التنظير في الترجمة

أدى اشتغال الكاتب والمترجم والفيلسوف وعالم اللسانيات الفرنسي جان رينيه لادميرال، بالترجمة عقوداً طويلة، إلى الاهتمام بتواصل الثقافات، باعتبار الترجمة - جنباً إلى جنب مع الأدب المقارن - ضرباً من المثاقفة، حيث توجب ممارستها إتقان اللغات والانفتاح على الثقافات العالمية.
من هنا تأتي أهمية كتابه «التنظير في الترجمة» وعنوانه الأصلي «Traduire: Théorèmes pour la traduction»، وقد نقله إلى العربية د.محمد جدير، الأستاذ في جامعة الحسن الثاني، بالمملكة المغربية. يُدرس المؤلف الفلسفة والترجمة في جامعة باريس إكس، وما يسمى بالترجمية في المعهد العالي للترجمة الفورية والترجمة (IS.I.T) في باريس.
ويعد كتابه موضوع هذا المقال من المؤلفات النادرة فــي التنظــيـــر لعلــم وفــــن التــــرجـــمــة، وقد استوحى فصوله الأربعـــة من خبـــرة طويلة، يبدأ بتعريف الترجمة، وعلاقتــها بكل ما هو تطبيقي، عبر إمكان الترجمة واستحالتها، ويطرح أسئلة جدلــــية حول ترجمة الشعر، وكذلك الإشكال في ترجمة التضمين (connotation).
ويتبنى المؤلف خطاباً عن الترجمة يغلب عليه الطابع اللساني، لأن الترجمة لا ترتبط بالعلوم الإنسانية بالمعنى الحصري فحسب، بل بالدراسات الأدبية أيضاً، وذلك بالطبع لأن الأدب المقارن يعتمد على الترجمات، ولأن الترجمة هي نمط خاص للكتابة، وليست الترجمة الأدبية فقط، وإنما يصبح كل مترجم كاتباً ثانياً (réécrivian)، أو يتحول إلى مؤلف مشارك (co-auteur).
آلة الترجمة
يسخر المؤلف من «آلة الترجمة» لأنه في مجال الترجمة يجب المرور بالمعنى، في حين أن الترجمة الآلية هي أقرب ما تكون إلى ما يسميه مترجم الكتاب العنصرة (la Pentecête)، وفي حين باتت الترجمة الآلية والترجمة المدعومة بالحاسب الآلي تشكلان معاً مجالاً خاصاً جداً ومختلفاً تماماً عن عالم الترجمة البشرية، فإنهما مستمرتان في تطوير منطقيهما الخاصين، بشكل متواز ومستقل.
ثم يثير الكتاب قضية أخرى تمس التآزر بين الحقول المعرفية؛ وهي الاهتمام المتزايد بالترجمة في المجال الفكري، وما يستتبعه ذلك بالضرورة من إعادة لترجمة أعمال سابقة ترجمت في الماضي، كما ظهر الجدل حول إعادة ترجمة أعمال سيجموند فرويد، عالم النفس المعروف، حيث تم الاستحواذ على التحليل النفسي من قبل الترجمة. وظهر جدل مماثل حين أعيدت ترجمة هايدجر، ومثلما أظهرت إعادة الترجمة لأعمال فرويد الرهانات الخاصة بالتحليل النفسي وارتباطها بالفلسفة، أظهرت إعادة ترجمة العمل الأساس للفيلسوف هايدجر رهانات موضوعها الفلسفي.
الترجمة إشكال المصطلح
بعد توليف معظـــــم تعــريفات التــــرجمة نعرف أنها تُنتج نصاً يعد هدفاً مكافئاً دلالياً وأسلوبياً وشعرياً وإيقاعياً وثقافياً وتداولياً للنص الأصلي المَصْدَر. والذين ينتقدون الترجمة يأخذون على المترجم ابتعاده عن النص الأصل، وكأن الترجمة تُحدد عن غير وعي بواسطة التماثل، وإذا كان ذلك صحيحاً فنكون قد وقعنا في ما أراه منتقداً، وهو «يوتوبيا مصدرية للترجمة»، ويكون منطقها اللامفكر فيه بكل بساطة هو أن الترجمة ينبغي أن تكون تكراراً للنص الأصل!
ويرى لادميرال أن الترجمة هي ذلك النشاط الذائع الانتشار، الذي مارسناه كلنا، ولو في المرحلة الثانوية، ولم يكن يمثل إشكالاً لدينا، يعسر علينا تعريفه، وكأن الترجمة غير قابلة للتعريف، ومن ثم يدعو لادميرال إلى اللجوء لتعريفات واقعية كظاهرة تجريبية.
مهنة المترجم
يعتقد لادميرال أن الترجمـة باعتبارها نشاطاً إنسانياً كــونياً أصبحت ضرورية لكل الأزمنة، بين التجـــمعات الناطـــقــة، سواء فردية أو جماعية، طارئة أو مستمرة، والغريب أنه بينما يترجم «الأدبيون» كتباً مقابل مكافآت متواضعة تبعاً لنظام حقوق المؤلف، يحصل «التقنيون» على مقابل جوهري جداً لترجماتهم. وتطلق تسمية «ترجمة تقنية» على ترجمة النصوص القانونية والعلمية، بينما يندرج كتاب في العلوم الإنسانية ضمن ما يسمى «ترجمة أدبية».
ومن المشكلات التي يواجهها المترجم النقص المعجمي في اللغة الهدف، حين يعثر على مفردة غير قابلة للترجمة، ومن هنا يتجه إلى حل الاقتراض، فيأخذ الكلمة كما هي، دالاً ومدلولاً، أو يلجأ إلى الاستيراد الحذر المتمثل في النسخ (la calque)، وهو اقتراض المدلول دون الدال، كما يمكن أن يتخذ الاقتراض لوناً محلياً حين تفضل المفردة في الفرنسية الهدف على مزاوجها.
حلول المترجم
وهناك إشارة إلى جانب حلول الاقتراض الثلاثة المباشرة، تمثل أربعة أساليب للترجمة غير المباشرة أو الملتوية، مـــثــــل النقــــل، والتــحويل، والتكافؤ، والتكييف، وكلها صيغ لإيجاد حلول تعتمد على اللغات المترجمة والمترجم إليها.
ويستدعي حديث المؤلف لادميرال حول خطر الترجمة ما يدور في بلادنا العربية بالشأن نفسه، حيث يقول إن الترجمة قد تمثل النار المضادة التي يجب أن نواجه بها هذا الحريق اللساني للغرب الذي جاء متزامناً مع الثنائية اللغوية، بين الإنجليزية ولغات العالم (أنجلو إكس)، إنها حرب يخوضها المترجم الثنائي اللغة المحترف الذي يواجه مقاومة منظمة ضد التداخلات، وكذا بالنسبة إلى النصوص المترجمة وإلى قرائها لتلافي خطر التبعية اللغوية والثقافية.
وكمعلم يرى لادميرال أن إعادة الترجمة تعد بكل أشكالها تمريناً جيداً يمكن التلاميذ من خبرة ذاتية الترجمة، وهي تنزع إلى توضيع أحسن، سواء للغة الأجنبية أو للغة الأم، ويمكن لإعادة الترجمة أن تكون مصدر نمط جديد من اللعب، الذي يقوم بواسطة لعبة الأوراق الصغيرة، بترجمة وإعادة الترجمة مرات عدة لمجموعة من التلاميذ، يجهل كل واحد منهم المراحل التي مر بها النص، وتنحصر معرفة الطالب في المرحلة الحالية للنص الذي يترجمه، وعند نهاية التمرين تتم المقارنة بين الداخل والخارج، أي بين النص الأصلي (entrée) والنص النهائي (sortie).
ويؤكد لادميرال أن التضمين في الترجمة ليس ظاهرة فردية، وليس ثمة معنى لغوي فردي للكلمة المفردة يمكنه أن يجاور معنى آخر، لغوياً كان أو اجتماعياً أو جماعياً، بل هناك فقط مشكلة مدى حجن ما هو فردي داخل المفردة الواحدة.
ويربط المؤلف في كتابه «التنظير في الترجمة» بين هذا العلم والفن والجماعة اللغوية، وهذا يؤدي إلى الاعتراف بأن التضمينات الفردية داخل الترجمة تتنوع وفقاً لمقامها، فلكل مقام مقال.
ويختـــتم المؤلف كتابه بثبـــت للمصطلحات، بعد ثبت تعريفي يعرف ضمن مصطلحاته الترجمة بأنها حالة خاصــة من التمــاس والتقارب اللساني، وهي تفيد، بالمعنى الواسع، كل شكل من أشكال الوساطة البيْلغوية (médiation interlinguistique) التي تُمكِّن من نقل المعلومة بين متكلمي لغات مختلفة، وتنقل الترجمة رسالة من لغة مصدر إلى لغة هدف، كما تعني الترجمة في الوقت ذاته ممارسة الترجمة ونشـاط المترجــم، ونتيجة هذا النشاط، أي النص الهدف ذاته.
كما يعرف التكافؤ (équivalence) بمسعى الترجمة في أن تعفينا من قراءة النص الأصلي، حيث يفترض أن تعوض الترجمة النص المصدر بالنص نفسه في اللغة الهدف. إن الأمر يتعلق بشكل أدق بتماثل الكلام عبر اختلاف اللغات، ويتوافر الملفوظان، المصدر والهدف، على المعنى نفسه، عندما يشتغلان في المقام ذاته.
ومن الطريف ما ذكــره لادميرال عن الكلمة المولدة (néologisme)، وهـــي مفــــردة دلالية مولدة تـــحاكي المفردات المصــــدر، وتمثل الترجمة بناء علاقة جديدة، عـــن طريــــق عصرنة وتوليد مفردات، بل إنها إبداع حيث ينبغي أن تكون ألفاظ المترجم المســــتحدثة (المولدة) قادرة على استركاز قاعدة اصطلاحية عريضة غير موسومة في اللغة الهدف، وينتقد كثيرون تكاثر الكلمات المولدة المفرط في الوقت الراهن.
ونختتم بما يراه المؤلف معوقاً للترجمة، وهو التشويش على تعلُّم اللغة الثانية الأجنبية بسبب أشكال المقاومة النفســية اللغوية التي طورتها اللغة الأم، لذلك يواكب ممارس الترجمة حجبا نسبيا للموارد التعبيرية في اللغة الفرنسية (اللغة الأم عند المؤلف)، ولكن هذا يجعلنا نشارك المؤلف، حتى ونحن نتحدث عن موقف لغتنا العربية، في أن هناك إرثا ثقيلا يجب التخلص منه ما دامت اللغات الأجنبية التي ندرسها لاتزال لغات حية تتجدد، بما يفرض على المترجم، واللغــة الـــهدف، أن ليتجـدوا بالمثل .