الأمن الغذائي العربي... الواقع المر والمستقبل القاتم
أرقام صادمة، وإحصاءات كارثية، ومستقبل قاتم... تلك هي النتيجة التي يخرج بها المتصفح لتقرير حديث يتطرق إلى الأمن الغذائي العربي من جوانبه كافة، مع شعور عميق بالأسى للفجوة الكبرى بين الإمكانات البشرية والطبيعية التي تمتلكها الدول العربية، وبين المخرجات المتواضعة جداً. وهو ما يستدعي وقفة استشرافية جادة من الجهات المعنية، وإجراءات علمية حاسمة على أرض الواقع.
يذكر التقرير – على سبيل المثال – أن العجز الغذائي العربي يبرز من خلال نسبة الاكتفاء الذاتي البالغة نحو 46 في المائة للحبوب، و37 في المائة للسكّر، و54 في المائة للدهون والزيوت؛ أي إن العجز يصل إلى نحو 50 في المائة من المواد الغذائية الأساسية.
كما أن المنطقة العربية تواجه معضلة ندرة المياه، التي تعكسها الحصة السنوية للفرد من الموارد المتجددة والبالغة أقل من 850 متراً مكعباً، مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يفوق 6000 متر مكعّب. ويبرز هدر المياه في المنطقة العربية من خلال استخدام نحو 85 في المائة من إجمالي السحوبات المائية لأغراض القطاع الزراعي، المتسم بتدني كفاءة الري وإنتاجية المحاصيل.
ويرى التقرير الذي أصدره المنتدى العربي للبيئة والتنمية بعنوان «الأمن الغذائي...التحديات والتوقعات» أن الموارد المائية النادرة، بما فيها المياه الجوفية غير المتجددة، تتعرض لضغوط هائلة، كما يتبيّن من المعدلات العالية للسحوبات المائية لأغراض زراعية، بمتوسط يساوي 630 في المائة من إجمالي المياه المتجددة في بلدان مجلس التعاون الخليجي، ويصل إلى 2460 في المائة في الكويت.
ويظهر أن 19 بلداً عربياً يمكن تصنيفها على أنها في حال من الإجهاد المائي؛ لأن معدلات السحب الحالية من مواردها المائية المتجددة لأغراض زراعية تفوق بأشواط عدة الحدود المقبولة.
الاكتفاء الذاتي الغذائي
على الرغم من المساعي الهادفة إلى تحسين وضع الأمن الغذائي من خلال الإنتاج المحلي للغذاء، تبقى البلدان العربية على المستوى القطري والمستوى الإقليمي مستوردة صافية للغذاء، خصوصاً الحبوب، وهي السلعة الغذائية الأساسية الرئيسة في المنطقة.
يقول د.عبدالكريم صادق، أحد المعدين الرئيسين للتقرير في مقدمته: إن الاعتماد الكبير للبلدان العربية على الواردات الغذائية يكشف عن هشاشة سلاسل الإمدادات الغذائية وتقلب أسعار الغذاء، كما يتبين من الأحداث والتداعيات التي رافقت الأزمة الغذائية العالمية في 2008. وفي سعيها إلى الحد من الاعتماد على الواردات الغذائية، تواجه البلدان العربية تحديات جدية بسبب محدودية الأراضي الصالحة للزراعة والموارد المائية النادرة، التي تعاني ضعفاً في القدرة الحيوية على إعادة إنتاج خدماتها، ويفاقم النمو السكاني والتغير المناخي التحديات، وهذا يستدعي إيلاء عناية بالغة لإدارة الموارد الزراعية المتوافرة واستخدامها لضمان استدامتها.
ويحد الرابط الوثيق بين الغذاء والماء من إمكانات البلدان العربية التي تعاني نقص المياه، في الإنتاج الغذائي المحلي. لكن احتمالات تعزيز الاكتفاء الذاتي الغذائي، كجانب من جوانب حلول ندرة الغذاء، تعتمد على عكس اتجاه تدهور الموارد الزراعية المتوافرة، وعلى استخدم هذه الموارد في شكل فاعل ومنتج، وفي هذا الإطار، تتضمن أولويات التخطيط والعمل خيارات مثل تحسين إنتاجية المحاصيل وإنتاجية المياه وفاعلية الري، وتقليص الخسائر التالية لمرحلة الحصاد، وتعزيز إعادة استخدام المياه في الزراعة على المستوى الوطني، كما يقول د.صادق.
ويرى التقرير أن من شأن تمتين التعاون البيني العربي في مواجهة مخاوف ندرة الغذاء، وفق الميزة النسبية في الموارد الزراعية ورأس المال القابل للاستثمار، بالترافق مع المواءمة بين السياسات الزراعية والاستراتيجيات التنموية، أن يمهد الطريق أمام تقليص اعتماد المنطقة العربية على الواردات. ولخلق سلسلة متكاملة للقيَم الغذائية أهمية كبرى في تحقيق الجوانب الكاملة للأمن الغذائي المتمثلة في التوفير وسهولة المنال والاستقرار والاستخدام.
تحديات غذائية جدية
تواجه البلدان العربية في مسعاها إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي الغذائي تحديات جدية ناتجة عن مجموعة من العوامل المقيِّدة، تشمل الجفاف، ومحدودية الأراضي للزراعة، وندرة الموارد المائية، وتداعيات تغير المناخ. وساهمت السياسات غير الملائمة والاستثمار الضئيل في العلوم والتكنولوجيا والتنمية الزراعية في تدهور الموارد الزراعية، إلى جانب الاستخدام غير الكفؤ لها وإنتاجيتها المتدنية. ويمثّل النمو السكاني، والطلب المتزايد على الغذاء، وتدهور الموارد الطبيعية، وتحويل الأراضي الزراعية إلى الاستخدام الحضري، تحديات إضافية أمام تحسين مستوى الأمن الغذائي في المنطقة العربية.
ويظهر التقرير أن تحسين وضع الأمن الغذائي في البلدان العربية من خلال الإنتاج المحلي، في ضوء الأراضي الزراعية المحدودة، والموارد المائية التي تعاني الاستنزاف والتراجع، فضلاً عن افتقار القدرة الحيوية للموارد الزراعية، مهمة صعبة، لكن ثمة إمكانات جديرة بالاعتبار متوافرة على صعيد تحسين نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي، من خلال تبني السياسات السليمة والتقنيات الزراعية المحسَّنة، وخلق سلسلة متكاملة للقيمة الغذائية تستطيع ضمان الأمن الغذائي، استناداً إلى أسس توافر الغذاء وسهولة مناله واستخدامه واستقراره.
ويتطلب تحسين ذلك الجانب من الأمن الغذائي المتعلق بالاكتفاء الذاتي مقاربة إقليمية متكاملة وشاملة للجميع، تقرّ بالعلاقة المتلازمة بين الغذاء والماء والطاقة، ونموذجاً جديداً للاستدامة الزراعية يعتمد على اعتبارات اقتصادية واجتماعية وبيئية، ومن ضمن هذا الإطار، يمكن تحديد عدد من الخيارات لتحسين نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي، خصوصاً من خلال الاستخدام الفاعل للموارد الزراعية المتوافرة، إضافة إلى موارد الثروتين الحيوانية والسمكية.
وتشمل هذه الخيارات أموراً عدة أهمها تحسين كفاءة الري؛ إذ يُعتبَر إنتاج مزيد من المحاصيل الزراعية بمياه أقل خياراً يحمل أهمية كبرى في تعزيز الأمن الغذائي للبلدان التي تعاني ندرة المياه، ويقل متوسط كفاءة الري في 19 بلداً عربياً عن 46 في المائة، ويُقدَّر أن رفع هذا الرقم إلى 70 في المائة كفيل بتوفير 50 مليار متر مكعب من المياه سنوياً.
ويرى التقرير أن من الخيارات المهمة لتحسين نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي تعزيز إنتاجية المحاصيل، وتحسين إنتاجية المياه على الصعيدين الاقتصادي والعملي، واستخدام مياه الصرف المعالجة في الاستخدام الزراعي عبر البلدان العربية، والتعاون بين البلدان العربية على أساس الميزات النسبية في الموارد الزراعية والمالية، وتطوير الثروتين الحيوانية والسمكية، وتقليص خسائر ما بعد حصاد المحاصيل الزراعية ومعالجتها، إضافة إلى عدد من الخيارات كحسن استخدام المياه الافتراضية.
خطوات عملية
ويخلص التقرير بعد استعراضه لمجمل التحديات التي تواجه الوطن العربي في مسعاه نحو تحقيق الأمن الغذائي إلى عدد من التوصيات المهمة، هي:
أ - تمتين التعاون الإقليمي بين البلدان العربية، استناداً إلى الميزات النسبية في الموارد الزراعية ورأس المال القابل للاستثمار، بالترافق مع التنسيق والمواءمة بين الاستراتيجيات والبرامج الزراعية.
ب – اتخاذ الإجراءات الضرورية لعكس الوضع المتدهور للموارد الزراعية والحفاظ على تنوعها الحيوي، بهدف إعادة توليد خدماتها ومساهمتها في الأمن الغذائي.
ج - النظر في تطبيق الخيارات المتوافرة لتعزيز الأمن الغذائي وتحسين مستويات الاكتفاء الذاتي، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، تعزيز إنتاجية المحاصيل والمياه، وزيادة كفاءة استخدام المياه، وتقليص خسائر ما بعد الحصاد وخسائر أخرى، وتعزيز استخدام مياه الصرف المعالجة في الري.
د - تخصيص استثمارات إضافية للبحث العلمي الزراعي وبرامج التطوير، عن طريق دعمها بموارد مالية مناسبة، إلى جانب تنمية القدرة البشرية والمؤسسية الموجهة إلى البحث عن مدخلات أكثر إنتاجية وأكثر حماية للبيئة، بهدف تعزيز إنتاجية الزراعة المطرية والمرورية.
هــ - تخصيص الاستثمارات المطلوبة لتطوير قطاعي الثروتين الحيوانية والسمكية في شكل مستديم، مع توجه إلى زيادة الإنتاج لتلبية الطلب المحلي وتعزيز إمكانات التصدير.
و - إطلاق حملة توعية لتغيير أنماط الاستهلاك، خصوصاً بالاعتماد على سلع ذات قيمة غذائية مماثلة لكنها ذات استخدام أقل كثافة للمياه.
ز - تبني مقاربة متكاملة للأمن الغذائي، تشمل عناصر سلسلة القيمة الغذائية كلها، وتتضمن الحصاد والنقل والتخزين والتسويق، لجعل الغذاء متوافراً وسهل المنال وقابلاً للاستخدام بنوعية جيدة وفي الوقت والمكان المناسبين.
ح - تطوير استجابات تواكب تهديد تغير المناخ للأمن الغذائي في المنطقة، من خلال استراتيجيات تكيُّف تستند إلى نماذج ذات صلة وموثوقة للتنبؤ المناخي، مع تبني ممارسات زراعية وإدارة مائية محسَّنة، والزراعة الحمائية، وتنويع المحاصيل، واختيار المحاصيل والأصناف الأكثر ملاءمة للظروف المتوقعة، من بين تدابير أخرى للتكيُّف مع تغير المناخ والتخفيف من تداعياته .