«الفتى المتيم والمعلم»

 «الفتى المتيم والمعلم»

لعل‭ ‬المتابع‭ ‬لأعمال‭ ‬الكاتبة‭ ‬التركية‭ ‬إليف‭ ‬شافاق،‭ ‬يعرف‭ ‬تميّز‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬بالأسلوب‭ ‬الممتع‭ ‬واهتمامها‭ ‬بأدق‭ ‬التفاصيل،‭ ‬وتقديمها‭ ‬التاريخ‭ ‬على‭ ‬طبق‭ ‬الأدب،‭ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬يصبح‭ ‬عالماً‭ ‬خيالياً‭ ‬ملوناً‭.‬

وفي‭ ‬روايتها‭ ‬الجديدة‭ ‬‮«‬الفتى‭ ‬المتيم‭ ‬والمعلم‮»‬،‭ ‬تنقلنا‭ ‬الكاتبة‭ ‬لعالم‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬الملموس‭ ‬وعالم‭ ‬التناقضات‭ ‬والتخيلات،‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬غامض‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سحري،‭ ‬ونجحت‭ ‬إليف‭ ‬شافاق‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬طريقة‭ ‬أكثر‭ ‬مرونة‭ ‬للسرد؛‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منظورات‭ ‬وتصورات‭ ‬جديدة،‭ ‬وذلك‭ ‬بفضل‭ ‬تقنيات‭ ‬خاصة‭ ‬بها،‭ ‬بالمزج‭ ‬بين‭ ‬صرامة‭ ‬التاريخ‭ ‬ودقته،‭ ‬وتحررها‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬التاريخية‭ ‬والنظرية،‭ ‬وفي‭ ‬اعتقادي‭ ‬أن‭ ‬سر‭ ‬تفرُّدها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬هو‭ ‬تحليقها‭ ‬دائماً‭ ‬في‭ ‬عالمها‭ ‬السحري‭ ‬الخاص‭. ‬

في‭ ‬حوار‭ ‬تلفزيوني‭ ‬أجري‭ ‬معها،‭ ‬اعترفت‭ ‬بأنها‭ ‬تخلق‭ ‬لنفسها‭ ‬عالماً‭ ‬سحريّاً‭ ‬ملوناً‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬طفلة‭ ‬وحيدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الشاسع‭ ‬المحيط‭ ‬بها،‭ ‬وهو‭ ‬عالم‭ ‬كئيب‭ ‬بالأبيض‭ ‬والأسود،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬الكتابة‭ ‬تمكنت‭ ‬الكاتبة‭ ‬من‭ ‬اصطحاب‭ ‬القراء‭ ‬معها‭ ‬إلى‭ ‬عالمها‭ ‬التخيلي،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لمن‭ ‬يقرأ‭ ‬أن‭ ‬يميز‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬واقعي‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬خيالي،‭ ‬ولهذا‭ ‬مزجت‭ ‬الكاتبة‭ ‬بين‭ ‬الحقائق‭ ‬التاريخية‭ ‬الثابتة‭ ‬بالخيال،‭ ‬وقد‭ ‬ساعدت‭ ‬أيضاً‭ ‬الحقبة‭ ‬الزمنية‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬فيها‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬وقوع‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفخ،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬أحداثها‭ ‬الواقعية‭ ‬الثابتة‭ ‬أساساً‭ ‬كانت‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬إطار‭ ‬المنطق‭ ‬والعقل،‭ ‬وتدور‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬السلطنة‭ ‬العثمانية،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬قوتها‭ ‬وعزتها،‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬السلطان‭ ‬سليمان‭ ‬القانوني،‭ ‬وسليم‭ ‬الثاني،‭ ‬ومراد‭ ‬الثالث‭.‬

أبدعت‭ ‬شافاق‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬أماكن‭ ‬مدهشة،‭ ‬فصوَّرت‭ ‬اسطنبول‭ - ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬فيها‭ ‬أحداث‭ ‬العمل‭ - ‬كإحدى‭ ‬المدن‭ ‬الأسطورية،‭ ‬بجغرافيتها‭ ‬وتضاريسها‭ ‬وأنهارها‭ ‬وطقسها‭ ‬ودماثة‭ ‬وغرابة‭ ‬طباع‭ ‬أهلها،‭ ‬وتنوع‭ ‬جنسياتهم‭ ‬واختلاف‭ ‬ألسنتهم،‭ ‬وقصور‭ ‬سلاطينها‭ ‬وعالم‭ ‬الحريم‭ ‬الخفي،‭ ‬وحيواناتها‭ ‬العملاقة‭ ‬والحروب‭ ‬المدمرة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬للسحر‭ ‬والشعوذة‭. ‬

تقول‭ ‬الكاتبة‭ ‬عن‭ ‬اسطنبول‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬كانت‭ ‬تشبه‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬أصحابها‭ ‬وسكانها،‭ ‬وفي‭ ‬سبيل‭ ‬حكمها‭ ‬كان‭ ‬الابن‭ ‬يقتل‭ ‬أباه،‭ ‬والأب‭ ‬يقتل‭ ‬ابنه،‭ ‬والأخ‭ ‬يقتل‭ ‬أخاه،‭ ‬وتدور‭ ‬المكائد،‭ ‬وتحاك‭ ‬الخطط‭ ‬والمؤامرات‭ ‬في‭ ‬دهاليز‭ ‬الحرملك،‭ ‬حتى‭ ‬الابنة‭ ‬خانت‭ ‬أباها‮»‬‭.‬

إن‭ ‬كانت‭ ‬الكاتبة‭ ‬تمتاز‭ ‬بخيال‭ ‬خصب،‭ ‬فقد‭ ‬منحت‭ ‬عملها‭ ‬هذا‭ ‬قسطاً‭ ‬وافراً‭ ‬منه،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬حقّاً‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬العثماني‭ ‬يعد‭ ‬ضرباً‭ ‬من‭ ‬ضروب‭ ‬الخيال‭. ‬

افتتحت‭ ‬الروائية‭ ‬عملها‭ ‬بمشهد‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الإثارة‭ ‬والعنف،‭ ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬هو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬يحدث‭ ‬بالفعل،‭ ‬فسيظن‭ ‬أن‭ ‬الكاتبة‭ ‬تملك‭ ‬خيالاً‭ ‬دمويّاً‭ ‬ومرعباً،‭ ‬ولكن‭ - ‬مع‭ ‬الأسف‭ - ‬هذه‭ ‬كانت‭ ‬عادة‭ ‬متبعة‭ ‬في‭ ‬أروقة‭ ‬البلاط‭ ‬العثماني،‭ ‬وهي‭ ‬قتل‭ ‬إخوة‭ ‬السلطان‭ ‬الجديد‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬الحكم،‭ ‬والتخلص‭ ‬منهم‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬ينازعوا‭ ‬السلطان‭ ‬في‭ ‬حكمه،‭ ‬ووصفت‭ ‬لنا‭ ‬الكاتبة‭ ‬كيف‭ ‬تم‭ ‬قتل‭ ‬إخوة‭ ‬السلطان‭ ‬مراد‭ ‬الخمسة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الصم‭ ‬والبكم،‭ ‬الموكل‭ ‬إليهم‭ ‬تنفيذ‭ ‬أوامر‭ ‬الذبح‭ ‬والقتل،‭ ‬وقد‭ ‬وقع‭ ‬الحادث‭ ‬تحت‭ ‬أنظار‭ ‬جيهان،‭ ‬الذي‭ ‬شهده‭ ‬عنوة‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬الستار‭. ‬

جيهان‭ ‬هو‭ ‬بطل‭ ‬الرواية،‭ ‬وواحد‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬الغرائبية،‭ ‬صورته‭ ‬الكاتبة‭ ‬كأحد‭ ‬شخوص‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬،‭ ‬تلك‭ ‬الشخوص‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تموت‭ ‬ولا‭ ‬تقهر‭ ‬ولا‭ ‬تشيخ،‭ ‬وهكذا‭ ‬يراه‭ ‬القارئ‭ ‬وقد‭ ‬نجا‭ ‬من‭ ‬الغرق‭ ‬مرة،‭ ‬ومن‭ ‬القتل‭ ‬أخرى،‭ ‬واستطاع‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬ينجو‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬المكائد‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُحاك‭ ‬له‭ ‬بمهارة‭ ‬فائقة،‭ ‬ووصفته‭ ‬لنا‭ ‬الكاتبة‭ ‬وصفاً‭ ‬منفرداً،‭ ‬قائلة‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬الصبي‭ ‬النحيل‭ ‬كقضيب‭ ‬خيزران،‭ ‬بقامة‭ ‬لا‭ ‬تشكو‭ ‬طولاً‭ ‬ولا‭ ‬قصراً،‭ ‬ببسمة‭ ‬ساحرة،‭ ‬وغمازة‭ ‬في‭ ‬الخد‭ ‬الأيسر،‭ ‬كإصبع‭ ‬خباز‭ ‬في‭ ‬قرص‭ ‬عجين‮»‬‭. ‬

إنه‭ ‬الفتى،‭ ‬مروّض‭ ‬الفيل،‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬معه‭ ‬قصة‭ ‬شائقة‭ ‬منذ‭ ‬ركوبه‭ ‬السفينة‭ ‬بصحبة‭ ‬فيله‭ ‬الأبيض‭ ‬الصغير،‭ ‬الذي‭ ‬أرسله‭ ‬حاكم‭ ‬الهند‭ ‬هدية‭ ‬للسلطان‭ ‬العثماني،‭ ‬وكان‭ ‬للفيل‭ ‬المسمى‭ ‬‮«‬شوتا‮»‬‭ ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬إذ‭ ‬يشارك‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬والغزوات،‭ ‬وأعمال‭ ‬البناء،‭ ‬والعروض‭ ‬والاحتفالات‭ ‬ويحمل‭ ‬فوق‭ ‬ظهره‭ ‬السلطان،‭ ‬وينقل‭ ‬الأميرات‭. ‬

ووضع‭ ‬الفيل‭ ‬في‭ ‬قفص‭ ‬كبير‭ ‬بإسطبل‭ ‬القصر،‭ ‬استخدم‭ ‬الذهب‭ ‬والفضة‭ ‬في‭ ‬لحام‭ ‬أركانه،‭ ‬وزينت‭ ‬قضبانه‭ ‬بالورد‭ ‬والشراريب،‭ ‬وارتبط‭ ‬البطل‭ ‬بعلاقة‭ ‬قوية‭ ‬مع‭ ‬فيله‭ ‬الأبيض،‭ ‬علاقة‭ ‬لم‭ ‬تنتهِ‭ ‬حتى‭ ‬بموت‭ ‬الفيل،‭ ‬فقد‭ ‬سلمت‭ ‬جثته‭ ‬لطبيب‭ ‬إيطالي‭ ‬لتشريحها،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬شرَّح‭ ‬جثة‭ ‬الفيل،‭ ‬أهدى‭ ‬نابه‭ ‬لجيهان،‭ ‬وعندما‭ ‬ذهب‭ ‬ليدفنه،‭ ‬جلس‭ ‬يبكي‭ ‬بحرقة‭ ‬على‭ ‬شاهد‭ ‬قبره،‭ ‬فلمحه‭ ‬أحد‭ ‬المارة‭ ‬وسأله‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬الميت‭ ‬العزيز‭ ‬عليه‭ ‬لهذا‭ ‬الحد،‭ ‬فأوهمه‭ ‬أنه‭ ‬رجل‭ ‬صالح‭ ‬له‭ ‬كرامات،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬انتشرت‭ ‬الشائعة‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬وأصبح‭ ‬ناب‭ ‬الفيل‭ ‬مقاماً‭ ‬لولي‭ ‬مجهول‭ ‬ذي‭ ‬كرامات،‭ ‬واعتاد‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬زيارته‭ ‬للتبرك‭ ‬به‭!‬

تستعرض‭ ‬الرواية‭ - ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭ - ‬حياة‭ ‬وأعمال‭ ‬المعماري‭ ‬الشهير‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬خضر‭ ‬بن‭ ‬جلال‭ ‬الدين‭ ‬الحنفي،‭ ‬المعروف‭ ‬بمعمار‭ ‬خواجة‭ ‬سنان،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بتشييد‭ ‬أروع‭ ‬الأبنية‭ ‬العثمانية‭ ‬من‭ ‬مساجد،‭ ‬وحمامات،‭ ‬وجسور،‭ ‬وسواها،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬آلاف‭ ‬العمال،‭ ‬والصناع،‭ ‬والمهرة،‭ ‬وأربعة‭ ‬تلاميذ‭: ‬أحمد‭ ‬آغا،‭ ‬وداود‭ ‬آغا،‭ ‬ويتيم‭ ‬بابا‭ ‬علي،‭ ‬وسنان‭ ‬الصغير‭ ‬باشا‭... ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬قرابة‭ ‬المائة‭ ‬عام،‭ ‬عاصر‭ ‬فيها‭ ‬خمسة‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬سلاطين‭ ‬المملكة‭ ‬العثمانية‭. ‬

ويعد‭ ‬سنان‭ ‬باشا‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬معماريي‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي،‭ ‬فقد‭ ‬أشرف‭ ‬وخطط‭ ‬وهندس‭ ‬بناء‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المساجد‭ ‬الشهيرة‭ ‬والقصور‭ ‬والمدن‭ ‬بمصاحبة‭ ‬تلامذته،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فلا‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نصنف‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬كسيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬للمعلم‭ ‬سنان،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬يذكر‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياته‭ ‬وأعماله؛‭ ‬سواء‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬بنفسه،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬أشرف‭ ‬عليها،‭ ‬وتخطيطه‭ ‬للمدن‭ ‬والقرى،‭ ‬وكيف‭ ‬وضع‭ ‬السلطان‭ ‬رقبته‭ ‬أمام‭ ‬فشله‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬القنطرة‭ ‬وتوصيل‭ ‬المياه‭ ‬لمدينة‭ ‬اسطنبول،‭ ‬فكل‭ ‬الشخصيات،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬جذور‭ ‬تاريخية،‭ ‬تأخذ‭ ‬طابعاً‭ ‬تخيلياً‭ ‬في‭ ‬العمل‭.‬

أقحمت‭ ‬الروائية‭ ‬بعض‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬صحة‭ ‬تاريخية؛‭ ‬لتضفي‭ ‬على‭ ‬عملها‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬الخيالي‭ ‬الساحر،‭ ‬وبدلت‭ ‬من‭ ‬التواريخ‭ ‬حتى‭ ‬تستطيع‭ ‬ملاحقة‭ ‬الأحداث‭ ‬الطويلة،‭ ‬فبطل‭ ‬العمل‭ ‬الفتى‭ ‬الهندي‭ ‬الذي‭ ‬وجدناه‭ ‬قد‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬المساجد،‭ ‬وصحب‭ ‬السلطان‭ ‬سليم‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬عبر‭ ‬شوارع‭ ‬اسطنبول‭ ‬ليلا،‭ ‬وأقنع‭ ‬السلطان‭ ‬مراد‭ ‬ببناء‭ ‬القناطر‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬اسطنبول‭ ‬وتوصيل‭ ‬مياه‭ ‬الشرب‭ ‬النظيفة‭ ‬إلى‭ ‬البيوت،‭ ‬لم‭ ‬تأتِ‭ ‬سيرته‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ،‭ ‬وأصبح‭ ‬محل‭ ‬لبس،‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬شخصية‭ ‬خيالية‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الروائية؟‭ ‬أو‭ ‬شخصية‭ ‬حقيقية؟‭! ‬وأيضا‭ ‬ترك‭ ‬خلفه‭ ‬تساؤلاً‭ ‬كبيراً،‭ ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬المكانة‭ ‬التي‭ ‬حصل‭ ‬عليها‭ ‬الفتى‭ ‬في‭ ‬البلاط‭ ‬العثماني،‭ ‬والمركز‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬له‭ ‬كمعماري‭ ‬بارع،‭ ‬وواحد‭ ‬من‭ ‬تلامذة‭ ‬المعلم‭ ‬سنان،‭ ‬فإنه‭ ‬ظل‭ ‬ينام‭ ‬في‭ ‬الإسطبل‭ ‬منذ‭ ‬قدومه‭ ‬للبلاد‭ ‬وطوال‭ ‬ترقيه‭ ‬في‭ ‬سلم‭ ‬الرتب،‭ ‬فهل‭ ‬قصدت‭ ‬الكاتبة‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬بطلها‭ ‬متقشفاً‭ ‬زاهداً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وإلا‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يمنحه‭ ‬سلطان‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬مكانة‭ ‬مرموقة‭ ‬تليق‭ ‬به‭ ‬كواحد‭ ‬من‭ ‬معماريي‭ ‬البلاط‭ ‬الملكي،‭ ‬وهم‭ ‬الذين‭ ‬يعشقون‭ ‬الأبهة‭ ‬والفخامة؟

وجاءت‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭ ‬سريعة‭ ‬ومتلاحقة،‭ ‬تحكي‭ ‬زمناً‭ ‬طويلاً،‭ ‬ممتدّاً‭ ‬بتفاصيله‭ ‬وأحداثه‭ ‬الكبيرة‭ ‬والصغيرة،‭ ‬لكن‭ ‬الحبكة‭ ‬الدرامية‭ ‬جاءت‭ ‬متقنة،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬عبقرية‭ ‬الكاتبة‭ ‬التي‭ ‬ألمت‭ ‬بكل‭ ‬هذا،‭ ‬وقدمت‭ ‬لنا‭ ‬الأحداث‭ ‬بشكل‭ ‬مفصل‭ ‬وموسع‭ ‬دون‭ ‬كلل‭ ‬أو‭ ‬ملل،‭ ‬في‭ ‬وريقات‭ ‬قليلة،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬لمجلدات‭. ‬

كما‭ ‬أن‭ ‬الكاتبة‭ ‬خصصت‭ ‬جزءاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬عملها‭ ‬لوصف‭ ‬الفتوحات‭ ‬والحروب‭ ‬التي‭ ‬خاضتها‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت،‭ ‬وأفردت‭ ‬جزءاً‭ ‬أكبر‭ ‬للمكائد‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الحريم‭ ‬ودهاليزه‭ ‬المعتمة‭. ‬

وكعادتها،‭ ‬لم‭ ‬يخلُ‭ ‬عمل‭ ‬شافاق‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الحس‭ ‬الصوفي‭ ‬الذي‭ ‬يتغلغل‭ ‬في‭ ‬كلماتها‭ ‬وعباراتها،‭ ‬فنصائح‭ ‬المعلم‭ ‬سنان‭ ‬لتلاميذه‭ ‬ﻻ‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬النهج‭ ‬الصوفي‭ ‬والتأملات‭ ‬الروحية،‭ ‬وإحساسه‭ ‬المتفرّد‭ ‬بالمكان‭ ‬والزمان‭: ‬‮«‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نشيِّد‭ ‬المباني‭ ‬التي‭ ‬تطفو‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬خاوٍ،‭ ‬بل‭ ‬نعكس‭ ‬انسجام‭ ‬الطبيعة‭ ‬وروح‭ ‬المكان‮»‬‭.‬

وتقول‭ ‬الكاتبة‭ ‬إن‭ ‬فكرة‭ ‬العمل‭ ‬جاءتها‭ ‬بمحض‭ ‬الصدفة‭ ‬‮«‬هناك‭ ‬أعمال‭ ‬نختارها‭ ‬لنكتب‭ ‬عنها‭... ‬وهناك‭ ‬روايات‭ ‬تختارنا‭ ‬لنكتبها‮»‬،‭ ‬إن‭ ‬فكرة‭ ‬العمل‭ ‬جاءتها‭ ‬بمحض‭ ‬الصدفة‭ ‬وهذا‭ ‬تماما‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬معها،‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬عالقة‭ ‬في‭ ‬تاكسي‭ ‬بسبب‭ ‬الزحام‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬شوارع‭ ‬إسطنبول،‭ ‬وكان‭ ‬مسجد‭ ‬ملا‭ ‬جلبي‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬بدائع‭ ‬سنان‭ ‬أمامها‭ ‬تماما،‭ ‬فأخذت‭ ‬تتأمل‭ ‬في‭ ‬جمال‭ ‬معماره،‭ ‬ثم‭ ‬وقع‭ ‬نظرها‭ ‬على‭ ‬فتى‭ ‬غجري‭ ‬يقف‭ ‬أمام‭ ‬المسجد،‭ ‬فألهمها‭ ‬المشهد‭ ‬بفكرة‭ ‬العمل،‭ ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬عودتها‭ ‬للندن‭ - ‬مقر‭ ‬إقامتها‭ - ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬نسيتها،‭ ‬وبعدها‭ ‬بأشهر‭ ‬عدة‭ ‬تسلمت‭ ‬من‭ ‬البريد‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬سنان،‭ ‬الثقافة‭ ‬المعمارية‭ ‬في‭ ‬الامبراطورية‭ ‬العثمانية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يحكي‭ ‬معمار‭ ‬المساجد‭ ‬في‭ ‬اسطنبول،‭ ‬فاشتعلت‭ ‬الفكرة‭ ‬في‭ ‬رأسها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭. ‬

وإليف‭ ‬شافاق‭ ‬التي‭ ‬قالت‭ ‬‮«‬النساء‭ ‬يملكن‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬حكي‭ ‬القصص‮»‬‭... ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تمتعنا‭ ‬بحكي‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬واحدة‭ ‬