ‬7) ‬.