مع أبي الطيب المتنبي

مع أبي الطيب المتنبي

مع‭ ‬أن‭ ‬عنوان‭ ‬كتاب‭ ‬الباحث‭ ‬السوداني‭ ‬الكبير‭ ‬الراحل،‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬الطيّب‭ ‬‮«‬مع‭ ‬أبي‭ ‬الطيّب‮»‬،‭ ‬يشي‭ ‬بأنه‭ ‬كتاب‭ ‬وضعه‭ ‬صاحبه‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬المتنبي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يقرأه‭ ‬يكتشف‭ ‬أنه‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬جولة‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬التراث‭ ‬الشعري‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬بوجه‭ ‬عام،‭ ‬وعن‭ ‬أحكام‭ ‬شديدة‭ ‬الدقة‭ ‬والمتانة‭. ‬وقد‭ ‬يعيد‭ ‬القارئ‭ ‬قراءة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬دراسة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬عن‭ ‬المتنبي‭ ‬أراد‭ ‬بها‭ ‬صاحبها‭ ‬جوانب‭ ‬لم‭ ‬يردها‭ ‬سواه‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬على‭ ‬كثرة‭ ‬ما‭ ‬كُتب‭ ‬عن‭ ‬مالئ‭ ‬الدنيا‭ ‬وشاغل‭ ‬الناس‭.‬

لعلّ‭ ‬القارئ‭ ‬سيفتقد،‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يفتقد،‭ ‬المجانية‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬والتحليل‭ ‬التي‭ ‬يسهل‭ ‬العثور‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬الحديثة،‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬سير‭ ‬الشعراء‭ ‬الماضين‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬الماضين‭. ‬فلهذه‭ ‬الجهة،‭ ‬لن‭ ‬يجد‭ ‬القارئ‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المجانية‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬عبدالله‭ ‬الطيب،‭ ‬لأن‭ ‬الكلمة‭ ‬فيه‭ ‬تنزل‭ ‬منزلها‭ ‬بلا‭ ‬جور‭ ‬ولا‭ ‬ارتجال‭.‬

ومن‭ ‬البداية‭ ‬يجد‭ ‬المرء‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬أستاذ‭ ‬كبير‭ ‬يدقق‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬عباراته‭ ‬وإطلاق‭ ‬أحكامه‭. ‬إنه‭ ‬ليس‭ ‬منحازاً‭ ‬للمتنبي‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬محمود‭ ‬شاكر،‭ ‬ولا‭ ‬منحازاً‭ ‬ضده‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬يبحث‭ ‬في‭ ‬أمره‭ ‬بحثاً‭ ‬مجرداً‭ ‬خالياً‭ ‬من‭ ‬الأغراض‭. ‬هو‭ ‬يرى‭ ‬بداية‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬أسماء‭ ‬شعراء‭ ‬العرب‭ ‬دوراناً‭ ‬بينهم،‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬وزهير‭ ‬وأبوالطيب،‭ ‬اوعسى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬معهم‭ ‬جريرب‭. ‬ثم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر‭ ‬يشتهر‭ ‬اسم‭ ‬فيغلب‭ ‬عليهم‭ ‬جميعاً‭ ‬ثم‭ ‬يختفي‭ ‬فيُنسى،‭ ‬أو‭ ‬يكاد،‭ ‬مثل‭ ‬البهاء‭ ‬زهير‭ ‬والوأواء‭ ‬الدمشقي‭ ‬وحافظ‭ ‬إبراهيم‭ ‬وإيليا‭ ‬أبي‭ ‬ماضي‭ ‬وهلمّ‭ ‬جرّا‭. ‬وبين‭ ‬طبقات‭ ‬العامة‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يُعرف‭ ‬هؤلاء،‭ ‬ولكن‭ ‬قد‭ ‬يُعرف‭ ‬عنترة‭ ‬الفوارس‭ ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬القصص‭ ‬الشعبي،‭ ‬وحسّان‭ ‬والبوصيري‭ ‬والبرعي،‭ ‬لأنهم‭ ‬من‭ ‬مُدّاح‭ ‬الرسول‭ ‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬العصر‭ ‬الحاضر‭ ‬ربما‭ ‬بخس‭ ‬قدر‭ ‬زهير‭ ‬وأبي‭ ‬الطيب‭ ‬لأنهما‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬المديح،‭ ‬وخاصة‭ ‬المتنبي‭ ‬لتكسّبه‭ ‬بذلك‭ ‬واختلافه‭ ‬بين‭ ‬الممدوحين‭ ‬وجَوْبِهِ‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬هذا‭ ‬الغرض‭.‬

ويلاحظ‭ ‬د‭.‬عبدالله‭ ‬الطيب‭ ‬أن‭ ‬مما‭ ‬أفسد‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬رأيهم‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬شعر‭ ‬المدح‭ ‬عامة‭ ‬وشعراء‭ ‬المديح‭ ‬قاطبة‭ ‬حسبانُهم‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬التسوُّل،‭ ‬وأن‭ ‬أصحابه‭ ‬متسوّلون،‭ ‬وهذا‭ ‬خطأ‭ ‬في‭ ‬نظره‭. ‬إذ‭ ‬الشعر‭ ‬ديوان‭ ‬العرب،‭ ‬كما‭ ‬الإذاعة‭ ‬والتلفزيون‭ ‬والصحافة‭ ‬وشتى‭ ‬طرق‭ ‬الإعلام‭ ‬والدعاية‭ ‬هي‭ ‬ديوان‭ ‬مجتمعنا‭ ‬الحاضر‭. ‬والمدح‭ ‬والهجاء‭ ‬كانا‭ ‬من‭ ‬أساليب‭ ‬الإعلام‭ ‬والدعاية‭ ‬المشروعة‭ ‬كما‭ ‬هما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭.‬

وكان‭ ‬الملوك‭ ‬ومن‭ ‬أشبههم‭ ‬يعلمون‭ ‬لهما‭ ‬ذلك‭ ‬فيرومون‭ ‬منهما‭ ‬ويتّقون‭. ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬أولو‭ ‬الأمر‭ ‬ومن‭ ‬أشبههم‭ ‬الآن‭ ‬إزاء‭ ‬الإذاعة‭ ‬والتلفزيون‭ ‬والصحافة‭ ‬وشتى‭ ‬طرق‭ ‬الإعلام‭. ‬وكان‭ ‬الشاعر‭ ‬القديم‭ ‬ربّما‭ ‬مدح‭ ‬وهجا‭ ‬متكسّباً‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬أكثر‭ ‬القائمين‭ ‬بالإعلام‭ ‬في‭ ‬زماننا،‭ ‬وربما‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬كسباً‭ ‬فأُجيز‭ ‬وعوقب‭.‬

المتنبي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشعراء‭ ‬المدّاحين،‭ ‬وعندما‭ ‬صار‭ ‬إلى‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬الحمداني‭ ‬في‭ ‬حلب‭ ‬بات‭ ‬كالموظف‭ ‬عنده‭:‬

أسيرُ‭ ‬إلى‭ ‬إقطاعِهِ‭ ‬في‭ ‬ثيابِهِ

على‭ ‬طِرفِهِ‭ ‬في‭ ‬دارِهِ‭ ‬بحسامِهِ

ويصفه‭ ‬عبدالله‭ ‬الطيب‭ ‬بـاوزير‭ ‬دولةب،‭ ‬واوكيل‭ ‬وزراءب‭ ‬للإعلام‭ ‬والدعاية‭ ‬بلغة‭ ‬عصرنا‭ ‬اليوم‭. ‬وقد‭ ‬استمرّ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المنصب‭ ‬تسع‭ ‬سنوات‭. ‬بعدها‭ ‬شغل‭ ‬منصب‭ ‬وزير‭ ‬الدعاية‭ ‬عند‭ ‬كافور‭ ‬أربع‭ ‬سنوات،‭ ‬ليصبح‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬وزير‭ ‬الدعاية‭ ‬والإعلام‭ ‬عند‭ ‬عضد‭ ‬الدولة‭ ‬مدة‭ ‬عام‭. ‬اكان‭ ‬وزيراً‭ ‬زائراً‭ ‬مفوّضاً‭ ‬من‭ ‬عند‭ ‬نفسه‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬القصير‭!‬ب‭.‬

وكان‭ ‬مع‭ ‬الدعاية‭ ‬والإعلام‭ ‬على‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬واجب‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬يُكلّفهُ‭ ‬أكثر‭ ‬وزراء‭ ‬ووكلاء‭ ‬وزارات‭ ‬الدعاية‭ ‬والإعلام‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحاضر‭. ‬وذلك‭ ‬أن‭ ‬يُبرز‭ ‬عمله‭ ‬بصورة‭ ‬فنية‭ ‬شعرية‭ ‬تحمل‭ ‬طابعه‭ ‬الشخصي،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬خدمها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬إمارة‭ ‬من‭ ‬إمارات‭ ‬الطوائف‭ ‬تحمل‭ ‬طابع‭ ‬أميرها‭ ‬الخاص‭ ‬الشخصي‭. ‬سَمْتُ‭ ‬دولة‭ ‬آل‭ ‬حمدان‭ ‬بحلب‭ ‬غيره‭ ‬بالموصل،‭ ‬وسَمْتُ‭ ‬دولة‭ ‬الإخشيد‭ ‬بالفسطاط‭ ‬غيرُ‭ ‬سَمْتِ‭ ‬دولة‭ ‬آل‭ ‬بويه‭ ‬بأرجان‭ ‬أو‭ ‬بشيراز،‭ ‬غيرُ‭ ‬سَمْتِ‭ ‬بني‭ ‬عُبيد‭ ‬بالمغرب،‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬وبالفسطاط‭. ‬وكان‭ ‬أبوالطيب‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬وزراء‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬عجباً‭... ‬كان‭ ‬وزيراً‭ ‬له‭ ‬سياسته‭ ‬الخاصة‭ ‬ويخبر‭ ‬الناس‭ ‬أنه‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تنفيذها‭ ‬لأن‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تغدق‭ ‬عليه‭ ‬جوائزها‭: ‬سيف‭ ‬الدولة،‭ ‬أو‭ ‬كافور،‭ ‬أو‭ ‬بدر‭ ‬بن‭ ‬عمّار،‭ ‬تسمع‭ ‬لمن‭ ‬يكيدون‭ ‬له‭ ‬وتعرقل‭ ‬عليه‭. ‬وكان‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬يمجّدها‭ ‬شكراً‭ ‬لإغداقها‭ ‬عليه‭ ‬وتنبيهاً‭ ‬على‭ ‬بهائها‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬نفسها‭ ‬وتنويهاً‭ ‬به‭. ‬وقد‭ ‬يجمع‭ ‬جمعاً‭ ‬غريباً‭ ‬بين‭ ‬امتعاضه‭ ‬من‭ ‬العرقلة‭ ‬وتمجيده‭ ‬وتنويهه‭ ‬بالبهاء،‭ ‬كقوله‭ ‬في‭ ‬كافور‭:‬

يا‭ ‬أيُها‭ ‬الملكُ‭ ‬الغاني‭ ‬بتسمية

في‭ ‬الشرقِ‭ ‬والغربِ‭ ‬عن‭ ‬نعتٍ‭ ‬وتلقيبِ

أنت‭ ‬الحبيبُ‭ ‬ولكني‭ ‬أعوذُ‭ ‬به

من‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬محباً‭ ‬غيرَ‭ ‬محبوب

ويرى‭ ‬د‭.‬عبدالله‭ ‬الطيب‭ ‬أن‭ ‬مما‭ ‬أعان‭ ‬المتنبي‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المذهب‭ ‬مزاجه‭ ‬وطموحه‭ ‬وأحوال‭ ‬عصره‭ ‬وما‭ ‬جرّبه‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬خرج‭ ‬أول‭ ‬شبابه‭ ‬بدعوى‭ ‬ادّعاها‭ ‬ولو‭ ‬نجح‭ ‬لكان‭ ‬سبق‭ ‬الفاطميين‭ ‬إلى‭ ‬إنشاء‭ ‬دولة‭ ‬فاطمية،‭ ‬ولعلّه‭ ‬كان‭ ‬يدّعي‭ ‬نسباً‭ ‬علوياً،‭ ‬ولعلّه‭ ‬كان‭ ‬علوياً‭ ‬يكتم‭ ‬نسبه‭. ‬اومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمره‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬إذ‭ ‬أذعنت‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬التماس‭ ‬السموّ‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬طويل‭ ‬شاق‭ ‬هو‭ ‬خدمة‭ ‬الأمراء‭ ‬بشعره،‭ ‬أنه‭ ‬دون‭ ‬أحد‭ ‬منهم،‭ ‬إذ‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬جملتهم‭ ‬بين‭ ‬مغامر‭ ‬وابن‭ ‬مغامر،‭ ‬ولعلّ‭ ‬أعرقهم‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬حفيد‭ ‬مغامر‭ ‬مثل‭ ‬سيف‭ ‬الدولة،‭ ‬أو‭ ‬عبدا‭ ‬لحفيد‭ ‬مغامر‭ ‬مثل‭ ‬كافورب‭.‬

 

المدح‭ ‬والتصوير‭ ‬الفني

ولنتأمل‭ ‬كيف‭ ‬يصوّر‭ ‬عبدالله‭ ‬الطيب‭ ‬مهنة‭ ‬المدح‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان،‭ ‬فيعتبر‭ ‬أنها‭ ‬أشبه‭ ‬بمهنة‭ ‬التصوير‭ ‬الفني،‭ ‬فتنافس‭ ‬الأمراء‭ ‬إذ‭ ‬ذاك‭ ‬على‭ ‬الشعراء‭ ‬يشبه‭ ‬تنافس‭ ‬ملوك‭ ‬أوربا‭ ‬وأمرائها‭ ‬على‭ ‬استقدام‭ ‬المصوّرين‭ ‬البارعين‭ ‬واستخدامهم‭.‬

اوينبغي‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬المدح‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تسوّل،‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬واجب‭ ‬أو‭ ‬عمل‭ ‬يُطلب‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭ ‬فينجزه،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬المصوّرون‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬يؤدي‭ ‬أحدهم‭ ‬واجباً‭ ‬أو‭ ‬ينجز‭ ‬عملاً‭ ‬حين‭ ‬يُطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يرسم‭ ‬هذا‭ ‬الأمير‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬الأميرة‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬إبراز‭ ‬الأبّهة‭ ‬في‭ ‬الجمال،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬أمير‭ ‬بذي‭ ‬أبّهة‭ ‬ولا‭ ‬كل‭ ‬أميرة‭ ‬بحسناء،‭ ‬وكما‭ ‬كان‭ ‬شكسبير‭ ‬وأضرابه‭ ‬الروائيون‭ ‬يؤدي‭ ‬أحدهم‭ ‬واجباً‭ ‬أو‭ ‬ينجز‭ ‬عملاً‭ ‬حين‭ ‬يُطلب‭ ‬من‭ ‬فرقته‭ ‬تمثيل‭ ‬قصة‭ ‬لتسلية‭ ‬الملكة‭ ‬ورجال‭ ‬القصر‭ ‬واللوردات‭ ‬الكبارب‭.‬

فالباحث‭ ‬الكبير‭ ‬يشرح‭ ‬ظرف‭ ‬المتنبي‭ ‬التاريخي‭ ‬وظروف‭ ‬زملائه‭ ‬شعراء‭ ‬المدح‭ ‬في‭ ‬تراثنا،‭ ‬معتبراً‭ ‬أننا‭ ‬نظلم‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشعراء‭ ‬عندما‭ ‬نعتبرهم‭ ‬مجرد‭ ‬متسوّلين،‭ ‬وهو‭ ‬الاعتبار‭ ‬السائد‭ ‬عند‭ ‬الناس‭ ‬اليوم‭. ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يجد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬القديم،‭ ‬أي‭ ‬المدح،‭ ‬ما‭ ‬يعين‭ ‬الباحث‭  ‬المعاصر‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬أحوال‭ ‬الزمن‭ ‬الماضي‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الناظر‭ ‬في‭ ‬أصناف‭ ‬المديح‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬يجدها‭ ‬في‭ ‬جملتها‭ ‬تختلف‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬كما‭ ‬تختلف‭ ‬أساليب‭ ‬التمثيل‭ ‬والتصوير‭ ‬والرقص‭. ‬وقد‭ ‬نستطيع‭ ‬إن‭ ‬أقبلنا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬ندرس‭ ‬أحوال‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬منذ‭ ‬أوائل‭ ‬عهدها‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬دراسة‭ ‬الأصناف‭ ‬من‭ ‬أساليب‭ ‬قصائد‭ ‬المدح‭ ‬في‭ ‬جملتها‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭, ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬الآن‭ ‬علماء‭ ‬الحفريات‭ ‬حين‭ ‬يستنبطون‭ ‬من‭ ‬أحوال‭ ‬الأمم‭ ‬السالفات‭ ‬بدراسة‭ ‬أصناف‭ ‬أساليب‭ ‬الجرار‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭.‬

وإذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المتنبي‭ ‬متسولاً‭ ‬كما‭ ‬رآه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وباحثون‭ ‬كثيرون،‭ ‬فإنه‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬فنّان‭ ‬ملهم‭ ‬خارق‭ ‬القدرة‭ ‬البيانية‭. ‬اوقد‭ ‬أجمع‭ ‬النقاد‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬وأبوتمام‭ ‬والبحتري‭ ‬أشعر‭ ‬المحدثين‭. ‬وهو‭ ‬أشعر‭ ‬الثلاثة‭ ‬بلا‭ ‬أدنى‭ ‬ريب‭, ‬لأن‭ ‬صاحبيه‭ ‬قد‭ ‬لحقهما‭ ‬غبار‭ ‬التاريخ،‭ ‬فصارت‭ ‬أشباحهما‭ ‬على‭ ‬عِظمها‭ ‬تهمّ‭ ‬بالاختفاء‭ ‬وأن‭ ‬يغمرهما‭ ‬النسيان‭. ‬بينما‭ ‬مازال‭ ‬شَبَحُه‭ ‬باهراً‭ ‬مضيئاً‭ ‬جداً‭. ‬وقد‭ ‬نبغ‭ ‬واللغة‭ ‬مرّت‭ ‬عليها‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬قرون‭ ‬ستة،‭ ‬وشهدت‭ ‬أمثال‭ ‬جرير‭ ‬والفرزدق‭ ‬والنابغة‭ ‬وأبي‭ ‬نواس‭. ‬وكان‭ ‬في‭ ‬دهرها‭ ‬الأول‭ ‬قائلها‭ ‬قد‭ ‬قال‭: ‬اهل‭ ‬غادر‭ ‬الشعراء‭ ‬من‭ ‬متقدّم؟ب‭. ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬وجد‭ ‬أبوالطيب‭ ‬المتردّم‭ ‬بعد‭ ‬المتردّم،‭ ‬وفرض‭ ‬عبقريته‭ ‬فرضاً‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بما‭ ‬أضاف‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬ثروة‭ ‬طائلة‭ ‬في‭ ‬محض‭ ‬أساليب‭ ‬البيان‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬حيويته‭ ‬تنبض‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭. ‬وقد‭ ‬قال‭:‬

ما‭ ‬نال‭ ‬أهلُ‭ ‬الجاهلية‭ ‬كلُّهم

شعري‭ ‬وما‭ ‬سمعت‭ ‬بسحري‭ ‬بابلُ‭!‬

ويقارن‭ ‬عبدالله‭ ‬الطيّب‭ ‬بين‭ ‬المتنبي‭ ‬وبعض‭ ‬قمم‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬فبينه‭ ‬وبين‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬تشابه،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الشعور‭ ‬بوحشة‭ ‬الانفراد‭ ‬وتجشّم‭ ‬الأسفار‭ ‬وبعد‭ ‬المطلب‭ ‬وحسرات‭ ‬الإخفاق‭ ‬وشدّة‭ ‬التصميم‭. ‬وكان‭ ‬فؤاده‭ ‬من‭ ‬الملوك‭ ‬كما‭ ‬قال‭. ‬ولكن‭ ‬بينهما‭ ‬فرق‭ ‬عظيم‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬أبا‭ ‬الطيّب‭ ‬طلب‭ ‬الملك‭ ‬حبّاً‭ ‬فيه،‭ ‬ولم‭ ‬ينشأ‭ ‬إلا‭ ‬سوقةً‭ ‬يتيماً‭ ‬أو‭ ‬كيتيم‭. ‬وامرؤ‭ ‬القيس‭ ‬فُرض‭ ‬عليه‭ ‬الملكُ‭ ‬وطلبُ‭ ‬الثأر‭ ‬بحكم‭ ‬الشرف‭ ‬القبلي‭ ‬العربي،‭ ‬ومازال‭ ‬دهرَهُ‭ ‬يجهد‭ ‬لو‭ ‬يجد‭ ‬سبيلاً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سوقهُ‭ ‬بلا‭ ‬مسؤوليات‭ ‬فلا‭ ‬يستطيع‭:‬

بكى‭ ‬صاحبي‭ ‬لما‭ ‬رأى‭ ‬الدرب‭ ‬دونه

وأيقن‭ ‬أنّا‭ ‬لاحقان‭ ‬بقيصرا

فقلتُ‭ ‬له‭ ‬لا‭ ‬تبكِ‭ ‬عينُك‭ ‬إنما

نحاول‭ ‬مُلكا‭ ‬أو‭ ‬نموت‭ ‬فنعذرا

وقد‭ ‬روض‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬لغة‭ ‬وحشية‭ ‬فأسلست‭ ‬وصفت‭ ‬له‭ ‬كل‭ ‬صفاء،‭ ‬وأصاب‭ ‬أبوالطيب‭ ‬غديراً‭ ‬منها‭ ‬راكداً‭ ‬فأثاره‭ ‬وأجرى‭ ‬فيه‭ ‬التيار‭.‬

وقد‭ ‬حمل‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬معه‭ ‬صحراء‭ ‬العرب‭:‬

‮«‬تطاول‭ ‬الليلُ‭ ‬علينا‭ ‬دمّون

دمّون‭ ‬إنّا‭ ‬معشر‭ ‬يمانون

وإننا‭ ‬لقومنا‭ ‬محبّون‮»‬

إلى‭ ‬قسطنطينية‭ ‬ومات‭ ‬عند‭ ‬عسيب‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الآل‭ ‬يخفق‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حوران‭. ‬وقد‭ ‬حمل‭ ‬أبوالطيب‭ ‬ملتقاها‭ ‬بالسواد،‭ ‬وقيل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬حظّه‭ ‬من‭ ‬الري‭.‬

أما‭ ‬زهير‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سلمى،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬شيخاً‭ ‬حكيماً‭ ‬قد‭ ‬سئم‭ ‬تكاليف‭ ‬الحياة‭.‬

 

يُذكرون‭ ‬مادامت‭ ‬العربية

هؤلاء‭ ‬الشعراء‭ ‬الثلاثة‭ ‬هم‭ ‬برأي‭ ‬العلاّمة‭ ‬السوداني‭ ‬الكبير‭ ‬ايُذكرون‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬العربيةب،‭ ‬ويستطرد‭: ‬اوعسى‭ ‬أن‭ ‬يُذكر‭ ‬معهم‭ ‬جرير‭ ‬لقوة‭ ‬انفعاله‭ ‬وحرارة‭ ‬وجدانهب‭. ‬وما‭ ‬فتنة‭ ‬العرب‭ ‬بأبي‭ ‬الطيب‭ ‬ألف‭ ‬عام‭ ‬إلا‭ ‬لما‭ ‬علموا‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬نبوغه‭ ‬وما‭ ‬أحسّوا‭ ‬من‭ ‬سحر‭ ‬إبداعه‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬معاصروه‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬فُتن‭ ‬به‭ ‬وقد‭ ‬رام‭ ‬مماثلته‭ ‬بمحاكاته‭ ‬أو‭ ‬الأخذ‭ ‬منه‭ ‬جماعةٌ‭ ‬كأبي‭ ‬فراس‭ ‬والسريّ‭ ‬فعجزوا،‭ ‬ثم‭ ‬انتقلت‭ ‬الفتنة‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬تلاهم‭ ‬فرام‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬منهم‭ ‬جماعة‭ ‬فعجزوا‭ ‬كالشريف‭ ‬الرضي‭ ‬وأبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري،‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬يُفتن‭ ‬به‭ ‬ويروم‭ ‬مثل‭ ‬شأنه‭ ‬أو‭ ‬التفوق‭ ‬عليه‭ ‬جماعة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر‭ ‬وجيل‭ ‬إلى‭ ‬زماننا‭ ‬هذا‭. ‬ولعل‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬مَن‭ ‬أظهر‭ ‬ما‭ ‬يتمثل‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الباب‭. ‬وقد‭ ‬عجز‭ - ‬رحمه‭ ‬الله‭ - ‬على‭ ‬ما‭ ‬أوتيه‭ ‬من‭ ‬قدرة‭. ‬ولقد‭ ‬أوتي‭ ‬الشريف‭ ‬جزالة‭ ‬ورونقا‭ ‬ونبل‭ ‬أداء‭ ‬وشرف‭ ‬معان‭ ‬مع‭ ‬عزة‭ ‬النفس‭ ‬وعتق‭ ‬الأرومة،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يصنع‭ - ‬رحمه‭ ‬الله‭ - ‬من‭ ‬لحاق‭ ‬غبار‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬كبير‭ ‬شيء‭. ‬وقد‭ ‬أوتي‭ ‬أبوالعلاء‭ ‬فطنة‭ ‬وعلماً‭ ‬وملكة‭ ‬وحذقا،‭ ‬وكان‭ ‬لنفسه‭ ‬ناقداً‭ ‬وبالشعر‭ ‬خبيراً‭ ‬وبفضيلة‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬وسبقه‭ ‬عارفاً،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬ابتلي‭ ‬فجاراه‭ ‬وباراه‭ ‬واستعان‭ ‬بالذكاء،‭ ‬فأطال‭ ‬أبواب‭ ‬التأمل‭ ‬وشقّق‭ ‬المعاني‭ ‬وكانت‭ ‬فيه‭ ‬حلاوة‭ ‬فكاهة‭ ‬وبداهة‭ ‬سخرية،‭ ‬وله‭ ‬مقدرة‭ ‬من‭ ‬جزالة‭ ‬وتصنيع‭ ‬فأحسن‭ ‬وأبدع‭ ‬ما‭ ‬شاء،‭ ‬ولكنه‭ ‬بعُد‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬أنه‭ ‬ألم‭ ‬به‭ ‬غبار‭ ‬الذي‭ ‬يريد‭ ‬لحاقه‭ ‬فشمله،‭ ‬فخُيل‭ ‬لبعض‭ ‬النقاد،‭ ‬ولاسيما‭ ‬المستشرقون،‭ ‬أنه‭ ‬رصيفه‭ ‬أو‭ ‬يزيد‭ ‬عليه‭. ‬اولعمري‭ ‬إن‭ ‬أبا‭ ‬العلاء‭ ‬قد‭ ‬يصفو‭ ‬غاية‭ ‬الصفاء‭ ‬ويجود‭ ‬أحسن‭ ‬الجودةب،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬اسقط‭ ‬الزندب‭ ‬وأبيات‭ ‬من‭ ‬اللزوميات،‭ ‬ولكنه‭ ‬تنقصه‭ ‬حيوية‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭.‬

ذلك‭ ‬غيض‭ ‬من‭ ‬فيض‭ ‬ما‭ ‬يحتويه‭ ‬كتاب‭ ‬عبدالله‭ ‬الطيب‭ ‬عن‭ ‬بكر‭ ‬الزمان‭ ‬ومالئ‭ ‬الدنيا‭ ‬وشاغل‭ ‬الناس‭ ‬بعبارة‭ ‬الأقدمين‭. ‬نظرات‭ ‬نافذات‭ ‬لعالم‭ ‬كبير‭ ‬جليل‭ ‬متمكن‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬القديم‭ ‬والحديث‭. ‬فإذا‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬حادثة‭ ‬مقتل‭ ‬المتنبي‭ ‬التي‭ ‬اختلف‭ ‬في‭ ‬تحليلها‭ ‬والمسؤولية‭ ‬عنها‭ ‬باحثون‭ ‬كُثُر،‭ ‬أدلى‭ ‬برأي‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬إليه،‭ ‬مفاده‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬المستبعد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬الحمداني‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬التدبير‭. ‬وهو‭ ‬رأي‭ ‬يفاجئ‭ ‬الكثيرين،‭ ‬نظراً‭ ‬لوشائج‭ ‬المودة‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بين‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬وأمير‭ ‬حلب،‭ ‬وهي‭ ‬وشائج‭ ‬إن‭ ‬فترت‭ ‬حرارتها‭ ‬حيناً،‭ ‬فإنها‭ ‬لم‭ ‬تنقطع‭ ‬أبداً‭. ‬ولأن‭ ‬عبدالله‭ ‬الطيب‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يستبعد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬وراء‭ ‬تصفية‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬وهبه‭ ‬الخلود،‭ ‬فإننا‭ ‬نعرض‭ ‬لهذا‭ ‬الرأي‭ ‬الجدير‭ ‬بأن‭ ‬يتابع‭ ‬النقاش‭ ‬بصدده‭, ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭: ‬يبدي‭ ‬الباحث‭ ‬الكبير‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭:‬

 

من‭ ‬قتل‭ ‬المتنبي؟

قال‭ ‬الثعالبي‭ ‬في‭ ‬االيتيمةب‭: ‬الما‭ ‬أنجحت‭ ‬سفرته‭ ‬وربحت‭ ‬تجارته‭ ‬بحضرة‭ ‬عضد‭ ‬الدولة‭ ‬ووصل‭ ‬إليه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مائتي‭ ‬ألف‭ ‬درهم،‭ ‬أستأذنه‭ ‬في‭ ‬المسير‭ ‬منها‭ ‬ليقضي‭ ‬حوائج‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬إليها،‭ ‬فأذن‭ ‬له،‭ ‬وأمر‭ ‬بأن‭ ‬تُخلع‭ ‬عليه‭ ‬الخلع‭ ‬الخاصةب‭... ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قال‭: ‬افلما‭ ‬فارق‭ ‬أعمال‭ ‬فارس،‭ ‬حسب‭ ‬أن‭ ‬السلامة‭ ‬تستمرّ‭ ‬به‭ ‬كاستمرارها‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬عضد‭ ‬الدولة،‭ ‬ولم‭ ‬يقبل‭ ‬ما‭ ‬أشير‭ ‬به‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الاحتياط‭ ‬باستصحاب‭ ‬الخفراء،‭ ‬فجرى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مشهور‭ ‬من‭ ‬خروج‭ ‬سرّية‭ ‬من‭ ‬الأعراب‭ ‬عليه‭ ‬ومحاربتهم‭ ‬إياه‭ ‬وتكشف‭ ‬الواقعة‭ ‬عن‭ ‬قتله‭ ‬وابنه‭ ‬مُحَسّد‭ ‬ونفر‭ ‬من‭ ‬غلمانه‭. ‬وفاز‭ ‬الأعراب‭ ‬بأمواله،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬أربع‭ ‬وخمسين‭ ‬وثلاثمائةب‭.‬

من‭ ‬الباحثين‭ ‬مَن‭ ‬اتهم‭ ‬عضد‭ ‬الدولة‭ ‬بتصفية‭ ‬الشاعر،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬اتهم‭ ‬أعداء‭ ‬آخرين‭ ‬للشاعر،‭ ‬ولكن‭ ‬عبدالله‭ ‬الطيب،‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬قول‭ ‬الثعالبي‭: ‬افجرى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مشهور‭... ‬إلخب‭ ‬ويتابع‭: ‬اومع‭ ‬شهرته‭ ‬لا‭ ‬ندري‭ ‬عمن‭ ‬تلقاه‭ ‬راووه‭. ‬فمنهم‭ ‬قائل‭ ‬إن‭ ‬فاتكا‭ ‬الذي‭ ‬عرض‭ ‬لأبي‭ ‬الطيب‭ ‬في‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬الأعراب،‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬غضباً‭ ‬من‭ ‬بائيته‭ ‬التي‭ ‬هجا‭ ‬بها‭ ‬ضبّةب‭. ‬قال‭ ‬العكبري‭: ‬اوقال‭ ‬يهجو‭ ‬ضبّة‭ ‬بن‭ ‬يزيد‭ ‬العيني‭ ‬وصرّح‭ ‬بتسميته‭ ‬فيها‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬التعريض‭. ‬كان‭ ‬جاهلاً‭. ‬وهذه‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬أردأ‭ ‬شعر‭ ‬المتنبيب،‭ ‬وكأن‭ ‬العكبري‭ ‬قد‭ ‬غفل‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬مذهب‭ ‬البداوة‭ ‬في‭ ‬الإفحاش‭ ‬بعض‭ ‬هذا‭ ‬وما‭ ‬يقاربه‭ ‬كالذي‭ ‬كان‭ ‬يقع‭ ‬عند‭ ‬الفرزدق‭ ‬وجرير‭ ‬مثلاً‭.‬

ومن‭ ‬قائل‭ ‬إن‭ ‬أبا‭ ‬الطيب‭ ‬فرّ،‭ ‬وذكّره‭ ‬غلامه‭ ‬قوله‭: ‬االخيل‭ ‬والليل‭ ‬والبيداء‭ ‬تعرفني‭...‬ب‭ ‬فثبت‭ ‬وقُتل،‭ ‬أو‭ ‬قال‭ ‬للغلام‭ ‬قتلتني‭ ‬أو‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭. ‬وإن‭ ‬صحّ‭ ‬هذا‭ ‬الخبر،‭ ‬فهو‭ ‬أشبه‭ ‬بما‭ ‬اعتاده‭ ‬أبوالطيب‭ ‬من‭ ‬الاستعداد‭ ‬للحاربين‭ ‬والإفلات‭ ‬منهم‭. ‬ولعله‭ ‬نجا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬ذكروا‭ ‬أن‭ ‬اسمه‭ ‬فاتك‭ ‬ثم‭ ‬أصيب‭ ‬من‭ ‬بعد‭. ‬فكلّهم‭ ‬يجمعون‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬قُتل‭ ‬بدير‭ ‬العاقول،‭ ‬وهو‭ ‬بسواد‭ ‬بغداد،‭ ‬ولا‭ ‬يُعقل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬اعتراض‭ ‬الأعراب‭ ‬لأبي‭ ‬الطيب‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬بغداد‭. ‬وأرجح‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الأعراب‭ ‬قد‭ ‬لقوه‭ ‬بعيداً‭ ‬عنها،‭ ‬ولما‭ ‬أفلت‭ ‬بعد‭ ‬قتال‭ ‬ما،‭ ‬أمن‭ ‬إلى‭ ‬النجاة‭ ‬وحسب‭ ‬أن‭ ‬السلامة‭ ‬تستمر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬بعد‭ - ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬الثعالبي‭ - ‬ولكن‭ ‬الذين‭ ‬أغروا‭ ‬به‭ ‬الأعراب‭ ‬ليقتلوه‭ ‬يبدو‭ ‬أنهم‭ ‬أيضاً‭ ‬قد‭ ‬أوكلوا‭ ‬به‭ ‬آخرين‭ ‬يراقبون‭ ‬مقدمه‭ ‬عند‭ ‬دير‭ ‬العاقول،‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬خارج‭ ‬بغداد‭ ‬غير‭ ‬حدّ‭ ‬بعيد‭ ‬عنها‭. ‬فلما‭ ‬رأوه‭ ‬قادماً‭ ‬مطمئناً‭ ‬قد‭ ‬نجا،‭ ‬رموه‭ ‬بسهم‭ ‬وانتهبوا‭ ‬ماله‭. ‬اولا‭ ‬يُستبعد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬وراء‭ ‬جميع‭ ‬ذلك‭ ‬التدبيرب‭.  ‬فقد‭ ‬ذكروا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يغضبه‭ ‬أن‭ ‬يطول‭ ‬سكوت‭ ‬المتنبي‭ ‬عن‭ ‬مدحه،‭ ‬فكيف‭ ‬إذا‭ ‬انصرف‭ ‬عنه‭ ‬بالكليّة‭ ‬ومدح‭ ‬سواه؟‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬قياساً‭ ‬على‭ ‬الذي‭ ‬ذكروا‭ ‬من‭ ‬غضبه‭ ‬عليه‭ ‬حين‭ ‬تأخر‭ ‬مدحه‭ ‬عنه،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬رأى‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬خانه‭ ‬بالصيرورة‭ ‬إلى‭ ‬كافور‭ ‬فعضد‭ ‬الدولة‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬رفض‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬الاستجابة‭ ‬إلى‭ ‬دعوته‭ ‬آخر‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬القاضية‭. ‬وما‭ ‬كان‭ ‬ليعسر‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬أعداء‭ ‬أبي‭ ‬الطيب‭ ‬بحلب‭ ‬أن‭ ‬يتصلوا‭ ‬بأعدائه‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬وتتمّ‭ ‬المؤامرة‭. ‬وقديماً‭ ‬قد‭ ‬قال‭:‬

إذا‭ ‬ترحّلت‭ ‬عن‭ ‬قوم‭ ‬وقد‭ ‬قدروا

ألاّ‭ ‬تفارقهم‭ ‬فالراحلون‭ ‬هُمُ

لئن‭ ‬تركن‭ ‬ضُميرا‭ ‬عن‭ ‬ميامننا

ليحدثنّ‭ ‬لمن‭ ‬ودّعتُهم‭ ‬ندمُ

أو‭ ‬السيف‭ ‬الدولة‭ ‬الندمب‭ ‬كما‭ ‬روى‭ ‬بعضهم‭. ‬فهل‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الندم‭ ‬قبل‭ ‬دير‭ ‬العاقول‭ ‬أم‭ ‬بعده؟‭ ‬الله‭ ‬أعلم‭ ‬أيّ‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭.‬

على‭ ‬هذا‭ ‬التحليل‭ ‬وإلى‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬يستند‭ ‬د‭.‬عبدالله‭ ‬الطيّب‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬اتهامه‭ ‬إلى‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬تدبير‭ ‬مقتل‭ ‬شاعره‭ ‬الأثير‭ ‬السابق‭ ‬وشاعر‭ ‬العرب‭ ‬السابق‭ ‬واللاحق‭. ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬جديرة‭ ‬بالاهتمام‭ ‬وجديرة‭ ‬بفتح‭ ‬تحقيق‭ ‬جديد‭ ‬حول‭ ‬مقتل‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يُدفن‭ ‬قرب‭ ‬دير‭ ‬العاقول‭ ‬وحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أرض‭ ‬عربية،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬كل‭ ‬عربي‭ >‬