قطرات من بئر الذاكرة

قطرات من بئر الذاكرة

دون‭ ‬سابق‭ ‬نية‭ ‬ولا‭ ‬رغبة‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬حلم،‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬وسط‭ ‬مجموعة‭ ‬صغيرة‭ - ‬نسبياً‭ - ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬ذكوراً‭ ‬وإناثاً‭ ‬اسمها‭ ‬قسم‭ ‬الصحافة‭ - ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ - ‬العام‭ ‬الدراسي‭ ‬1955‭ - ‬1956‭.‬

كانت‭ ‬الدراسة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬صناعة‭ ‬ألفة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬والتصرف‭ ‬الحر‭ ‬به‭ ‬ومعه،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬لقاؤنا‭ ‬الصباحي‭ ‬دوماً‭ ‬مع‭ ‬الأكاديميين‭ ‬من‭ ‬متخصصي‭ ‬الإعلام‭ ‬فكراً‭ ‬وتدويناً‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬والثقافة‭ ‬واستشراف‭ ‬المستقبل‭ ‬المنظور‭ ‬وغير‭ ‬المنظور‭ ‬إن‭ ‬أمكن،‭ ‬أما‭ ‬العصر‭ ‬فقد‭ ‬خصص‭ ‬للممارسة‭ ‬والممارسين‭ ‬وكان‭ ‬بينهم‭ ‬ولحسن‭ ‬الحظ‭ ‬الأخوان‭ ‬مصطفى‭ ‬وعلي‭ ‬أمين‭ ‬مؤسسا‭ ‬‮«‬أخبار‭ ‬اليوم‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬الزمن‭ ‬تمثل‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭ ‬المصرية‭.‬

يدخل‭ ‬قاعة‭ ‬الدرس‭ ‬مصطفى‭ ‬أمين‭ ‬في‭ ‬يومه‭ ‬الأول،‭ ‬يلقي‭ ‬التحية‭ ‬ثم‭ ‬يطلق‭ ‬بصره‭ ‬عبر‭ ‬الشبابيك‭ ‬والأبواب‭ ‬المحيطة‭ ‬بنا‭ ‬ويقول‭: ‬‮«‬انظروا‭ ‬حولكم،‭ ‬أنتم‭ ‬محاطون‭ ‬بمجموعة‭ ‬أو‭ ‬تشكيلة‭ ‬من‭ ‬أقسام‭ ‬الكلية‭ ‬المختلفة
‭(‬عربي‭ - ‬إنجليزي‭ - ‬فرنسي‭ - ‬فلسفة‭ - ‬اجتماع‭ - ‬تاريخ‭)‬،‭ ‬وعلى‭ ‬مد‭ ‬البصر‭ ‬هناك‭ ‬كليات‭ ‬الحقوق‭ ‬وكذلك‭ ‬التجارة‭... ‬إلخ‮»‬‭.‬

وأكمل‭: ‬‮«‬التعليم‭ ‬الجامعي‭ ‬يستنهض‭ ‬حواس‭ ‬التعلم‭ ‬عندكم‭ ‬وينشطها،‭ ‬لكن‭ ‬الصحافة‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بالحواس‭ ‬الخمس،‭ ‬هي‭ ‬مهنة‭ ‬الحواس‭ ‬العشر‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬أردف‭: ‬‮«‬بل‭ ‬أكثر‭, ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬رؤية‭ ‬أو‭ ‬سماع‭ ‬ثم‭ ‬نقل،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬توقع‭ ‬وتركيز‭ ‬وتنبؤ،‭ ‬والبقية‭ ‬تأتي‭ ‬أتركها‭ ‬لتصوركم‭ ‬الشخصي‮»‬‭.‬

وطوى‭ ‬أوراقه‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني‭ ‬وتركنا‭ ‬برؤوس‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات‭ ‬متسائلين‭: ‬ثم‭ ‬ماذا؟

وفي‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬دخل‭ ‬الفصل‭ ‬في‭ ‬موعده‭ ‬وأقفل‭ ‬الباب‭ ‬خلفه‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يستقبل‭ ‬من‭ ‬يأتي‭ ‬متأخراً،‭ ‬فكان‭ ‬درساً‭ ‬قاسياً‭ ‬لمجموعة‭ ‬ونال‭ ‬رضا‭ ‬آخرين،‭ ‬لكنه‭ ‬بدأ‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬انتهى‭ ‬بالأمس‭ ‬وكأنه‭ ‬ما‭ ‬تركنا‭ ‬دقيقة‭ ‬واحدة،‭ ‬واستأنف‭ ‬متماً‭ ‬حديثه‭ ‬قائلاً‭: ‬والمتابعة‭ ‬والأمانة‭ ‬في‭ ‬النقل‭ ‬ولكن‭ ‬بضمير‭ ‬حي،‭ ‬ثم‭ ‬ابتسم‭ ‬وقال‭ (‬مصحصح‭)... ‬هل‭ ‬تعرفون‭ ‬معنى‭ ‬مصحصح؟‭ ‬ضحك‭ ‬الجميع‭ ‬استخفافاً‭ ‬بالسؤال،‭ ‬ونقل‭ ‬الأستاذ‭ ‬نظره‭ ‬بيننا‭ ‬متفحصاً‭ ‬ثم‭ ‬قال‭: ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬مش‭ ‬مصطفى‭ ‬أنا‭ ‬علي‮»‬،‭ ‬وضج‭ ‬الفصل‭ ‬ضاحكا‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬مستغرب‭ ‬وقابل‭ ‬ورافض‭.‬

ولكن‭ ‬تبقى‭ ‬الميزة‭ ‬التي‭ ‬جذبتني‭ ‬إلى‭ ‬قسم‭ ‬الصحافة‭ ‬وهي‭ ‬كونه‭ ‬صغيراً،‭ ‬ولم‭ ‬يصل‭ ‬العدد‭ ‬فيه‭ ‬حتى‭ ‬الأربعين‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬أصغر،‭ ‬أعداد‭ ‬طلاب‭ ‬المواد‭ ‬الأخرى‭ ‬فيها‭ ‬بالمئات‭.‬

ولهذا‭ ‬السبب‭ ‬كانت‭ ‬علاقتنا‭ ‬بكل‭ ‬أساتذتنا‭ ‬طيبة‭ ‬وسلسة،‭ ‬نظراً‭ ‬للتقارب‭ ‬العمري‭ ‬بيننا‭ ‬وبينهم‭... ‬يبرز‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬واحد‭ ‬أشعرنا‭ ‬بأنه‭ ‬والد‭ ‬الجميع،‭ ‬وهو‭ ‬الدكتور‭ ‬عبداللطيف‭ ‬حمزة‭ (‬رحمه‭ ‬الله‭) ‬صاحب‭ ‬الأجزاء‭ ‬الستة‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬أدب‭ ‬المقالة‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬الرجل‭ ‬ما‭ ‬ناداني‭ ‬باسمي‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬دائما‭ ‬كان‭ ‬يقول‭: ‬اتفضلي‭ ‬يا‭ ‬شيخة‭ ‬العرب‭... ‬أين‭ ‬شيخة‭ ‬العرب؟

ورجوته‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬مشيرة‭ ‬إليه‭ ‬بأن‭ ‬مسمى‭ ‬شيخة‭ ‬عندنا‭ ‬ليس‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬مصر‭ (‬حيث‭ ‬يطلق‭ ‬على‭ ‬سكان‭ ‬الخيم‭ ‬أو‭ ‬الغجر‭)‬،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يسمعني،‭ ‬وكنت‭ ‬وزميلاتي‭ ‬وزملائي‭ ‬نحترم‭ ‬شيبته‭.‬

بعد‭ ‬عام‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الدراسة‭ ‬دخل‭ ‬الدكتور‭ ‬الفصل‭ ‬مبتهجاً‭ ‬وقال‭: ‬عندي‭ ‬لكم‭ ‬خبر‭ ‬يعادل‭ ‬ملايين،‭ ‬قال‭ ‬زملائي‭: ‬‮«‬شيخة‭ ‬العرب‮»‬‭ ‬تدفع،‭ ‬وكان‭ ‬الضحك‭.‬

قال‭: ‬الكويت‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬الصغير‭ ‬حقق‭ ‬الحلم‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أتكلم‭ ‬عنه‭ ‬طوال‭ ‬السنوات‭ ‬العشر‭ ‬الماضية‭ ‬لأهميته،‭ ‬سوف‭ ‬تصدر‭ ‬منها‭ ‬مجلة‭ ‬للعرب‭ ‬جميعاً‭ (‬اسمها‭ ‬العربي‭)‬،‭ ‬مصداقاً‭ ‬لكونهم‭ ‬أمة‭ ‬واحدة‭, ‬وامتلأت‭ ‬الأجواء‭ ‬بغيوم‭ ‬الفرحة‭ ‬والابتهاج،‭ ‬حتى‭ ‬خاف‭ ‬بعض‭ ‬الزملاء‭ ‬على‭ ‬أستاذنا‭ ‬من‭ ‬حماسته،‭ ‬فأخذ‭ ‬اثنان‭ ‬منهما‭ ‬بيده‭ ‬يجلسانه‭ ‬على‭ ‬مقعده،‭ ‬وكان‭ ‬يوماً‭ ‬تجلت‭ ‬فيه‭ ‬جدية‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬العرب‭ ‬بتدوينه‭ ‬ومد‭ ‬جسور‭ ‬التفاهم‭ ‬والتعامل‭ ‬الثقافي‭ ‬والسياسي‭ ‬بين‭ ‬المشرق‭ ‬والمغرب‭ ‬لبناء‭ ‬حضارة‭ ‬عربية‭ ‬واحدة‭ ‬بقوة‭ ‬التكامل‭ ‬بالعطاء‭ ‬الإنساني‭ .