تعليم التفكير... استراتيجيات التفكير الإبداعي

يستخدم البعض لفظ «ابتكار» في اللغة العربية مكان لفظ «إبداع»، ولكن يبدو أن لفظ «إبداع» أكثر دلالة على النشاط والسلوك المتعلق بالتفوّق والحذق في الصنعة من لفظ «ابتكار» الذي يقتصر معناه على السبق وإتيان الأمر أولاً. والإبداع كما ورد في لسان العرب: بدع الشيء يبدعه بدعاً وابتدعه: أنشأه أولاً، وفي معجم القرآن الكريم: بدع الشيء: أنشأه على غير مثال.
وقـــبــــل أن نعرض مـــا أورده «دي بونو» ** في برنامجه «cort»، نستعرض مفهومين في غاية الأهمية، ألا وهما «التفكير العمودي» و«التفكير الإبداعي».
التفكير العمودي (الرأسي):
عندما يفكر الإنـــسان بـــشـــكل عـــمـــودي Vertical Thinking فهو أشبه بمن حـــفر حفـــرة ويستمر في حفرها، عندئذٍ يبــقى في نطاقها، وبالتــــالي لا يمكن له أن يـــأتي بجديد مادام يحـــفر في اتجاه واحـــد. فــــإذا أراد أن يـــأتي بجديد، فعليه أن يخرج من هذه الحفرة إلى حفرة غيرها.
التفكير الإبداعي:
الفكرة الأساسية هنا هي البحث عن اتجاه آخر، أو الخروج عن استمرار الحفر في مكان واحد، وهو ما قد يؤدي إلى تغيير الاتجاه.
ويرى دي بونو أن ثمة فروقاً في التفكير الرأسي والتفكير الإبداعي Creative Thinking الجاد، ووضع مبادئ أساسية نوجزها في ما يلي:
(1) الإبداع ليس موهبة موروثة.
(2) التفكير الإبداعي الجاد نمط من أنماط التفكير يمكن التدرّب عليه واكتسابه.
(3) الإبداع الجاد مغاير للتفكير المنطقي ومتجاوز عنه.
(4) الإبداع الـــجاد يــــهــــتم كـــثــــــيراً بالاحتمالات.
(5) مصطلح «الإبداع الجاد» يتضمن مجموعة من الطرق المنظمة تستخدم لتغيير المفاهيم والإدراكات، وتوليد مفاهيم وإدراكات جديدة من جهة، ومن جهة أخرى يتضمن استكشاف احتمالات واتجاهات متعددة (De Bono 2003).
ومن المهم أن نذكر هنا أن دي بونو أوّل من وضع مصطلح: Lateral Thinking (التفكير الإحاطي)، وهو هذا النوع من التفكير الذي يسعى إلى الإحاطة بجوانب المشكلة، وهو يتجاوز بهذا التفكير العادي.
ذلك أن التفكيرين المنطقي والرياضي يوليان اهتماماً للبحث عن الإجابة بـ«نعم» أو «لا»، فهما يعتمدان معيار القيمتين، بل لعلهما يحكمان أسلوب تفكيرنا الذي يتلخص في الدفاع والهجوم، فغايتي أن أثبت أنك على خطأ، وبالتالي فإني على صواب، ومن هنا كان قصور هذا النوع في رأي دي بــــونو، بالــرغم من أنه لا ينتقص من أهمية هذين التفكيرين.
لقد وجد دي بونو أننا في أمسّ الحاجة إلى «تفكير» يتجاوز هذين التفكيــرين لمحدوديتهما، إنه تفكير الإمكانات المختلفة والبدائل والمواقف المترتبة، فلا عجب أن نرى دي بونو يقدم أحد كتبه بعنوان: «ما وراء نعم ولا».
ويحذّر دي بونو من الرفض السريع والفوري للأفكار، ويشير إلى أن الرفض السريع للأفكار يأتـــي من القيود التي فرضت على العقل، فإذا كــــانت الفكرة لا تتوافق مع هذه القيود، فإنها تتجه نحو الرفض، وهذا هو الاستخدام المبكّر للتفكير المتشائم، لكن الأمر يتطلب أن يتم التفكير في هذه الحالة بطريقة تشير إلى التفاؤل، بل قد يتطلب التفكير في هذه الحالة الإبداع.
استراتيجيات الإبداع الجاد
أولاً: استراتيجية التركيز: Focus Strategy
إنها نقطة الـــبداية لأي جلسة تفكير إبداعي بهدف توليد أفكار جديدة، والتركيز نوعان: أحدهما التركيز على مناطق عامة، والثاني والأهم هو التركيز الهادف، ويكون محدداً من خلال الهدف الذي ستعمل على تحقيقه.
ثانياً: استراتيجية التحدّي
هي الأساس المهم في كل عمليات الإبداع، فمن دون تحدٍّ نكون راضين عن الأشياء كما هي، وبالتالي لا نحاول القيام بتحسينها أو تغييرها.
ثالثاً: استراتيجية البدائل
إن جوهر الدافعية الإبداعية هو الاعتقاد أن هناك طرقاً أخرى لعمل الأشياء، وأن الطريقة الحالية ليست الوحيدة لعمل هذا الشيء، وغياب الدافعية الإبداعية هو الاعتقاد أن الطريقة الحالية هي أفضل طريقة، أو الطريقة الوحيدة، وغالباً ما يقال إن الجيد هو عدو الأفضل، وهذا يعني أنه عند الحصول على بديل جيد نقف ولا نبحث عن مزيد من البدائل.
أهم ملامح برنامج «الكورت»
(مهارات التفكير)
ما مهارات التفكير؟
هي استخدام التفكير بالشكل الأفضل من خلال استخدام مجموعة من الأدوات.
أهداف وأهمية البرنامج
< تنمية القدرات العقلية.
< اكتساب أدوات التفكير.
< تنمية وتطوير التحصيل الدراسي.
< تطوير استراتيجيات التعليم.
مكوّنات البرنامج
ينقسم البرنامج إلى 6 أجزاء، وينقسم كل جزء إلى 10 مهارات، وبالتالي مجموع المهارات 60 مهارة.
والجزء الأول (توســــيع مجال الإدراك) يعتبر الجزء الرئيس، وتعتمد عليه بقية الأجزاء.
تتطلب الأداة الأولى في كورت1 النظر للنقاط الإيجابية «P» والسلبية «M» والمثيرة «I»،لذا فالأداة اختصاراً «PMI».
ما المقصود بمعالجة الأفكار؟
استخلاص إيجابيات الفكرة وسلبياتها مع النظر إلى الأمور الـــلافتة للانتباه، أو التي تتطلب دراسة أكثر للبت فيها، أو القدرة على النظر إلى فكرة ما من مختلف الزوايا، ثم تصنيف هذه الأفكار إلى أفكار إيجابية وسلبية واحتمالات تحتاج لدراسة أكبر وجمع للمعلومات.
موجب «p»: الأشياء الجيدة عن فكرة ما، لماذا نحبها؟
سالب «M»: الأشياء السيئة عن فكرة ما.
مثـــيــــر «I»: الأشــيـــاء التي تجذب الانتـــباه في الفكرة، ما الذي تجده مـــمــــتعاً فــي الفكرة؟
الهدف من مهارة معالجة الأفكار
< الوصول إلى تحليل أعمق للفكرة وأكثر شمولية.
< فهم الفكرة بشكل دقيق.
< تأجيل إصدار الأحكام حتى يتم اكتشاف كل أبعاد الموقف (المشكلة)، وبالتالي الوصول إلى قرار أصح قدر الإمكان.
< الوصول إلى أفكار جيدة.
< الابتعاد عن التحيز قدر الإمكان.
ونعطي مثالاً يوضح كيفية استخدام هذه الأداة «PMI»:
فكرة: يجب إخـــراج جميع المقاعد من الحافلة:
بعض النقاط الإيجابية «p»
< يستطيع عدد أكبر من الأفراد استخدام الحافلة.
< يصبح الصعود إلى الحافلة والنزول منها أسهل.
< تصبح الحافلة أقل ثمناً ولا تحتاج لكثير من الصيانة.
بعض النقاط السلبية «M»
< يمكن أن يسقط المسافرون عند توقف الحافلة فجأة.
< لا يستطـــيع كـــبار السن والمعاقون استخدام الحافلة.
< يصبح حمل حقائب السفر والأطفال في الحافلة صعباً.
بعض النقاط المثيرة «I»
< فكرة مثيرة ممتعة قد تقود إلى نوعين من الحافلات: أحدهما بمقاعد والآخر من دون مقاعد.
< فكرة ممتعة، في أن تقوم الحافلة نفسها بأعمال وخدمات متعددة.
< فكرة ممتعة في أن تكون الراحة ليست مهمة داخل الحافلة.
ومن ذلك يتضح أن:
1- درس معالجة الأفكار مهم، لأنك من دون استخدامه قد تُهمل فكرة جيدة، قد تبدو ليست ذات قيمة من النظرة الأولى.
2- من دون استخدامك أداة معالجة الأفكار، فإنك تكون غير مبالٍ لرؤية الجوانب السلبية للفكرة التي تعجبك كثيراً.
3- لا يقتصر عمل أداة معالجة الأفكار على ظاهرة الأفكار على أنها سلبية أو إيجابية. لكن يمكن أن تكون جديرة بالاهتمام إذا قادتنا إلى أفكار أخرى.
4- من دون استخدام أداة معالجة الأفكار فإن معظم الأحكام التي تصدرها لا تكون مبنية على قيمة الفكرة ذاتها، ولكن على عواطفك وأحاسيسك في ذلك الوقت.
5- باستخدامك طريقة معالجة الأفكار تستطيع التقرير أنك كنت تحب أو لا تحب الفكرة بعد اكتشافها.
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أنه توجد تجارب عالمية كثيرة أخرى لتعليم التفكير >
** مؤسس ومدير مؤسسة البحث المعرفي (Cognitive Research Trust (Cort التي أنشئت في جامعة كامبردج عام 1969، تخرج طبيباً في مالطة، وحصل على درجتي دكتوراه في الفلسفة، عمل في هذا المجال وكرّس له حياته، وهو يرى أن «تعليم الذكاء» ليس إلا تعليم التفكير.