الأصول الفصيحة للهجة جبالة في الشمال المغربي

صدر أخيراً عن منشورات سليكي أخوين كتاب «فصل في اللسانيات التاريخية: الأصول العربية الفصيحة للهجات قبائل جبالة بالشمال المغربي في ضوء علمي التأثيل والدلالة» للباحث المغربي عبداللطيف الوهابي، ولا يمكن فهم قيمة هذا الكتاب إلا بوضعه في سياقة التاريخي والمعرفي، فهو كتاب ينتمي إلى علم اللسانيات كما هو واضح من عنوانه، وقد عرف تاريخ هذا العلم مراحل متعددة أهمها:
< مرحلة الدراسة اللغوية التي اختلطت بالفلسفة والمنطق وعلم الكلام، حيث كان الاهتمام منصباً على تحديد العلاقة بين الدال والمدلول، أهي علاقة طبيعة أم مواضعة؟ كما اهتمت بطبيعة اللغة أهي قياس أم سماع؟ بالإضافة إلى محاولات تقعيد ومعيرة بعض اللغات الكبرى وخاصة اليونانية واللاتينية.
< مرحلة اللسانيات المقارنة والتاريخية (الدياكرونية) التي بدأت مع اكتشاف اللغة السنسكريتية وظهور نظريات التطور في أوربا، وخاصة مع لامارك وداروين.
مرحلة اللسانيات البنيوية مع فردناند دوسوسير (1916) الذي ركز على الوصف التزامني للغة وفق منهــــج أحـــدث ثورة، ليس فقط في اللسانيات، بل في كل العلوم الإنسانية.
وقد أصبحت اللسانيات مع دوسوسير تهتم بدراسة اللغة في ذاتها ولذاتها، فتم إهمال اللسانيات التاريخية وحدث ما يشبه القطيعة الابستمولوجية، لكن الجديد الذي حملته اللسانيات البنيوية هو التخلص من تلكم النظرة المعيارية للغة، فلم يعد الاهتمام مقتصراً على دراسة اللغات المعيارية والأدبية فقط، بل تمّ الاهتمام بكل اللغات، سواء أكانت معيارية أم غير معيارية، قديمة أم حديثة، لغة حضارة أم بداوة. ومن هنا انتقل التصنيف الحديث من لغة ولهجة إلى الحديث عن المستويات المنوعة. ومن ثم ظهر علم اللهجات، وأصبحت أمام اللسانيين مادة خصبة بسبب طبيعتها الشفوية، المجال المفضل للسانيات.
تعرف اللهجة عموماً بأنها نمط محلي يستعمله أفراد جماعة معينة في منطقة معينة، لكني أتحفظ عن هذا التعريف بسبب عدم دقته، وقد حاول لسانيون وضع شروط كثيرة فتحدثوا عن الاختصار والتاريخية والإرث الأدبي والتفاهم والواقعية... لكنني أؤكد معيار التقعيد والهيبة والاعتبار، ومعيار الحدس (إحساس المتكلمين بمثل لغوي أعلى، فإذا سألنا مثلا المغربي أو المصري أو الكويتي عن اللغة التي يتحدث بها فسيخبرنا أنه يتحدث العربية).
ليس موضوع اللهجات موضوعاً جديداً، فقد تحدث عنه القدماء في ثنايا مؤلفاتهم أو في كتب مستقلة مثل كتاب «ما تلحن فيه العامة» للكسائي و«لحن العامة» للمازني، وكتاب «لحن العامة» للزبيدي و«الفاخر في ما تحلن فيه العامة» للمفضل بن سلمة و«أدب الكاتب» لابن قتيبة» و«المعرب» للجوالقي، ومن المؤلفات المغربية في هذا الصدد كتاب «لحن العوام» للزبيدي الإشبيلي الأندلسي و«الفوائد العامة في لحن العامة» لابن جزي الكلبي الغرناطي... ولكن الغالب على هؤلاء هو التعامل مع اللهجات ككيان ناقص وغير مكتمل، وقد استمر الأمر مع المعاصرين، وهذا الموقف السلبي راجع في نظرنا إلى سببين:
المعاني السلبية للجذر «ل.هـ.ج» في «العربية»، إذ يمكن أن نحدد ثلاثة محددات للهجة عند العربي وهي:
أ: طريقة الاكتساب: فاللهجة هي اللغة الأم التي جبل عليها الطفل وتعلَّمها في محيطه الأسري والاجتماعي من دون أي تدخُّل مقصود (لهج الفصيل ثدي أمه: رضعه).
ب- الطبيعة التكوينية: اللهجة خليط غير منسجم من اللغات واللهجات (لهوج الشيء خلطه، ولهوج الأمر خلطه ولم يبرمه).
ج- القيمة الاجتماعية: اللهجة منوعة ناقصة لم تنضج بعد، وترادف اللحن (لهوج الطعام طبخه ولم ينضجه).
ثم دعوة المستشرقين ومن والاهم من العرب، كسلامة موسى وسعيد عقل، إلى إحلال اللهجات محل الفصحى، مما جعلها تدخل في صراع خفي مع الفصحى عوض التكامل الذي قامت به على امتداد التاريخ.
فقد اهتم المستشرقون باللهجات العربية، وخاصة بعد الحملة الفرنسية على مصر، وأسست لهذا الغرض عدد من المدارس لدراسة اللهجات منها «المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية» و«مدرسة فتيان اللغات» و«المدرسة الجزائرية في الاستعراب الفرنسي»، كما أنجز عدد من الكتب منها «أصول اللغة العربية العامية والفصحى» للفرنسي de savarie، وبحث «لغة نجد الحالية» لهيس hess، و«في لغة الجزائر» لهوداس و«في العربية ولهجاتها» للاندبرج. أما اللهجات المغربية فقد حظيت هي أيضاً بدراسات أرجعها كانتينو إلى القرن الـ 19، وبالضبط إلى الباحثين الألمان والفرنسيين والإسبان، ولكنها لم تكن دراسات كاملة، لأنها كانت مسخَّرة لتعليم العسكريين والمدنيين الذين استقروا في المغرب، ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
< قسم اهتم باللهجات المغربية عموماً، ومنها دراسة هاريس the phonemes of Moroccan Arabic ودراسة كانتيونو reflexion sur la phonologie de l’arabe Marocaine ووليام مارسي textes arab de tanger.
< قسم اهتم باللهجات المحلية، وخاصة عمل ليفي بروفنصال «نصوص عربية ورغة: لهجات جبالة» وكولن colin «ملاحظات حول اللهجة العربية لشمال منطقة تازة».
وقد تابع المستشرقون عدداً من اللغويين العرب أهمهم إبراهيم أنيس «في اللهجات العربية» الذي درس لهجة القاهرة، وتمَّام حسان الذي درس لهجة عدن، وزاد هذا الاهتمام بعد قرار المجامع اللغوية العربية إنجاز دراسات علمية للهجات العربية الحديثة، وقرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1955 الداعي إلى الاهتمام باللهجات خدمة للفصحى والبحث العلمي اللغوي.
أما الدراسات المغربية الخالصة فقد انطلقت مع هيمنة الدرس اللساني المعاصر في الجامعات المغربية، نخص بالذكر كتاب «فونولوجيا ومورفولوجيا الفاسية القديمة» لعبدالعزيز حليلي، وكتاب «قضايا لسانية: اللهجة البيضاوية» لأمينة أفنان، والملاحظ أن أغلب هذه الدراسات اتخذت مناهج تزامنية، وأهملت الدراسات التعاقبية التاريخية، باستثناء بعض الدراسات القليلة مثل كتاب محمد الحلوي «الفصحى في العامية المغربية» الذي لا يمكن اعتباره بأي حال من الأحوال دراسة لسانية، بسبب غلبة الانطباعية (فلا يحدد مصادره المعجمية) وفقر مادته (حوالي 781 مدخلاً) وعدم تحديده للمتن اللغوي (شملت الدراسة كل اللهجات العربية المغربية).
أما الكتاب الحالي فهو بحق يشكل انعطافاً بمعنى الكلمة للدراسات اللسانية التاريخية في المغرب، لأنه يصدر عن وعي جديد، فالمعروف أن الدراسات اللسانية في العالم العربي لم تظهر لحاجة ملحة، بل لمسايرة المدارس الغربية، ولهذا لم تستطع بناء نماذج شاملة للغة العربية، وهذا ما يفسر استمرار هيمنة سيبويه على المشهد النحوي العربي، فمازالت القواعد هي نفسها، ولا يتغير إلا نوع الورق وشكل الكتب.
أما هذا الكتاب فقد نبه إلى ضرورة الاهتمام بالدراسات التاريخية للهجات العربية لأغراض عملية، صحيح أن بعض المؤسسات بدأت تهتم بهذا النوع من الدراسات، لكن الكتاب الحالي لا يكتفي بالتنظير، بل يقدم نموذجاً ملموساً للنتائج التي يمكن أن يصل إليها مثل هذا النوع من الدراسات، وأهمها في نظري الخدمة الجليلة التي تقدمها هذه الدراسة للغة العربية من جانبين:
الجانب الأول: إغناء المعجم العربي المعاصر بكلمات نُسي أصلها الفصيح رغم دقتها التعبيرية، أو بكلمات أبدعتها اللهجات، على الأقل تلكم الكلمات المصوغة وفق قواعد الصرف العربي.
الجانب الثاني: إصلاح درس العربية في المدرسة العربية، وخاصة في السنوات الأولى بإدراج كلمات فصيحة قريبة من الدارجة التي يستعملها الطفل في بيته حتى لا تحصل له صدمة اللقاء الأول. فلماذا يستعمل المدرس المغربي مثلاً كلمة «ذهب» دون «مشى» و«سقط» دون «طاح» و«الأطفال» دون «العيال» و«قبيح» دون «خائب» و«صلب» دون «قاسح» و«أزعجتني» دون «صدعت رأسي» و«مملوء» دون «عامر» رغم أنّ كل هذه الكلمات فصيحة ومستعملة في الدارجة.
بالإضافة إلى هذا، يتميز الكتاب ببنائه المحكم ومعماره المتقن، حيث تتعالق الفصول وتترابط في نسق متقن، هكذا ينتقل الباحث متدرجاً من تاريخ العربية القديم، مروراً إلى وضعيتها في العصرين الأموي والعباسي، وصولاً إلى انتشارها في رقعة العالم الإسلامي الواسعة، شارحاً بدقة أسباب ظهور اللهجات، متتبعاً ما قاله الدارسون والباحثون في هذا المجال، وصولاً إلى أصول اللهجات العربية المغربية وأنواعها، واقفاً بتفصيل عند اللهجة الجبلية، ذاكراً أهم التحولات الصوتية والدلالية التي أصابت الكلمات الفصيحة، قبل أن يعرض بنوع من التفصيل لمادته المعجمية، لكن ما يميز الأستاذ عبداللطيف الوهابي هو أنه صنَّف الباحثين الذين لا يكتفون بالمشهور من الأقوال، بل حاول جاهداً تجاوز المألوف وتقديم المبتكر الجديد، وهي صفات لا يملكها إلا من تمرس بالبحث العلمي ووطَّن نفسه على كد الذهن وإتعاب الجسد، خدمة للحقيقة العلمية، فنجده مثلاً يخالف الشائع في أصل كلمة جبالة، حيث يميل إلى إرجاع هذه التسمية إلى منطقة «جبلة» في الشام التي قدم منها عدد من الفاتحين العرب.
كما يتميز الكتاب بمسألتين أساسيتين هما الاستقصاء والشمولية، وهذا ظاهر من خلال وقوفه عند التحولات الصوتية التي أصابت الكلمات الفصيحة في اللهجة الجبلية، كترك الإعراب وغمط الحركات والإبدال والزيادة والترخيم... وكذا التحولات الدلالية التي مست النسق الفصيح كتضييق المعنى وتوسيعه وانتقاله واستعمال اللفظ في غير معناه الفصيح أو العكس... وكثيراً ما تأمل كلمات قلما ننتبه إليها فجاء بالطريف والعجيب في هذا المجال منها كلمة (وخّ أي توخّى وبش أي بشأن)، أما الشمولية فتتجلى في محاولة الكاتب تأثيل معجم كل المجالات التي تستعمل فيها جبلية بني عروس من النبات والأعشاب والأشجار والمناخ إلى الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصاد والتجارة والنظافة واللباس، إلى الجسد وأعضائه ومن عالم الحيوان والمطبخ إلى معجم الضرب والشتم والشجار والخصومة، ثم إلى عالم الأمراض وطرق العلاج.
راهنية الموضوع وأهميته
يأتي الكتاب في سياق ارتفاع الأصوات المنادية بتدريس اللهجات والدوارج، وارتفاع أصوات تريد أن تختزل المغرب المتعدد الثقافات في أنموذج واحد يحكمه نزوع عرقي مدعم بخطاب أكاديمي، ليؤكد التقارب الكبير بين اللهجة والفصحى، وأنّ ما يعتبر معجماً دارجاً ما هو في أغلب الأحيان إلا كلمات فصيحة نُسي أصلها لما طرأ عليها من تغيرات، أو أُهمل استعمالها في «العربية» المعاصرة، كما يأتي في سياق الحديث عن إصلاح التعليم، وروح هذا الكتاب تشير إلى ضرورة الاستفادة من الدارجة في إصلاح درس العربية بإقحام كلمات ذات أصول فصيحة قريبة من بيئة التلميذ ومحيطه الاجتماعي، ما يساعده على الاندماج السريع وإغناء الرصيد اللغوي، كما تكمن أهمية الكتاب في أنه يدفعنا إلى إعادة نظر في موقفنا من الدارجة واعتبارها مجالاً خصباً للإبداع اللغوي، فلماذا تستعير وتقترض العربية من اللغات الأجنبية ولا تقترض الكلمات التي أبدعتها بناتها من مختلف اللهجات العربية؟ ألم يحن الوقت لإدماج كلمات «الهيشر واللوي والنقلة والرجلة والغرسة والشطابة والرفيذة والتلقيم والغذان والجمار والبحيرة والتسهيل والتقريع والزريعة والرجمة والعروم والمطمورة والحدورة والغيطة والهوتة والتشويل والتفريق والتنشير والشرط والنوبة والسلكة والتحريرة والمرشوم واللقاط والعمارية...» إلى غير ذلك من آلاف الكلمات التي أبدعتها جبالة عبر التاريخ، مع العلم أن أغلب هذه الكلمات مصوغة وفق قواعد الصرف العربي؟ ألم يقل النحاة قديماً ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب؟ ولنتخيل السيل الهائل من الكلمات التي ستنضاف إلى المعجم العربي الذي يتهم بالنقص في ما يخص الحياة اليومية، لو درست كل اللهجات العربية بهذا المنهاج نفسه.
يفتح الكتاب أيضاً آفاقاً واسعة لدراسة لهجات أخرى من مناطق مختلفة للوقوف على هذا الغنى الكبير الذي تزخر به اللهجات، كما يفتح الباب على علوم أخرى وخاصة اللسانيات الاجتماعية، فقد وقف على ما يقارب 133 وصفاً ونعتاً قبيحاً للمرأة والرجل، ألا يشكل هذا مادة خصبة للدراسات السوسيولسانية والاجتماعية معاً؟
يعيد هذا الكتاب الاعتبار للسانيات التاريخية التي يمكن أن تحقق نتائج على مستوى تحسين وتبسيط النحو العربي، فقد بدا لي وأنا أتمعن بنية التصريف أن العربية القديمة كانت تؤخر الضمير للدلالة على الماضي «ضرب أنا» وتقدمه إذا أرادت الدلالة على الحاضر «أنا ضرب» التي تحولت إلى «أضرب» بعد سقوط النون، وهذا يدفعنا إلى إعادة النظر في ادعاء النحاة أن الفاعل في مثل هذه الصيغ ضمير مستتر وجوباً، ألا يكفي اعتبار «أ» هي الدالة على الفاعل، وبالتالي لا وجود لمستتر على الإطلاق؟
إن هذا الكتاب سيصبح بلا شك مرجعاً للباحثين في هذا المجال ونبراساً تهتدي به الأجيال القادمة لتطوير اللغة العربية وإغناء معجمها .