البُعد العَجائبي في مجموعة «نجِيّ ليلتي» لميمون حِرْش
تندرج نصوص هذه المجموعة القصصية، الصادرة عام 2013 عن مطابع «الرباط نت»، ضمن ما اصطلح عليه، اليومَ، في وطننا العربي بـ«القصة القصيرة جدا». وهو فنٌّ سَرْدِيٌّ مُستحدَث في أدبنا العربي، يَعتمِد الكثافة العالية، ويَستمِد معظم مقوماته من فنون الأدب الأخرى، ويَستثمِرُ جُملة من التقنيات الفنية والأسلوبية، التي تعين على تكثيف المعنى واختزاله.
وعليه، فقد تراوحت أحجام نصوص المجموعة، بين أربعة أسطر، وتسعة عشر سَطراً؛ كما في نصّ «العانس» الذي يُعد أطول نصّ في المجموعة؛ وذلك انضباطاً للحجم القصير الذي يُعَد الميسم البارز لهذا الفن الوليد.
يُلاحَظ في هذه الأضمومة، أن صاحبَها لجأ في كثير من أقاصيصه إلى توظيف العنصر الفانتاستيكي (العَجائبي)، الذي يَرتكز على عنصر المَسْخ، وخَرْق المألوف والمُعتاد في الواقع الإنساني؛ حيث نجد الشخصيات تمارس أعمالاً تعارض قوانين الواقع التجريبي؛ ممّا يُضفي غموضاً فنيّاً على النص القصصي، ويَسْتدعِي ممارسة التأويل، وشد انتباه المتلقي. فالأدب االعجائبيب، عموماً، يَسْتند إلى: اتداخل الواقع والخيال، وتجاوز السببية، وتوظيف الامتساخ والتحويل والتشويه ولعبة المرئي واللامرئي، من دون أن ننسى حيرة القارئ بين عالمين متناقضين: عالم الحقيقة الحسية وعالم التصور والوهم والتخييل. فهذه الحيرة هي التي توقع المتلقي بين حالتي التوقع المنطقي والاستغراب غير الطبيعي، وذلك أمام حادث خارق للعادة، لا يخضع لأعراف العقل والطبيعة وقوانينهماب.
حين نتصفح مجموعة انجِيّ ليلتيب للأستاذ حِرْش، تستوقفنا ظاهرة العجائبية هذه، التي تبدو حاضرة حضوراً قويّاً في كثير من نصوصها؛ مثل: نجيّ ليلتي، اللعبة، رؤوس تماسيح، داخل قلبي، أكباد مقروحة، لعنات... إلى جانب الواقعي طبعاً. فالقاص يُشغل الامتساخ الفانتاستيكي، ولغة التحولات العجيبة، وينتقل من عالم الألفة إلى عالم الغرابة، إذ نجده في كثير من النصوص، يُوظف هذه الغرابة واللامعقول؛ كما يتجلى ذلك منذ العنوان الخارجي للمجموعة: انجي ليلتيب، الذي هو عنوان أحد نصوصها في الوقت نفسه. فالنجيّ من النّجْوى، والنّجْوُ: السّرُّ بين اثنين. يقال: نجَوْتُه نَجْوا أي سَاروْته، وكذلك ناجيته. ويقال: فلانٌ نجيُّ فلان أي يناجيه دون سواه. فمن أجل أن يضفي الكاتبُ على نصّه بُعْداً فانتاستيكياً، يَلجأ أحياناً، إلى االأنسنةب؛ مثلما نجد في قصة االلعبةب، التي يقول فيها: اللحظة فقط تخيلتُ نفسِي فارساً مِغوَاراً واثقاً... أوَاجهُ الحَيَاة... الاعَبْتها الشطرَنج، والخيل ترَادفتب فرَسي جمُوح، عِتقها يبينُ من أصواتها أغار بها واتراً... فتعلن التحَدي، وأقرّر الاقتحام... تترَصّدني، وأخاتلها نتماهَى ونمَثل دوراً ليسَ لنا... هكذا من لعبة لأخرَى...ب.
فالقاص هنا، يلجأ إلى أنسَنَةِ الحياة، مِمّا يُحيل المَشهد إلى اللامعقول؛ إذ نجده يُصور لنا الحياة، امرأة تتحداه وتترصده، ومع ذلك فإنه يقرّر الاقتحام، فيخاتلها ويُلاعبها الشطرنج. ويروم الكاتب من خلال هذا التصوير الغرائبي المكثف الإشارة إلى ما يلقاه الإنسان الطموح من تعب ومعاناة وابتلاء في الحياة. وهذا يذكرني بقول أبي العلاء المعري:
تعب كلها الحياة فما أعْجَـ
ــبُ إلا من راغب في ازدياد
كما تبرز ملامح الكتابة العجائبية الدالة ع لى سريالية العوالم السردية عند ميمون حرش في قصة العناتب؛ حيث انتقل من الواقعية إلى الغرائبية ليجسد لنا رؤية امتساخية سوداوية، تعبر عن انحطاط الإنسان كينونياً، وانبطاحه وجودياً وقيمياً وفضائياً. تقول القصة: االناسُ من حَوله لا مَلامِح لهم، يَمْشون على رؤوسِهم، أرجلهم ترسم علامة النصر مُرسلة للسماء... على مقربة منه كلبٌ يَعْوي بالمقلوب، وأمَامه مبَاشرة أثر أقدام مَمْسوخة... يَبدو أنها سحقت طيراً.. يتطلع لنفسه، لم يعرف سرّ وجوده بينهم... ولا مَن يكون؟... الأشكال حوله لا شكل لها... وحده الفضاء كغول يفتح ذراعيْه له ليس بالهبات... لكن باللعنات...ب.
عمد الكاتب إلى تجريد شخصياته من تركيبتها الخلقية، ورسَمَها بمَلامح أخرى غير مألوفة، اعتراها التغيير والمَسْخ
( ناس بلا ملامح - يمشون على رؤوسهم - كلب يعوي بالمقلوب...)، ليشير بذلك إلى ما أصاب أخلاق الناس من فساد وانحطاط. ثم اختتم الكاتب النص بقفلة مفاجئة لها فعل صادم تترك أثرها في المتلقي نفسه؛ نظراً لمعطياتها الخارقة، ممّا يجعلنا نسافر في تخيّل المشهد العجائبي الذي يصوره لنا بَحثاً عن المعنى المُستتر في النص.
ومن أمثلة هذا التعجيب الفانتاستيكي، أيضاً، قصة اأكباد مقروحةب التي تقوم على عوالم غريبة، وأحداث غير مألوفة؛ حيث تتحدث عن التعب البشري، واضمحلال الإنسان، وانهياره وجودياً، وتحوله إلى إنسان غريب الأحوال، مريض في هذا الكون الذي تسوده العبثية البشرية بفعل الظلم، وتناقض القيم، واشتداد الصراع المادي المبني على صراع القوة والمال. تقول القصة: اسَمع عن سُوق بَعيدة، يأتيها الناس من كلّ فجّ عَمِيق، يتم فيها استبدال أكباد غير ذات قروح بأكبادهم المريضة. رحل إليها، وبعد مغامرات جلجامشية، يصِلها، لكن متأخراً، لقد سَبقه مَرْضَى آخرون، ولم يتبق غير كبد واحدة مكتوب عليها: اللنساء فقطب استقرّ رأيه على استبدالها بكبده، قالوا له: مستحيل! أنت رَجُلٌ...توحين أصرّ طلبوا منه شهادة حسن السّيرة والسلوكب.
وأخيراً، يمكننا القول: إن ظاهرة الغرائبية، التي نلامِسُها في هذه المجموعة، التي بين أيدينا، قد ساهمت بنسبة كبيرة، في إضفاء غموض فنيّ على نصوصها؛ الأمر الذي يجعل النص القصصي عند حِرش نخبوياً بامتياز كما أكدت ذلك في كتابي: اخصائص القصة القصيرة جداً عند ميمون حِرشب.توبهذا يكون الأستاذ حِرش، قد انحاز إلى المبدعين الذين ارتضوا هذا الأسلوب الغامض في كتاباتهم القصصية القصيرة جداً، ولعله أفضل من يُمثل هذا الاتجاه عندنا في شرق المغرب على الأقل، إن لم نقل على المستوى الوطني والعربي عموماً >