في ذكرى طه حسين

في ذكرى طه حسين

تقوم «الحرية» في فكر طه حسين مقام الأصل الذي تتفرع عنه كل ما يكمل عناصر هذا الفكر. وسواء كنا نتحدث عن النزعة الإنسانية أو التطلع إلى المستقبل أو العدالة المعرفية – بوصفها مرادفة للعدالة الاجتماعية أو متفرعة عنها - فإننا نتحدث عن مرادفات للحرية أو لوازم لها، فقد ظل طه حسين مؤمنا بأن الحرية هي أصل الوجود والطاقة الخلاقة التي ينطوي عليها الإنسان، كي يتجاوز شروط الضرورة، ويصل إلى أعلى آفاق الحرية، مؤكداً حضوره الفاعل في الوجود، ومقاوماً ما يحول بين هذا الحضور واكتماله في هذا الكون. ويعني هذا عند طه حسين تصور الإنسان بوصفه الكائن الذي يقاوم شروط الضرورة، فيصنع التاريخ على عينيه، مجدداً باستمرار آفاق النظر إلى الحضور الحي للإنسان.

 

وليست الحرية – عند طه حسين - منفصلة عن العقلانية بوصفها أداة للمعرفة وأسلوباً في التفكير وطريقة في إدراك العالم والكون على السواء. والعقلانية هي الوجه الآخر من الحرية ولازمة من لوازمها، فإذا كانت الحرية مرادفة للمسؤولية، وأساساً منطقياً لها، فإن الحرية هي أساس الفعل الخلاق للإنسان. أعني الفعل الذي يترتب عليه وعي الإنسان بوجوده الحر الفاعل في الوجود من ناحية، وبمسؤوليته عن هذا الفعل ونتائجه من ناحية أخرى. والإيمان بالحرية هو الإيمان بالعقلانية من هذا المنظور. فالأصل في الفعل الحر هو العقل. والفعل الحر هو ما يقترن بالمسؤولية الوجودية من ناحية، والأساس المنطقي للفعل الاجتماعي الذي هو التجسيد المادي للوعي بالحرية من ناحية أخرى. ولذلك ارتبط مفهوم الحرية بالعقلانية دائما، سواء من المنظور السياسي الليبرالي الذي يجعل من الفرد مركزاً للوجود، أو من المنظور الفلسفي الذي يؤكد حضور الفرد الحر؛ بدءاً من الكوچيتو الديكارتي (نسبة إلى الفيلسوف ديكارت 1596 - 1650) الذي يرد وعي الوجود إلى وعي الفرد الحر الذي يعرف أنه موجود لأنه يفكر، وموجود لكي يفعل، وينقل ما يمليه عليه عقله، أو يتسق معه، أو يكون مبرراً للقيام به، فذلك وحده هو ما يجعل الحرية مسؤولية. وهو ما ينزل بهذه المسؤولية إلى مدى الفعل المعرفي والاجتماعي والثقافي في آن، وذلك في سياق الوجود الفاعل للمثقف الذي ينطوي فكره على عنصري الحرية والعقلانية معا. وهما عنصران يقودان – في تفاعلهما الخلاق في وعي المثقف - إلى الإيمان بقدرته على مساءلته كل الأشياء، والشك حتى في وجودها، بعيداً عن أي وازع ديني أو رادع اجتماعي. وظني أن طه حسين عندما قرأ ديكارت وجد فيه أصداء مما عرفه عن مذاهب الشك في الفكر الاعتزالي القديم عند العرب وما أدركه من أن الشك علامة العافية، وأنه ليس ثمة يقين إلا إذا سبقه نوع من الشك. هكذا اختلط الموروث القديم بمعناه الخلاق عند المعتزلة بالفكر الفرنسي الحديث الذي يصل الحرية بالعقلانية، وذلك بالقدر الذي يصل كليهما بمعنى الشك في آن.

الحرية العقلانية
ومن المؤكد أن مناخ الحرية الذي عاشه طه حسين في فرنسا، والذي رأى تجلياته في الدراسات الإنسانية، هو الذي جعله يعود إلى مصر بوعي جديد وبإدراك مختلف لتراثه. أعني إدراكاً يجرؤ على أن يخالف الثوابت والمعايير التي يحسبها الآخرون ثوابت مقدسة. وهكذا يعاود طه حسين النظر في أوجه الحياة المصرية المختلفة من منظور الحرية العقلانية التي تنطوي على نزعة إنسانية بالضرورة. هذه النزعة العقلانية للحرية، مضفورة بالنزعة الإنسانية، هي ما جعلت طه حسين – بعد عودته من فرنسا - منطوياً على نوع من «الثورة الأبدية» التي تحدث عنها أحد أحفاد السيد أحمد عبدالجواد – في الجزء الأخير من الثلاثية - عندما قال: «إني أؤمن بالحياة والناس، وأرى نفسي ملزماً باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق، إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسي ملزماً بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطلة، إذ النكوص عن ذلك خيانة. وهذا هو معنى الثورة الأبدية». ولذلك كان طه حسين يُخضِع كل شيء حوله لمبدأ المساءلة في كل مجال من مجالات الحياة المصرية التي استقبلته بعد عودته من فرنسا في عام 1919.
وعندما يعاود طه حسين النظر في تاريخ الأدب العربي على نحو ما استقرت صورته في مذهب القدماء الذي قرر أنه لا مهادنة مع أفكارهم، وتعريتها بما انطوى عليه وعيه الجديد، فإنه يرفض هذه النظرة، ويستبدل بها نظرة جديدة. 
وتعتمد هذه النظرة الجديدة، على الالتزام بمجموعة من المبادئ الأساسية التي تعلمها في فرنسا، أولها: وحدة الظواهر الأدبية بوصفها نتيجة تترتب على وحدة الإنسانية كلها وخضوعها لقوانين صارمة. فقد أخذ طه حسين يؤمن بأن الحركة التاريخية لا تنقطع أبدا، والحركة الاجتماعية مستمرة أبدا، وكلتاهما أشبه بنهر متجدد لا يكف عن التدفق. ويصل طه حسين بين ما قاله «أوجست كونت» و«ابن خلدون» عن اختلاف أحوال العالم والأمم وانتقالها من حال إلى حال؛ «فالجماعات الإنسانية تتغير وتتطور في نوع من الجبر التاريخي الذي يتجاوز إرادة الفرد، وأن كل جماعة من الجماعات الإنسانية نتيجة القوانين الكلية التي تنطبق عليها، تنطوي على شيء ثابت لا يتغير، وهو أصل الجماعة وأساس نظامها، وشيئاً فشيئاً يتغير ويتحول، ففي الجماعة عند أوجست كونت سكون وحركة، أو ثبات واستحالة، فبفضل السكون أو الثبات تحفظ الجماعة وحدتها على اختلاف الأزمنة. وبفضل الحركة تتفق الجماعة مع ما يطرأ عليها من ظروف الحياة وأطوارها».
هذا الفهم الوضعي الذي يرد الظواهر الاجتماعية إلى قانونين متضادين، هما قانونا الثبات والتحول، هو الذي يحدد المنظور التاريخي لتعامل طه حسين مع الأدب العربي إذا أردنا التخصيص. إنه يؤكد أن الأمة العربية مثل غيرها من الأمم، خضعت خضوعاً تاماً لمؤثرين مختلفين اختلافاً تاماً، فبينما كان أحدهما يدفعها دفعا قويا إلى الأمام فتندفع، كان الآخر يجذبها جذباً قوياً إلى الثبات فتنجذب. ولذلك يؤكد: «إن أخص ما نلاحظه في حياة أدبنا العربي منذ أقدم العصور أنه يأتلف من عنصرين خطيرين لا يحتاج استكشافهما إلى جهد أو عناء. أحدهما داخلي يأتيه من نفسه ومن طبيعة الأمة التي أنتجته. والآخر خارجي يأتيه من الشعوب التي اتصلت بالعرب أو اتصل العرب بها، ويأتيه من الظروف الكثيرة المختلفة التي أحاطت بحياة المسلمين وأثرت فيها على مر العصور». (ألوان، ص 13).

الثبات والتغير
ويعني ذلك – أولا - أن التركيز على قانون التطور في تحديد حركة التاريخ الأدبي، وفهم هذا القانون بوصفه حتمية متعالية، وبوصفه عنصراً خارجياً لا يتخلق من داخل الظواهر الاجتماعية، ويعني ذلك – ثانياً - أن التاريخ الأدبي للأعمال الأدبية  - عند طه حسين - يقوم على عمليات عدة ترتبط كلها بتحديد عنصري الثبات والتغير. 
أما عنصر الثبات فيرتبط بالتقاليد التي تفرض على الشعر صورة ثابتة لا علاقة لها بتغير المجتمعات التي تتعاقب على هذا الشعر. وأما عنصر التغير فيرتبط بالتحولات التي تحدث في هذا الشعر نتيجة تغير المجتمع أولا، ونتيجة تغير الشعر أو الأدب بوجه عام من حيث إنه مرآة للمجتمع المتغير أصلا. ويعني ذلك في النهاية أن تاريخ الأدب العربي لا يختلف اختلافاً جذرياً عن تاريخ الآداب الإنسانية بوجه عام، فما يربطه بها هو وحدة الظواهر الإنسانية وما تنطوي عليه هذه الظواهر من قانوني التشابه والتغير.
 وليس هذا الفهم ببعيد عن القول بأن ما ينطبق على تاريخ أي أدب من آداب المعمورة الإنسانية ينطبق بالضرورة على أي تاريخ لأدب آخر أو لأدب مغاير داخل هذه المنظومة الإنسانية الواحدة التي كان يؤمن بها طه حسين، كما يؤمن بوحدة ظواهرها متعددة الأبعاد والجوانب. 
ولذلك لم يكن غريباً أن يحضر طه حسين مؤتمراً للدراسات التاريخية في «بروكسل» عاصمة بلـﭽيكا، وقد كان – رسميا - معيناً بدرجة أستاذ التاريخ بالجامعة المصرية الأهلية، وأن يستمع إلى مناقشات، لاكتشاف مبدأ الثبات والتغير وعوامله في التاريخ الإنساني الذي كانت الوضعية تسود النظرة إليها، فيحدثنا عن عالم ألماني اسمه «وولف»: «كان قد نهض في هذا العصر إلى المعبد الذي يقيم فيه صنم هوميروس ففتحه ودخله ورأى حجراته وغرفه، ثم خرج فأعلن إلى الناس أنه لم يجد صنماً واحداً، وإنما وجد أصناماً، وأن هوميروس ليس كما كان الناس يعتقدون هذا الشاعر الإلهي العليم العظيم الذي لا يجارى ولا يبارى.  وإنما هو أكبر الظن شاعر نابغة قد جاراه من غير شك الكثير من الشعراء، فبرعوا كما برع ونبغوا كما نبغ، ونسبت آثارهم الخالدة إليه دونهم، فزعم الناس أنه وحده صاحب الإلياذة والأوديسة على حين أن نصيبه من هاتين الآيتين يسير». (من بعيد). 
ولذلك فإن الصورة التي انتهى إليها البحث العلمي - في ما يتصور طه حسين - أو البحث الوضعي بعبارة أدق عن الشاعر اليوناني القديم هوميروس هي صورة تنكر شخصية هوميروس، كما روته الأساطير، وتزعم أن هناك أسرة كانت تسمى أسرة الهوميرويين توارثت الشعر القصصي في ما بينها وأذاعته في البلاد اليونانية. وما حدث مع الشعر اليوناني حدث مثله مع الفلسفة اليونانية، فقد دفع الروح العلمي - في ما يقول طه حسين - أحد دارسي هذه الفلسفة، وهو الأستاذ «دوبريل»، إلى تأليف كتاب عن تاريخ الفلسفة اليونانية، وإلى عرض نتائج بحوثه في المؤتمر الذي حضره طه حسين في بلـﭽيكا، وأكد «دوبريل» في هذا المؤتمر: «أن البحث التاريخي الصحيح ينتهي بالباحث إلى أن سقراط شخص خرافي لم يوجد ولم يعرفه التاريخ، وأن خلاصة حكم التاريخ فيه كخلاصة حكم التاريخ في «هوميروس». كلاهما شخص آمن به القدماء، وأظهر التاريخ أنه لم يوجد قط، وكلاهما شخص اتخذ رمزاً لنوع من الآداب، فاتخذ هوميروس رمزاً لكل الشعر القصصي الذي عرفه اليونان وتناقلوه قبل القرن السابع، واتخذ سقراط رمزاً لهذه الفلسفة التي عرفها اليونان، وافتتنوا بها، منذ أواخر القرن الخامس وطوال القرن الرابع قبل المسيح». (من بعيد، ص 84-85).
إن إعجاب طه حسين بهذه النتيجة التي توصلت إليها النظرة الوضعية العقلانية التي اقترنت بالشك، سواء في تاريخ الأدب اليوناني أو الفلسفة اليونانية، قد دفعته إلى أن يطبق مبدأها الذي شاهد نتائجه في مؤتمر الدراسات التاريخية الذي حضره. ومن الواضح أن حضور هذا المؤتمر قد أضاف إلى الأسس الفكرية التي ظل يعتمد عليها في التاريخ الأدبي، وهي النظرة التي ترتبط بقانون الثبات والتغير في الظواهر الإنسانية، إضافة مؤداها: إننا ينبغي ألا ننظر إلى هذه الظواهر نظرة بريئة تخلو من الشك، فإن الإيمان بوحدتها يدفعنا إلى ملاحظة قانون الشك الذي يؤكد لنا أن عدداً من الظواهر التي تقع على محور قانون الثبات أو محور قانون التغير ينبغي ألا تؤخذ مأخذ التسليم، وإنما ينبغي أن نتقبلها بشيء من الشك الذي قد يدفعنا إلى التصديق الكامل بحضورها أو النفي الكامل لهذا الحضور. 
وعندما مضى طه حسين في الممارسة، أضاف إلى القانونين السابقين مبدأً جديداً يرى أن الماضي يستعيده الحاضر ليدرسه بمقاييس الحاضر نفسه، ومن منظوره الصاعد إلى المستقبل. وأضاف إلى هذا المبدأ، مبدأً آخر يؤكد أن الحاضر المتقدم الصاعد إلى الأمام هو الحاضر الذي ينظر إليه طه حسين من منظور المركزية الأوربية ومقاييسها. ولم يكن مؤهلاً في ذلك الوقت لإدراك مزالق المركزية الأوربية ومقاييسها من ناحية، وعدم انطباقها على التنوع الإنساني الخلاق للآداب القومية من ناحية موازية. ولذلك لم يتشكك طه حسين في قانون وحدة الإنسانية وخضوعها للقوانين نفسها، وفي أن هذا القانون هو قانون لا يدرك المتغيرات، ولا يضع في اعتباره أن التنوع البشري الخلاق يؤكد مبدأ الخصوصية الذي يتناقض مع قوانين وحدة الإنسانية الخاضعة للقوانين نفسها، فهذه الوحدة لا تتعارض ولا تتناقض مع مبدأ الخصوصية. 
وحتى لو سلمنا بقانون الثبات والتغير، بوصفه جانباً من الجدلية التاريخية نفسها، فإن هذا القانون لابد من الحذر في تطبيقه خصوصاً عندما يؤدي إلى نتائج دارونية تفرض مبدأ فرعياً لفكرة التطور الحتمي. أما مبدأ دراسة الحاضر أو الماضي من منظور يضع المركزية الأوربية في اللاوعي من بنيته، فإنه مبدأ لا بأس به إذا وضع في اعتباره مبادئ أخرى ترتبط بالنوع والانقطاع والخصوصية في آن.
ولكن طه حسين لم يكن يضع المبادئ والقوانين التي تعلمها في فرنسا موضع المساءلة، لأنه كان لايزال في مرحلة الانبهار بما رآه وتعلمه في عاصمة العلم ومركز الحضارة في تقديره، ولذلك كان من الطبيعي أن يقدم لأطروحته عن ابن خلدون التي تقدم بها إلى «السوربون» بالكلمات التي تؤكد انبهاره التام بالحضارة الفرنسية، على نحو كان يعني تعطيل مبدأ المساءلة أو الشك حتى في بعض ما تعلمه، ولذلك كان من المنطقي أن يؤسس في ذهنه القوانين والمبادئ التي سبق أن أشرنا إليها، التي جعلته يضعها في اعتباره عندما يطبق مبدأ الشك التاريخي الذي تعلمه من كبار أساتذة التاريخ أمثال «وولف» و«دوبريل» ويأخذه مأخذ التسليم بما دفعه إلى تطبيق هذه النظرة على الأدب العربي.

الأدب العربي وتاريخه
هكذا تكونت منظومة فكرية في ذهن طه حسين، تقوم على قانونين ومبدأين، وقد انطلق في تطبيقهما على تاريخ الأدب العربي، مؤمنا بأن التاريخ الأدبي فرع من التاريخ العام، ويختلف اختلافاً جذرياً عن النقد الأدبي والأدب. فقد كان طه حسين يرى أن الأدب صنفان، أولهما: أدب إنشائى، وهو الإبداع الأدبي، وثانيهما: أدب وصفي، وهو النقد الأدبي، وكلاهما يختلف في طبيعته عن تاريخ الأدب الذي هو فرع من التاريخ العام. وكان ذلك هو المهاد الذي انطلق منه طه حسين في موقفه من تاريخ الأدب العربي، الذي رآه فرعاً من التاريخ العربي العام، وكانت البداية الزمنية هي عام 1923، عام حضوره مؤتمر البحث التاريخي في بروكسل وما تأثر به من شيوع النظرة العقلانية القائمة على الشك في أبحاث هذا المؤتمر. وعلى هذا الأساس بدءاً طه حسين متدرجاً في صدمة جمهوره القارئ، بدءاً من مقالاته «الغزل والغزليون» (سبتمبر- ديسمبر 1924) فينتهي إلى أن بعض هؤلاء الشعراء، خصوصاً قيس بن الملوح ووضاح اليمن وأمثالهما: «إما أن يكونوا أثرا من آثار الخيال قد اخترعهم اختراعاً، وإما ألا تكون لهم شخصية بارزة ولا خطر عظيم، وإنما عظّم الخيال أمرهم وأضاف إليهم ما لم يقولوا وما لم يعملوا، واخترع حولهم من القصص ألوانا وأشكالا، جعلت لهم في الأدب العربي هذا الشأن العظيم الذي لا يكاد يقوم على شيء». (حديث الأربعاء، ط 1، ص 90).
ويقرن الشك - من هذا المنظور - بين شخصيات الغزليين العذريين وما بين محبوباتهم ليقول طه حسين: «والحقيقة التي ما أحسب أنها تتعرض للشك هي أن ليلى ولبنى وعزة وبثينة وعفراء وهند ودعد وسعاد، كل هذه أسماء ما أظن أنها تعني مسميات متعينات، وإنما هي أسماء نساء اتخذها الشعراء لهذا المثل الأعلى الذي كانوا يلتمسونه، ويطمحون إليه حين كانوا يتغنون بالحب، سواء منهم في ذلك الشعراء المعروفون والشعراء المجهولون، ليلى ولبنى وبثينة بالقياس إلى هذا النوع من الغزل أسماء تشبه هيلانة بالقياس إلى القصاص من شعراء اليونان المتقدمين، لسنا ندري أوجدت حقا، بل أكثر الظن أنها لم توجد، وإنما هي المثل الأعلى في الجمال والحب واللين والرقة والدعة، وغير ذلك من الخصال التي يتغناها الغزليون». (حديث الأربعاء، ط1/218). 
ولم يكن طه حسين، في نظرته هذه يتابع جهود المستشرقين أمثال «مارجليوث» في ما يتعلق بتوثيق الشعر الجاهلي، على نحو ما هو مستقر في أذهان الكثير، وإنما كان يتابع ما تعلمه من أصول البحث التاريخي في مؤتمر الدراسات التاريخية الذي حضره في بلـﭽيكا سنة 1923. 
ومن المؤكد أن إيمان طه حسين بوحدة التراث الإنساني الذي يؤدي إلى خضوع هذه الوحدة لظواهر وقوانين متشابهة، هو الذي جعله يرى أن ما ينطبق على الأدب اليوناني القديم ينطبق على الأدب العربي القديم بالقدر نفسه، ولذلك يؤكد، قبل عامين من صدور كتابه «في الشعر الجاهلي»: «أفهم الأدب العربي وأحكم على ظواهره، كما ينبغي أن يفهمه ويحكم على ظواهره رجل يعيش في القرن العشرين... ويرى كيف يفهم الأوربيون أدب اليونان والرومان». (حديث الأربعاء، ط1/186)، ويعني ذلك أن طه حسين قد تواصل مع تقاليد البحث التاريخي (الوضعي) في الآداب اليونانية بوجه خاص، وحاول تطبيقها على الشعر العربي، فبدأ بالشك في الصورة التاريخية المأثورة عن العصر العباسي من أنه عصر مجون كامل وأعقبه بالشك في وجود بعض شعراء الغزل الإسلامي سنة 1924 ثم تصاعد بالشك فشمل أغلب الشعر الجاهلي سنة 1926.
 وقد سبق أن قلت إن النتائج التي توصل إليها نقلاً عن «وولف» و«دوبريل» وأمثالهما – في اليونانيات - كانت أقرب إليه من نتائج الدراسات الاستشراقية في الشعر العربي، بدءاً من «فلهلم آلفرت» Wihelm Ahlwardt في دراسته عن الشعر الجاهلي سنة 1872 مروراً بسير «تشارلز لايل» الذي كتب عن الشعر الجاهلي سنة 1918 وانتهاء بمرجليوث الذي ذهب مذهب الشك في كثير من الشعر الجاهلي عام 1925 في دراسة لم يعرفها طه حسين إلا بعد أن أصدر كتابه «في الشعر الجاهلي» في مارس من العام نفسه. ولم يكن من الغريب، والأمر كذلك، أن يقارن طه حسين بين حضور امرئ القيس وشخصية هوميروس، مؤكداً أن ما صيغ حول امرئ القيس من قصص، وما نسب إليه من شعر يشبه في دوافعه ما صيغ حول الشاعر اليوناني ونسب إليه.
كانت هذه هي الأسس الفكرية التي أقام عليها طه حسين دراسته في الطبعة الأولى من «حديث الأربعاء» سنة 1925، و«في الشعر الجاهلي» سنة 1926. ولم يكن من الغريب أن يشعر وهو يملي كتابه «في الشعر الجاهلي» أنه سيخالف النظرة السائدة لدراسة الأدب العربي، فقد كانت هذه النظرة تنظر إلى الأدب العربي بمعزل تام عن غيره من الآداب، كما كانت هذه النظرة اتباعية تبقى على ما أثر عن القدماء في دراسة الأدب القديم. وأخيراً كانت هذه النظرة تدرس الآداب العربية، مرتبة ترتيباً زمنياً آلياً، حسب تاريخ الحكومات وتتابع العصور أو الأزمنة، فجاء طه حسين ليقلب ذلك كله، رأساً على عقب، ويؤكد أن الأدب العربي يشبه غيره من الآداب، وأنه يجتمع وإياها في وحدة واحدة، وتنطبق عليه قوانين واحدة، ولذلك فإن دراسة الأدب العربي أو تاريخه ينبغي أن تخضع لهذه القوانين التي تضع في اعتبارها، أن هذه الوحدة تنطوي على قانونين ثابتين هما قانونا الثبات والتغير، وأن ما ينطبق على أي أدب من الآداب الإنسانية ينطبق على غيره بالضرورة. وأخيراً، فإن المدخل إلى التاريخ الأدبي يبدأ بالشك كي ينتهي إلى اليقين. 

الحداثة غير المألوفة
وكان طه حسين يرى في مبادئ نظرته هذه نوعاً مميزاً من الحداثة التي سوف تغضب معاصريه من القدماء أو الذين ينظرون إلى الحياة بمنطق القدماء. ولذلك يبدأ طه حسين كتابه «في الشعر الجاهلي» بكلماته الحاسمة: «هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي القديم. لم يألفه الناس عندنا من قبل... ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعاً ما أعرف أني قد شعرت بمثله في تلك المواقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي. وهذا الاقتناع القوي هو الذي يحملني على تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول، غير حافل بسخط الساخط ولا مكترث بازورار المزور، وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوماً وشق على آخرين فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد». 
هذه الكلمات التي صدر بها كتابه الذي فرغ من إملائه في الثامن عشر من مارس 1926 وسلمه إلى مطبعة دار الكتب المصرية لتصدره بعد أسابيع معدودة إلى الناس، فيستهل الكتاب عواصف من الاختلاف الفكري الذي لم ينقطع إلى اليوم، ويغدو مؤشراً دالاً على ما يمكن أن تصل إليه حرية الرأي وحق الاختلاف في المجتمع. ومن المؤكد أن العاصفة التي هبت على كتاب طه حسين، وكادت تطيح به من الجامعة، كما أطاحت بصديقه على عبد الرازق من منصبه في القضاء، إنما كانت تعبيراً عن جمود المجتمع المصري في أوضاعه الفكرية من ناحية، وعلى عدم قدرته على تقبل أفكار النخبة المحدثة التي كان عليها أن تهز المبادئ الراسخة في هذا المجتمع من ناحية مقابلة. 
صحيح أن الجامعة قامت بدورها في حماية طه حسين وأن البرلمان قد توافق على أن يضع الأمر بين يدي القضاء، وأن القضاء قام بمحاكمة طه حسين، بواسطة نائب مصر العمومي محمد نور- وقام بتبرئته من التهم التي اتهم بها، الأمر الذي اضطر طه حسين إلى إصدار طبعة جديدة من الكتاب سنة 1927، لم يتغير منها شيء أساسي سوى بعض الجمل القليلة التي وجد فيها المحافظون ما يمس عقائدهم الدينية مسّاً مباشراً. لكن ما ينبغي أن يلفت الانتباه حقاً هو أن طه حسين أضاف إلى كتابه القديم فصلاً جديداً بالغ الأهمية افتتح به الكتاب، وفي هذا الفصل يؤكد مبدأه المقدس في دراسة الأدب وتاريخه على السواء، وهو مبدأ الحرية. ولابد هنا أن نعود إلى مقدمته الأساسية لهذا الكتاب ونتأمل ما كتبه عن الحرية والأدب عندما يقول: «أريد أن يظفر الأدب بهذه الحرية التي تمكنه من أن يدرس لنفسه، والتي تمكنه من أن يكون غاية لا وسيلة». 
ونصل ذلك بما يقوله من أن «الحرية بهذا المعنى شرط أساسي لنشأة التاريخ الأدبي في لغتنا العربية. فأنا أريد أن أدرس تاريخ الآداب بحرية وشرف، كما يدرس العلم الطبيعي علم الحيوان والنبات، ولا أخشى في هذا الدرس أي سلطان. وأنا أريد أن يكون شأن اللغة والآداب شأن العلوم التي ظفرت بحريتها واستقلت بها من قبل، والتي اعترفت لها كل السلطات بحقها في الحرية والاستقلال... وقد وصل الأدب في أوربا الآن إلى هذه المنزلة، ووصل بعد جهد ومشقة، ولم يصل إلا في هذا العصر الأخير، ولكنه قد وصل بالفعل وأصبح يدرس لنفسه، وأصبح يستمتع من الحرية بمثل ما تستمتع به الطبيعة والكيمياء، وأصبح خصومه لا يحاربونه بالسلاح الإداري أو القضائي كما كانوا يفعلون من قبل، وإنما يحاربونه بسلاح العلم الأدبي الخالص، فيقيمون الحجة ويجادلونه بما يلائم مزاجهم من قوة أو ضعف ومن لين أو عنف... على هذا الشرط وحده يستطيع الأدب العربي أن يحيا حياة ملائمة لحاجات العصر الذي نعيش فيه من الوجهة العلمية والفنية».
وكان طه حسين يريد أن يؤسس نظرته إلى التاريخ الأدبي في ضوء منهجه العقلاني الوضعي بعناصره الثلاثة التي تعتمد أولا على وحدة الظواهر الإنسانية، وتعتمد ثانياً على وحدة هذه الظواهر في خضوعها لقانوني التغير والثبات، وتعتمد ثالثاً على البدء بالمساءلة أو الشك بوصفه سبيلاً إلى اليقين. 
وكانت هذه النظرة الوضعية في المنهجية العلمية استجابة إلى أفكاره السياسية الليبرالية الخاصة بحلمه في أن يكون مواطناً فاعلاً في دولة مدنية ديمقراطية حديثة، ينعم فيها المواطنون بحق الاختلاف الموازي لحرياتهم الفكرية والسياسية والاعتقادية والناتج عن إيمانهم بمذاهب سياسية وفكرية ومنهجية تؤكد وحدة المعمورة الإنسانية، فتضيف إلى الليبرالية صفة العقلانية بوصفها المقياس الذي لا يتخلى عنه العقل في نظرته إلى الأشياء والبشر، كما تضيف إليها صفة الإنسانية التي لا تفارق مضمون الليبرالية نفسها من حيث هي مذهب يؤكد المساواة بين البشر جميعاً، ويراعي حقوقهم في الحياة الحرة في التنوع الثقافي والبشري الخلاق في الوقت نفسه. لكن هذه النظرة يمكن أن نأخذ عليها ما تنطوي عليه من وضعية بالغة، انتهى الأمر بها إلى الإسراف في المقياس الوضعي بمعناه الاجتماعي فجعل من البشرية نسخة واحدة ونموذجاً واحداً، وذلك بما ينفي مبدأ التنوع الخلاق الذي تنهض عليه حتى المفاهيم الليبرالية المعاصرة. 

وحدة الظواهر الإنسانية
فالمؤكد أن وحدة الظواهر الإنسانية لا تعني التطابق الحرفي بينها، كما لا تعني أن كل تجربة إنسانية تتخذ هذه السمة الوضعية اللاإنسانية التي تجعلها بعيدة عن الزمان والمكان، وما يحققانه من خصوصية. ومن المؤكد أن وحدة الظواهر الإنسانية مسألة يمكن قبولها عقلاً، لكن هذا القبول لا يعني أن كل تجربة إنسانية هي نسخة من غيرها، ذلك لأن كل تجربة إنسانية تتعامد على التاريخ وتنبسط على الجغرافيا، وهذا يعني أن اختلاف ما يترتب على تنوع الزمان والمكان يضع بصماته على التجارب الإنسانية المختلفة، ولذلك فنحن نستخدم كلمة التنوع بين ظواهر الإنسانية وليس كلمة التشابه أو التطابق. ولكن يبدو أن دراسات طه حسين الأكاديمية في علوم الاجتماع التي كان يغلب عليها النزعة الوضعية التي أسسها «أوجست كونت» هي التي أدت إلى هذه النظرة الآلية التي جعلته يتصور أن ما ينطبق على الأدب العربي هو بعينه ما ينطبق على الأدب اليوناني، رغم اختلاف المكان والزمان وما يتركانه من خلاف نوعي بين الأدبين. 
صحيح أن الأدب العربي يمكن أن يشبه الأدب اليوناني القديم في هذه الظـــــاهرة أو تلك، ولكن ليس إلى الدرجة التي تجعل الأدبين خاضعين لقوانين واحدة تجعل كليهما صورة مرآوية للآخر. والأقرب إلى الصواب وإلى منطق العلم الاجتماعي المــــعاصر, أن نقــــــول إن الأدبين يتشابهان في دائرة التنوع البشري الخلاق التي لا تعني حرفية أو مرآوية التشابه بالضرورة. ولذلك فنحن لا ننجرف إلى هذه المقارنات الوضعية الآلية، وإنما ننظر إلى دائرة التأثر والتأثير في الآداب العالمية من منظور أوسع، ومن منظور التنوع البشري والثقافي الخلاق، وهو منظور يتعامد على مفهوم الزمان والمكان، حيث يجعلان وضع الأدب عند كل أمة مغايراً لنظيره عند غيرها مهما تعددت المشابهات التي لن تختفي بالقطع، ولا يمكن أن ينفيها عقل ■