ملف عبد العزيز الدوري: عبدالعزيز الدوري المدرسة القومية في كتابة التاريخ

ملف عبد العزيز الدوري: عبدالعزيز الدوري المدرسة القومية في كتابة التاريخ
        

          احتل عبدالعزيز الدوري مكانة مرموقة في الجيل الثاني من المؤرخين العرب في القرن العشرين الذين ساهموا في تحديث مفهوم التاريخ ودراسته وكتابته. فالتاريخ في نظر الدوري، موضوع حي وحيوي، له دوره في الثقافة والتكوين الاجتماعي والخلقي للفرد وللأمة، وله أهميته الخاصة بين حقول المعرفة. وهو يؤثر «بوعي أو من دونه، وبدرجات، في حياتنا وفي نظرتنا»، وإذا تعرضت الأمة لأزمة ترجع إلى التاريخ، تحاول استقراء الظروف والتطورات التي سببت الأزمة، والتطلع إلى المستقبل. وقد تجد الأمة فيما يحتويه التاريخ من عناصر استمرار قدراً من الحماية لها وتعزيز قدرتها على الصمود في وجه التحديات. وعلى الصعيد الفردي يرى الدوري أن دراسة التاريخ تنمي ملكة النقد، وتوسع أفق التفكير، وتدفع إلى ملاحظة عوامل التقدم والانحطاط في المجتمعات ومواطن القوة والضعف فيها ومعرفة نفسية الأمة.

          ذهب الدوري في دراسته للتاريخ، إلى أن مسئولية كتابة تاريخ أي أمة تقع على مؤرخيها، وأن المؤرخين العرب المحدثين بحاجة ماسة إلى دراسة تاريخ أمتهم بروح نقدية، بعد أن كتبه أناس نشأوا في بيئات غريبة عن البيئة العربية، وينتمون إلى ثقافات بعيدة عن ثقافتنا العربية الإسلامية، وافتقروا إلى الفهم الداخلي للمجتمع العربي واستيعاب روحه وخفاياه. والدوري في دعوته هذه، لا يعني الانغلاق على الذات، لأنه في منطقة الأساس، يرى أن التاريخ، بوجه عام، عالمي المدى، تتشابك حضاراته، وتتبادل التأثير فيما بينها. ومن الخطأ الافتراض أن التطور الحضاري يعود لحضارة معينة دون غيرها. ويؤكد في مؤلفاته العديدة الفائدة التي يحصل عليها المؤرخ من الاطلاع على فلسفة التاريخ ونظريات تفسيره ومناهجه لدى الأمم الأخرى، ولدى الأمم الغربية خاصة التي نالت قصب السبق في هذا الميدان. ولكنه كان يرفض المحاولات الغربية لاكتشاف قوانين تسير المجتمعات البشرية عليها. أو استنباط مبادئ وتوجهات عامة من خلال التأمل الفلسفي، مثلما كان يرفض الحتمية التاريخية، والقول بأن التاريخ فوضى متصلة. ولم يتردد الدوري في نقد منهج المستشرقين في دراسة التاريخ العربي والإسلامي وكتابته، وأثبت من خلال مؤلفاته قدرة المؤرخين العرب على امتلاك المنهج العلمي النقدي في كتابة التاريخ. وبذل الدوري جهودًا مضنية طوال سنوات تدريسه لإعداد جيل مؤهل من الباحثين العرب في مدرسته التاريخية. وركز على دراسة التاريخ الاقتصادي، فكان أول المؤرخين العرب المحدثين في هذا المجال. وأدرك عمق العلاقة بين العوامل الاقتصادية والأحداث التاريخية الكبرى عند العرب، والصلة بين انتشار الإسلام والنظم الاقتصادية عامة التي كانت سائدة في بلاد الشام والعراق. وجاء كتابه «مقدمة في صدر الإسلام» تطبيقًا عمليًا لما توصل إليه من اكتشافات علمية.

          ولما كان المؤرخون العرب، بعد ابن خلدون، لم يتوصلوا إلى صياغة فلسفة للتاريخ العربي، ولم يقفوا على نمط موحد لتحقيب هذاالتاريخ، وتحديد مراحله والاتجاهات الكبرى في تطوره، سعى الدوري إلى تحليل هذا التاريخ لوضع نظرية شاملة، ومن خلال مؤلفاته وأبحاثه التي نشرت عبر ستين سنة ونيف.

          كان كتاب الدوري عن «الشعوبية» بحثًا في الصراع الثقافي بين العرب والشعوب الأخرى التي خضعت لهم ودخلت في الإسلام. وقد اعتمدت هذ الشعوب الهجوم على اللغة العربية والأدب العربي وعلى الثقافة والأخلاق العربية للحط من مكانة الذين تقلدوا الخلافة والقيادة في المجتمع الجديد، والتدليل على أنهم أحق منهم بالسلطة. وكان الدوري يرى أن الدفاع عن العرب وقيمهم وأخلاقهم وثقافتهم دفاع عن الإسلام والحضارة العربية الإسلامية.

          بعد عقدين من الزمن في دراسة التاريخ العربي والإسلامي وتدريسه، نشر الدوري كتابه «الجذور التاريخية للقومية العربية» سنة 1960. وكان كتابه هذا بداية نظرية عبدالعزيز الدوري أو نظرته للتاريخ العربي الإسلامي، كما كان يقول تواضعًا. انطلق الدوري من رفضه اعتماد المعايير الغربية في المفاهيم والمؤسسات لكل ظاهرة وتطور، لأن «المفاهيم والمؤسسات لا ترسخ أو تدور في أي بيئة بالاقتباس وحده، بل لا بد من أن تكون هناك أصول ومقومات في تلك البيئة، وهذه قد تنشط وتتطور بالاتصال بالفكر الخارجي». ويضرب مثلاً على ذلك ظهور الحركات القومية في أوربا وآسيا وإفريقيا: «فإذا ظهرت القومية في الغرب تعبيرًا عن الطبقة الوسطى وطموحاتها، وكانت وراء تكوين الدولة القومية والتوسع الاستعماري، فإن هذا لا يصدق بالضرورة على كل حركة قومية، خاصة الحركات القومية في آسيا وإفريقيا، لاختلاف منطلقاتها وظروف نشأتها وأهدافها». (الدوري: التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1984، ص9).

          تتناول نظرية الدوري التاريخية للتكوين التاريخي للأمة العربية، والحقب أو المراحل التي مرّ بها هذا التكوين، وهي: مرحلة ما قبل الإسلام، والمرحلة الإسلامية حتى القرن الثامن عشر الميلادي، والمرحلة الحديثة، ففي مرحلة ما قبل الإسلام نجد العرب العاربة (القبائل القحطانية اليمنية)، والعرب المستعربة (القبائل العدنانية الشمالية)، تجمعهم اللغة والسجايا. وقد استعمل العرب اللحيانيون والثموديون والصفائيون العربية والخط المسند، بينما كان العرب اللخميون أول من اتخذ العربية لغة رسمية، واستعملوا الخط الآرامي النبطي الذي تطور منه الخط العربي الذي بدأ استعماله في القرن السادس الميلادي.

تكوين المجتمع الإسلامي

          تكوّن المجتمع العربي الإسلامي في المرحلة الإسلامية، بعد أن أعطى الإسلام العرب عقيدة، وكوّن لديهم شعورًا برسالة، ورفض العصبية والأعراف القبلية، وأنشأ قيمًا ومثلاً جديدة، وأبطل الغزو، وفرض الجهاد في سبيل العقيدة، وجاء بفكرة الأمة القائمة على العقيدة ونزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، فترسخت العربية، واكتسبت منزلة خاصة، وجعلها العرب لأول مرة في التاريخ في نطاق دولة واحدة تضم عرب الشمال وعرب الجنوب، وتجمع البدو والحضر، في أعقاب حروب الردة، وحددت الفتوح رقعة الوطن العربي.

          حمل العرب رسالة الإسلام إلى الدنيا، صحيح أن البدو كانوا أكثرية العناصر القتالية الفتية، غير أن القيادة والتوجيه والبناء كان لعرب المدن. وهذا ما يميز الفتوح العربية الإسلامية عن الغزوات البدوية القديمة من حيث الهدف والتنظيم والأسلوب. ووقف الإسلام موقفًا سلبيًا من البداوة، وشجع العرب على الاستقرار والحياة المدنية، وحثهم على القراءة والتعلم وجعلهما من لوازم العقيدة.

          ولما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم قيام الأمة في المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ومن تبعهم وجاهد معهم، أرسى إطار الدولة. وجاءت مؤسسة الخلافة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لتكون التنظيم السياسي للأمة. بدأت شورى، ولما انتقلت إلى بني أمية دخلت فكرة الوراثة إلى الحكم، على الرغم من تناقضها مع مبدأ الشورى.

          وساهم استقرار العرب المقاتلين في الأمصار (البلاد المفتوحة)، وهجرة القبائل العربية إليها، وامتلاكهم الأراضي، وازدهار التجارة الدولية والداخلية، وانتشار الإسلام بين غير العرب والعرب المسيحيين، وتعريب الدواوين في العهد الأموي، في تعزيز اللغة العربية كلغة رسمية، اختلط العرب مع سكان الأمصار بالمصاهرة. وتطور مفهوم العصبية القبلية إلى عصبية سياسية تقوم على المصالح المشتركة في كل مصر. وشعر العرب في صدر الإسلام (العهود: النبوي والراشدي والأموي) بإحساس مشترك، وبدور تاريخي مميز، باعتبارهم الفاتحين وحملة راية الإسلام، وأصحاب السلطة في الدولة، وشعروا بالتفوق على الشعوب الأخرى.

          ولما ضعف نفوذهم في العصر العباسي، وحذفوا نهائيًا من ديوان الجند في عهد الخليفة المعتصم، اتجهوا إلى الاستقرار في الأرياف، وزراعة الأرض والعمل في التجارة، فساعد ذلك على انتشار اللغة العربية في الأرياف، مثلما انتشرت قبل ذلك في المدن. وسهل انتشارها في المشرق العربي صلة القرابة بين اللغة العربية ولغات السكان المحليين، ووجود العديد من القبائل العربية المستقرة فيه قبل الفتح الإسلامي. أما في المغرب العربي، فقد كان للمدن التي أنشأها العرب الفاتحون كالقيروان وتونس وفاس، وانتشار الإسلام على يد الخوارج الصفرية والإباضية أواخر القرن الهجري، ونشاط التعريب على يد الأدارسة والأغالبة وبني صالح والفاطميين، والهجرة الهلالية في القرن الخامس الهجري، الدور الكبير في نشر اللغة العربية في المدن والأرياف.

          ورافق انتقال السلطة إلى الأسرة العباسية بعد قرن وثلث القرن من الهجرة، تحولات اجتماعية واقتصادية وفكرية، ودعوة قامت على المبادئ الإسلامية نجحت في دحر العصبية القبلية، وأكدت مبدأ المساواة وإشراك المسلمين من غير العرب في السلطة، والتخلي عن الأساس القبلي للجيش، وأكد العباسيون مبدأ الوراثة، وترسخ الحكم المطلق المستبد. غير أن مؤسسة الخلافة أصابها الضعف والوهن باصطناع الخليفة المعتصم المماليك من الأتراك الذين سيطروا على الحكم في عهد خلفائه. ومع الغزو البويهي سنة 334هـ، فقدت الخلافة سلطتها الفعلية، فابتعدت عن الأمة لخضوعها لمماليك غرباء.

تكوين الثقافة العربية

          وعلى أي حال، فقد رافق التعريب تكوين الثقافة العربية خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة. وظهرت الدراسات الإسلامية (القراءات والتفسير والحديث والمغازي والفقه)، والدراسات العربية في اللغة والأخبار والأنساب والشعر. وركزت الدراسات التاريخية على تاريخ الأمة والتراجم. وازدهرت الترجمة من اليونانية والفارسية إلى العربية. وتبلور الشعور لدى رجال الفكر العرب بأن العرب أمة واحدة في مواجهة الحركة الشعبوية، واتضح ذلك في مؤلفات الجاحظ، وابن المقفع، والفارابي، والمسعودي، وابن خلدون وتأكد لديهم مفهوم العروبة على أساس ثقافي لا عنصري. وتمثل الوعي العربي على المستوى الشعبي في منظمات العيارين والفتيان. وخلص الدوري في عرضه التاريخي هذا إلى أن العرب قد اكتمل تكوينهم كأمة تربطها اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى للهجرة.

          أما ظهور الوعي والحيوية عند العرب، في نظر الدوري، فكان دومًا في إطار الإسلام  /العروبة أو العروبة/ الإسلام، حسب طبيعة التحديات التي واجهتهم أو قد تواجههم، فإذا كان التحدي خارجيًا برز الوعي والمقاومة في إطار الإسلام، كما حدث عند غزو الفرنجة والمغول للمشرق العربي، والغزو الغربي الحديث للبلاد العربية، وذلك بالدعوة إلى الجهاد لصده، أما إذا كان التحدي داخليا ناجما عن الضعف والتدهور والانحلال المجتمعي، فإنه تبرز فكرة العروبة المقترنة بالإسلام، والأمثلة على ذلك التصدي للشعوبية في العهود الإسلامية، وقيام الحركتين الوهابية والسنوسية لإصلاح المجتمع بالعودة إلى الإسلام الأول النقي، ورفض الإسلام الرسمي الذي يمثله العثمانيون، واستنهاض العرب للقيام بدورهم في الإسلام وحمل رايته.

          وخلاصة القول، أن الدوري رأى أن الأمة العربية «عربية بلغتها» إسلامية في تراثها ووجهتها، وأنها قد تكونت عبر التاريخ، واكتمل تكونها على أساس لغوي ثقافي، وهو في هذا يتجاوز العديد من المفكرين القوميين العرب الذين يرون أن الأمة العربية قد تكونت حديثًا نتيجة اتصال العرب بالغرب، ونمو الشعور القومي لديهم. كما أنه يرد بصورة مباشرة على المفكرين الماركسيين العرب الذين ما انفكوا يقولون إن العرب مازالوا أمة في مرحلة التكوين ولم يكتمل تكونها بعد.

          كانت ثقة الدوري بالوعي العربي الحديث لا حدود لها، في مطلع الستينيات من القرن العشرين، والمد القومي العربي في أوجه. واتفق الدوري مع الدكتور قسطنطين زريق في مؤلفه «الوعي القومي» الصادر سنة 1939، في أن الوعي القومي «منبع كل نهضة قومية صحيحة». ويعني هذا الوعي لدى زريق معرفة ماضي الأمة معرفة صحيحة، وفهم العوامل الطبيعية والتاريخية التي كونتها، والكشف عن مصادر قواها الروحية، كما أنه يعني لديه إدراك حاضر الأمة وتقدير قوى الحاضر فيها تقديرًا متزنًا، والإيمان القوي بهدف الغد ورسالة المستقبل. ولكن الدوري يختلف مع زريق القائل «إن القومية ظاهرة حديثة نشأت في أوربا، في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية معينة، وانتقلت إلى بقية العالم» حيث يؤكد الدوري أن القومية العربية ليست فكرة طارئة أو مقتبسة، وإنما هي نتيجة تطور الوعي العربي الذي اتضح وتحدد في مسيرة العرب في التاريخ، ليظهر في العصر الحديث في وعي ذاتي يؤكد إحياء التراث الفكري العربي، وإدراك مسيرة الأمة العربية في التاريخ. واعتبر الدوري الروح الثورية التي سادت في الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت، سبيلاً لبناء المجتمع العربي الجديد، مؤكدًا أن «الثورة لا تأتي من فوق بل يجب أن تنطلق من القاعدة وتمثل الشعب بكامله». وكان التفاؤل طاغيًاعلى تفكيره طوال حياته.
---------------------------
* مؤرخ من الأردن.

 

 

علي محافظة*