مرقاب القرن الثاني والعشرين

مرقاب القرن الثاني والعشرين

بعد‭ ‬أن‭ ‬شهدت‭ ‬صحراء‭ ‬أتكاما‭ ‬Atacama‭ ‬في‭ ‬شمالي‭ ‬تشيلي‭ ‬بأمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬بناء‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المراقيب‭ ‬الضخمة‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الماضية،‭ ‬سيكون‭ ‬العالم‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬عدة‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬أعظم‭ ‬مرقاب‭ ‬يبنى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القرن‭ ‬لرصد‭ ‬بعض‭ ‬الظواهر‭ ‬الفلكية،‭ ‬وكشف‭ ‬كنوز‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭ ‬الفسيح‭ ‬وأسراره‭ ‬الغامضة‭.‬

ففي‭ ‬عام‭ ‬2020،‭ ‬سيدشن‭ ‬المرصدُ‭ ‬الأوربيُ‭ ‬الجنوبي‭ ‬‮«‬ESO‮»‬‭  ‬الـمرقابَ‭ ‬الأوربي‭ ‬الأعظم‭ ‬E-ELT European Extremely Large Telescope‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬بالأشعة‭ ‬تحت‭ ‬الحمراء،‭ ‬والذي‭ ‬انطلق‭ ‬العمل‭ ‬فيه‭ ‬منتصف‭ ‬عام‭ ‬2014‭ ‬ليكون‭ ‬أكبر‭ ‬مرقاب‭ ‬بصري‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬بل‭ ‬سيكون‭ ‬كما‭ ‬يراه‭ ‬مصمموه‭ ‬مرقاب‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬والعشرين‭ (‬نعم،‭ ‬الثاني‭ ‬والعشرين)‭!.‬

أنشئ‭ ‬المرصد‭ ‬الأوربي‭ ‬الجنوبي‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬بواسطة‭ ‬خمس‭ ‬دول،‭ ‬هي‭: ‬ألمانيا‭ (‬الغربية‭ ‬آنذاك‭) ‬وبلجيكا‭ ‬وفرنسا‭ ‬وهولندا‭ ‬والسويد‭. ‬ويضم‭ ‬المرصد‭ ‬حالياً‭ ‬14‭ ‬دولة‭ ‬أوربية‭ ‬عضواً،‭ ‬والهدف‭ ‬منه‭ ‬دعم‭ ‬الرصد‭ ‬الفلكي‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬العالمي‭. ‬وقد‭ ‬انضم‭ ‬إلى‭ ‬قائمة‭ ‬الأعضاء‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬القارة‭ ‬الأوربية‭ ‬البرازيل‭ ‬وتشيلي،‭ ‬والمرصد‭ ‬ماضٍ‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أعضاء‭ ‬جدد‭ ‬عبر‭ ‬العالم،‭ ‬وفي‭ ‬تعاونه‭ ‬مع‭ ‬البلدان‭ ‬غير‭ ‬الأوربية‭. ‬وقد‭ ‬رأى‭ ‬المرصد‭ ‬النور‭ ‬عام‭ ‬1962،‭ ‬وحمل‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬النشأة‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬المنظمة‭ ‬الأوربية‭ ‬للبحث‭ ‬الفلكي‭ ‬في‭ ‬نصف‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭ ‬الجنوبي‮»‬‭. ‬أما‭ ‬الفكرة‭ ‬الأولى‭ ‬فبادر‭ ‬بها‭ ‬أحد‭ ‬الفلكيين‭ ‬الأوربيين‭ ‬عام‭ ‬1952،‭ ‬ثم‭ ‬تبناها‭ ‬مؤتمر‭ ‬لعلماء‭ ‬الفلك‭ ‬بهولندا‭ ‬عام‭ ‬1953‭. ‬ومن‭ ‬المعلوم‭ ‬أن‭ ‬المرصد‭ ‬شيَّد‭ ‬عدداً‭ ‬معتبراً‭ ‬من‭ ‬المراقيب‭ ‬العملاقة،‭ ‬لكن‭ ‬ضخامتها‭ ‬لا‭ ‬تضاهي‭ ‬ضخامة‭ ‬المرصد‭ ‬الذي‭ ‬نحن‭ ‬بصدد‭ ‬تقديمه‭. ‬

تطرح‭ ‬المراصد‭ ‬ومنظومة‭ ‬المراقيب‭ ‬الأرضية‭ ‬تساؤلات‭ ‬جديدة‭ ‬اليوم‭ ‬حول‭ ‬الكون‭ ‬وما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬أجرام‭ ‬وكواكب‭ ‬وكائنات‭ ‬وخصوصيات‭ ‬مختلفة‭ ‬لمكوناته،‭ ‬لذا‭ ‬فكّر‭ ‬المختصون‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬جيل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الآلات‭ ‬الرصدية‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬المسائل‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬علماء‭ ‬الفلك،‭ ‬تدقيق‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬إثر‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بالانفجار‭ ‬الأعظم‭ ‬Big Bang‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬الآلات‭ ‬القائمة‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬رصد‭ ‬الكائنات‭ ‬البعيدة‭ ‬تواجه‭ ‬صعوبات‭ ‬جمة‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬أدوارها،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الآلات‭ ‬مثبّتة‭ ‬في‭ ‬سطح‭ ‬الأرض‭ ‬أو‭ ‬سابحة‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭. ‬وحتى‭ ‬يتقدم‭ ‬الرصد‭ ‬ويتطوّر‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬وغيرها،‭ ‬ويستجيب‭ ‬لمتطلبات‭ ‬علماء‭ ‬الفلك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬تبنّى‭ ‬المرصد‭ ‬الأوربي‭ ‬الجنوبي‭ ‬European Southern Observatory‭ ‬مشروعين‭ ‬كبيرين،‭ ‬هما‭ ‬‮«‬أَلْمَا‮»‬‭ ‬Alma‭ ‬و«الشبكة‭ ‬الواسعة‭ ‬لهوائيات‭ ‬تحت‭ ‬المليمترية‭ ‬في‭ ‬أتكاما‮»‬‭  Atacama Large Millimeter/submillimiter Array‭ ‬الذي‭ ‬دشن‭ ‬عام‭ ‬2013،‭ ‬وقد‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬إنجازه‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬واليابان‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أوربا،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬يدمج‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬ثلاثة‭ ‬مشاريع‭ ‬متكاملة‭ ‬سطرتها‭ ‬تلك‭ ‬الجهات‭ ‬الثلاث‭. ‬ويتكوّن‭ ‬هذا‭ ‬المرقاب‭ ‬من‭ ‬شبكة‭ ‬تضمّ‭ ‬66‭ ‬هوائياً‭. ‬

أما‭ ‬المشروع‭ ‬الثاني‭ ‬فهو‭ ‬‮«‬المرقاب‭ ‬الأوربي‭ ‬الأعظم‮»‬‭ ‬E-ELT‭ ‬الذي‭ ‬سيكون‭ ‬جاهزاً‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2020‭. ‬لماذا‭ ‬سيُنصب‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬أتكاما‭ (‬تشيلي‭)‬؟‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬الصحراء‭ ‬تتميز‭ ‬بجو‭ ‬مناسب‭ ‬للأرصاد‭ ‬الفلكية‭... ‬سماء‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬السحب‭ ‬خلال‭ ‬نحو‭ ‬320‭ ‬يوماً‭ ‬في‭ ‬السنة،‭ ‬وهواء‭ ‬بالغ‭ ‬الجفاف‭ (‬هناك‭ ‬مناطق‭ ‬لم‭ ‬تتساقط‭ ‬فيها‭ ‬الأمطار‭ ‬منذ‭ ‬30‭ ‬سنة‭). ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الهواء‭ ‬والرياح‭ ‬يهبان‭ ‬بلطف‭ ‬دون‭ ‬إحداث‭ ‬اضطرابات‭. ‬وتشيلي‭ ‬أرض‭ ‬يقصدها‭ ‬الفلكيون‭ ‬عموماً‭ ‬للرصد،‭ ‬لأن‭ ‬هواءها‭ ‬جاف‭ ‬وبارد،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬70‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬الأرصاد‭ ‬الفلكية‭ ‬تنجز‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬البلد‭.‬

 

2020‭... ‬موعده

ستكلف‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬بناء‭ ‬المرقاب‭ ‬نحو‭ ‬1‭.‬5‭ ‬مليار‭ ‬دولار،‭ ‬وذلك‭ ‬يتطلب‭ ‬بادئ‭ ‬ذي‭ ‬بدء‭ ‬تسوية‭ ‬حجم‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الصخور‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬5‭ ‬آلاف‭ ‬متر‭ ‬مكعب‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬الربوة‭ ‬المسماة‭ ‬جبل‭ ‬الأرمازونس‭ ‬Cerro Armazones‭ (‬التي‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬ارتفاع‭ ‬3060‭ ‬متراً‭ ‬فوق‭ ‬سطح‭ ‬البحر‭) ‬في‭ ‬وادي‭ ‬فوتونس‭ ‬Fotones‭. ‬هذه‭ ‬الربوة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬سينتصب‭ ‬فيها‭ ‬المرقاب‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬2020‭. ‬عند‭ ‬انتهاء‭ ‬التسوية‭ ‬سينزل‭ ‬رأس‭ ‬الربوة‭ ‬18‭ ‬متراً،‭ ‬ويتطلب‭ ‬ذلك‭ ‬نقل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقلّ‭ ‬عن‭ ‬220‭ ‬ألف‭ ‬متر‭ ‬مربع‭ ‬من‭ ‬الصخور‭ ‬خلال‭ ‬سنة‭ ‬ونصف‭ ‬السنة‭. ‬والهدف‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬هو‭ ‬تكوين‭ ‬هضبة‭ ‬اصطناعية‭ ‬بمساحة‭ ‬تعادل‭ ‬ملعبيْن‭ ‬لكرة‭ ‬القدم‭! ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬قبل‭ ‬الشروع‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬المرقاب‭.‬

يتكون‭ ‬المرقاب‭ ‬من‭ ‬عين‭ ‬واسعة،‭ ‬وهي‭ ‬بمنزلة‭ ‬المرآة‭ ‬الرئيسة،‭ ‬قطرها‭ ‬يبلغ‭ ‬39‭ ‬متراً،‭ ‬أو‭ ‬يزيد‭ ‬قليلاً‭. ‬وما‭ ‬يميّزها‭ ‬أن‭ ‬مساحة‭ ‬سطح‭ ‬هذه‭ ‬المرآة‭ ‬التي‭ ‬تستقبل‭ ‬الضوء‭ ‬ستفوق‭ ‬مساحة‭ ‬المراقيب‭ ‬الموجودة‭ ‬حاليا‭ ‬بـ‭ ‬10‭ ‬إلى‭ ‬15‭ ‬مرة‭. ‬وسيجاور‭ ‬هذا‭ ‬المرقاب‭ ‬العملاق‭ ‬مرقاباً‭ ‬آخر‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬المرقاب‭ ‬البالغ‭ ‬الكبر‮»‬‭ ‬VLT Very Large‭ ‬Telescope‭ ‬الذي‭ ‬دشّن‭ ‬عام‭ ‬1987،‭ ‬وأوكلت‭ ‬إليه‭ ‬مهمة‭ ‬رصد‭ ‬المناطق‭ ‬الحارة‭ ‬في‭ ‬الكون‭. ‬وعلى‭ ‬بعد‭ ‬بضعة‭ ‬كيلومترات‭ ‬يوجد‭ ‬المرقاب‭ ‬الآخر‭ ‬‮«‬ألما‮»‬‭  ‬المذكور‭ ‬آنفاً،‭ ‬والمختص‭ ‬في‭ ‬رصد‭ ‬المناطق‭ ‬الباردة‭ ‬والمظلمة‭ ‬من‭ ‬الفضاء‭. ‬وثمة‭ ‬أيضاً‭ ‬مرقابان‭ ‬آخران‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬نفسها،‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬يقوم‭ ‬بمهام‭ ‬محددة‭ ‬من‭ ‬الفلكيين‭ ‬العالميين‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬أهداف‭ ‬المرقاب‭ ‬الأعظم‭ ‬جمع‭ ‬معلومات‭ ‬حول‭ ‬تشكّل‭ ‬بنَى‭ ‬الكون‭ ‬الأولى،‭ ‬ومعلومات‭ ‬أخرى‭ ‬حول‭ ‬مصدر‭ ‬العناصر‭ ‬الكيميائية‭ ‬والثقوب‭ ‬السود‭. ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬معرفة‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬حياة‭ ‬خارج‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض،‭ ‬فالفلكيون‭ ‬غير‭ ‬واثقين‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬كوكب،‭ ‬مثل‭ ‬كوكبنا،‭ ‬يبعد‭ ‬بمسافة‭ ‬تعادل‭ ‬المسافة‭ ‬التي‭ ‬تفصلنا‭ ‬عن‭ ‬الشمس،‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬عدم‭ ‬وجوده،‭ ‬بل‭ ‬السبب‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬الوسيلة‭ ‬الكاشفة‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬بالبت‭ ‬في‭ ‬الأمر،‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬سيكون‭ ‬متاحًا‭ ‬بفضل‭ ‬المرقاب‭ ‬الأعظم‭. ‬وحتى‭ ‬يتم‭ ‬تحسين‭ ‬الأرصاد،‭ ‬فالمرايا‭ ‬التي‭ ‬يتكون‭ ‬منها‭ ‬المرقاب‭ ‬ستكون‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬شكلها‭ ‬مئات‭ ‬المرات‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬لمواجهة‭ ‬الاضطرابات‭ ‬الجوية‭.‬

وهكذا،‭ ‬من‭ ‬المنتظر‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬تقدّم‭ ‬كبير‭ ‬بفضل‭ ‬هذا‭ ‬المرقاب،‭ ‬وذلك‭ ‬بدراسة‭ ‬الكواكب‭ ‬الخارجية،‭ ‬والثقوب‭ ‬السود،‭ ‬والمجرّات‭ ‬البعيدة،‭ ‬وتحليل‭ ‬طبيعة‭ ‬المادة،‭ ‬وكذا‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بالطاقة‭ ‬السوداء،‭ ‬وفيزياء‭ ‬اللحظات‭ ‬الأولى‭ (‬إثر‭ ‬الانفجار‭ ‬الأعظم‭). ‬ويأمل‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬الكواكب‭ ‬الخارجية‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬حجم‭ ‬الأرض،‭ ‬وفي‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬التمييز‭ ‬أكثر‭ ‬بين‭ ‬بعض‭ ‬الأجرام‭ ‬السماوية‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الأمل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬بيئة‭ ‬النجوم‭ ‬قيد‭ ‬التكوين‭. ‬ويبقى‭ ‬الهدف‭ ‬الرئيس‭ ‬من‭ ‬المراقيب‭ ‬العملاقة‭ ‬هو‭ ‬‮«‬مشاهدة‮»‬‭ ‬أولى‭ ‬المجرّات‭ ‬والنجوم‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬بعد‭ ‬الانفجار‭ ‬الأعظم‭ ‬بنحو‭ ‬بضع‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬ملايين‭ ‬السنين‭. ‬إنه‭ ‬أمر‭ ‬أساس‭ ‬لفهم‭ ‬تشكّل‭ ‬وتطور‭ ‬المجرّات‭ ‬في‭ ‬مجملها‭. ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مطلوب‭ ‬من‭ ‬المرقاب‭ ‬الجديد‭ ‬حول‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الخصوصيات‭ ‬هو‭ ‬استكمال‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬ولن‭ ‬يتمكّن‭ ‬المرقاب‭ ‬الفضائي‭ ‬‮«‬هابل‮»‬‭ ‬Hubble‭ ‬من‭ ‬تحقيقه‭. ‬من‭ ‬المعلوم‭ ‬أن‭ ‬‮«‬هابل‮»‬‭ ‬قد‭ ‬دُشِّن‭ ‬عام‭ ‬1990‭ ‬وشهد‭ ‬خللا‭ ‬تكرَّر‭ ‬عبر‭ ‬السنين‭ ‬وأُصلح‭ ‬مرارًا،‭ ‬ومن‭ ‬المتوقع‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬مهامه‭ ‬نحو‭ ‬عام‭ ‬2020،‭ ‬وسيظل‭ ‬في‭ ‬الأجواء‭ ‬مدة‭ ‬طويلة‭ ‬قبل‭ ‬القيام‭ ‬بعملية‭ ‬إسقاطه‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬2030‭ ‬و2040‭.‬

 

الكواكب‭ ‬الخارجية

أشرنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬مهام‭ ‬مرقاب‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬والعشرين‭ ‬اكتشاف‭ ‬الكواكب‭ ‬الخارجية،‭ ‬فما‭ ‬هو‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكواكب؟‭ ‬الكوكب‭ ‬الخارجي‭ (‬أي‭ ‬خارج‭ ‬النظام‭ ‬الشمسي‭): ‬هو‭ ‬كوكب‭ ‬لا‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬الشمس‭ ‬بل‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬نجم‭ ‬آخر‭. ‬ففي‭ ‬عام‭ ‬1995‭ ‬تم‭ ‬اكتشاف‭ ‬أول‭ ‬كوكب‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬2005‭ ‬تعرف‭ ‬الفلكيون‭ ‬على‭ ‬155‭ ‬كوكبًا‭ ‬خارج‭ ‬النظام‭ ‬الشمسي،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬التعريف‭ ‬توسع‭ ‬إثر‭ ‬بعض‭ ‬الاكتشافات‭ ‬وصار‭ ‬يشمل‭ ‬الكواكب‭ ‬التائهة،‭ ‬أي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ترتبط‭ ‬بجاذبية‭ ‬أي‭ ‬نجم‭ ‬في‭ ‬الكون‭. ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يشمل‭ ‬التعريف‭ ‬الكواكب‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬الثقوب‭ ‬السود‭. ‬

وقد‭ ‬تزايد‭ ‬اكتشاف‭ ‬الكواكب‭ ‬الخارجية‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2008،‭ ‬وهي‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬معظمها‭ ‬حول‭ ‬نجوم‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬نحو‭ ‬400‭ ‬سنة‭ ‬ضوئية‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الشمسي‭. ‬فحتى‭ ‬ربيع‭ ‬عام‭ ‬2014،‭ ‬بلغ‭ ‬عدد‭ ‬الكواكب‭ ‬الخارجية‭ ‬المكتشفة‭ ‬بصفة‭ ‬مؤكدة‭ ‬1783‭ ‬كوكباً‭. ‬وهناك‭ ‬بالموازاة‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬آلاف‭ ‬الكواكب‭ ‬الخارجية‭ ‬الأخرى‭ ‬اكتشفتها‭ ‬المراصد‭ ‬الأرضية‭ ‬والفضائية،‭ ‬مثل‭ ‬المرصد‭ ‬الأمريكي‭ ‬كبلر‭ ‬Kepler‭ ‬الذي‭ ‬دُشّن‭ ‬عام‭ ‬2009‭ ‬وستنتهي‭ ‬مهامه‭ ‬عام‭ ‬2016،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬غالبية‭ ‬هذه‭ ‬الاكتشافات‭ ‬لاتزال‭ ‬تنتظر‭ ‬التأكيد‭. ‬

ويتوقّع‭ ‬العلماء‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬100‭ ‬مليار‭ ‬كوكب‭ ‬في‭ ‬مجرتنا‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يتوقع‭ ‬200‭ ‬مليار‭! ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬لبعضها‭ ‬أقماراً‭ ‬تدور‭ ‬من‭ ‬حولها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تؤكد‭ ‬دراسة‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬خريف‭ ‬2013‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬8‭ ‬ملايين‭ ‬كوكب‭ ‬في‭ ‬مجرتنا‭ ‬شبيهة‭ ‬بكوكب‭ ‬الأرض‭. ‬هل،‭ ‬يا‭ ‬تُرى،‭ ‬سيكون‭ ‬هناك‭ ‬إمكان‭ ‬تسمية‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الكواكب‭ ‬بأسماء‭ ‬دقيقة،‭ ‬وهل‭ ‬سيتعرف‭ ‬عليها‭ ‬المرقاب‭ ‬الأعظم؟‭! ‬

ومن‭ ‬مهام‭ ‬هذا‭ ‬المرقاب‭ ‬أيضاً‭ ‬التبحّر‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الثقوب‭ ‬السود‭. ‬والثقب‭ ‬الأسود‭ ‬هو‭ ‬كائن‭ ‬سماوي‭ ‬شديد‭ ‬الكثافة،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬حقل‭ ‬جاذبيته‭ ‬يمنع‭ ‬انفلات‭ ‬أي‭ ‬مادة‭ ‬أو‭ ‬إشعاع‭ ‬منه،‭ ‬ويمتص‭ ‬ما‭ ‬حوله‭. ‬ومثل‭ ‬هذه‭ ‬الثقوب‭ ‬تتميز‭ ‬بكونها‭ ‬لا‭ ‬تستقبل‭ ‬الضوء‭ ‬ولا‭ ‬تعكسه،‭ ‬لذا‭ ‬تكون‭ ‬سوداً‭ ‬وخفيّة‭.‬

وإذا‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬الكواكب‭ ‬الخارجية‭ ‬التي‭ ‬أحصيت‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬نلاحظ‭ ‬أنه‭ ‬تم‭ ‬اكتشافها‭ ‬بإحدى‭ ‬طريقتين‭:‬

‭- ‬طريقة‭ ‬العبور‭: ‬يمرّ‭ ‬الكوكب‭ ‬أمام‭ ‬النجم‭ ‬فيخفيه‭ ‬نسبياً،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬يلحظ‭ ‬المرقاب‭ ‬ذلك‭.‬

‭- ‬طريقة‭ ‬السُّرع‭ ‬الشعاعية‭: ‬يتقدم‭ ‬النجم‭ ‬ويتأخر‭ ‬بعض‭ ‬العشرات‭ ‬أو‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬الأمتار‭/‬ثانية‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الكوكب‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬معيّن‭ ‬بالنسبة‭ ‬للنجم،‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬الجاذبية‭.‬

لكن‭ ‬المشكلة‭ ‬هنا‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬تصوير‭ ‬الكواكب‭ ‬الخارجية‭ ‬بطريقة‭ ‬مباشرة‭. ‬فمن‭ ‬الأمور‭ ‬المنتظرة‭ ‬من‭ ‬مرقابنا‭ ‬العملاق‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬كواكب‭ ‬خارجية‭ ‬ضعيفة‭ ‬الكتلة‭ ‬بطريقة‭ ‬السُّرعات‭ ‬الشعاعية‭. ‬ومن‭ ‬المتوقع‭ ‬أن‭ ‬يكشف‭ ‬بهذه‭ ‬الكيفية‭ ‬عن‭ ‬كواكب‭ ‬بحجم‭ ‬الأرض‭ ‬وتصوير‭ ‬كوكب‭ ‬المشتري‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يطوّر‭ ‬المختصون‭ ‬أدوات‭ ‬وتجهيزات‭ ‬فائقة‭ ‬الدقة‭ ‬لتسهيل‭ ‬تلك‭ ‬المهام‭ ‬الرصدية‭. ‬ونظراً‭ ‬لصغر‭ ‬حجم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الكواكب،‭ ‬فإن‭ ‬المراقيب‭ ‬العملاقة‭ ‬–‭ ‬مثل‭ ‬مرقاب‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬والعشرين‭ - ‬هي‭ ‬الكفيلة‭ ‬بتصوير‭ ‬الكواكب‭ ‬بالشكل‭ ‬المنشود‭.‬‮ ‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬يقول‭ ‬العلماء‭ ‬إنه‭ ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬نأمل‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬صور‭ ‬جذابة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الدقة‭ ‬والجمال،‭ ‬لكنها‭ ‬ستكون‭ ‬صوراً‭ ‬نستطيع‭ ‬استغلالها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحليلها‭ ‬عبر‭ ‬الأجهزة‭ ‬والآلات‭ ‬المتوافرة‭ ‬واستخلاص‭ ‬كمّ‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬النادرة‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الجيل‭ ‬المقبل‭ ‬من‭ ‬الأجهزة‭ ‬المتطوّرة‭ ‬سيجعل‭ ‬نوعية‭ ‬تلك‭ ‬الصور‭ ‬تتحسن‭ ‬تدريجياً‭ ‬بشكل‭ ‬لافت‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬يتمكن‭ ‬المرقاب‭ ‬من‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬النجم‭ ‬وقمره‭ ‬القريب،‭ ‬سيبحث‭ ‬عن‭ ‬آثار‭ ‬الماء‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬بخار‭ ‬أو‭ ‬سائل،‭ ‬وسيبحث‭ ‬أيضاً‭ ‬خارج‭ ‬جوار‭ ‬الأرض‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الغازات‭ ‬نعرفها‭ ‬في‭ ‬محيطنا‭ ‬الأرضي،‭ ‬مثل‭ ‬الأكسجين‭ ‬وغاز‭ ‬الكربون‭. ‬وحتى‭ ‬يتحقق‭ ‬ذلك‭ ‬المرقاب‭ ‬الأوربي‭ ‬الأعظم،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬ننتظر‭ ‬سنوات‭ ‬بعد‭ ‬البدء‭ ‬في‭ ‬تشغيله‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬عام‭ ‬2020‭.‬

هل‭ ‬هناك‭ ‬منافس‭ ‬لهذا‭ ‬المرقاب؟‭ ‬لا،‭ ‬ثمّة‭ ‬مشروعان‭ ‬عالميان‭ ‬تتزعّمهما‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭: ‬قطر‭ ‬مرآة‭ ‬المرقاب‭ ‬الأول‭ -‬المسمى‭ ‬‮«‬المرقاب‭ ‬العملاق‭ ‬ماجلان‮»‬‭ ‬Giant Magellan Telescope‭- ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬22‭ ‬متراً‭ ‬سينصب‭ ‬في‭ ‬تشيلي،‭ ‬ويدعى‭ ‬الآخر‭ ‬‮«‬مرقاب‭ ‬الثلاثين‭ ‬متراً‮»‬‭ (‬Thirty‭ ‬Meter Telescope‭)‬،‭ ‬وسيُثبّت‭ ‬في‭ ‬مرصد‭ ‬هاواي‭ ‬Hawaii،‭ ‬وسيكون‭ ‬قطر‭ ‬المرآة‭ ‬فيه‭ ‬نحو‭ ‬30‭ ‬متراً‭... ‬لا‭ ‬أكثر‭! ‬إذن،‭ ‬فلننتظر‭ ‬عام‭ ‬2020‭ ‬لندرك‭ ‬عظمة‭ ‬مرقاب‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬والعشرين‭ .