ملف فلسطين: أهمية التاريخ الزمني الدنيوي لفلسطين لمكافحة الصهيونية: جورج قرم

 ملف فلسطين: أهمية التاريخ الزمني الدنيوي لفلسطين لمكافحة الصهيونية: جورج قرم
        

          ها قد مضى أكثر من مائة سنة وفلسطين تتعرض للاعتداء وتتحول إلى مصب للانفعالات العاطفية الأوربية والأمريكية، في تأييد أعمى للمشروع الصهيوني الغاصب في فلسطين، وهي انفعالات نشأت عن الصدمات الحضارية والثقافية الضخمة الناجمة عن تاريخ هاتين القارتين المليء بالعنف المتواصل.

          أولى هذه الصدمات تلك التي نجمت عن غزو شمال القارة الأمريكية من قبل المتشدّدين الإنجليز البروتستانتيين الذين رأوا فيها «أرض ميعاد» جديدة، التي وعد الله بها، لذلك استحلّوا القضاء على السكان المحليين دون رادع نفسي أو أخلاقي. بل على العكس، لقد أدّت هذه الإبادة الجماعية إلى ظهور ثقافة بأكملها، لاسيما في المجال السينمائي، تمجّد أعمال العنف ضد السكان المحليين. وتتجسّد هذه الصدمة السوداء في تاريخ القارة الأمريكية في الإنكار الدائم لحقيقة أعمال العنف الإبادية التي مورست بأقصى الوحشية على السكان الأصليين. كما ينبغي ألا نندهش أن ذاكرة هذا التاريخ الدموي الممجّد تشجع المواطنين الأمريكيين على قبول أو حتى على تأييد المزيد من شتى أعمال العنف التي يمارسها المستعمرون الأوربيون اليهود في فلسطين تحت شعار العودة إلى أرض الميعاد «القديمة». إن جميع المختصين في تاريخ القومية الأمريكية، القائمة على مفهوم «أمة من المؤمنين»، حلّلوا جيدًا عمق تغلغل هذه القومية الدينية الطابع في الثقافة الأمريكية المتشددة دينيًا، والمتأثرة نفسها بالقراءة الحرفية للتوراة.

          أما الصدمة الثانية، فهي وليدة أعمال العنف المستمرة تقريبًا، التي كان يمارسها الأوربيون من مختلف الثقافات على مواطنيهم من الديانة اليهودية. ظلت معاداة اليهودية لفترة طويلة ذات طابع لاهوتي في القارة الأوربية التي اعتنقت المسيحية على نطاق واسع. لكنها تحوّلت وتوسّعت في القرن التاسع عشر إلى معاداة للسامية لتأخذ طابعًا عنصريًا عميقًا. ويعود أصل هذا التحوّل إلى الاستخدام الخاطئ لتطور علم اللسانيات الذي قسّم العالم إلى لغات آرية ترى فيها التفوّق ولغات سامية تمثل فيها اللغة العبرية القديمة النموذج الأصلي، يفترض أنها أقل ثراء، وبالتالي أقل قدرة على التفكير والإبداع.

اليهودية كبش فداء

          في هذا السياق الجديد، أصبح استمرار اليهودية في أوربا كبش الفداء لكل العلل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن حركة التصنيع السريع في هذه القارة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وبالتالي، فإن الإبادة الجماعية ليهود أوربا في ظل النازية لم تكن لتتم لولا وجود هذا الهوس من «المعاداة للسامية» في سائر الثقافات الأوربية. إن كشف وتحليل مثل هذه الحالة الأوربية يساعد على فهم أسباب وكيفية توصل النازية إلى الحصول على الكثير من المعجبين والأتباع للنظرية الوهمية للمؤامرة اليهودية البلشفية، التي حلّت محل أسطورة المؤامرة اليهودية الماسونية التي ظهرت بعد الثورة الفرنسية.

          لكن على خلاف الأمريكيين في شأن الإبادة الجماعية للهنود الحمر، فإن الثقافات الأوربية قد اعترفت منذ الثمانينيات بهول هذه الإبادة الجماعية، التي قامت بها بحق الطوائف اليهودية الأوربية. ومن المفارقات أن الحكومة الأمريكية هي التي شجعتها على هذه الخطوة بإصدارها عام 1979 قرارًا بتشييد نصب تذكاري في واشنطن يخلّد ذكرى هذه  الإبادة الجماعية التي أطلق عليها في ذلك الحين اسم «المحرقة» تبعًا للمصطلحات القديمة في التوراة.

          لذلك أصبحت مكافحة معاداة السامية موضوعًا رئيسًا في السياسات الأوربية، وأصبحت تشكّل رمزًا محوريًا لتطور الوعي الأوربي ما بعد الحداثي وعنصرًا مركزيًا في السياسة الخارجية والداخلية لمعظم الدول الأوربية. وبالتالي اعتُبر قيام دولة إسرائيل إتمامًا منصفًا للتاريخ، بالمعنى الهيجلي للكلمة، أي كما كان يراه الفيلسوف الألماني الكبير هيجل في كتابه الشهير حول فلسفة التاريخ، حيث يصف مسار التاريخ على أنه صعود العقل والعقلانية، وتجسّد العقل في الدول الأوربية الحديثة. كذلك نشهد انتشارًا لمفهوم يتسع بشكل متزايد في مكافحة المعاداة للسامية ينبذ بشدة انتقاد الممارسات الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين، ويشبّه معاداة الصهيونية بمظهر عنيف من مظاهر معاداة السامية. فأقيم بالتالي في جميع الدول الغربية، جدار من الحماية المعنوية لمصلحة دولة إسرائيل وممارساتها الإجرامية، مما ساهم في مزيد من إهدار الحقوق الفلسطينية على مرّ السنين.

فلسطين ضحية لعنصرية أوربا

          وقد قامت الدول الأوربية للتعويض عن عجزها في إزالة معاداة السامية خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين - ممّا كان من شأنه أن يجنّب إبادة جماعية بين عامي 1939 و 1945 - بالنبذ المنظم لمعاداة السامية، ليس فقط في بلادها، بل في سائر أنحاء العالم. من أجل ذلك، قامت الدول الأوربية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية بمبادرة إنشاء يوم دولي سنويّ مخصص لإحياء ذكرى ضحايا المحرقة، مبادرة تبنّتها عام 2005 الجمعية العامة للأمم المتحدة. بهذا، يكون الضمير الأوربي قد خفّف من مسئوليته الخاصة في الإبادة الجماعية للأوربيين المنتمين للطائفة اليهودية خلال العهد النازي، وذلك بفرض تقاسمها مع ضمير مواطني بقية دول العالم. علمًا أن الشعوب الأوربية وحدها هي المسئولة عنها. وزيادة في هذه السخرية المؤلمة، فإن الفلسطينيين، ضحايا التاريخ الديني والعنصري العنيف لأوربا التي أنجبت الكيان الصهيوني، يرون أنفسهم مجبرين من قبل ما يسمّى بـ«المجتمع الدولي» على الخضوع لما يُمليه عليهم سلاّبُهم وعلى حماية اليهود المهاجرين المستوطنين في فلسطين، تحت طائلة اتهامهم هم أيضًا بالمعاداة العنيفة للسامية وبالإرهاب إذا قاوموا بالسلاح احتلال أراضيهم من قبل الصهاينة.

          وفي هذا الإطار، يتحد اليوم صانعو القرارات السياسية الأوربيون والأمريكيون في منطق التحجّر نفسه لمذهب الدعم الأعمى، ذي الطبيعة البافلوفية (أي ردة الفعل التي يقوم بها الإنسان عند تعرّضه لسماع كلمة معينة أو لإثارة مشاعره على مشهد معين، كما نظر لها العالم الروسي المشهور في قواعد التصرف الجسدي والعصبي إيفان بافلوف (1849 - 1939) الذي درس هذه الظاهرة عبر تجارب على الكلاب)، لدولة إسرائيل، منطق ما من شيء ينال منه. ولذلك لايزال التكفير عن الإبادة الجماعية للطوائف اليهودية الأوربية يتحقق من خلال الدعم المطلق للكيان الصهيوني وممارساته العنيفة ضد السكان الفلسطينيين وضد كل شعب يساندهم، مثل الشعب اللبناني. فباسم هذا التكفير تم إغفال قواعد القانون الدولي وكل مبادئ القانون  الإنساني التي لم تُطبّق على هذا الكيان الغاصب الجديد. كذلك يفرض هذا التكفير على الفلسطينيين الذين تستعمر أراضيهم على نحو متزايد منذ 021 عامًا وإجبارهم على حماية أمن مستعمريهم. وهذا ما لا سابقة له منذ تصفية الاستعمار إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية.

          لقد اعتاد الكثير من الأوربيين والأمريكيين والعرب، ظنًا منهم القيام بعمل جيد، التنديد بانفعال شديد بتأثير جماعات الضغط اليهودية الموجودة في أوربا وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك كما عبّر عنه أخيرًا كتاب أستاذين أمريكيين، جون ميرشايمر (John Mearsheimer) وستيفن والت (Stephen Walt)، حول النفوذ الخطير لجماعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة وبشكل خاص على سياساتها الخارجية. وبالتالي، فهم يحمّلون هذه الجماعات وحدها مسئولية هذه الحالة الشاذة. ويبدو واضحًا في تحليلهما أن الحكومات الأوربية أو حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عاجزة أمام هذا الجبروت المنسوب إلى جماعات الضغط هذه «اللوبي»، بل يُلتمس لها المعاذير لأن جماعات الضغط هذه، التي حصلت على قوة استثنائية لا مثيل لها، سلبتها إرادتها.

خرافة جماعات الضغط

          ولذلك، يجب أن يحارب التباس مثل هذا الادّعاء الذي يعفي الحكومات الغربية من أي مسئولية في الاغتصاب الاستيطاني لفلسطين وإقامة الكيان الصهيوني، زاعمًا أن إرادتها أصبحت مشلولة بفعل القوة الخارقة لجماعات ضغط يهودية. في الواقع، إن جماعات الضغط هذه لا يمكن أن تظهر بمثل هذه القوة إلا لأنها تعبّر عن حدّة الانفعالات العاطفية الأوربية والأمريكية المتجذّرة بعمق في التاريخ المتميّز بعنفه لهاتين القارتين، والتي لخّصناها هنا بإيجاز. إن فعاليتها ليست سوى التعبير عن قوة إنكار الحقائق التاريخية البشعة التي تمارسها ثقافة الدول الأوربية وثقافة الولايات المتحدة الأمريكية. إن عدم الأخذ بعين الاعتبار هذه الحقائق يعني أن نحكم على أنفسنا بإنتاج صيغة جديدة «للمؤامرة اليهودية» تشبه كتاب الهجاء المشهور المعادي للسامية الذي صدر في نهاية القرن التاسع عشر، المعروف باسم «بروتوكولات حكماء صهيون». ويعني خاصة أن نعطي حكومات الدول الأوربية وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية ذريعة تبرر بسهولة رفضهم معاقبة جميع أعمال العنف اليومية التي يرتكبها المستوطنون الأوربيون الذين هاجروا إلى فلسطين ضد أبناء هذا البلد الأبرياء، العربي الهوية منذ 13 قرنًا.

          في الحقيقة، إن تفكيك تلك الانفعالات العاطفية، الأوربية والأمريكية، التي تبلورت حول مصير فلسطين المشئوم، يتطلب الأخذ في الاعتبار أن المظاهر المظلمة للثقافة الأوربية والأمريكية قد أصبح يجسّدها نمط الوجود الإسرائيلي، الاستعماري والرافض في آن معًا لكل المكتسبات الإنسانوية لفلسفة الأنوار. هذه الأخيرة، التي يحطّ اليوم من شأنها انتشار فلسفة المحافظين الجدد وفلسفة ما بعد الحداثة، هي التي كانت قد حرّرت الأوربيين المنتمين للدين اليهودي والمقموعين في الحياة الاجتماعية الأوربية، بإعطائهم المواطنة الكاملة في أغلبية الدول الأوربية التي كانت قد حرمت منها في عهد الأنظمة الأوربية الملكية القديمة، المبنية شرعيتها على المرجعية المسيحية، وذلك حتى مجيء الثورة الفرنسية.

          في إطار تعريف هوية «الغرب» الأسطورية الطابع، والتي انتشرت عبر القوميات المختلفة والمدعية أنها تحمل القيم اليهودية - المسيحية، بالرغم من أن قيم المسيحية قد نشأت وتطورت بالتعارض المطلق مع قيم اليهودية، ندرك أن المغامرة الصهيونية الاستيطانية ليست سوى هبّة انفعال استعماري متجدد، تمخّضت عن رغبة القوة والسيطرة المتجددة باستمرار لدى الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية. هذه الرغبة قوية جدًا وراسخة في الحفاظ على فلسطين كأرض مستعمَرة، وكمركز أمامي شرق أوسطي للهيمنة الأوربية الأمريكية على العالم المتوسطي والآسيوي، بحيث نرى إلى أي مدى يتم خنق أصوات المواطنين الأوربيين والأمريكيين، وحتى الإسرائيليين، المنتمين للديانة اليهودية والمعارضين لمشروع إرساء دولة دينية يهودية في فلسطين، دولة تزعم الكلام والتصرّف نيابة عن كل المنتسبين إلى اليهودية. كذلك نرى إلى أي مدى وبكل الوسائل تحارَب أصوات المواطنين الآخرين الأوربيين والأمريكيين الرافضين لفكرة إقامة دولة صهيونية مغتصبة لحقوق الآخرين.

الإرهاب الفكري وحرب الحضارات

          إضافة إلى هذا، لاشيء يسهّل هذا الإرهاب الفكري أكثر من أجواء «حرب الحضارات» التي أشاعها صموئيل هينتنجتون. وإذ حصلت هذه الأطروحة المغرضة على تأييد واسع، ذلك أنها تستعيد تقاليد أسّس لها في العالم الحديث إرنست رينان الذي كان يرى في الإسلام خطرًا كبيرًا على الحضارة الأوربية الآرية، ولقد استكملتها كذلك أعمال المستشرق برنارد لويس. حتى أن هذه الأطروحة قد وُضعت قيد التنفيذ عسكريًا على الأرض في السنوات الثماني، التي دام فيها عهد جورج بوش الابن على رأس الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قُررت حروب وقائية دموية تحت شعار النضال ضد جماعات «إسلامية فاشية» مزعومة.

          علاوة على ذلك، وكصدى للقيم اليهودية المسيحية - التي حلّت في المحل الذي أعطي سابقًا في الثقافات الأوربية للقيم الإغريقية الرومانية - تُستدعى القيم العربية الإسلامية بشكل متماثل وبحكم الواقع على الجهة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط. ولأن القومية الفلسطينية والعربية العلمانية أخفقت في إسماع صوتها في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، فإن التعبير عن رفض الوجود الصهيوني ومقاومة السلب والعنف الذي يُمارس ضد الفلسطينيين قد اتخذ هو بدوره أيضًا منحى دينيًا كما هو واضح من تنامي المقاومة المسلحة من جانب «حماس» و«حزب الله».

          ولهذه الأسباب يجب أن نشعر بحاجة ملحّة لتجنّب الوقوع في كل أنواع الخياليات الانفعالية واستعادة وعينا الوضعي الدنيوي كي نتمكّن من إعادة فلسطين إلى أبنائها الأصليين. ذلك أن النضال لتحريرها ليس فقط من أجل إنهاء آلام الفلسطينيين، بل له أيضًا بعد لبناني لأن الوجود اللبناني المتعدد الطوائف إلى جوار الكيان الصهيوني يثير باستمرار العنف المتواصل الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي ضد اللبنانيين، كون كيانهم يناقض في الجوهر الشرعية المزيفة الإقصائية الطابع دينيًا التي يستند إليها الكيان الصهيوني لتبرير وجوده الغاصب. أكثر من ذلك، علينا أن نناضل لمنع تحول أرض منبع الديانات التوحيدية الثلاث إلى «سند تملّك عقاري حصري» للديانة اليهودية (كما ذكر الراحل الأب يواكيم مبارك، عالم اللاهوت والتاريخ اللبناني)، بحجة النص التوراتي من جهة، وبذريعة الإبادة الجماعية، التي تعرض لها الأوربيون اليهود في أوربا وليس في الشرق الأوسط، في فلسطين - مثلاً - أو الدول المجاورة لها، من جهة أخرى.

          إن إنهاء نظام التمييز العنصري الصهيوني يسمح وحده بإزالة كل أشكال الإرهاب النفسي والفكري والحربي، التي عزّزها بشكل ملحوظ تطبيق نظرية صدام الحضارات. لنستذكر أن نظام التمييز العنصري قد طبّق سابقًا في أوربا لأسباب دينية، ومن ثم في إفريقا الجنوبية لأسباب استعمارية ودينية، وأيضًا في الولايات المتحدة الأمريكية تجاه السكان الأصليين والسكان من الأصول الإفريقية، ولايزال يطبق إلى اليوم بشكل متزايد في فلسطين.

فلسطين تقرر سلام العالم

          ففي فلسطين إذن، يتقرر مصير السلام العالمي المهدد باستمرار من القوى الغربية المساندة للكيان العنصري الصهيوني. وينبغي أن تكون هذه المعركة معركة كل المنصِفين من رجال دين وعلمانيين. فهناك مدارس توراتية يهودية، في فلسطين أو في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، تكافح منذ زمن طويل وبشجاعة لتظهر أن قيام دولة إسرائيل من الناحية الدينية هو الكفر بذاته، لذا علينا أن ندعم توجه ونضال تلك المدارس.

          وينبغي كذلك أن نعمل بفعالية أكبر على إبطال منهج العقيدة الأمريكية الأوربية الخيالية التي يقوم عليها دعمهم الأعمى لممارسات دولة إسرائيل. ثم ينبغي استعادة التاريخ «الدنيوي» لفلسطين الذي كرّس له عام 1989 مؤلفًا قيمًا المناضل التقدمي العروبي لطف الله سليمان، ليكون بديلاً عن تاريخ «مقدس»، نافيًا أن تكون أرض فلسطين أرضًا يهودية حصريًا، بل أرض مشتركة للديانات التوحيدية الثلاثة من الناحية الروحية، والديانة اليهودية ليست إلا أصغرها عددًا وانتشارًا. وكذلك يجب أن نطرح على أنفسنا وعلى العالم السؤال الجوهري التالي: هل لأن المستوطنين الذين هاجروا من أوربا إلى فلسطين ينتمون للديانة اليهودية يقاومهم الفلسطينيون؟  أم لأنهم مستوطنون قدموا من وراء البحار، وأن استعمارًا بوذيًا أو هندوسيًا كان سيلاقي المقاومة نفسها من قبل أصحاب الأرض والحق أي الفلسطينيين؟

          هل هي الديانات أو الحضارات أو الثقافات التي تسبب الحروب والعنف؟ أم طموحات الدول ورجال السياسة والمثقفين الباحثين عن المجد السهل؟ هل هي الدول العربية التي غزت واستعمرت أرضًا أوربية في عالمنا المعاصر؟ أم هي الدول الأوربية التي هيمنت على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط ودعمت بشكل لا متناه إنشاء معقل مسلح على هذا الساحل، لإيواء اليهود الأوربيين، مبررًا مثل هذا العمل العدائي الغاصب بنصوص دينية توراتية؟

لا ذنب للعرب حتى يعاقبوا

          تلك هي بعض العناصر التي نحتاج إليها في مقاربة نزاعنا مع العدو الصهيوني وكل مَن يؤيده والتي تؤمِّن لنا الحسّ السليم والصحة العقلية، وهي غالبًا ما تغيب عن المناقشات الخاصة بفلسطين. فاعتماداً على هذه العناصر يجب أن نقارب النضال المعنوي والروحي الذي لابدّ من أن يترافق بالمقاومة على الأرض. ذلك أن من خلالها نتجنّب الدخول في مناقشات لا طائل منها، والخضوع لمختلف أشكال الإرهاب الفكري، مثل إرهاب الفيلسوف الألماني من أتباع المحافظين الجدد والذائع صيته ليو شتراوس (Leo Strauss) الذي ذمّ النموذج المعتمد في الخيال حول الديمقراطية الإغريقية في أثينا ليؤكد الصلاحية التامة والمساوية له، إن لم تتفوّق عليه، لتيوقراطية القدس العبرية القديمة الزائلة.

          إن فلسفة ما بعد الحداثة هذه التي ساهم فيها ليو شتراوس تكوّن إطارًا آخر لتبرير تجريد الشعب الفلسطيني من أرضه وممتلكاته وهي فلسفة تسعى لإرساء شرعية الكيان الصهيوني التي لن يحصل عليها أبدًا لدى الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية، ليس بسبب معاداة السامية، ولكن لأن العالم العربي لم يشارك في التاريخ المضطرب والدموي للعلاقات اليهودية المسيحية في أوربا، وبالتالي لا يمكنه أن يتقاسم هذه الانفعالات العاطفية المنحرفة الأوربية والأمريكية. ولذا يجب أن نرفض جميعًا، جملة وتفصيلاً، كل تلك الطروحات الغربية الإرهابية والاستعمارية الطابع - وإن أخذت الطابع الديني والفلسفي في آن واحد - وبشكل لا يفتح أي ثغرة في جدار الرفض العربي للكيان الصهيوني. وإن تساهلت بعض الأنظمة العربية تجاه وجود هذا الكيان، فذلك لن يجرّ أبدًا الأغلبية الغالبة لشعوبهم إلى مشاطرتهم مثل هذا التساهل.

          لذلك ثمة حاجة ملحّة للتعبير عن رفض كل من النموذج الإثني والنموذج التيوقراطي على طريقة التوراة، والمطالبة ببديل عن هذين الطرحين بتنفيذ إنسانوية دنيوية وضعية صارمة وحقيقية في فلسطين. لأن فقط مثل هذه المقاربة كفيلة بمنع خضوع فئة من الشعب على أرض معينة لاحتقار عرقي أو ديني، ولاضطهاد دموي الطابع كما يحصل في فلسطين، بعد أن حصل في مناطق أخرى من العالم والتي تمّ استعمارها سابقًا، أو - على العكس - تمتّع فئة أخرى - أي اليهود الصهاينة -  بإعجاب لا حدود له يضعها فوق القانون، كما هو الحال بالنسبة إلى المستوطنين الصهاينة في فلسطين وأفراد جيشها الذين يرتكبون المجازر اليومية الوحشية بحق الفلسطينيين، دون نسيان المجازر الرهيبة العديدة ضد اللبنانيين، وذلك دون أن يحالوا إلى المحاكمة من قبل «المجتمع الدولي». فوحده منهج دنيوي إنسانوي ووضعي، يحترم كرامة كل إنسان بغض النظر عن أصوله الإثنية أو الدينية، قادر على مداواة فلسطين من الوعي التاريخي الغربي الزائف، الناتج عن سلسلة من أعمال العنف الدينية والعنصرية الطابع التي ارتكبها المستعمرون الأوربيون في كل أنحاء العالم. وما الإعجاب الغربي تجاه أعمال العنف الصهيونية وحركته الاستيطانية في فلسطين إلا تعبير عن كونه نسخة طبق الأصل مغرية جدًا عن غزو القارة الأمريكية، أرض الميعاد الجديدة في نظر الغازين.

          ومما لاشك فيه أنها لا تزال معركة طويلة. فلنتأمل فيها جيدًا على المستوى الفكري حتى نتوصل إلى اعتماد الأسلوب النافذ الفعّال في التعبير عن رفض كل أشكال الترويج المفسد وغسل الأدمغة الذي نتشرّبه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والمتعلقة بالتبريرات المنحرفة الخاصة بإضفاء شرعية مزيفة على اغتصاب الحقوق الفلسطينية من قبل الكيان الصهيوني وكل مَن يؤيده بشكل آلي في الدول الغربية.
---------------------------------
* مفكر ووزير لبناني سابق.

 

 

 

جورج قرم