استخدامات الذكاء الاصطناعي بنظام تحديد المواقع العالمي حلول علمية لمشكلات مستعصية
لم تعد استخدامات نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس) Positioning System Global مقتصرة على الأغراض العسكرية التي أنشئ النظام من أجلها، ولم يعد سرياً جداً كما كان الأمر في بداياته، بل أصبحت تلك الاستخدامات متنوعة ومتعددة لتشمل مجالات كثيرة، لعل أهمها عمليات النقل والشحن والطيران والملاحة الجوية، التي تستخدمه لمتابعة حركة الآليات وتوجيهها بدقة متناهية، إضافة إلى السيارات التي صارت مزودة بخرائط تفصيلية للشوارع وأفضلها وأقصرها، فضلاً عن إدارة الكوارث والتنبؤ بها والحد من آثارها، من خلال تعقب الأعاصير والفيضانات ومراقبة حرائق الغابات وحـــركة الجــــبال الجليدية.
وبعد أن استخدمت الولايات المتحدة نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) بهدف الاستطلاع والمراقبة من قبل وزارة الدفاع الأمريكية، استخدمته بعدها للأغراض المدنية منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي. وهو نظام يتكون من 24 قمراً اصطناعياً تزود المستخدم - على مدار الـ 24 ساعة - بالموقع ذي الإحداثيات الثلاث بدقة عالية جداً، وبالمعلومات الزمنية لأي مكان من الكرة الأرضية.
لكن وجود الأخطاء والتشوهات الكثيرة في الشبكات الطبوغرافية الحالية المنفذة باستخدام الطرق المساحية التقليدية (أي الشبكات غير المرصودة بنظم الأقمار الاصطناعية) جعلها غير متناسبة مع المتطلبات الحديثة العلمية والأمنية، كالتنبؤ بالزلازل ومراقبة تحركات القشرة الأرضية وانزلاق التربة واستقرار المنشآت الضخمة، كالأبنية العالية والجسور المعلقة والأنفاق الطويلة ومحطات الطاقة ومصافي الغاز والبترول، وغيرها من المنشآت الحساسة.
ومع تقدم التكنولوجيا، لاسيما في مجال المساحة الفضائية والجيومعلومــــاتية، أصبح من الأهمية المـــــتزايدة والضــــرورة الملحة إنشاء «الشبكات الجيوماتيكية» الكبيرة المرصودة باستخدام النظم العالمية لتعين المواقع الإحداثية ومن ثم ربطها بإطار «جيوديزي» عالمي متناسق ودقيق.
تتكون هذه النظم العالمية من النظام الأمريكي (جي بي إس) والنظام الروسي (غلوناس) والنظام الأوربي الحديث (غاليليو).
تطبيقات عملية
إضافة إلى ما ذُكر آنفاً، يمتلك نظام تحديد المواقع العالمي تأثيراً فعَّالاً في كل المجالات الهندسية والجيوفيزيائية، لاسيما الأعمال المساحية في تحديد المواقع والتغيرات الحاصلة فيها بدقة متناهية وبكلفة قليلة، وخلال فترات رصد قصيرة. يمكن تحقيق ذلك من دون الحاجة إلى توفير شرط الرؤية بين النقاط المساحية، الذي يُعدُّ أساسياً في حال الشبكات الطبوغرافية. وتكمن قدرة نظام «جي بي إس» في تنفيذ المساحة الدقيقة للأغراض الجيوديزية بجزء من الزمن والكلفة أكثر مما هو مطلوب منه في الطرق التقليدية. إن استخدام أجهزة نظام الـ «جي بي إس» مكلف جداً مقارنة بالطرق الأخرى، لكنه يصبح مهماً جداً عندما تزداد كمية الأعمال كما في حال الشبكات الجيوماتيكية الكبيرة. تُشكل هذه الشبكات الإطار الأساس للحصول على المعلومات الجيوماتية لمعظم تطبيقات الحياة العملية، كإدارة الكوارث وتصميم شبكات الاتصالات الضخمة وجدولة تنظيم حركة المرور في المدن الكبرى وإيجاد المواقع المثالية لمحطات ومخازن الطاقة والسدود، وغيرها من المنشآت الحيوية الضخمة.
يمكن تعريف الشبكة الجيوماتيكية، وفقاً للمساحة الفضائية باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس) بأنها مجموعة من النقاط المساحية (stations)، التي يتم تعيين إحداثياتها بوضع أجهزة الاستقبال عليها لتحديد الأشعة أو القياسات الزمنية (sessions) بين هذه النقاط، كما هو مبين في الشكل 2، أي يتم تحديد هذه الشبكة باستخدام قياسات الأشعة الثلاثية الأبعاد (3D). يُعرف الشعاع أو القياس بالفترة الزمنية أو مدة الرصد التي يحتاج إليها جهازا استقبال أو أكثر لتسجيل أو التقاط الإشارات المبثوثة في آن واحد من الأقمار الاصطناعية. إن العدد الأصغر اللازم لأجهزة الاستقبال هو اثنان، وتصبح مسألة تصميم الشبكة أكثر أهمية وتعقيداً مع ازدياد هذا العدد، خاصة عند تصميم شبكات الإنذار المبكر.
والأمر المهم هنا هو البحث عن أفضل ترتيب لتنظيم الأشعة الزمنية بحيث تُعطي أفضل برنامج عمل ممكن (أقل كلفة) لإتمام رصد كامل هذه الأشعة. وهذا يعني عملياً تحديد الكيفية التي سيتم بها نقل كل جهاز استقبال بين النقاط المراد تحديد إحداثياتها بأسلوب فعَّال يأخذ في الحسبان بعض العناصر المهمة كالزمن والدقة والكلفة.
وبعد الانتهاء من عملية الرصد يتم تجميع هذه الأشعة في الحاسوب لمعالجتها وتحليلها والحصول على الخريطة الإلكترونية الرقمية التي تُبنى عليها قاعدة البيانات الأساسية والمعلومات التفصيلية لكامل المنطقة المغطاة بالشبكة الجيوماتيكية. تُستخدم نظم المعلومات الجغرافية (جي آي إس) (Geographic Information System GIS) لإدخال وتنظيم هذه البيانات، وبالتالي الحصول على الخريطة الرقمية لكامل الشبكة الجيوماتيكية. وتستطيع الطرق الحسابية الدقيقة حل شبكات صغيرة فقط، وهي ليست عملية مع ازدياد أبعاد الشبكة. وبالتالي، فمن المهم جداً الحصول على طرق عملية مبنية على خوارزميات الذكاء الاصطناعي، التي يمكنها تزويد التصميم المثالي أو القريب من المثالي لشبكات كبيرة بزمن حسابي مقبول، وبأقل تكلفة ممكنة.
خوارزميات الذكاء الاصطناعي
ثمة تطور مهم في عمل نظام تحديد المواقع العالمي، يتمثل في عملية التصميم المثالي للشبكات الجيوماتيكية بأسلوب علمي مبرمج، مبني على استخدام نمذجة خوارزميات الذكاء الاصطناعي. يعتمد مبدأ عمل هذه الخوارزميات على استخدام التصميم الأولي للشبكة، الذي تم تشكيله اختيارياً أو تجريبياً، ثم تحسينه في تصميم جديد أفضل من سابقه بتطبيق سلسلة من عمليات التحسين المتتالية. تُكرر هذه الخوارزميات تطبيق هذه العمليات على التصميم الجديد المعتمد في كل مرحلة بغية إيجاد أفضل تصميم ممكن. تُوقِف الخوارزميات عمليات التحسين فور الحصول على التصميم المثالي النهائي للشبكة الجيوماتيكية، الموافق للشروط المحددة.
تُعد الخوارزميات، المبنية على مبادئ ومفاهيم وأفكار ونظريات الذكاء الاصطناعي، أحدث الأساليب المطوَّرة والأكثر استخداماً في إيجاد الحلول المثالية لمشكلات عدة في مجالات متنوعة وواسعة في الحياة العملية كعلوم الإدارة والإحصاء والبحث العملياتي وكل المجالات الهندسية والمعلوماتية... إلخ. وتتصف هذه الخوارزميات بقدرتها على ابتداع طرق ديناميكية ملائمة لطبيعة المسألة المراد دراستها وتحديد الصيغة العملية لإيجاد الحل الأكثر مناسبة من بين مجموعة الحلول الممكنة لدراسة هذه المسألة، ومن ثم تحسين قيمة هذا الحل إلى أقصى حدود الإمكانية.
ويُقصد بمفهوم التحسين وفق مبدأ الذكاء الاصطناعي إيجاد الحدود الدنيا لتكلفة تصميم ما، أو الحدود العظمى للاستخدام الفعَّال لهذا التصميم. مثلاً، في الهندسة الميكانيكية يهدف المهندس المُصمّم إلى إيجاد التصميم المثالي للسيارة آخذاً بعين الاعتبار جميع العوامل الهندسية والاقتصادية والفنية... إلخ، فالمهندس الميكانيكي يهدف باستخدام التحسين إلى الحصول على أفضل تصميم ممكن لسيارة نموذجية تتوافر فيها في آن واحد الحدود العظمى لعوامل الأمان والقوة والجاذبية والخفة والكلفة... إلخ (الحدود العظمى في هذه الحالة)، أما في الهندسة الجيوماتيكية، فيهدف المهندس المصمم إلى إيجاد التصميم المثالي للشبكة الجيوماتيكية، آخذاً بعين الاعتبار كل الشروط الفنية والهندسية والاقتصادية... إلخ، فالمهندس الجيوماتيكي يهدف باستخدام التحسين إلى الحصول على أفضل تصميم ممكن لشبكة جيوماتيكية نموذجية بأسرع وقت وبأقل تكلفة (الحدود الدنيا في هذه الحالة).
مراحل تطبيق الخوارزميات
تتألف المراحل الأساسية لتطبيق أي خوارزمية متطورة في تصميم الشبكة الجيوماتيكية مما يلي:
1- مرحلة التصميم الأولي للشبكة الجيوماتيكية وفقاً للشروط الفنية والهندسية والاقتصادية.
2- مرحلة تشكيل مجموعة التصاميم البديلة المجاورة والمشتقة من التصميم الأولي للشبكة، حيث تحتوي هذه المجموعة على تصاميم ذات حلول متنوعة، جيدة ومتوسطة، وهدف الخوارزمية اختيار أفضل تصميم ممكن. تكمن صعوبة هذه المرحلة في تحقيق التوازن بين عدد التصاميم البديلة والوقت الحسابي اللازم لاختبار هذه التصاميم بغية الحصول على التصميم الأفضل.
كلما كان عدد هذه التصاميم كبيراً أصبحت عملية البحث شاملة وطويلة، وتطلبت زمناً حسابياً أطول للبحث عن التصميم المثالي والعكس صحيح، لهذا فإن الاستخدام الفعّال لهذه الخوارزميات يتطلب تحقيق التوازن بين عدد التصاميم الناتجة والزمن اللازم لاختبارها.
3- مرحلة تحسين وقبول التصميم الأكثر مناسبة: تعتمد الخوارزمية التصميم الحالي وتطبّق عليه عمليات التحسين وتحوله إلى تصميم جديد أفضل من سابقه. تُعرف عملية التحسين بأنها تغيير في عوامل وشروط التصميم، كنقل أو مبادلة أو إعادة ترتيب مواقع رصد القياسات... إلخ، تكرر الخوارزمية عمليات التحسين على كل تصميم جديد ناتج من كل مرحلة، وفقاً للشروط المعينة، حتى يتم الحصول على التصميم الأمثل.
4- مرحلة الإيقاف: توقف الخوارزمية عمليات التحسين في حال عدم حصول أي تحسن ملحوظ على قيمة التصميم الحالي، وتعتمده كتصميم نهائي موافق للشروط المطلوبة. تتحدد مرحلة الإيقاف بإيجاد الزمن اللازم أو بالمجموع الكلي للعمليات المتكررة من بداية عمل الخوارزمية وحتى الحصول على التصميم الأمثل.
ويعتمد نجاح عمل هذه الخوارزميات على خبرة المصمم وعلى المعلومات المتوافرة عن المسألة المراد معالجتها. تبدأ الطريقة المبنية على أفكار الذكاء الاصطناعي باعتماد تصميم أولي للشبكة، وتحاول بشكل تكراري تحسين هذا التصميم بتطبيق سلسلة من تغييرات التحسين المحلية (المبادلة بين الأشعة الزمنية) التي يتم إنتاجها تبعاً لآلية مناسبة ومحددة حتى تحقيق صيغة إيقاف العمل والحصول على التصميم النهائي المثالي للشبكة ووفقاً للشروط المناسبة.
طرق تطبيقية متطورة
من أهم الطرق المبنية على أفكار الذكاء الاصطناعي المطوَّرة والمطبَّقة: طريقة البحث المتقارب المحلي، وطريقة التلدين التجريبي، وطريقة البحث المحظور. تعتمد الطريقة الأولى على مبدأ البحث والتفتيش في جوار التصميم الحالي، أما الطريقة الثانية فهي مشتقة من مبادئ العلوم الفيزيائية وبشكل أخص من الميكانيك الإحصائي، أما الثالثة فتعتمد على المبادئ العامة لحل المسألة بشكل ذكي من خلال الاستخدام الفعال لمفهوم ذاكرة الحاسوب. تقبل طريقة البحث المتقارب المحلي فقط التصميم الذي ينتج تخفيضاً في قيمة الكلفة. من الناحية الأخرى فإن كلا من طريقتي التلدين التجريبي والبحث المحظور تتضمنان استراتيجيات تنفيذية وتنظيمية متنوعة مبنية على المتانة والنماذج الحاسوبية من أجل الحصول على تصاميم بجودة عالية.
ويمكن استخدام الطرق الثلاث المعتمدة على أفكار الذكاء الاصطناعي والمبرمجة بلغة الحاسوب من أجل إيجاد أفضل تصميم ممكن للشبكات الجيوماتيكية. وتعتبر عملية تصميم الشبكات الجيوماتيكية باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي الأولى والفريدة من نوعها على مستوى العالم التي أجراها كاتب المقال، حيث تم تعديل عناصر وعمل هذه الخوارزميات لتناسب الطبيعة الديناميكية لتصميم الشبكات الجيوماتيكية، وتم تطبيقها بنجاح لإيجاد التصاميم المثالية لشبكات ضخمة في مالطا وسيشيل.
تطبيقات واعدة في الدول العربية
وبالنسبة لكلٍ من الشبكتين، أعطت طريقتا التلدين التجريبي والبحث المحظور المطوَّرتان تصاميم عالية الجودة من تلك التي تم رصدها في الواقع. بالنسبة للمهندس المسَّاحي الذي يستخدم نظام «جي بي إس»، فقد تبين أن هذه الطرق المطوَّرة تستطيع بشكل كبير تخفيض تكلفة تنفيذ عملية المساحة الفضائية. يتم حالياً تطبيق الخوارزميات المبنية على أفكار الذكاء الاصطناعي في وضع المنهجية العملية لمعالجة بيانات الخرائط التكتونية والمعطيات الزلزالية في عدد من الدول العربية (كنشاط الفوالق والتحركات الأرضية وتحديد سلوكها وتوقع حدوث الزلازل الكبيرة ومدى تأثيرها في السكان والمنشآت... إلخ).
توفر هذه المنهجية المرونة المناسبة لمعالجة الحجم الهائل للبيانات المجمعة بشكل سريع واقتصادي، ومن ثم إيجاد الحلول العملية لمعالجة تأثيرات هذه الفوالق. إضافة إلى ذلك، تساعد هذه المنهجية في الحصول السريع على جميع المعلومات المتعلقة بمنطقة الدراسة عن طريق جمع البيانات اللازمة (كالزلزالية, والتكتونية, والطبوغرافية, والجيومورفولوجية, والجيولوجية... إلخ) في قاعدة بيانات أساسية، ومن ثم تطبيق طرق التحليل المتقدمة التي تقود إلى المساهمة العميقة في فهم الوضع التكتوني الإقليمي، الذي يساعد في توضيح النطاقات الزلزالية وتحديد قيم تنبؤ النشاط الجيوديناميكي لمناطق الفوالق النشطة والصدوع الموزعة على المنطقة المدروسة وتحديد العلاقة الدقيقة بين درجة الاهتزاز الأرضي وحجم الزلزال المتوقع والأضرار الناجمة.
وتساعد هذه المنهجية في توفير الدعم الفعال لاتخاذ القرار في اختيار المواقع المناسبة لإقامة المواقع الحيوية والمــــشاريع الاستراتيجية، كالسدود ومحطات توليد الطاقة وتمديد أنابيب النفط والغاز... إلخ.
ويمكن تعميم هذه المنهجــــية بنـــجــاح لتــــشــمل منطقة فالق الانهدام العربي والفوالق الأخرى في الوطن العربي، وهذا يدعم المساهمة الفعالة لتحقيق النظام المتكامل الذي يقود إلى تخفيف أضرار وخطر الكوارث المختلفة التي تتعرض لها الدول العربية، كالزلازل والفيضانات وغيرها. ومادامت الطرق الثلاث المذكورة آنفاً ذات أهمية نظرية وعملية على حدٍّ سواء، فإنه لم يتم فقط تبيان وعرض أفضل النتائج، لكن تم اقتراح بعض النواحي المتنوعة لهذه الطرق. وهذا يوفر دافعاً قوياً وفرصة غنية للابتكار بتكييف وتعديل الطرق المذكورة من أجل حل وتحسين المشكلات العملية المساحية الأخرى، التي يكون فيها من الصعب جداً الحصول على الجدوى والحلول الجيدة.
والأمل معقود على الاستمرار في تطبيق هذه الطرق الواعدة، وانتشارها الواسع في المؤسسات العلمية والبحثية المعنية، والاستفادة منها في حل عدد من المشكلات التي تعاني منها المنطقة العربية، لاسيما الأضرار الناتجة عن الكوارث الطبيعية .