«الفتى المتيم والمعلم»
لعل المتابع لأعمال الكاتبة التركية إليف شافاق، يعرف تميّز هذه الأعمال بالأسلوب الممتع واهتمامها بأدق التفاصيل، وتقديمها التاريخ على طبق الأدب، التاريخ الذي يصبح عالماً خيالياً ملوناً.
وفي روايتها الجديدة «الفتى المتيم والمعلم»، تنقلنا الكاتبة لعالم ألف ليلة وليلة، في رواية تجمع بين الواقع الملموس وعالم التناقضات والتخيلات، بين كل ما هو غامض وكل ما هو سحري، ونجحت إليف شافاق في خلق طريقة أكثر مرونة للسرد؛ من خلال منظورات وتصورات جديدة، وذلك بفضل تقنيات خاصة بها، بالمزج بين صرامة التاريخ ودقته، وتحررها من القيود التاريخية والنظرية، وفي اعتقادي أن سر تفرُّدها في هذه التقنية هو تحليقها دائماً في عالمها السحري الخاص.
في حوار تلفزيوني أجري معها، اعترفت بأنها تخلق لنفسها عالماً سحريّاً ملوناً منذ أن كانت طفلة وحيدة في هذا العالم الشاسع المحيط بها، وهو عالم كئيب بالأبيض والأسود، ومن خلال الكتابة تمكنت الكاتبة من اصطحاب القراء معها إلى عالمها التخيلي، حيث لا يمكن لمن يقرأ أن يميز بين ما هو واقعي وما هو خيالي، ولهذا مزجت الكاتبة بين الحقائق التاريخية الثابتة بالخيال، وقد ساعدت أيضاً الحقبة الزمنية التي تدور فيها أحداث الرواية على وقوع القارئ في هذا الفخ، حيث إن أحداثها الواقعية الثابتة أساساً كانت تخرج عن إطار المنطق والعقل، وتدور الرواية في زمن السلطنة العثمانية، وهي في أوج قوتها وعزتها، في عهد السلطان سليمان القانوني، وسليم الثاني، ومراد الثالث.
أبدعت شافاق في خلق أماكن مدهشة، فصوَّرت اسطنبول - المدينة التي تدور فيها أحداث العمل - كإحدى المدن الأسطورية، بجغرافيتها وتضاريسها وأنهارها وطقسها ودماثة وغرابة طباع أهلها، وتنوع جنسياتهم واختلاف ألسنتهم، وقصور سلاطينها وعالم الحريم الخفي، وحيواناتها العملاقة والحروب المدمرة، بالإضافة للسحر والشعوذة.
تقول الكاتبة عن اسطنبول «إلى أي حد كانت تشبه هذه المدينة أصحابها وسكانها، وفي سبيل حكمها كان الابن يقتل أباه، والأب يقتل ابنه، والأخ يقتل أخاه، وتدور المكائد، وتحاك الخطط والمؤامرات في دهاليز الحرملك، حتى الابنة خانت أباها».
إن كانت الكاتبة تمتاز بخيال خصب، فقد منحت عملها هذا قسطاً وافراً منه، كما أن ما حدث حقّاً خلال هذه الفترة في التاريخ العثماني يعد ضرباً من ضروب الخيال.
افتتحت الروائية عملها بمشهد غاية في الإثارة والعنف، ومن لا يعلم أن هذا المشهد هو جزء من الواقع يحدث بالفعل، فسيظن أن الكاتبة تملك خيالاً دمويّاً ومرعباً، ولكن - مع الأسف - هذه كانت عادة متبعة في أروقة البلاط العثماني، وهي قتل إخوة السلطان الجديد مع بداية الحكم، والتخلص منهم حتى لا ينازعوا السلطان في حكمه، ووصفت لنا الكاتبة كيف تم قتل إخوة السلطان مراد الخمسة على يد مجموعة من الصم والبكم، الموكل إليهم تنفيذ أوامر الذبح والقتل، وقد وقع الحادث تحت أنظار جيهان، الذي شهده عنوة من خلف الستار.
جيهان هو بطل الرواية، وواحد من الشخصيات الغرائبية، صورته الكاتبة كأحد شخوص «ألف ليلة وليلة»، تلك الشخوص التي لا تموت ولا تقهر ولا تشيخ، وهكذا يراه القارئ وقد نجا من الغرق مرة، ومن القتل أخرى، واستطاع أيضاً أن ينجو من جميع المكائد التي كانت تُحاك له بمهارة فائقة، ووصفته لنا الكاتبة وصفاً منفرداً، قائلة: «هذا الصبي النحيل كقضيب خيزران، بقامة لا تشكو طولاً ولا قصراً، ببسمة ساحرة، وغمازة في الخد الأيسر، كإصبع خباز في قرص عجين».
إنه الفتى، مروّض الفيل، الذي نعيش معه قصة شائقة منذ ركوبه السفينة بصحبة فيله الأبيض الصغير، الذي أرسله حاكم الهند هدية للسلطان العثماني، وكان للفيل المسمى «شوتا» دور كبير في الرواية، إذ يشارك في الحروب والغزوات، وأعمال البناء، والعروض والاحتفالات ويحمل فوق ظهره السلطان، وينقل الأميرات.
ووضع الفيل في قفص كبير بإسطبل القصر، استخدم الذهب والفضة في لحام أركانه، وزينت قضبانه بالورد والشراريب، وارتبط البطل بعلاقة قوية مع فيله الأبيض، علاقة لم تنتهِ حتى بموت الفيل، فقد سلمت جثته لطبيب إيطالي لتشريحها، وبعد أن شرَّح جثة الفيل، أهدى نابه لجيهان، وعندما ذهب ليدفنه، جلس يبكي بحرقة على شاهد قبره، فلمحه أحد المارة وسأله عن هوية الميت العزيز عليه لهذا الحد، فأوهمه أنه رجل صالح له كرامات، ومن ثم انتشرت الشائعة في البلاد، وأصبح ناب الفيل مقاماً لولي مجهول ذي كرامات، واعتاد الناس على زيارته للتبرك به!
تستعرض الرواية - في المقام الأول - حياة وأعمال المعماري الشهير يوسف بن خضر بن جلال الدين الحنفي، المعروف بمعمار خواجة سنان، الذي قام بتشييد أروع الأبنية العثمانية من مساجد، وحمامات، وجسور، وسواها، وكان له آلاف العمال، والصناع، والمهرة، وأربعة تلاميذ: أحمد آغا، وداود آغا، ويتيم بابا علي، وسنان الصغير باشا... هذه الحياة الطويلة التي استمرت قرابة المائة عام، عاصر فيها خمسة من أكبر سلاطين المملكة العثمانية.
ويعد سنان باشا واحداً من أشهر معماريي التاريخ الإسلامي، فقد أشرف وخطط وهندس بناء عدد كبير من المساجد الشهيرة والقصور والمدن بمصاحبة تلامذته، ومع ذلك فلا يمكننا أن نصنف هذا العمل كسيرة ذاتية للمعلم سنان، على الرغم من أن الكتاب يذكر تفاصيل حياته وأعماله؛ سواء التي قام بها بنفسه، أو تلك التي أشرف عليها، وتخطيطه للمدن والقرى، وكيف وضع السلطان رقبته أمام فشله في مشروع القنطرة وتوصيل المياه لمدينة اسطنبول، فكل الشخصيات، حتى لو كانت لها جذور تاريخية، تأخذ طابعاً تخيلياً في العمل.
أقحمت الروائية بعض الأحداث التي ليس لها صحة تاريخية؛ لتضفي على عملها هذا اللون الخيالي الساحر، وبدلت من التواريخ حتى تستطيع ملاحقة الأحداث الطويلة، فبطل العمل الفتى الهندي الذي وجدناه قد شارك في بناء المساجد، وصحب السلطان سليم في رحلته عبر شوارع اسطنبول ليلا، وأقنع السلطان مراد ببناء القناطر في أنحاء اسطنبول وتوصيل مياه الشرب النظيفة إلى البيوت، لم تأتِ سيرته في كتب التاريخ، وأصبح محل لبس، هل هو شخصية خيالية من صنع الروائية؟ أو شخصية حقيقية؟! وأيضا ترك خلفه تساؤلاً كبيراً، فعلى الرغم من المكانة التي حصل عليها الفتى في البلاط العثماني، والمركز الذي وصل له كمعماري بارع، وواحد من تلامذة المعلم سنان، فإنه ظل ينام في الإسطبل منذ قدومه للبلاد وطوال ترقيه في سلم الرتب، فهل قصدت الكاتبة أن تجعل بطلها متقشفاً زاهداً في كل شيء، وإلا لماذا لم يمنحه سلطان من هؤلاء مكانة مرموقة تليق به كواحد من معماريي البلاط الملكي، وهم الذين يعشقون الأبهة والفخامة؟
وجاءت أحداث الرواية سريعة ومتلاحقة، تحكي زمناً طويلاً، ممتدّاً بتفاصيله وأحداثه الكبيرة والصغيرة، لكن الحبكة الدرامية جاءت متقنة، وهذه هي عبقرية الكاتبة التي ألمت بكل هذا، وقدمت لنا الأحداث بشكل مفصل وموسع دون كلل أو ملل، في وريقات قليلة، وهي التي تحتاج لمجلدات.
كما أن الكاتبة خصصت جزءاً كبيراً من عملها لوصف الفتوحات والحروب التي خاضتها الإمبراطورية العثمانية في هذا الوقت، وأفردت جزءاً أكبر للمكائد التي تحدث في عالم الحريم ودهاليزه المعتمة.
وكعادتها، لم يخلُ عمل شافاق من هذا الحس الصوفي الذي يتغلغل في كلماتها وعباراتها، فنصائح المعلم سنان لتلاميذه ﻻ تخلو من النهج الصوفي والتأملات الروحية، وإحساسه المتفرّد بالمكان والزمان: «نحن لا نشيِّد المباني التي تطفو في فضاء خاوٍ، بل نعكس انسجام الطبيعة وروح المكان».
وتقول الكاتبة إن فكرة العمل جاءتها بمحض الصدفة «هناك أعمال نختارها لنكتب عنها... وهناك روايات تختارنا لنكتبها»، إن فكرة العمل جاءتها بمحض الصدفة وهذا تماما ما حدث معها، عندما كانت عالقة في تاكسي بسبب الزحام في أحد شوارع إسطنبول، وكان مسجد ملا جلبي وهو من بدائع سنان أمامها تماما، فأخذت تتأمل في جمال معماره، ثم وقع نظرها على فتى غجري يقف أمام المسجد، فألهمها المشهد بفكرة العمل، ثم بعد عودتها للندن - مقر إقامتها - سرعان ما نسيتها، وبعدها بأشهر عدة تسلمت من البريد كتاب «عصر سنان، الثقافة المعمارية في الامبراطورية العثمانية» الذي يحكي معمار المساجد في اسطنبول، فاشتعلت الفكرة في رأسها مرة أخرى.
وإليف شافاق التي قالت «النساء يملكن قدرة على حكي القصص»... نجحت في أن تمتعنا بحكي المئات من القصص في رواية واحدة ■