الضحك والبكاء وتحليلهما من منظور نفسي

يؤكد الخبراء النفسيون أنه كلما زادت الضغوط احتاجت التركيبة النفسية إلى التخفيف بوسائل عدة، ومنها الأحلام والابتسام والمرح والضحك والفكاهة والمزاح... إلخ، وكلها أمور تصدر عن طبيعة واحدة في النفس البشرية التي عرفت بالتناقض الدائم، فالنفس البشرية تمل دوماً الجد والصرامة، ولذا تبحث عن سبيل الفكاهة للتنفيس عما تمر به من آلام وواقع، حتى إن كان ذلك التنفيس مؤقتاً، ليعيد التوازن النفسي، ويؤدي إلى أداء أفضل وبهجة تنتج عن انقباض العضلات وتفريغ التوتر الجسمي والنفسي، وتدل الدراسات على أن الضحك والابتسام والمرح وما شابهها يمكن لها أن تعدل المزاج وأن تخفف من التوتر والقلق، أما البكاء، فهو خبرة سيكولوجية يمر بها البشر جميعاً في مختلف مراحل حياتهم.
وعلى الرغم من شيوع خبرة البكاء لدى جميع الناس، فإن الملاحظ أن الدراسات التي أجريت على البكاء، أو الكتابات التي أثيرت حوله، كانت قليلة للغاية، وذلك لأن البكاء خبرة سيكولوجية تكاد تكون مؤلمة إلى حد ما، والإنسان عادة ما يبتعد عما يؤلمه سواء بقصد أو من دون قصد، والحقيقة الفعلية هي أن كلاً من الضحك والبكاء آية من آيات رب السماوات والأرض يقول تعالى في كتابه العزيز {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (43 – النجم)، ويقول سبحانه وتعالى أيضاً {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ}
(57 – 60 النجم).
الضحك مفيد للنفس والجسد
يعرف الضحك بأنه شكل من أشكال التعبير يظهر على الإنسان في صورة مرح أو فرح، وهو يوصف كذلك بأنه رد فعل فسيولوجي نتيجة للمرور بخبرة ما، مثل سماع نكتة أو عند سماع مداعبة ما، ويؤكد خبراء علم النفس أن مشاهدة البرامج المضحكة والوسائط الكوميدية مفيدة للصحة النفسية والجسدية على حد سواء, ويعتبر ذلك من الأساليب العلاجية العامة, وقد بيَّن التحليل النفسي أن الضحك يشبه الحلم من حيث تحلله من القيم والممنوعات، وأنه يرفع من مستوى الأداء العقلي، ومن القدرة على الاحتفاظ بالمعلومات أطول فترة ممكنة، ويقوي الذاكرة، وأن فائدة دقيقة واحدة من الضحك تعادل فائدة ما يقرب من ساعة كاملة من الاسترخاء.
والضحك له مؤثرات إيجابية وقيمة على مختلف أنواع الأمراض، تساعد على التعافي بسرعة، فقد أثبتت الدراسات أن الضحك أفضل دواء، وأن مجرد التطلع إلى حدث إيجابي مضحك أو مشاهدة تجربة مضحكة يعزز جهاز المناعة لدى الإنسان، ويقلل من موجات التوتر العصبي، وأيضاً يخفض من إفراز المواد الكيميائية المرتبطة بحالات القلق والتوتر والاكتئاب.
الضحك ممارسة عدوانية!
هـــناك نظـــريـــــات ترى أن الضحك ممارسة عدوانية في جوهرها، حيث يحس الضاحك بأن المضحوك منه أقل منه شأناً وأقل قيمة، وفي ذلك استعلاء وشعور بالتفوق يعوض عن مشاعر النقص، وتلك العدوانية ليست مذمومة إلا حين تعمد إلى إيذاء مشاعر الآخرين وجرحهم، وهي مقبولة في إطار الضحك والإضحاك ومتعارف عليها على أنهـــا مــــزاح وفكـــــاهة وليــــست أمراً جدياً، ويفسر ذلك إلى أن الضحك ينتج عن المفارقة والتناقض وغير المتوقع أو المضخم أو غير المألوف أو سوء الفهم والتفاهم الاعتيادي.
الضحك له أثر المسكن
والضحك له نفس أثر المسكن للألم (الأندروفين) الذي يعمل كمورفين طبيعي فى حالات الألم الشديد، وله أهمية في التنفس، تدعى التنفس التحولي، وهي تعتمد على جعل الإنسان يتنفس تنفساً بطيئاً متلاحقاً وبشكل سريع كي يزيد معدل الأكسجين الداخل إلى الجسم, الذي بدوره يؤدي إلى توسيع حجم الرئتين ويسهم في تسريع عملية تبادل الأكسجين خلال عملية التنفس، فضلاً عن أن الضحك ينظم الدورة الدموية وضغط الدم، ويزيد من هرمونات الجسم الخاصة بالشعور بالسعادة وتخفيف الألم، والضحك في حدوده المعقولة يحرك أكثر من مائة عضلة في الجسم، من بينها خمس عشرة عضلة في الوجه، ليشعر بعده الإنسان بانتعاش وشعور خفي بالسعادة والفرح، والضحك عرف عنه أنه فعل اجتماعي.
والمعروف علمياً حتى الوقت الحالي هو أن فسيولوجيا الأعصاب الحديثة تربط الضحك بتنشيط القشرة الأمامية الوسطى للدماغ، التي تفرز مادة الأندروفين، وتؤكد الدراسات أن الضحك مرتبط بالجزء الأيسر للمخ، الذي يجعل الجسم يفرز هرمون «الدوبامين» المسؤول عن الشعور بالنشوة والبهجة، فيتدفق الدم إلى القلب بنسبة زيادة تبلغ نحو اثنتين وعشرين في المائة.
البكاء لغة عالمية
جعل الله سبحانه وتعالى البكاء ظاهرة نفسية عامة ومشتركة لدى جميع البشر، وذلك على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم ومذاهبهم وبيئاتهم، والبكاء لغة عالمية لا تختلف باختلاف الألسن أو الثقافات أو البيئات، فالجميع يبكي بالطريقة نفسها للأسباب نفسها غالباً، وعلى الرغم من أن للدموع وظيفة فسيولوجية تتمثل في ترطيب العين وتليين حركتها أثناء النظر من جهة إلى أخرى وزيادة مقاومتها للعدوى، فإن لها أيضاً وظيفة نفسية، حيث ينصح الخبراء النفسيون بالبكاء، وينصحون أيضاً بترك العنان للدموع عند التعرض لمواقف نفسية صعبة أو توتر عصبي كبير، لأن الدموع في تلك الحالة بالذات تجلب الراحة النفسية، بل تساعد على إزالة التوتر النفسي والتخفيف من الضغط العصبي على صاحبها.
البكاء استغاثة
يرتبط البكاء غالباً بالضعف، فهــــما مـــتلازمان، ســـواء كــــان الضـــعف مرضاً أو وفاة عزيـــز أو أزمة أو غـــير ذلـــــك، لأن البكاء في الأساس يعتبر استغاثــــة، فالصــغــــير عندما يبكي ويرتــــفـــع صوته ويجهش بالبكاء فإنه يــســتـــغـــيث، وينـــجح في أن يحرك فــــي الأم كل عواطف الأمومة الــــتي تهــــرع لحمايــــته، ويقول علماء النفس إن صرخة الطفل تفتح قلب الأم، فمن فضـــــل الله علينا أن جعلنا نبكي حتى نحصل على الحماية والرعاية والعطف.
وقد دلت الدراسات النفسية على أن الطفل في سن الثالثـــة يبــكي في حضور أمه أكثر مما يبكي إذا كان بمفـــرده، بل إن كثيراً من الأطفال يكونون هادئين فإذا ظهرت الأم بكوا، وهذا معناه أن البكاء له وظــيــفة، فإذا انقطعت صلة البكاء بوظيفته انقطع البكاء، فالمقصود بالبكاء تحريك الآخرين، فإذا كان الآخرون غير موجودين فإن البكاء يفقد وظيفته ويختفي، والإنسان عندما يبكي فإنه يعبر عن ضعفه واحتياجه إلى الأمان والراحة، فلا يجد غير الدموع تنفيساً عما يعانيه من ألم نفسي وضغوط عصبية.
لذلك وضع قدماء المصريين تقاليد الجنائز عند الوفاة، حيث يجتمع الناس ويبكون ويستبكون ويحمس بعضهم بعضاً، وبذلك تكون الجنائز فرصة لتفريغ شحنات انفعالية عند كثيرين، ومازال بعض تلك العادات سائداً في كثير من المجتمعات العربية، وخاصة بين النساء.
سلوك صحي وعلاج سريع
البكاء نوع من التفريغ والتفريج النفسي الذي يريح أعصاب المرأة ويجعلها أصح وأسلم من الرجل الذي اعتاد ألا يبكي بحكم التربية، فيجب على الأم ترك الطفل يبكي لما في ذلك من تخفيف من التوتر العصبي لديه، والبكاء سلوك صحي وعلاج سريع لأغلب المتاعب النفسية، والمؤكد علمياً وعملياً أن المرأة أكثر بكاء من الرجل بسبب زيادة عدد الغدد الدمعية لديها.
الالتقاء والتجاوب
بات مؤكداً صعوبة الإحاطة بجميع أشكال وصور البكاء لدى جميع البشر، والبكاء ظاهرة نفسية تتنوع مظاهرها وأسبابها ووظائفها بتنوع واختلاف نفسيات البشر ذاتهم، وبكاء الشخص عند وفاة عزيز عليه نوع من الضعف واليأس، ومعناه انعدام القدرة على عمل ما ينقذ الموقف، وغرضه اللاشعوري استدرار عطف الآخرين، فقريب المتوفى على سبيل المثال يكون متأثراً وحزيناً من دون أن يبكي عادة وهو بمفرده، فإذا التقى مع قريب آخر أو صديق بكى الاثنان معاً، فالبكاء يظهر عادة بالالتقاء الذي يصاحبه التجاوب بين الأشخاص.
وعند رؤية الآخــرين يبكون يتملكنا ميل إلى البكاء، ونبــكي فـــي الغالـــب بالفعل، وهكذا تصطخب الجنـــائــــز ويجـــتـــمع النــــاس لـــلبكاء، مع أنهم يقولـــون إن كلاً يبكي على حاله أو مأساته الخاصة، وإذا كان البكاء من الأمور السيكولوجية الشائعة لدى جميع البشر، فإنه مثل أي ظاهرة نفسية قد يكون ظاهرة صحية أو مرضية، ويرجع ذلك إلى تنوع أشكال البكاء وتعدد صوره وألوانه ودرجاته ووظائفه.
دموع الفرح!
قد يظن البعض أن البكاء دائماً قرين الحزن واليأس، ولكنه قد ثبت عكس ذلك، فهناك نوع من البكاء لا يظهر إلا في حالات الفرح الشديد، وهو ما يعـــرف بــــدمــــوع الفرح، حيث إن كــــثـــيراً من الناس عندما يصل إلى أسماعه خبر سعيد أو فرحــــة غـــامرة، لا يجد ما يعبر به عن هذه السعادة ســـــوى البكاء وسيلان الدموع، وبكاء الفرح خبرة شعورية يمر بها كثيرون في حياتهم، وتكون الدموع نوعاً من التعبير عن السعادة والغبطة! وقد يكون من العجيب أن يقترن الفرح بالبكاء، والسعادة بالدموع، ولكنها حكمة الله الذي أضحك وأبكى وأمات وأحيا، كما يكون بكاء الإنسان نتيجة إيمانه بعظمة الله وجلاله وخوفاً من قدرته وارتجافاً من عذابه.
بكاء الندم
يعرف بكاء الندم بأنه أشد أنواع البكاء مرارة وقسوة على النفس، فهو يعتبر اعترافاً بالعجز والذنب والتقصير وظلم النفس أو الغير، فالعبد المذنب عندما يتوب يبكي ندماً على ذنبه، بل إن الفقهاء جعلوا البكاء ندماً دليلاً على صحة التوبة وقبولها، واعتبروا جمود العين دليلاًً على عدم الصدق في التوبة، وعادة ما يندم الإنسان كثيراً في حياته، فهو يندم على ما فعله من أمور كان يجب ألا يفعلها، ويندم على ما لم يفعله من أمور كان يجب عليه فعلها، وهو يندم على ضياع الفرص من بين يديه هباء، ويندم على ضياع عمره منه بلا طائل ويندم على فعل السيئات.
والإنسان قد يندم على فعل المعروف في غير أهله، وهو يعبر عن كل هذا بالبكاء، ودموعه هنا هي دليل الندم، وقد نبه القرآن الكريم إلى أنه يجب على الغافل المسرف على نفسه أن يبكي على ما قدم بدلاً من أن يضحك، فيقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
) 81 – 82 التوبة) .