أحزان ذاكرة مخذولة

أحزان ذاكرة مخذولة

رَحَلَ الأديبُ الكبيرُ فاروق شوشة عن الدنيا ولم يرحل عنّا، بعد أنْ قدّم كثيراً مما نتمنى، وسَطَّر للعربية الفصحى مقالات لها كلّ معنى، حفظت ما فات وأقرت الجديد من المفردات، التي اصطلح عليها في مجامع اللغة والمنتديات، فأثرى بعمله وكتاباته مجلة العربي والمكتبة العربية، وأفاد القارئ فائدة عظيمة بعِلمٍ يُنتَفَع به، فكان قلمه شعلة أضاءت دروباً، وكان ندى كلماته من أدبه العذب يحْيي قلوباً... ندعو الله تعالى أن يرحم الأستاذ فاروق شوشة ويسكنه فسيح جناته، فإنّ فقدنا له كبير، وإنّا بفراقه لمحزونون. 


وتتوالى الأحزان، حين يشتعل العالم العربي من حولنا، وتنشغل الشعوب بالحروب والصراعات السياسية، وتعصف بالأوطان الفِتَن ليعلو غبارها النتن، وتقصف مدافع أعداء الإنسانية الأبرياء، لتقتل الأطفال والعجائز والنساء. هنالك، يعجز الإنسان عن التفكير، فلا يجد للفتن تفسيراً أو للقتل تبريراً! أهي حرب عالمية ثالثة؟ أم مؤامرة لتقسيم العالم من جديد؟ وإن لم يكن هذا ولا ذاك، فمَنْ هو المُستفيد؟ لماذا تقوم الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بتقديم الدعوم الحربية للعالم الثالث، من دون أن تنتهج نهج السلام الحقيقي؟ لماذا تجوع شعوبنا وتظمأ، والثروات بين يديها والماء فوق ظهر أراضيها محمولُ؟ لماذا يُخَرَّبُ التاريخ وتُُحَطَّمُ الآثار، ليُنسَى الماضي ويبقى الخراب، كأطلال تهرب عنها الأرواح ولا يسكنها سوى الأشباح؟! 
ماذا نستطيع – نحن العرب – أن نُقَدّم اليوم للحياة والعالم؟ ضاع من بين أيدينا السَّبْق في كلّ ميادين التقدم العلمي، وأصبحنا من المُسْتَهْلِكين، لا إبداع ولا إنتاج، والقليل مما لا يكفينا من الزراعة، وأقل من هذا القليل في الصناعة. ومما يحيرني كثيراً، هو توافر المواد الأولية والثروات الطبيعية وجميع عناصر الطاقة والإنتاج من مياه وأراضٍ شاسعة صالحة للزراعة والرعي. لا نعيب أنفسنا أو نجلد الذات حين نقول بأننا نستورد أساس طعامنا: من القمح والأُرْزِ والضأن والأبقار والدواجن. ولا نلبس إلا من نسيج الآخرين، ولا ننتقل أو نسافر إلا من صناعة الغير، فنحن لا نصنع الدراجة الهوائية أو الدراجة البخارية أو السيارة أو الطائرة، أو حتى الزورق. ولا نصنع أو نزرع ما ننافس به غيرنا. وفي عصر التكنولوجيا، ترانا مذهولين بالتطور السريع، هواتف متنقلة وحواسيب، وأجهزة عرض تلفازية وسينمائية، ووسائل سمعية وبصرية متطورة... ومع هذا كله نستورد الأقلام والوَرَق... أصبحنا نجتر التاريخ، وينكص الحاضر إلى الماضي، فلا نرى لنا مستقبلاً، وتضيع الآمال بين الخوف من القادم وعدم القدرة على مواكبة الحاضر، ويضطرب التخطيط للمستقبل. إنّ الأمن الحقيقي للمجتمع وأفراده منوط بالسلام، فلا علم ولا تقدم ولا حياة في الحرب. والسلام يبدأ من النفس، وسلام النفس لا يكون إلا بالحبّ، والحبُّ يبدأ بالعطاء، ويكبر بالعمل، وينمو بالتصالح، ويقوى بالمودة، ويدوم ويبقى بالتسامح. 
أما الكراهية، فهي بذرة الشيطان يزرعها في قلب ابن آدم لتفتح عليه باب الجحيم. وبالكراهية استطاع الأعداء أن يفرقونا ويمزقوا أوصال الأمة، بذروا الطائفية وسقيناها بدمائنا، وغرسوا الطبقية فحصدنا أشواكها، وفلسفوا الاقتصاد حكرا عليهم فما نالنا إلا الفقر، والْتحفوا السياسة فجنينا الغدر، وأدخلوا علينا تقنيات متطورة تفيدهم عملاً وتثقلنا كسلاً، ثم ضربوا علينا الخنوع والذلة والمسكنة، وطالبونا بالثورة على أنفسنا بشعارات ظاهرها الحرية والديمقراطية وباطنها الفوضى والغوغائية. وإن كنّا نعي بأنّ مفهوم الثورة هو التجديد، فإننا لا نرى إلا الرجعية، وإن نشدنا الأمن فلا نجد إلا التجسس، وإن تمنينا الاستقرار فيكون مصيرنا الشتات والتهجير. إنها ليست مؤامرة، فالمؤامرة لا تكون إلا بالعمل السري، ولكنها تخطيط علني لتقسيم العالم العربي وتدمير كيانه القومي والاقتصادي، وتفريق مجتمعاته المسالمة، من خلال تغليب عصابات إرهابية ضالة وتزويدها بالقوة والسلاح والعتاد، عصابات تحمل رايات التعصب باسم الدين، وترفض النّقد والحوار، وتهيم كالعناكب لأنها لا تعرف التعايش السلمي. حرّموا الفنّ بألوانه وأنواعه، وسجنوا قلوبهم بصدورهم الضيقة كما سجنوا عقولهم بفكرة الخلاص من الدنيا في سبيل حياة أخرى، وظنوا أنّهم فيها من الناجين، إلا أنّ أكثرهم من الظالمين ولكنهم مازالوا لا يُدركون بأنّ من قتل نفسا بغير حقّ فكأنما قتل الناس جميعاً، ومأواه جهنم وبئس المصير، فيا ليتهم يعلمون. 
تربينا على حبّ الوطن، صغاراً ننشد:
بلاد العُرْبِ أوطاني
وكلّ العُرْبِ إخواني
ودينُ الله لي ديِنٌ
بإنجيلٍ وقرآنِ
أين مني اليوم «اليمن»؟! التي كنا لا نصفها إلا بالسعادة، وهي أمٌّ تذرف دمع الألم، يقتل أبناؤها أبناءها، فتستجير لتنجد، حتى يأتيها من جوارها أشقاؤها العرب طوعا والتزاما وحبّا وكرامة، لا يريدون منها جزاء ولا شكورا، يكفكفون دمعها وينهرون الشقي ويعينون المظلوم، ويفتحون قلوبهم وأوطانهم للصلح بين أبناء اليمن. واحسرتاه على اليمن التي قيل فيها:
دع رامة الوادي ودع سمراتها
واترك بيوت الشّعر في أبياتها
تلك الجِنان أما ترى أنهارها
قد أعربت بالطيب من ثمراتها
برزت بها الأغصان شبه عرائس
نظمت عقود الزهر في آياتها
في كلّ عود من سواجع طيرها
عود يريك اللحن من نغماتها
أين بلاد الرافدين! وإلى أين صار العراق الخصيب الأصيل؟ أين أشعار الغناء ومواويل الليل الجميل؟ أين النسيم العليل تحت سَعْفِ النخيل؟ صار النسيم دخانا وغبارا، وأصبح الغناء بكاءً أو شبه عويل. يا لهذه الذاكرة! التي لا تنسى دجلة وشواطيها بكل ما فيها من سعادة بأفراح لياليها: 
وَرِدْنَا مَاءَ دِجْلةَ خَيْرَ ماءٍ
وزُرْنا أشرَفَ الشجرَ النخيلا
أدجلة إنّ في العبرات نُطقا
يُحَيِّر في بلاغته العقولا
فإنْ مَنَعوا لساني عن مقالٍ
فما منعوا ضميري أن يقولا
خذي سَجْعَ الحَمَامِ فذاك شِعْر
نظمناه فرتله هديلا
أين تلك البلاد! أم أين سورية دار أقدم مدينة في التاريخ، «دمشق» التي قال فيها أمير الشعراء، وكأنّ التاريخ يعيد جراحاتها التي تحدث عنها أحمد شوقي:
سلام من صبا برَدى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشقُ
وبي مما رَمَتْكِ به الليالي
جراحات لها في القلب عُمْقُ
وقيل معالم التاريخ دكّت
وقيل أصابها تَلَفٌ وحَرْقُ
بليلٍ للقذائفِ والمنايا
وراء سمائه خَطْفٌ وصَعْقُ
بلاد مات فتيتها لتحيا
وزالوا دون قومهم لِيَبْقوا
وللأوطان في دم كلّ حرّ
يدٌ سَلَفَت ودَيْنٌ مُسْتَحَقُ 
ولعل بارقة أمل في أن ينبثق نور ويتفجر نهر من العطاء، فيطهر الأرض والهواء، من بُقَع الدماء والغيوم السوداء، التي حجبت شمس الحرية وزُرقة السماء. هنالك، في السماء، تُرفع الأرواح وتردد: يَا لَيْتَني قَدَّمْتُ لِحَيَاتي... وبين هذا وذاك، لم يبقَ لنا إلا أن نقدّم للحياة ما نراه معينا لا ينضب، يجذب إلينا من يختلف معنا، ويحببه لحياة ملؤها أدب وثقافة وفن. وليس من بداية ننتهجها في هذا السبيل سوى التركيز على وسائل الإعلام، وبخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، لإبراز الدور الفاعل لمسيرة الدولة والإنسان ■