إدوار الخراط منظراً للحساسية الجديدة في السرد العربي

إدوار الخراط منظراً للحساسية الجديدة  في السرد العربي

يتفرد‭ ‬الكاتب‭ ‬الراحل‭ ‬إدوار‭ ‬الخراط‭ ‬داخل‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬بتعدد‭ ‬مواهبه‭ ‬الأدبية،‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬ينتج‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬إبداعية‭ ‬مختلفة،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬فني‭ ‬الرواية‭ ‬والقصة،‭ ‬ومروراً‭ ‬بالشعر‭ ‬والترجمة،‭ ‬ووصولاً‭ ‬إلى‭ ‬حقل‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬ونظراً‭ ‬لتنوع‭ ‬وغزارة‭ ‬عطاءات‭ ‬الخراط‭ ‬الإبداعية،‭ ‬وتجاذب‭ ‬روافدها‭ ‬الفكرية‭ ‬والفنية،‭ ‬فإننا‭ ‬سنقتصر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬التي‭ ‬نُعدُّها‭ ‬بمناسبة‭ ‬رحيله‭ ‬على‭ ‬الوقوف‭ ‬عند‭ ‬إسهاماته‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭.‬

اشتهر‭ ‬إدوار‭ ‬الخراط‭ ‬لدى‭ ‬الباحثين‭ ‬والنقاد‭ ‬المتتبعين‭ ‬لتحولات‭ ‬الخطاب‭ ‬السردي‭ ‬العربي‭ ‬باجتراحه‭ ‬مفهوم‭ ‬االحساسية‭ ‬الجديدةب،‭ ‬لتوصيف‭ ‬خصوصية‭ ‬الطفرة‭ ‬النوعية‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬فنا‭ ‬القصة‭ ‬والرواية‭ ‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬يونيو‭ ‬1967م،‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬انعتاقهما‭ ‬من‭ ‬مد‭ ‬تيار‭ ‬الواقعية‭ ‬بشقيه‭ ‬النقدي‭ ‬والاشتراكي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬السرد‭ ‬العربي،‭ ‬وما‭ ‬تميز‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬إغراق‭ ‬في‭ ‬محاكاة‭ ‬مجريات‭ ‬الواقع‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وتشخيص‭ ‬جزئياته‭ ‬وتفاصيله،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬تشييد‭ ‬حبكة‭ ‬سردية‭ ‬قوامها‭ ‬نظام‭ ‬الوحدات‭ ‬الثلاث،‭ ‬وخطية‭ ‬السرد‭ ‬والزمن،‭ ‬ومركزية‭ ‬السارد‭ ‬العالم‭ ‬بكل‭ ‬شيء،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬مونولوجية‭ ‬الشكل‭ ‬الروائي‭ ‬والقصصي،‭ ‬وخضوع‭ ‬الشخصيات‭ ‬لسلطة‭ ‬الكاتب،‭ ‬وتوجهاته‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والفكرية‭ ‬الناجزة،‭ ‬ويرى‭ ‬الخراط‭ ‬أن‭ ‬خصوصية‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬امتدت‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬السرد‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬إلى‭ ‬ستينياته،‭ ‬وينعتها‭ ‬بـاالحساسية‭ ‬التقليديةب،‭ ‬لا‭ ‬تشمل‭ ‬فقط‭ ‬نتاجات‭ ‬الكتَّاب‭ ‬الواقعيين‭ ‬الذين‭ ‬حركهم‭ ‬هاجس‭ ‬تسجيل‭ ‬وتمثيل‭ ‬تمفصلات‭ ‬الواقع‭ ‬الخارجي‭ ‬في‭ ‬حرفيتها‭ ‬وجهوزيتها،‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬محمود‭ ‬تيمور‭ ‬ونجيب‭ ‬محفوط،‭ ‬ويحيى‭ ‬حقي،‭ ‬ويوسف‭ ‬إدريس،‭ ‬وحنا‭ ‬مينا،‭ ‬وعبدالكريم‭ ‬غلاب،‭ ‬بل‭ ‬تنضوي‭ ‬تحت‭ ‬لوائها‭ ‬حتى‭ ‬نتاجات‭ ‬الكتَّاب‭ ‬الرومانسيين‭ ‬التي‭ ‬استوحت‭ ‬تيمات‭ ‬الحب‭ ‬والعاطفة‭ ‬والطبيعة،‭ ‬وتدثرت‭ ‬بغلائل‭ ‬ضافية‭ ‬من‭ ‬شاعرية‭ ‬اللغة،‭ ‬وفسحة‭ ‬الخيال،‭ ‬وكثافة‭ ‬البوح‭ ‬الذاتي،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬مع‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران،‭ ‬ومحمد‭ ‬عبدالحليم‭ ‬عبدالله،‭ ‬وإبراهيم‭ ‬عبدالقادر‭ ‬المازني‭... ‬ولعل‭ ‬الباعث‭ ‬الكامن‭ ‬وراء‭ ‬توليف‭ ‬الخراط‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬اللونين‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية،‭ ‬ودمجهما‭ ‬تحت‭ ‬تيار‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬الحساسية‭ ‬التقليدية،‭ ‬يتجلى‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬المبدأ‭ ‬الفني‭ ‬الناظم‭ ‬لرؤيتهما‭ ‬لوظيفة‭ ‬الأدب‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬حيث‭ ‬تنظر‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الرومانسيةتوالواقعية‭ ‬إلى‭ ‬الفن‭ ‬باعتباره‭ ‬انعكاساً‭ ‬لواقع‭ ‬ما،‭ ‬هو‭ ‬نفسي‭ ‬ووجداني‭ ‬وداخلي‭ ‬بالنسبة‭ ‬للرومانسيين،‭ ‬ومعطى‭ ‬خارجي‭ ‬ظاهري‭ ‬وثابت‭ ‬بالنسبة‭ ‬للواقعيين‭.‬

وتأسيساً‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المعايير‭ ‬الفنية‭ ‬والفكرية‭ ‬التي‭ ‬طفحت‭ ‬بها‭ ‬الحساسية‭ ‬التقليدية،‭ ‬يحاول‭ ‬الخراط‭ ‬استقصاء‭ ‬خصوصية‭ ‬التحولات‭ ‬الفنية‭ ‬والدلالية‭ ‬الفارقة‭ ‬التي‭ ‬اكتنفت‭ ‬صيرورة‭ ‬السرد‭ ‬العربي‭ ‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬1967م،‭ ‬واختار‭ ‬الخراط‭ ‬الاصطلاح‭ ‬عليها‭ ‬بمفهوم‭ ‬االحساسية‭ ‬الجديدةب‭ ‬خلافاً‭ ‬لمصطلحات‭ ‬ومفاهيم‭ ‬أخرى‭ ‬راجت‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬الروائي‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬االتجريبب‭ ‬أو‭ ‬االحداثةب‭ ‬أو‭ ‬االرواية‭ ‬العربية‭ ‬الجديدةب‭.‬

 

الحساسية‭ ‬والهزيمة

وهكذا‭ ‬يرى‭ ‬الخراط‭ ‬أن‭ ‬تيار‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة‭ ‬الذي‭ ‬اجتاح‭ ‬السرد‭ ‬العربي‭ ‬أواخر‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬هو‭ ‬حصيلة‭ ‬لتضافر‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والحضارية،‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬هزيمة‭ ‬يونيو‭ ‬1967م،‭ ‬وما‭ ‬أبانت‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬هشاشة‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬السياسية‭ ‬العربية‭ ‬القائمة،‭ ‬وعجزها‭ ‬عن‭ ‬حماية‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬الضياع،‭ ‬ما‭ ‬فجر‭ ‬لدى‭ ‬المبدعين‭ ‬والمثقفين‭ ‬العرب‭ ‬رؤية‭ ‬غائمة‭ ‬للمستقبل،‭ ‬وأذكى‭ ‬بدواخلهم‭ ‬سخطاً‭ ‬عارماً‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭ ‬السائدة،‭ ‬وتعطشاً‭ ‬للتجديد‭ ‬والمغايرة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬والأدبية،‭ ‬كما‭ ‬تنضاف‭ ‬لهذه‭ ‬العوامل‭ ‬انجلاء‭ ‬أوهام‭ ‬تلك‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬وشعاراتها‭ ‬البراقة،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تطرز‭ ‬للإنسان‭ ‬العربي‭ ‬التفاؤل‭ ‬السهل‭ ‬والحماس‭ ‬الصاخب‭ ‬بانجلاء‭ ‬غد‭ ‬أفضل‭ ‬ومشرق‭ ‬يكون‭ ‬بديلاً‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬الكائن‭ ‬المغرق‭ ‬في‭ ‬الهزيمة‭ ‬والسوداوية،‭ ‬وهي‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬التي‭ ‬ارتبطت‭ ‬بالمد‭ ‬القومي‭ ‬العروبي،‭ ‬والثورة‭ ‬الاشتراكية‭ ‬الناصرية،‭ ‬ويتداخل‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الخراط‭ ‬ما‭ ‬شهدته‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬انفجارات‭ ‬طائفية‭ ‬وإثنية،‭ ‬وبروز‭ ‬لقيم‭ ‬استهلاكية‭ ‬ومادية‭ ‬صاعدة‭ ‬ضاعفت‭ ‬من‭ ‬توسيع‭ ‬الهوات‭ ‬الطبقية،‭ ‬وتشييء‭ ‬ذوات‭ ‬المهمشين‭ ‬والمنبوذين،‭ ‬وتكريس‭ ‬انخزال‭ ‬وجودهم‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الإقصاء‭ ‬والنسيان‭.‬

والملاحظ،‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشق‭ ‬التنظيري‭ ‬الخاص‭ ‬باستقراء‭ ‬الخراط‭ ‬لأهم‭ ‬بواعث‭ ‬ظهور‭ ‬تيار‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة،‭ ‬هو‭ ‬تغييبه‭ ‬لرافد‭ ‬ثقافي‭ ‬أساسي‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬تحفيز‭ ‬الكتَّاب‭ ‬العرب‭ ‬لتكسير‭ ‬خطية‭ ‬السرد‭ ‬الواقعي‭ ‬الكلاسيكي،‭ ‬وجمالياته‭ ‬الانعكاسية‭ ‬التمثيلية،‭ ‬وهو‭ ‬الرافد‭ ‬المتعلق‭ ‬بالتأثر‭ ‬بموجة‭ ‬الرواية‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬ناتالي‭ ‬ساروت،‭ ‬وألان‭ ‬روب‭ ‬غرييه،‭ ‬وميشيل‭ ‬بوتور،‭ ‬وكلود‭ ‬سيمون،‭ ‬التي‭ ‬تجاوزت‭ ‬تقاليد‭ ‬الرواية‭ ‬البلزاكية،‭ ‬ونزعتها‭ ‬المحاكاتية‭ ‬للواقع‭ ‬الخارجي،‭ ‬مختطة‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬تقنيات‭ ‬سردية‭ ‬بديلة‭ ‬تنقل‭ ‬رؤية‭ ‬الإنسان‭ ‬الغربي‭ ‬للعالم‭ ‬المثقلة‭ ‬بالشك‭ ‬والارتيابية،‭ ‬والعدمية‭ ‬أحياناً،‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬اكتوائه‭ ‬بنار‭ ‬الحروب‭ ‬وخيبة‭ ‬أمله‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬والعقلانية،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬جان‭ ‬فرانسوا‭ ‬ليوتار‭ ‬بمبادئ‭ ‬االسرديات‭ ‬الكبرىب‭ ‬التي‭ ‬توهجت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬مع‭ ‬فلسفة‭ ‬الأنوار،‭ ‬وكانت‭ ‬تعد‭ ‬الإنسانية‭ ‬بأفق‭ ‬حضاري‭ ‬مستنير‭ ‬مترع‭ ‬بقيم‭ ‬العدالة‭ ‬والحرية،‭ ‬والتكافل‭ ‬البشري‭ ‬الخلاق‭.‬

ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة‭ ‬هي‭ ‬وليدة‭ ‬لهذا‭ ‬السياق‭ ‬الحضاري‭ ‬والاجتماعي‭ ‬العربي‭ ‬المأزوم،‭ ‬والجياش‭ ‬بالهزائم‭ ‬والانتكاسات،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬البديهي‭ ‬أن‭ ‬تمتد‭ ‬انعكاساته‭ ‬للكتابة‭ ‬السردية‭ ‬العربية،‭ ‬وترتب‭ ‬عنها‭ ‬خلخلة‭ ‬القص‭ ‬الواقعي‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬المغرق‭ ‬في‭ ‬الحبكة‭ ‬السردية‭ ‬المتماسكة،‭ ‬ووثوقية‭ ‬الرؤية‭ ‬لمعطيات‭ ‬الواقع‭ ‬الخارجي،‭ ‬ومن‭ ‬تجليات‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬النوعي‭ ‬الذي‭ ‬عرفته‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬اجتراحها‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬التقنيات‭ ‬السردية‭ ‬الجديدة‭ ‬المتناغمة‭ ‬مع‭ ‬مرجعياتها‭ ‬الحبلى‭ ‬بإعادة‭ ‬تنسيب‭ ‬حقائق‭ ‬الواقع‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وتفكيك‭ ‬مسلماته‭ ‬ومتعالياته،‭ ‬وتجسيد‭ ‬شروخ‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬بعد‭ ‬الهزائم،‭ ‬وما‭ ‬اعتمل‭ ‬بداخله‭ ‬من‭ ‬تشظ‭ ‬وانسحاق‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬تداعي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬اليقينيات‭ ‬والثوابت‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬تُجذِّر‭ ‬وجوده‭ ‬الكياني،‭ ‬وترسم‭ ‬بوضوح‭ ‬واطمئنان‭ ‬آفاقه‭ ‬الحضارية‭ ‬المقبلة‭.‬

‭ ‬وقوام‭ ‬هذه‭ ‬التقنيات‭ ‬السردية‭ ‬البديلة‭ ‬التي‭ ‬اكتنز‭ ‬بها‭ ‬تيار‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة،‭ ‬تقويض‭ ‬السرد‭ ‬المطرد،‭ ‬وتماسك‭ ‬نظام‭ ‬الوحدات‭ ‬الثلاث،‭ ‬وإلغاء‭ ‬هيمنة‭ ‬السارد‭ ‬العليم‭ ‬بكل‭ ‬شيء،‭ ‬لاستيلاد‭ ‬أساليب‭ ‬تعبيرية‭ ‬وفنية‭ ‬جديدة‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬تشظي‭ ‬السرد،‭ ‬وتشذير‭ ‬الكتابة،‭ ‬وتهشيم‭ ‬وحدة‭ ‬الحكاية،‭ ‬وتوظيف‭ ‬تقنية‭ ‬التناص‭ ‬لإخصاب‭ ‬المتخيل‭ ‬الفني‭ ‬للسرد،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الامتياح‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الشعور‭ ‬والذاكرة،‭ ‬مما‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬هيمنة‭ ‬الزمن‭ ‬النفسي،‭ ‬والحوار‭ ‬الداخلي،‭ ‬وأسلوب‭ ‬التداعي‭ ‬الذي‭ ‬يسعف‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬والقصصية‭ ‬في‭ ‬تبئير‭ ‬السرد‭ ‬حول‭ ‬المجرى‭ ‬النفسي‭ ‬لعالم‭ ‬الشخصيات،‭ ‬والتدفق‭ ‬العارم‭ ‬لإحساساتها‭ ‬وبواطنها،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬يقول‭ ‬الخراط‭: ‬اإن‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬اختراقاً‭ ‬لا‭ ‬تقليداً،‭ ‬واستشكالاً‭ ‬لا‭ ‬مطابقة،‭ ‬وإثارة‭ ‬للسؤال‭ ‬لا‭ ‬تقديماً‭ ‬للأجوبة،‭ ‬ومهاجمة‭ ‬للمجهول‭ ‬لارضا‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬بالعرفان‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تجيء‭ ‬تقنيات‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة‭: ‬كسر‭ ‬الترتيب‭ ‬السردي‭ ‬الاطرادي،‭ ‬فك‭ ‬العقدة‭ ‬التقليدية،‭ ‬الغوص‭ ‬إلى‭ ‬الداخل‭ ‬لا‭ ‬التعلق‭ ‬بالظاهر‭... ‬توسيع‭ ‬دلالة‭ ‬الواقع‭ ‬لكي‭ ‬يعود‭ ‬إليها‭ ‬الحلم‭ ‬والأسطورة‭ ‬والشعر،‭ ‬مساءلة‭ - ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مداهمة‭ - ‬الشكل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬القائم،‭ ‬تدمير‭ ‬سياق‭ ‬اللغة‭ ‬السائد‭ ‬المقبول،‭ ‬اقتحام‭ ‬مغاور‭ ‬ما‭ ‬تحت‭ ‬الوعي،‭ ‬واستخدام‭ ‬صيغة‭ ‬الأنا‭ ‬لا‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬العاطفة‭ ‬والشجن،‭ ‬بل‭ ‬لتعرية‭ ‬أغوار‭ ‬الذاتب‭.‬

واستناداً‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المنعطف‭ ‬السردي‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬توشحت‭ ‬به‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬والقصصية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬1967م،‭ ‬يلتقط‭ ‬الخراط‭ ‬داخل‭ ‬مجرى‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة‭ ‬خمسة‭ ‬تيارات‭ ‬أساسية‭ ‬لها‭ ‬خصائصها‭ ‬الفنية‭ ‬والدلالية‭ ‬المتميزة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬التصنيف‭ ‬من‭ ‬منظوره‭ ‬انتفاء‭ ‬حدود‭ ‬التقاطع‭ ‬والتداخل‭ ‬بينها،‭ ‬سواء‭  ‬عند‭ ‬مبدعين‭ ‬عدة،‭ ‬أو‭ ‬داخل‭ ‬النتاج‭ ‬الأدبي‭ ‬لمبدع‭ ‬واحد،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬الخراط‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يصنف‭ ‬كتابته‭ ‬السردية‭ ‬كما‭ - ‬سنرى‭ ‬لاحقا‭ -‬‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تيار‭.‬

 

تيارات‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة

في‭ ‬مقدمة‭ ‬هذه‭ ‬التيارات‭ ‬الخمسة‭ ‬التي‭ ‬يستقصي‭ ‬الخراط‭ ‬مواصفاتها‭ ‬الفنية‭ ‬النوعية‭ ‬يأتي‭ ‬تيار‭ ‬االتشييءب‭ ‬أو‭ ‬االتحييدب‭ ‬أو‭ ‬االتغريبب‭ ‬باصطلاح‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وقد‭ ‬تميزت‭ ‬نتاجات‭ ‬كُتَّابه‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬محمد‭ ‬البساطي،‭ ‬وجميل‭ ‬عطية‭ ‬إبراهيم،‭ ‬ويوسف‭ ‬أبورية،‭ ‬وإلياس‭ ‬خوري،‭ ‬وزكريا‭ ‬تامر‭ ‬وغيرهم،‭ ‬بتوظيف‭ ‬لغة‭ ‬سردية‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬توشية‭ ‬واستطراد‭ ‬ودفق‭ ‬عاطفي،‭ ‬لنقل‭ ‬الواقع‭ ‬الخارجي‭ ‬في‭ ‬صرامته‭ ‬وقسوته‭ ‬مجرداً‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شاعرية‭ ‬في‭ ‬الرؤية،‭ ‬أو‭ ‬شطحات‭ ‬في‭ ‬الخيال،‭ ‬وكأن‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬السردية‭ ‬المتدثرة‭ ‬بالبرودة‭ ‬والنثرية‭ ‬التقريرية‭ ‬الجافة،‭ ‬تشي‭ ‬باحتجاج‭ ‬مبدعي‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يطول‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬اغتراب‭ ‬وإحباط‭ ‬وتشييء‭.‬

أما‭ ‬ثاني‭ ‬تيارات‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة‭ ‬وفق‭ ‬الخراط،‭ ‬فهو‭ ‬االتيار‭ ‬الداخليب‭ ‬أو‭ ‬االعضويب،‭ ‬ومن‭ ‬سماته‭ ‬الدلالية‭ ‬المغايرة‭ ‬للتيار‭ ‬السابق‭ ‬تلاشي‭ ‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬االظاهر‭ ‬والباطن،‭ ‬الصحو‭ ‬والحلم،‭ ‬الواقع‭ ‬والخاطرة،‭ ‬وبين‭ ‬الشيء‭ ‬والحسب،‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬شمولية‭ ‬لمفاصل‭ ‬الواقع‭ ‬الخارجي،‭ ‬واشتراطاته‭ ‬الدنيوية‭ ‬والمجتمعية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬توظيفه‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الفنية‭ ‬للغة‭ ‬سردية‭ ‬مخضلة‭ ‬بالشعرية‭ ‬والحرارة‭ ‬الوجدانية‭ ‬المتوثبة‭ ‬للإمساك‭ ‬بالمعيش‭ ‬في‭ ‬يناعته‭ ‬وطزاجته،‭ ‬ومن‭ ‬أعلام‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬السردي‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬الخراط‭ ‬نجد‭ ‬مبدعين‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬محمد‭ ‬إبراهيم‭ ‬مبروك،‭ ‬وحيدر‭ ‬حيدر،‭ ‬وأحمد‭ ‬المديني،‭ ‬ومحمد‭ ‬حافظ‭ ‬رجب‭.‬

وعلى‭ ‬نقيض‭ ‬التيارين‭ ‬السابقين‭ ‬يتوقف‭ ‬الخراط‭ ‬عند‭ ‬اتجاه‭ ‬ثالث‭ ‬ينعته‭ ‬بـاالتيار‭ ‬الأسطوري‭ ‬المعاصرب،‭ ‬ومن‭ ‬مقوماته‭ ‬الفنية‭ ‬البارزة‭ ‬الطموح‭ ‬إلى‭ ‬تخصيص‭ ‬طرائق‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية‭ ‬وتعضيد‭ ‬كثافتها‭ ‬التخييلية،‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬استيحاء‭ ‬الموروث‭ ‬السردي‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬أو‭ ‬استدعاء‭ ‬الخرافة‭ ‬والخيال‭ ‬والحكاية‭ ‬الشعبية‭ ‬لاستزراع‭ ‬وتحيين‭ ‬مرجعيات‭ ‬متواشجة‭ ‬مع‭ ‬أسئلة‭ ‬الواقع‭ ‬الراهن،‭ ‬ومنغرسة‭ ‬في‭ ‬أتون‭ ‬قضاياه‭ ‬المجتمعية‭ ‬والتاريخية،‭ ‬ويرى‭ ‬الخراط‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬مكتسبات‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬المنتجة‭ ‬محاورة‭ ‬التراث‭ ‬بطريقة‭ ‬كشافة‭ ‬تتيح‭ ‬لينابيعه‭ ‬الإنسانية‭ ‬والفنية‭ ‬الأصيلة‭ ‬الامتداد‭ ‬في‭ ‬أساليب‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬مما‭ ‬يضع‭ ‬حداً‭ ‬لموجة‭ ‬الانبهار‭ ‬والافتتان‭ ‬المطلق‭ ‬بالتيارات‭ ‬الروائية‭ ‬والقصصية‭ ‬الغربية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬لفت‭ ‬انتباه‭ ‬المبدعين‭ ‬العرب‭ ‬لثراء‭ ‬موروثهم‭ ‬السردي‭ ‬والشعبي،‭ ‬وإمكان‭ ‬الامتياح‭ ‬المتجدد‭ ‬من‭ ‬مخزونه‭ ‬الثر‭ ‬لتخضيب‭ ‬نسيج‭ ‬كتابتهم‭ ‬السردية‭ ‬بعبق‭ ‬التراث‭ ‬ونسوغه‭ ‬الجمالية‭ ‬المائزة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬مخاطر‭ ‬فنية‭ ‬تتهدد‭ ‬أنصار‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬وتتجلى‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬النجاح‭ ‬أثناء‭ ‬استلهام‭ ‬لغات‭ ‬سردية‭ ‬مختلفة‭ ‬تنهل‭ ‬من‭ ‬ينبوع‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي،‭ ‬أو‭ ‬التاريخي،‭ ‬أو‭ ‬الصوفي،‭ ‬أو‭ ‬الأسطوري‭ ‬في‭ ‬تضفيرها‭ ‬وتجديلها‭ ‬داخل‭ ‬حبكة‭ ‬سردية‭ ‬متماسكة‭ ‬تتناسج‭ ‬في‭ ‬أعطافها‭ ‬اللغة‭ ‬مع‭ ‬الرؤية،‭ ‬ومن‭ ‬أعلام‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬حسب‭ ‬الخراط‭ ‬جمال‭ ‬الغيطاني،‭ ‬ويحيى‭ ‬الطاهر‭ ‬عبدالله،‭ ‬وإبراهيم‭ ‬عبدالمجيد،‭ ‬والطيب‭ ‬صالح،‭ ‬والميلودي‭ ‬شغموم،‭ ‬كما‭ ‬يصنف‭ ‬بعض‭ ‬رواياته‭ ‬مثل‭ ‬ارامة‭ ‬والتنينب‭ ‬وايقين‭ ‬العطشب‭ ‬واالزمن‭ ‬الآخرب‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬السردي‭.‬

وبجانب‭ ‬التيارات‭ ‬الثلاثة‭ ‬السابقة‭ ‬يضيف‭ ‬الخراط‭ ‬اتجاهاً‭ ‬رابعاً‭ ‬يسمه‭ ‬بـ‭ ‬االتيار‭ ‬الواقعي‭ ‬الجديدب،‭ ‬الذي‭ ‬رغم‭ ‬استفادته‭ ‬من‭ ‬الواقعيين‭ ‬القدامى‭ ‬الذين‭ ‬هيمنوا‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬السردي‭ ‬العربي‭ ‬بأعمالهم‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وانشغاله‭ ‬بدوره‭ ‬بكيفية‭ ‬الإحالة‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فإنه‭ ‬تميز‭ ‬عنهم‭ ‬بطموحه‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬أساليب‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية‭ ‬الواقعية،‭ ‬وتخصيب‭ ‬طاقاتها‭ ‬الفنية‭ ‬والتخييلية‭ ‬ببعض‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬الفنية‭ ‬الجديدة‭ ‬مثل‭ ‬لغة‭ ‬التوثيق‭ ‬وأسلوب‭ ‬الفانتازيا‭ ‬واللغة‭ ‬الشعرية‭ ‬الموجزة،‭ ‬ومن‭ ‬رموز‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الخراط‭ ‬نجد‭ ‬صنع‭ ‬الله‭ ‬إبراهيم،‭ ‬ويوسف‭ ‬القعيد،‭ ‬وجميل‭ ‬عطية‭ ‬إبراهيم،‭ ‬ومحمد‭ ‬المخزنجي‭.‬

أما‭ ‬آخر‭ ‬هذه‭ ‬التيارات‭ ‬فهو‭ ‬التوجه‭ ‬السردي‭ ‬الذي‭ ‬يسميه‭ ‬الخراط‭ ‬بـ‭ ‬االتيار‭ ‬الواقعي‭ ‬السحريب‭ ‬ومن‭ ‬قسماته‭ ‬الفنية‭ ‬الواضحة‭ ‬اسقوط‭ ‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬ظاهرية‭ ‬الواقع‭ ‬العيني‭ ‬المرئي‭ ‬المحسوس،‭ ‬وشطحات‭ ‬الخيال‭ ‬والاستيهامات‭ ‬المضفورة‭ ‬أحياناً‭ ‬بنسيج‭ ‬الواقع‭ ‬برانياً‭ ‬أو‭ ‬جوانياً‭ ‬على‭ ‬السواءب،‭ ‬ومن‭ ‬الكتابات‭ ‬الممثلة‭ ‬لنزعته‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬العربي‭ ‬القصصي‭ ‬والروائي،‭ ‬يذكر‭ ‬الخراط‭ ‬أعماله‭ ‬السردية،‭ ‬ونتاجات‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬إبراهيم‭ ‬عبدالمجيد،‭ ‬وسعيد‭ ‬الكفراوي،‭ ‬ورفيق‭ ‬الفرماوي،‭ ‬وسمية‭ ‬رمضان،‭ ‬ورشيد‭ ‬بوجدرة‭ ‬الجزائري،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الكتَّاب‭ ‬المغاربة‭ ‬مثل‭ ‬مصطفى‭ ‬المسناوي،‭ ‬ومحمد‭ ‬الشركي،‭ ‬وأحمد‭ ‬المديني،‭ ‬ومحمد‭ ‬الهرادي‭.‬

ونظراً‭ ‬لحرص‭ ‬إدوار‭ ‬الخراط‭ ‬في‭ ‬تنظيره‭ ‬لمفهوم‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة‭ ‬وتياراتها‭ ‬على‭ ‬استقصاء‭ ‬أهم‭ ‬الأساليب‭ ‬الفنية‭ ‬والتعبيرية‭ ‬التي‭ ‬أغنت‭ ‬بها‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬منذ‭ ‬بروزها‭ ‬أواخر‭ ‬الستينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬الظواهر‭ ‬الجديدة‭ ‬الفارقة‭ ‬التي‭ ‬افترعت‭ ‬بواسطتها‭ ‬منحى‭ ‬جديداً‭ ‬في‭ ‬خط‭ ‬السرد‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬ينداح‭ ‬عن‭ ‬الجمالية‭ ‬الانعكاسية‭ ‬التمثيلية‭ ‬للواقعية‭.‬

ويأتي‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر‭ ‬الفنية‭ ‬الجديدة‭ ‬والمهمة‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الخراط‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬بظاهرة‭ ‬االقصة‭ ‬القصيدةب،‭ ‬حيث‭ ‬نصيب‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬القصصي‭ ‬أو‭ ‬الروائي‭ ‬يتضاءل،‭ ‬ليفسح‭ ‬المجال‭ ‬لكثافة‭ ‬اللغة‭ ‬الشعرية‭ ‬وانسيابيتها‭ ‬ما‭ ‬يترتب‭ ‬عنه‭ ‬كتابة‭ ‬سردية‭ ‬عابرة‭ ‬للحدود،‭ ‬ومخلخلة‭ ‬لمفهوم‭ ‬نقاء‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي،‭ ‬وصفاء‭ ‬معاييره‭ ‬التجنيسية‭ ‬القارة،‭ ‬كما‭ ‬ينضاف‭ ‬لهذه‭ ‬التقنية‭ ‬المتصلة‭ ‬بتشييد‭ ‬كتابة‭ ‬عبر‭ ‬نوعية‭ ‬شديدة‭ ‬الغنى‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬طاقاتها‭ ‬التناصية‭ ‬والإيحائية،‭ ‬تقنية‭ ‬حديثة‭ ‬أخرى‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬دمج‭ ‬لغة‭ ‬التسجيل‭ ‬والتوثيق‭ ‬داخل‭ ‬البناء‭ ‬الفني‭ ‬للكتابة‭ ‬السردية‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬وقصة،‭ ‬وتعد‭ ‬هذه‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الأسلوبية‭ - ‬وفق‭ ‬الخراط‭ - ‬على‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬لما‭ ‬يحركها‭ ‬من‭ ‬طموح‭ ‬خلاق‭ ‬نحو‭ ‬تشبيك‭ ‬أسئلة‭ ‬السرد‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬واسترفاد‭ ‬عمق‭ ‬الأسئلة‭ ‬والهموم‭ ‬والتحديات‭ ‬الآنية‭ ‬الموارة‭ ‬في‭ ‬محاضنه‭ ‬التاريخية‭ ‬والدنيوية،‭ ‬وفضلاً‭ ‬عن‭ ‬هاتين‭ ‬التقنيتين‭ ‬السابقتين‭ ‬يتوقف‭ ‬الخراط‭ ‬عند‭ ‬تقنية‭ ‬ثالثة‭ ‬وأخيرة‭ ‬متصاعدة‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية‭ ‬الجديدة‭ ‬ينعتها‭ ‬بتقنية‭ ‬االمحارفةب‭ ‬أو‭ ‬الإصاتة،‭ ‬حيث‭ ‬الاستخدام‭ ‬المتكرر‭ ‬للحروف،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استيلاد‭ ‬أنغام‭ ‬صوتية‭ ‬وموسيقية،‭ ‬وتشذير‭ ‬الكتابة،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬تشي‭ ‬بتطلع‭ ‬المبدعين‭ ‬لاستثمار‭ ‬موسيقى‭ ‬الأصوات‭ ‬اللغوية‭ ‬في‭ ‬الإيحاء‭ ‬بالدلالة‭ ‬النصية،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬تظل‭ ‬مهددة‭ - ‬وفق‭ ‬الخراط‭ - ‬بتوريط‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الشكلية‭ ‬والزخرفة‭ ‬ومتاهات‭ ‬التجريب،‭ ‬وتغريب‭ ‬رهاناتها‭ ‬الفنية‭ ‬عن‭ ‬منابتها‭ ‬التاريخية‭ ‬والدنيوية‭.‬

 

الحساسية‭ ‬الجديدة‭ ‬وسؤال‭ ‬الحداثة‭ ‬

واضح‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التنظيرات‭ ‬السابقة‭ ‬التي‭ ‬قدمها‭ ‬الخراط‭ ‬لتيار‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وطفرتها‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة،‭ ‬تداخلها‭ ‬الشديد‭ ‬مع‭ ‬مفهوم‭ ‬نقدي‭ ‬آخر‭ ‬وظفه‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬توصيفهم‭ ‬لهذا‭ ‬التحول‭ ‬النوعي‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬السرد‭ ‬العربي،‭ ‬ويتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بمفهوم‭ ‬االحداثةب‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬أكثر‭ ‬شهرة‭ ‬وتداولاً‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬النقدي‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة،‭ ‬ويؤشر‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬أساليب‭ ‬الكتابة‭ ‬الواقعية‭ ‬ونزعتها‭ ‬المحاكاتية‭ ‬التمثيلية،‭ ‬واختطاط‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬تقنيات‭ ‬جديدة‭ ‬هاجسها‭ ‬الأساسي‭ ‬التقاط‭ ‬أسئلة‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬تحولها‭ ‬عما‭ ‬هو‭ ‬معطى‭ ‬وسائد،‭ ‬واستشرافها‭ ‬للمحتمل‭ ‬والآتي‭ ‬والمغيب‭.‬

‭ ‬واستناداً‭ ‬لهذا‭ ‬الإشكال‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬الخراط‭ ‬في‭ ‬تنظيره‭ ‬للحساسية‭ ‬الجديدة‭ ‬نظراً‭ ‬للتقاطع‭ ‬والتشابك‭ ‬الشديدين‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يحيل‭ ‬عليه‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬ومفهوم‭ ‬الحداثة‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬فنية،‭ ‬ورؤى‭ ‬دلالية‭ ‬متداخلة،‭ ‬يحرص‭ ‬الخراط‭ ‬على‭ ‬استكشاف‭ ‬أوجه‭ ‬الاختلاف‭ ‬والتمايز‭ ‬بين‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة‭ ‬والحداثة‭.‬

‭ ‬وهكذا‭ ‬يرى‭ ‬الخراط‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة‭ ‬يعني‭ ‬أولاً‭ ‬وأساساً‭ ‬تلك‭ ‬النقلة‭ ‬النوعية‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬وقصة،‭ ‬التي‭ ‬تَمَّ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تجاوز‭ ‬جماليات‭ ‬الكتابة‭ ‬الواقعية‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬ورؤيتها‭ ‬الوثوقية‭ ‬لقضايا‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي،‭ ‬وتحديث‭ ‬وتطوير‭ ‬أساليب‭ ‬السرد‭ ‬لمعانقة‭ ‬رؤية‭ ‬جديدة‭ ‬مطبوعة‭ ‬بالارتياب‭ ‬والقلق‭ ‬والمساءلة‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬منوالي‭ ‬وسائد،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة‭ ‬تاريخية‭ ‬متعلقة‭ ‬بالزمن،‭ ‬ويمكن‭ ‬ثانياً‭ ‬لمغايراتها‭ ‬وأنساقها‭ ‬التعبيرية‭ ‬والدلالية‭ ‬النوعية‭ - ‬وقف‭ ‬الخراط‭ - ‬أن‭ ‬يتجاوز‭ ‬الزمن‭ ‬ثوريتها‭ ‬لتتحجر،‭ ‬وتغذو‭ ‬بدورها‭ ‬تقليداً‭ ‬جديداً‭ ‬راسخاً‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬التفكيك‭ ‬والتجاوز،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬كتابات‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬الحداثة‭ - ‬وفق‭ ‬الخراط‭ - ‬فليست‭ ‬قرينة‭ ‬للجدة‭ ‬أو‭ ‬المعاصرة،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تعد‭ ‬توصيفاً‭ ‬تاريخياً‭ ‬لمنعطف‭ ‬فارق‭ ‬في‭ ‬صيرورة‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬مثلما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬مع‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬قيمة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬تتجاوز‭ ‬الزمن‭ ‬وتخلد‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬وتظل‭ ‬مكتنزة‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬التساؤل‭ ‬المستمر‭ ‬المسكون‭ ‬بهدم‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬قائم‭ ‬ومكرس،‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬المستقبل‭ ‬والآتي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فهي‭ ‬بهذا‭ ‬الفهم‭ ‬تنحاز‭ ‬دائماً‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬طرفي‭ ‬اثنائية‭ ‬مستمرة‭ ‬عبر‭ ‬الزمن،‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جاهز،‭ ‬معد،‭ ‬مكرس،‭ ‬شائع،‭ ‬مقبول‭ ‬اجتماعياً‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العريض،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬متمرد،‭ ‬داحض،‭ ‬مقلق،‭ ‬هامشي،‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬قيمي‭ ‬مستعصٍ‭ ‬بطبيعته‭ ‬على‭ ‬التحقق،‭ ‬ومتعدٍ‭ ‬دائماًب‭.‬

‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يستثيرنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬وقد‭ ‬استوقف‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الناقد‭ ‬الفلسطيني‭ ‬فيصل‭ ‬دراج‭ ‬في‭ ‬دراسته‭ ‬اللماحة‭ ‬عن‭ ‬إدوار‭ ‬الخراط‭ ‬المنشورة‭ ‬بكتابه‭ ‬انظرية‭ ‬الرواية‭ ‬والرواية‭ ‬العربيةب‭: ‬ألا‭ ‬يعد‭ ‬هذا‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة‭ ‬والحداثة‭ ‬غير‭ ‬مقنع،‭ ‬ولا‭ ‬يؤكد‭ ‬تماسكه‭ ‬المنهجي‭ ‬تاريخ‭ ‬الآداب‭ ‬العالمية،‭ ‬ومن‭ ‬ضمنه‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬لأن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬نتاج‭ ‬الحداثة‭ ‬الذي‭ ‬وُسم‭ ‬بـ‭ ‬االكونية‭ ‬والرؤيويةب،‭ ‬وأصر‭ ‬الخراط‭ ‬على‭ ‬تعاليه‭ ‬على‭ ‬التاريخية‭ ‬والزمنية،‭ ‬واحتفاظه‭ ‬بطابعي‭ ‬االاختلاف‭ ‬والمغايرةب‭ ‬قد‭ ‬تحول‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬التقاليد‭ ‬المعتمدة‭ ‬المستوجبة‭ ‬للتجاوز‭ ‬والتخطي،‭ ‬لاستيلاد‭ ‬منعطف‭ ‬إبداعي‭ ‬جديد‭ ‬ممتد‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬والتاريخ،‭ ‬ومستغور‭ ‬لتحولات‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مجالاتها؟‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬اعتبار‭ ‬الخراط‭ ‬للحداثة‭ ‬بكونها‭ ‬قيمة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬تدمغه‭ ‬بالتجاوز‭ ‬للأشكال‭ ‬والصيغ‭ ‬الإبداعية‭ ‬السائدة،‭ ‬يتجاهل‭ ‬أيضاً‭ - ‬وفق‭ ‬فيصل‭ ‬دراج‭ - ‬ما‭ ‬يكتنف‭ ‬مفهوم‭ ‬القيمة‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬تحول‭ ‬وتجدد‭ ‬دائمين‭ ‬يجعلها‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬البناء‭ ‬والهدم‭ ‬المستمرين‭ ‬تساوقاً‭ ‬مع‭ ‬آفاق‭ ‬انتظار‭ ‬القراء،‭ ‬وتشربهم‭ ‬بواسطتها‭ ‬لخصوصية‭ ‬سياقاتهم‭ ‬المجتمعية‭ ‬والحضارية،‭ ‬وما‭ ‬تجيش‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬طفرات‭ ‬نوعية‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬البنى‭ ‬المادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭.‬

وتأسيساً‭ ‬إذن‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬المعرفية‭ ‬والنقدية‭ ‬النفاذة‭ ‬التي‭ ‬اكتنز‭ ‬بها‭ ‬تنظير‭ ‬إدوار‭ ‬الخراط‭ ‬لمفهوم‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وتجلياته‭ ‬في‭ ‬منعطفات‭ ‬السرد‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬وقصة‭ ‬بعد‭ ‬هزيمة‭ ‬يونيو‭ ‬1967م،‭ ‬يمكننا‭ ‬استخلاص‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الملاحظات‭ ‬المنهجية‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التنظير،‭ ‬وما‭ ‬قدمه‭ ‬من‭ ‬اجتهادات‭ ‬طموحة‭ ‬وجريئة‭ ‬مسكونة‭ ‬بهاجس‭ ‬تخصيص‭ ‬وتفريد‭ ‬أسئلة‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬تفاعله‭ ‬مع‭ ‬المنجز‭ ‬الإبداعي‭ ‬العربي،‭ ‬وتنسيب‭ ‬رهاناته‭ ‬المعرفية‭ ‬والمنهجية‭.‬

في‭ ‬مقدمة‭ ‬هذه‭ ‬الملاحظات‭ ‬المنهجية‭ ‬عدم‭ ‬وضوح‭ ‬مفهوم‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة‭ ‬نفسه،‭ ‬وقابليته‭ ‬لأن‭ ‬يتحول‭ ‬لمفهوم‭ ‬نقدي‭ ‬إجرائي‭ ‬وملموس‭ ‬داخل‭ ‬النصوص،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬ينطبق‭ ‬بدوره‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬التحولات‭ ‬الحاصلة‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬ترتبط‭ ‬فقط‭ ‬بالأدب‭ ‬واللغة،‭ ‬بل‭ ‬تشمل‭ ‬الموسيقى‭ ‬واللباس‭ ‬وطرز‭ ‬العمارة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬ملتحفاً‭ ‬بالعمومية‭ ‬وأقل‭ ‬إقناعاً‭ ‬من‭ ‬مفاهيم‭ ‬أخرى‭ ‬احتفظت‭ ‬بنجاعتها‭ ‬المصطلحية‭ ‬كالتجريب،‭ ‬وأثبتت‭ ‬ارتهانها‭ ‬بحقل‭ ‬السرد‭ ‬العربي،‭ ‬وتوصيف‭ ‬متغيراته‭ ‬الصاعدة‭.‬

وتضاف‭ ‬لهذه‭ ‬الملاحظة‭ ‬خاصية‭ ‬أخرى‭ ‬تلازم‭ ‬استقراء‭ ‬وتصنيف‭ ‬الخراط‭ ‬لتيارات‭ ‬الحساسية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وطموحه‭ ‬الجاد‭ ‬لاستقصاء‭ ‬أهم‭ ‬ملامحها‭ ‬الأسلوبية‭ ‬والدلالية‭ ‬الفارقة،‭ ‬وهي‭ ‬خاصية‭ ‬التذبذب‭  ‬والتداخل‭ ‬الشديدين‭ ‬في‭ ‬الإمساك‭ ‬بالمواصفات‭ ‬الفنية‭ ‬والمرجعية‭ ‬الدقيقة‭ ‬المفردة‭ ‬لكل‭ ‬تيار‭ ‬عن‭ ‬آخر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ترتب‭ ‬عنه‭ ‬إدماج‭ ‬الخراط‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬مبدع‭ ‬في‭ ‬تيارات‭ ‬عدة،‭ ‬وتوزيع‭ ‬نتاجاته‭ ‬الروائية‭ ‬والقصصية‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تيار،‭ ‬حيث‭ ‬صنفها‭ ‬تارة‭ ‬في‭ ‬التيار‭ ‬العضوي‭ ‬المنحاز‭ ‬للرؤية‭ ‬الداخلية‭ ‬المستكنهة‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬باطني‭ ‬وحلمي،‭ ‬وتارة‭ ‬أخرى‭ ‬ضمن‭ ‬الاتجاه‭ ‬الأسطوري‭ ‬النزَّاع‭ ‬للتحرر‭ ‬من‭ ‬جاهزية‭ ‬الأشكال‭ ‬الروائية‭ ‬والقصصية‭ ‬الغربية،‭ ‬وتخصيص‭ ‬طرائق‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬استيحاء‭ ‬الموروث‭ ‬السردي‭ ‬والحكائي‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬أو‭ ‬توظيف‭ ‬ينابيع‭ ‬الأسطورة‭ ‬والخرافة‭ ‬لتعضيد‭ ‬الكثافة‭ ‬التناصية‭ ‬والتخييلية‭ ‬للعمل‭ ‬السردي‭.‬

إلا‭ ‬أنه‭ ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬هذه‭ ‬الملاحظات‭ ‬المنهجية‭ ‬التي‭ ‬نقدمها‭ ‬حول‭ ‬تنظير‭ ‬إدوار‭ ‬الخراط‭ ‬للحساسية‭ ‬الجديدة،‭ ‬ومحصلاته‭ ‬المعرفية‭ ‬والجمالية،‭ ‬يظل‭ ‬هذا‭ ‬التنظير‭ ‬يكشف‭ ‬عنده‭ ‬عن‭ ‬مجهود‭ ‬نقدي‭ ‬وفكري‭ ‬نفاذ‭ ‬لاستقراء‭ ‬خصوصية‭ ‬الخطاب‭ ‬السردي‭ ‬العربي‭ ‬الجديد،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬جاهزية‭ ‬المرجعيات‭ ‬النقدية‭ ‬الغربية،‭ ‬والإسقاط‭ ‬الآلي‭ ‬والحرفي‭ ‬لمفاهيمها‭ ‬وكشوفاتها‭ ‬على‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬العربية،‭ ‬ما‭ ‬يكرس‭ ‬أزمة‭ ‬التغريب‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬العربي،‭ ‬وامتثاليته‭ ‬المطلقة‭ ‬لسلطة‭ ‬الآخر‭ ‬النقدية‭.‬

‭ ‬‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬فإن‭ ‬حرص‭ ‬الخراط‭ - ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬الناقد‭ ‬الأردني‭ ‬فخري‭ ‬صالح‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬افي‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الجديدةب‭ - ‬على‭ ‬اجتراح‭ ‬مفاهيم‭ ‬ومنظورات‭ ‬جديدة‭ ‬لإعادة‭ ‬توصيف‭ ‬صيرورة‭ ‬المنجز‭ ‬الأدبي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الرواية‭ ‬والقصة،‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬التمرس‭ ‬بالنصوص‭ ‬الإبداعية،‭ ‬والإنصات‭ ‬لنسوغها‭ ‬الفنية‭ ‬والدلالية‭ ‬الخاصة،‭ ‬هو‭ ‬عمل‭ ‬تنظيري‭ ‬جدير‭ ‬بالاحتفاء‭ ‬والتعاطف‭ ‬والتقدير،‭ ‬لما‭ ‬ينم‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬انشغال‭ ‬بنَّاء‭ ‬ونير‭ ‬بهاجس‭ ‬تخصيص‭ ‬أسئلة‭ ‬النقد‭ ‬العربي،‭ ‬وتفريد‭ ‬رهاناته‭ ‬المنهجية‭ ‬والفكرية‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬شراك‭ ‬الافتتان‭ ‬بمعيارية‭ ‬المحمول‭ ‬النقدي‭ ‬الغربي،‭ ‬والحرص‭ ‬على‭ ‬مطابقة‭ ‬هياكله‭ ‬التنظيرية‭ ‬الناجزة‭ ‬المشروطة‭ ‬دوماً‭ ‬بمحاضن‭ ‬فلسفية‭ ‬وتاريخية‭ ‬وثقافية‭ ‬محددة‭.‬

كما‭ ‬يمكن‭ ‬التأكيد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬ذاته،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬سمات‭ ‬التميز‭ ‬والإنتاجية‭ ‬الخلاقة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجهد‭ ‬التنظيري‭ ‬والتحليلي‭ ‬الذي‭ ‬اضطلع‭ ‬به‭ ‬الخراط‭ ‬في‭ ‬قراءته‭ ‬النقدية‭ ‬التمحيصية‭ ‬للسرد‭ ‬العربي‭ ‬الجديد،‭ ‬والمتابعة‭ ‬الدؤوبة‭ ‬لتحولاته،‭ ‬هي‭ ‬تفرده‭ ‬بخلفية‭ ‬معرفية‭ ‬ناظمة،‭ ‬وجهت‭ ‬اجتهاداته‭ ‬الكشافة،‭ ‬وتتجلى‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الناقد‭ ‬والمفكر‭ ‬المصري‭ ‬محمود‭ ‬أمين‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬اتحديد‭ ‬الكلي‭ ‬الكامن‭ ‬وراء‭ ‬الجزئيات‭ ‬في‭ ‬قراءاته‭ ‬النقدية‭. ‬أي‭ ‬تحديد‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جوهري‭ ‬وراء‭ ‬التفاصيل‭ ‬العارضة‭... ‬وبذلك‭ ‬فالخراط‭ ‬في‭ ‬نقده‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬فيلسوف‭ ‬الجمال‭ - ‬أقصد‭ ‬الاستاتيكا‭ - ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬الناقد‭ ‬التحليلي،‭ ‬بالرغم‭ ‬مما‭ ‬في‭ ‬نقده‭ ‬أحياناً‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬التصنيف‭ ‬والتحليل‭. ‬فهو‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬فنان‭ ‬ذو‭ ‬رؤية‭ ‬مفهومية‭ ‬جمالية‭ ‬كلية‭ ‬خاصة‭ ‬حميمة‭ ‬تشكل‭ - ‬في‭ ‬حدودها‭ - ‬اختياراته‭ ‬للنصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬أقرب‭ ‬للفن،‭ ‬وتشكل‭ ‬بالتالي‭ ‬قراءاته‭ ‬لهذه‭ ‬النصوصب‭.‬

واستناداً‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الخصائص‭ ‬المعرفية‭ ‬والفكرية‭ ‬اللماحة‭ ‬التي‭ ‬انماز‭ ‬بها‭ ‬التنظير‭ ‬النقدي‭ ‬لإدوار‭ ‬الخراط،‭ ‬يمكننا‭ ‬الإقرار‭ ‬بأنه‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬مكتسباتها‭ ‬النيِّرة،‭ ‬يفترع‭ ‬هذا‭ ‬المبدع‭ ‬الراحل‭ ‬لنفسه‭ ‬مكانة‭ ‬مائزة‭ ‬داخل‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬تجعله‭ ‬إحدى‭ ‬قاماته‭ ‬المرموقة،‭ ‬ومن‭ ‬الكتَّاب‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬يتفرد‭ ‬نتاجهم‭ ‬الأدبي‭ ‬بهاجس‭ ‬الاختلاف‭ ‬والمغايرة،‭ ‬والتراسل‭ ‬الكشاف‭ ‬بين‭ ‬النشاط‭ ‬الفني‭ ‬المتقد،‭ ‬والكتابة‭ ‬التنظيرية‭ ‬المضيئة‭ ‬لتصوراتهم‭ ‬حول‭ ‬وظيفة‭ ‬الإبداع‭ ‬والفن‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬يلتقي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬مع‭ ‬مبدعين‭ ‬قلائل‭ ‬تفردوا‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الإبداعي‭ ‬العالمي‭ ‬بمزاوجتهم‭ ‬المثمرة‭ ‬بين‭ ‬الروح‭ ‬الإبداعية‭ ‬المتوثبة‭ ‬والخلاقة،‭ ‬والكتابة‭ ‬التنظيرية‭ ‬النفاذة،‭ ‬وأكتفي‭ ‬بذكر‭ ‬الروائي‭ ‬التشيكي‭ ‬ميلان‭ ‬كونديرا‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬والشاعر‭ ‬أدونيس‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ >‬