مرقاب القرن الثاني والعشرين
بعد أن شهدت صحراء أتكاما Atacama في شمالي تشيلي بأمريكا اللاتينية بناء عدد من المراقيب الضخمة في السنوات الماضية، سيكون العالم بعد سنوات عدة على موعد مع أعظم مرقاب يبنى في هذا القرن لرصد بعض الظواهر الفلكية، وكشف كنوز هذا الكون الفسيح وأسراره الغامضة.
ففي عام 2020، سيدشن المرصدُ الأوربيُ الجنوبي «ESO» الـمرقابَ الأوربي الأعظم E-ELT European Extremely Large Telescope الذي يعمل بالأشعة تحت الحمراء، والذي انطلق العمل فيه منتصف عام 2014 ليكون أكبر مرقاب بصري في العالم، بل سيكون كما يراه مصمموه مرقاب القرن الثاني والعشرين (نعم، الثاني والعشرين)!.
أنشئ المرصد الأوربي الجنوبي منذ أكثر من نصف قرن بواسطة خمس دول، هي: ألمانيا (الغربية آنذاك) وبلجيكا وفرنسا وهولندا والسويد. ويضم المرصد حالياً 14 دولة أوربية عضواً، والهدف منه دعم الرصد الفلكي على الصعيد العالمي. وقد انضم إلى قائمة الأعضاء من خارج القارة الأوربية البرازيل وتشيلي، والمرصد ماضٍ في البحث عن أعضاء جدد عبر العالم، وفي تعاونه مع البلدان غير الأوربية. وقد رأى المرصد النور عام 1962، وحمل في بداية النشأة اسم «المنظمة الأوربية للبحث الفلكي في نصف الكرة الأرضية الجنوبي». أما الفكرة الأولى فبادر بها أحد الفلكيين الأوربيين عام 1952، ثم تبناها مؤتمر لعلماء الفلك بهولندا عام 1953. ومن المعلوم أن المرصد شيَّد عدداً معتبراً من المراقيب العملاقة، لكن ضخامتها لا تضاهي ضخامة المرصد الذي نحن بصدد تقديمه.
تطرح المراصد ومنظومة المراقيب الأرضية تساؤلات جديدة اليوم حول الكون وما فيه من أجرام وكواكب وكائنات وخصوصيات مختلفة لمكوناته، لذا فكّر المختصون في إنشاء جيل جديد من هذه الآلات الرصدية. ومن بين المسائل التي تواجه علماء الفلك، تدقيق ما جرى إثر ما يعرف بالانفجار الأعظم Big Bang. والواقع أن الآلات القائمة الآن على رصد الكائنات البعيدة تواجه صعوبات جمة في أداء أدوارها، سواء كانت هذه الآلات مثبّتة في سطح الأرض أو سابحة في الفضاء. وحتى يتقدم الرصد ويتطوّر في أوربا وغيرها، ويستجيب لمتطلبات علماء الفلك في هذا المجال، تبنّى المرصد الأوربي الجنوبي European Southern Observatory مشروعين كبيرين، هما «أَلْمَا» Alma و«الشبكة الواسعة لهوائيات تحت المليمترية في أتكاما» Atacama Large Millimeter/submillimiter Array الذي دشن عام 2013، وقد أسهمت في إنجازه الولايات المتحدة واليابان إضافة إلى أوربا، إذ إنه يدمج في الحقيقة ثلاثة مشاريع متكاملة سطرتها تلك الجهات الثلاث. ويتكوّن هذا المرقاب من شبكة تضمّ 66 هوائياً.
أما المشروع الثاني فهو «المرقاب الأوربي الأعظم» E-ELT الذي سيكون جاهزاً في عام 2020. لماذا سيُنصب في صحراء أتكاما (تشيلي)؟ لأن هذه الصحراء تتميز بجو مناسب للأرصاد الفلكية... سماء خالية من السحب خلال نحو 320 يوماً في السنة، وهواء بالغ الجفاف (هناك مناطق لم تتساقط فيها الأمطار منذ 30 سنة). كما أن الهواء والرياح يهبان بلطف دون إحداث اضطرابات. وتشيلي أرض يقصدها الفلكيون عموماً للرصد، لأن هواءها جاف وبارد، وهو ما يجعل 70 في المائة من الأرصاد الفلكية تنجز في ذلك البلد.
2020... موعده
ستكلف المرحلة الأولى من بناء المرقاب نحو 1.5 مليار دولار، وذلك يتطلب بادئ ذي بدء تسوية حجم كبير من الصخور يصل إلى 5 آلاف متر مكعب في أعلى الربوة المسماة جبل الأرمازونس Cerro Armazones (التي تقع على ارتفاع 3060 متراً فوق سطح البحر) في وادي فوتونس Fotones. هذه الربوة هي التي سينتصب فيها المرقاب بعد عام 2020. عند انتهاء التسوية سينزل رأس الربوة 18 متراً، ويتطلب ذلك نقل ما لا يقلّ عن 220 ألف متر مربع من الصخور خلال سنة ونصف السنة. والهدف من هذه العملية هو تكوين هضبة اصطناعية بمساحة تعادل ملعبيْن لكرة القدم! تلك هي المرحلة الأولى من الأعمال قبل الشروع في بناء المرقاب.
يتكون المرقاب من عين واسعة، وهي بمنزلة المرآة الرئيسة، قطرها يبلغ 39 متراً، أو يزيد قليلاً. وما يميّزها أن مساحة سطح هذه المرآة التي تستقبل الضوء ستفوق مساحة المراقيب الموجودة حاليا بـ 10 إلى 15 مرة. وسيجاور هذا المرقاب العملاق مرقاباً آخر يسمى «المرقاب البالغ الكبر» VLT Very Large Telescope الذي دشّن عام 1987، وأوكلت إليه مهمة رصد المناطق الحارة في الكون. وعلى بعد بضعة كيلومترات يوجد المرقاب الآخر «ألما» المذكور آنفاً، والمختص في رصد المناطق الباردة والمظلمة من الفضاء. وثمة أيضاً مرقابان آخران في المنطقة نفسها، كل منهما يقوم بمهام محددة من الفلكيين العالميين.
ومن بين أهداف المرقاب الأعظم جمع معلومات حول تشكّل بنَى الكون الأولى، ومعلومات أخرى حول مصدر العناصر الكيميائية والثقوب السود. والأهم من كل ذلك هو معرفة ما إذا كانت هناك حياة خارج كوكب الأرض، فالفلكيون غير واثقين اليوم من وجود كوكب، مثل كوكبنا، يبعد بمسافة تعادل المسافة التي تفصلنا عن الشمس، وهذا لا يعني عدم وجوده، بل السبب هو عدم وجود الوسيلة الكاشفة التي تسمح بالبت في الأمر، هذا الأمر سيكون متاحًا بفضل المرقاب الأعظم. وحتى يتم تحسين الأرصاد، فالمرايا التي يتكون منها المرقاب ستكون قادرة على تغيير شكلها مئات المرات في الثانية لمواجهة الاضطرابات الجوية.
وهكذا، من المنتظر أن يتحقق تقدّم كبير بفضل هذا المرقاب، وذلك بدراسة الكواكب الخارجية، والثقوب السود، والمجرّات البعيدة، وتحليل طبيعة المادة، وكذا ما يعرف بالطاقة السوداء، وفيزياء اللحظات الأولى (إثر الانفجار الأعظم). ويأمل العلماء في اكتشاف الكواكب الخارجية التي لها حجم الأرض، وفي التوصل إلى التمييز أكثر بين بعض الأجرام السماوية. كما أن الأمل كبير في دراسة بيئة النجوم قيد التكوين. ويبقى الهدف الرئيس من المراقيب العملاقة هو «مشاهدة» أولى المجرّات والنجوم التي شكلت بعد الانفجار الأعظم بنحو بضع مئات من ملايين السنين. إنه أمر أساس لفهم تشكّل وتطور المجرّات في مجملها. ويمكن القول إن ما هو مطلوب من المرقاب الجديد حول التعرف على هذه الخصوصيات هو استكمال ما لم ولن يتمكّن المرقاب الفضائي «هابل» Hubble من تحقيقه. من المعلوم أن «هابل» قد دُشِّن عام 1990 وشهد خللا تكرَّر عبر السنين وأُصلح مرارًا، ومن المتوقع أن تنتهي مهامه نحو عام 2020، وسيظل في الأجواء مدة طويلة قبل القيام بعملية إسقاطه على الأرض بين عامي 2030 و2040.
الكواكب الخارجية
أشرنا إلى أن من أبرز مهام مرقاب القرن الثاني والعشرين اكتشاف الكواكب الخارجية، فما هو هذا النوع من الكواكب؟ الكوكب الخارجي (أي خارج النظام الشمسي): هو كوكب لا يدور حول الشمس بل يدور حول نجم آخر. ففي عام 1995 تم اكتشاف أول كوكب من هذا القبيل. وفي عام 2005 تعرف الفلكيون على 155 كوكبًا خارج النظام الشمسي، لكن هذا التعريف توسع إثر بعض الاكتشافات وصار يشمل الكواكب التائهة، أي تلك التي لا ترتبط بجاذبية أي نجم في الكون. كما يمكن أن يشمل التعريف الكواكب التي تدور حول الثقوب السود.
وقد تزايد اكتشاف الكواكب الخارجية منذ عام 2008، وهي تدور في معظمها حول نجوم تقع على بعد نحو 400 سنة ضوئية من النظام الشمسي. فحتى ربيع عام 2014، بلغ عدد الكواكب الخارجية المكتشفة بصفة مؤكدة 1783 كوكباً. وهناك بالموازاة مع ذلك آلاف الكواكب الخارجية الأخرى اكتشفتها المراصد الأرضية والفضائية، مثل المرصد الأمريكي كبلر Kepler الذي دُشّن عام 2009 وستنتهي مهامه عام 2016، غير أن غالبية هذه الاكتشافات لاتزال تنتظر التأكيد.
ويتوقّع العلماء أن يكون هناك أكثر من 100 مليار كوكب في مجرتنا وحدها، بل هناك من يتوقع 200 مليار! ولا شك في أن لبعضها أقماراً تدور من حولها، في حين تؤكد دراسة صدرت في خريف 2013 أن هناك أكثر من 8 ملايين كوكب في مجرتنا شبيهة بكوكب الأرض. هل، يا تُرى، سيكون هناك إمكان تسمية كل هذه الكواكب بأسماء دقيقة، وهل سيتعرف عليها المرقاب الأعظم؟!
ومن مهام هذا المرقاب أيضاً التبحّر في عالم الثقوب السود. والثقب الأسود هو كائن سماوي شديد الكثافة، ما يجعل حقل جاذبيته يمنع انفلات أي مادة أو إشعاع منه، ويمتص ما حوله. ومثل هذه الثقوب تتميز بكونها لا تستقبل الضوء ولا تعكسه، لذا تكون سوداً وخفيّة.
وإذا عدنا إلى الكواكب الخارجية التي أحصيت حتى الآن نلاحظ أنه تم اكتشافها بإحدى طريقتين:
- طريقة العبور: يمرّ الكوكب أمام النجم فيخفيه نسبياً، ومن ثمّ يلحظ المرقاب ذلك.
- طريقة السُّرع الشعاعية: يتقدم النجم ويتأخر بعض العشرات أو المئات من الأمتار/ثانية إذا ما كان الكوكب في موقع معيّن بالنسبة للنجم، وذلك بسبب الجاذبية.
لكن المشكلة هنا تتمثل في أننا لا نستطيع في هذه الظروف تصوير الكواكب الخارجية بطريقة مباشرة. فمن الأمور المنتظرة من مرقابنا العملاق البحث عن كواكب خارجية ضعيفة الكتلة بطريقة السُّرعات الشعاعية. ومن المتوقع أن يكشف بهذه الكيفية عن كواكب بحجم الأرض وتصوير كوكب المشتري. وفي هذا السياق، يطوّر المختصون أدوات وتجهيزات فائقة الدقة لتسهيل تلك المهام الرصدية. ونظراً لصغر حجم الكثير من الكواكب، فإن المراقيب العملاقة – مثل مرقاب القرن الثاني والعشرين - هي الكفيلة بتصوير الكواكب بالشكل المنشود.
ومع ذلك، يقول العلماء إنه ينبغي ألا نأمل في الحصول على صور جذابة من حيث الدقة والجمال، لكنها ستكون صوراً نستطيع استغلالها من خلال تحليلها عبر الأجهزة والآلات المتوافرة واستخلاص كمّ من المعلومات النادرة. لا شك في أن الجيل المقبل من الأجهزة المتطوّرة سيجعل نوعية تلك الصور تتحسن تدريجياً بشكل لافت. وبعد أن يتمكن المرقاب من الفصل بين النجم وقمره القريب، سيبحث عن آثار الماء في شكل بخار أو سائل، وسيبحث أيضاً خارج جوار الأرض عن وجود عدد من الغازات نعرفها في محيطنا الأرضي، مثل الأكسجين وغاز الكربون. وحتى يتحقق ذلك المرقاب الأوربي الأعظم، علينا أن ننتظر سنوات بعد البدء في تشغيله في نحو عام 2020.
هل هناك منافس لهذا المرقاب؟ لا، ثمّة مشروعان عالميان تتزعّمهما الولايات المتحدة: قطر مرآة المرقاب الأول -المسمى «المرقاب العملاق ماجلان» Giant Magellan Telescope- لا يتجاوز 22 متراً سينصب في تشيلي، ويدعى الآخر «مرقاب الثلاثين متراً» (Thirty Meter Telescope)، وسيُثبّت في مرصد هاواي Hawaii، وسيكون قطر المرآة فيه نحو 30 متراً... لا أكثر! إذن، فلننتظر عام 2020 لندرك عظمة مرقاب القرن الثاني والعشرين .