ظاهرة برامجه التلفزيونية «الطهي» بنكهة السياسة

يقف الطاهي - السمينُ في الغالبِ – بملابسِه البيضاءِ الأنيقةِ، وبشموخٍ وثقةٍ يجذبان إليه عدسة الكاميرا التي تمرَّسَ على اقتناصِ زواياها بمهارة، تهبطُ الكاميرا من أعلى الاستديو المُتخِذ شكلَ المطبخ، تستقر أمام وجه نجمِ البرنامجِ الذي يرحِّبُ بها بابتسامةٍ مُصْطنعةٍ مرفودةً بعباراتِ الترحيبِ بالسَّادةِ المُشاهِدين الذين صاروا حافظين لهذه الافتتاحيةِ التي ستتضمَّنُ قائمةَ طعامِ اليوم المُوزَّعَة بين الحَاذِقِ والحُلو، مُشفِعاً هذا كله بتحديدِ وسائل الاتصالِ المُتعدِّدةِ التي يُمْكِن للجماهير استعمالَها للتواصلِ الحيِّ معه، خاتِماً افتتاحيته بدعوةِ جماهيرِه لاستمرارِ متابعتهم له بعد الفاصلِ الإعلاني.
صار المشهد السابق أحد المشاهد اليومية المألوفة للمشاهد العربي الذي ألفى نفسه في فترة زمنية وجيزة في مواجهة مجموعة كبيرة من برامج الطهي التلفزيونية الموزعة على عدد كبير من القنوات الفضائية، أو المجمعة في قناة واحدة تم تخصيصها لهذه النوعية من البرامج كممارسة استثنائية في الهيكلة التلفزيونية.
وإذا كان وجود هذه البرامج على الساحة التلفزيونية أمراً معتاداً منذ فترة طويلة، فإن هذه الكثافة الكمية والكيفية في إطار زمني ضيق لا يجاوز السنتين، قد دفعتا المتلقي الحصيف إلى طرح تساؤل مشروع حول أسباب هذا الحضور الناجز لهذه النوعية من البرامج، وعوامل نجاحها اللافت وعلاقة هذا كله بملابسات السياق المؤطر لها، والذي تغلغلت فيه السياسة بعناصرها كافة في الفترة الأخيرة. إننا هنا نسعى لفهم طبيعة هذا التمدد غير المسبوق لبرامج الطهي من خلال الاتكاء على المؤشرات التي يطرحها السياق الجامع، وإن تجاوز المدار المباشر وحلَّق بنا إلى المدار الأوسع برحابته المفهومية وعمقه الجدلي.
الطهي والسياسة وجهان لعملة واحدة
يبدو هذا العنوان الجانبي للوهلة الأولى إحدى الممارسات الساخرة التي تعتمد فلسفتها على تأسيس علاقة مماثلة بين شيئين يبدوان مختلفين لتحقيق هدف محدد يتمثل في تدنية/تخفيض قيمة أحدهما بربطه بالطرف الآخر الذي يحتل مرتبة أقل منه في إطار الوعي الجمعي الشائع، وعلى الرغم من وجاهة هذا الأمر فإننا نعتذر لأصحابه عن تخييبنا لتوقعاتهم الرصينة ومجاوزتنا هذه اللعبة اللفظية لمصلحة الواقع بمؤشراته الدالة وشواهده التاريخية.
فالواقع التاريخي الذي لا يكذب – وإن تجمَّل في بعض الأحيان - يؤكد أن ثمة علاقة راسخة بين السياسة بمؤامراتها ودسائسها من جانب، والطهي بعناصره المتعددة من جانب آخر، الأمر الذي جعل عديداً من المؤرخين ينظرون إلى الطعام بوصفه أحد أكثر الأدوات السياسية إنجازاً والتي يفيد منها المتنافسون السياسيون في تحقيق مآربهم بعيداً عن المعايير الأخلاقية التي لا مجال لها في السياسة وإن ادعى الساسة غير ذلك.
فعلى مدار تاريخ قيام الممالك وانهيارها وتولي الحكام المختلفين مقاليد أمور ممالكهم ودولهم وتخليهم عنها أو تخليها عنهم، كان الطعام عنصراً متغلغلاً في السياسة بشكل لافت، باعتباره المسار الوحيد الذي يمكن أن يسلكه المتطلعون للسلطة للقضاء على الحكام الذين تحصنوا خلف أسوار قصورهم العالية وأحاطوا أنفسهم بمجموعة كبيرة من الفرسان الشجعان الذين كانوا على استعداد دائماً للتضحية بحياتهم فداء لملكهم... كلمة السر إذن كانت المطبخ، ويكفي في هذا السياق مطالعة تاريخ الدول على اختلاف امتداداتها الجغرافية والثقافية والاجتماعية للتأكد من أن الطعام كان أحد الأبواب السحرية التي يدلف منها المتنافسون للنيل من خصومهم السياسيين، فحوادث موت الملوك والحكام والرؤساء عبر تناول طعامهم المفضل المدسوسة فيه جرعة قاتلة من السم الزعاف أكثر من أن تحصى، ولا يستثنى من ذلك مملكة أو دولة، فمن إخناتون الفرعوني إلى أرسيس الفارسي إلى جين هوي تي الصيني إلى أريك السادس عشر السويدي إلى ياسر عرفات العربي... إلخ، تنوعت أسماء الضحايا، وظل الطاهي الخائن أو المخدوع وطهيه سببين رئيسين في طي صفحة تاريخية وبدء صفحة جديدة. وقد أدرك الحكام منذ القدم ما يمكن أن تؤديه شهوة الطعام من موت محقق، فاستحدثوا وظيفة المتذوق الذي يشكل أداة الاختبار الناجحة التي يمكن أن تكون منجاة للسياسي من مكيدة دبرها له حاسدوه، ولعل الرئيس الروسي «بوتين» هو آخر هؤلاء الحكام تمسكاً بوظيفة المتذوق في العلن.
إن هذه العلاقة التاريخية بين السياسة والطهي تتعضد عبر مظاهر سيميولوجية متعددة تعتني بالفهم التأويلي لها، ومن ذلك أن القيمية الوظيفية لكل من السياسي والطاهي على مستوى المجتمع تتحقق عبر قدرة كل منهما على استقطاب الجماهير، بحيث يغدو توسيع دائرة المؤيدين هو الهدف الأول لكل منهما، وبقدر نجاح السياسي أو الطاهي في مغازلة الجماهير، يتحقق نجاحه ويضمن لنفسه مستقبلاً واعداً، ولا يرتبط الأمر بما يقدمه كل منهما فقط لجماهيره، بل يرتبط بآلية التقديم كذلك، فالسياسي البارع منذ عهد سقراط كان يتعلم البراعة في التلاعب بالألفاظ حتى يستطيع أن يطرح وجهة نظره للجماهير، فيحول ببلاغته البخل إلى حرص والتبذير إلى كرم والنفاق إلى مجاملة والوقاحة إلى صراحة، والسياسي البارع أيضاً هو القادر على تقديم رؤيته بملفوظ جذاب، واعياً أن طريقة التقديم الجيدة والمنمقة المتناغمة مع طموحات المتلقين قد تكون شفيعاً له حال عجزه عن تحقيق ما وعد به، كذلك الطاهي الذي يدرك أن رائحة الطعام الشهي ومذاقه المميز غير كافيين لإرضاء طموح الجماهير، فالتزيين أو «التفنيش» بمصطلح الطهاة لا يقل أهمية عن طبيعة المقدم، فالطاهي المحنك يدرك أن العين تتذوق قبل اللسان، وليس هناك ما يحول دون ممارسة بعض مظاهر التلاعب كإعداد الطعام بشكل مسبق والتذرع بضيق الوقت أمام الجماهير لاستخدام هذا الطعام المعد سلفاً تماماً كما يفعل الكثير من السياسيين بخداعهم الجماهير ببرامج انتخابية مكررة ومسروقة.
كما أن الترويج للذات والنيل من الخصوم بطريقة ناعمة، لا يكشفان عن تضخم الإحساس بالذات، ويشكلان أداة يستعين بها كل من السياسي والطاهي، فكلاهما لا يعيب على خصومه بطريقة مباشرة في الأحيان معظمها، ليس بوازع أخلاقي شخصي وإنما من حرص نفعي على عدم خسارة طبقة من الجماهير يشكل المعيار الأخلاقي عنصراً رئيساً من عناصر اختيارها تؤيده أو تدعمه أو تتابعه، فيحاول كل من السياسي والطاهي أن يتصيد أخطاء الآخرين بتقديم وجهة نظر أو طريقة مضادة أو مبتكرة أو أكثر تنظيماً تفضح المستوى المتدني المقدم من قبل الخصم، وتشكل الإشارات والتلميحات والتعريض أدوات بالغة التأثير في هذا السياق. التوابل هي كلمة السر في الطهي، وبقدر معرفة الطاهي بمقدار ونوعية التوابل المقدمة في الطعام بقدر ما يحقق تفوقاً في مذاق طعامه وتنوعاً في معرفة نوعية المطابخ التي تشكل التوابل عنصراً حاسماً في تصنيفها. والتوابل السياسية تتنوع أيضاً فإذا كانت جودة التوابل العربية أحد أسباب الحملات الصليبية على الشرق، فإن السياسي يضع توابله في حواراته وأخباره، الأمر الذي يصل في بعض الأحيان إلى حد وضع الفلفل الحار بنفسه في طبقه السياسي بتسريب بعض الأخبار الكاذبة عنه حتى تتاح له الفرصة لتفنيدها كخطوة مهمة لكسب تعاطف الجماهير واقتناص إعجابهم وشفقتهم.
بين السياسة والمطبخ
إذا كانت السياسة هي فن الممكن، وإذا كانت القاعدة الثابتة في السياسة هي أنه لا ثوابت في السياسة، فإن السياسة حاولت استغلال الجماهيرية العريضة التي يتمتع بها الطاهي في الترويج للمواقف السياسية المختلفة، وبخاصة في فترات الأزمات والتخبط السياسي، حيث بدا الطاهي مغازلاً لمشاعر جماهيره ومروجاً في الآن ذاته لمذهب سياسي محدد يتم اختزاله في شخص أو مجموعة أشخاص تحت شعار مسكوت عنه مفاده «أنا أطهو إذن أنا ومذهبي السياسي موجودان»!.
ويبدو أن وعي أصحاب القنوات الفضائية - بحكم تمرسهم في مخاطبة ذهنية الجماهير- بطبيعة جمهورهم كان هو العامل الحاسم في اختيار الاعتماد على هذه النوعية من البرامج في هذه الفترة التاريخية التي تمر بها عديد من البلاد العربية، فقد أدرك القائمون على القنوات أن المتلقي العربي وبخاصة في دول الربيع العربي يشعر بإحباط شديد من جراء النزاعات السياسية التي لم يعتدها بحكم ميراث تاريخي ثقيل كان ينظر إلى مشاركة المواطن في الحراكات السياسية بوصفه أمراً ديكورياً أو شكلياً، ألفى هذا المواطن المنفي خارج دائرة السياسة لعقود طويلة غارقاً في لججها، وبفضل محدودية خبرته السياسية شعر بالسعادة لمشاركته في هذا الأمر الجديد في بدايته، ولكن مع ثقل الشعور بالمسؤولية وعدم اعتياد هذا, الدور وزوال بريق اللعبة الجديدة، بدأ يتسرب إليه الإحساس بالقلق الذي تضاعف مع غياب الموجِّهات السياسية الممثلة في أشخاص أو مؤسسات يمكن الاعتماد عليها في تحديد القرارات أو المواقف، بحيث غدت الوسائل الإعلامية منهلاً له لتحديد موقفه السياسي من الأحداث، غير أن هذا لم يحقق له ما كان يصبو إليه من راحة، بل لا نبالغ إذا قلنا إن الأمر ازداد سوءاً لتعارض مواقف هذه القنوات الاتصالية، وتحكم الأيديولوجيا السياسية في كل موجهاتها، فلا يكاد المتلقي البسيط يقتنع بوجهة نظر هذه القناة حتى يلفي نفسه في مواجهة قناة أخرى تتبنى وجهة مضادة وتستدعي معها مبرراتها المنطقية على المستوى الشكلي، ما جعل هذه الجماهير العريضة أو كما يسميها البعض «حزب الكنبة» تفقد ثقتها بالسياسة التي لم تجلب لها سوى الحيرة والتشتت.
وهنا بدأ المواطن غير المعتاد على هذه الجدالات السياسية والإشكاليات الأيديولوجية في البحث عن طوق نجاة له من أتون السياسة بمرفقاتها من برامج «توك شو» ووسائل إعلامية موجهة، وطبيعي أن يجد في الرياضة ملاذه الأخير، غير أن السياسة أبت إلا أن تضيِّق عليه دائرة الصراع، فتسببت الصراعات السياسية والفوضى المصاحبة لها في تعليق الأنشطة الرياضية ومصاحباتها من برامج رياضية تتغذى على هذه الأحداث وتشبع رغبة الجماهير في الإحساس بالمشاركة في صنع الأحداث، وهنا تتصاعد الأزمة وتتعقد خيوط اللعبة وتختفي المنافذ التي يمكن أن ينفلت منها المتلقي.
وهنا تأتي برامج الطهي التلفزيونية لتحقق الهدف المبتغى ليست على مستوى المتلقي النافر من لعبة السياسة وجدلها وصخبها فقط، ولكن أيضاً على مستوى خدمة مصالح أصحاب المواقف السياسية ممثلين في أصحاب بعض هذه القنوات المتغلغلين في السياسة المتعلقة بمصالح اقتصادية، فقد سعى هؤلاء إلى تغذية هذا الشعور ببغض السياسة لدى طبقة عريضة من الجماهير، رغبةً في إبعاد هذه الطبقة الجماهيرية عن ملعب السياسة وإلهائها بمساحة تلفزيونية تجد فيها نفسها وترى بعينها منجزاً يتحقق (الطعام) تسعد برؤيته وهو ينتقل من دور التحضير إلى طور الكائن المكتمل، لتمارس لاحقاً متعة التجريب المرتبطة بنجاح في صنع شيء من لا شيء. هذا الشعور الإيجابي يعمق من ارتباط هذه الجماهير بهذا النمط من البرامج، ويُحدث - في الآن نفسه - مزيداً من القطيعة المعرفية بين الجماهير والسياسة اللعينة، ما يخدم مصالح الساسة المدعومين من وسائل إعلامية في الفوز بسهولة بتأييد هؤلاء المتابعين الذين صاروا أكثر ترويضاً واستعداداً للخضوع لعملية التوجيه السياسي التي غدت أيسر بفضل ما أصابهم من حالة الخمول الذهني المترتبة على حالة استراحة المحارب السابقة.
إن هذه العلاقة الحميمة بين السياسة والطهي تطرح مزيداً من التفسيرات حول مصطلح «المطبخ السياسي» الذي حالت سطوته التداولية دون فهمه بعمق في ضوء علاقة التداخل والتشابك بين هذين العالمين اللذين مهما بدا بعدهما فهما قريبان إلى حد التشارك .