شوقي و«النيل» بين «مَلِك الملوك» و«النّجاشي»

شوقي و«النيل» بين «مَلِك الملوك» و«النّجاشي»

فُتِنَ أحمد شوقي بالنيل، على عادة المصريين جميعاً، ورأى فيه إلهاماً متجدداً لشاعريته الجياشة، على مدار  حياته في كل مراحلها المختلفة، وتوقف أمامه كثيراً عاشقاً، ومتأملاً، ومتسائلاً، ومسترجعاً لذكريات وتواريخ، وعصور تعاقبت على مدى الزمان، ومستلهماً العبرة الماثلة والصورة الحية وعظمة الوجود والعطاء.

في مرحلة مبكرة من حياة شوقي - بعد عودته من منفاه في إسبانيا بسنوات عدة- التفت إلى رعاية الموهبة الغنائية الشابة، التي تنبأ لها ورأى فيها سطوع الفن متمثلة في الـمُغنِّي محمد عبدالوهاب، ومن أجله فعل شوقي ما لم يفعله من قبل أو من بعد، فقد كتب له عدداً من الأغنيات بالعامية المصرية، خارجاً على طبيعته الشعرية التي اقترنت بجمال الفصحى وجلالها، واستمع الناس إلى المطرب الشاب يغرد بصوته البلبلي أغنيات شوقي: بلبل حيران، وفي الليل لما خلي، والنيل نجاشي، وغيرها. وهو ما أدّى إلى ذيوع صيت المطرب الشاب، الذي كانت كلمات شوقي التي تتردد على شفتيه، جناحه الـمُحَلِّق في آفاق الشهرة واكتشاف إمكانات هذا الصوت العبقري الشاب الذي راهن عليه شوقي.
وكان اللافت للانتباه – ومايزال – بدء شوقي لقصيدته العامية عن النيل بقوله: «النيل نجاشي». والنجاشي لقب لملوك الحبشة في عهدها القديم، لكن الاسم انتقل إلى الذاكرة العربية واستقر فيها عندما حدثت أول هجرة إسلامية إلى الحبشة، عندما أُمر المسلمون – الذين لاقوا وجوه العنت وصنوف العذاب على أيدي قريش في مكة - بالهجرة إلى الحبشة، لأن فيها – كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم – ملكاً مسيحيّاً يعرف الله ويوحّده وسيلقى المسلمون المهاجرون إلى بلاده الحفاوة والترحيب، لأنهم أصحاب دين جديد يؤمن بالتوحيد ويدعو إليه.
وهكذا أصبح النجاشي رمزاً للتسامح والتعايش بين الأديان، والبعد عن التعصب الذي تنفر منه طبيعته ومسيحيته. ويلتقط شوقي هذا الموقف المأثور عن النجاشي ليطلقه على النيل، القادم من الحبشة – بلد هذا الحاكم الذي لن ينساه المسلمون – وقد رأى في النيل صنْواً لهذا المسيحيّ الذي رعى من أوى إليه من المسلمين، فهو بدوره تعيش على ضفَّتيه وترتوي بمياهه وتنهل من خيراته شعوب إسلامية ومسيحية، دون تفرقة أو تعصب.
واستطاع شوقي أن ينقلنا إلى أجواء هذه الذكريات البعيدة بجملة واحدة جعلها افتتاحية قصيدته، وتتكون من كلمتين اثنتين لا غير: النيل نجاشي.
النيل نجاشي، حليوه واسمَرْ
عَجبْ للونه، دهب ومرمرْ
أرغوله في إيده، يسبّح لسيده
حياة بلادنا، يا ربّ زيده
قبل قصيدة «النجاشي» - التي تغنى بها محمد عبدالوهاب، وصنع لها لحناً تصويريّاً بديعاً – بأكثر من عشرين عاماً، كان شوقي قد عاد من المنفى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبنى داره المطلة على النيل في منطقة الجيزة وسماها «كرمة ابن هانئ» تعبيراً عن تقديره ومحبته لشاعرية أبي نواس: «الحسن بن هانئ»، وأصبحت إطلالته على النيل صباح مساء طقساً يوميّاً، يبارك حياته ويملؤها بهجة وتأملاً واسترجاعاً لتواريخ وذكريات. مستشهداً بقول الشاعر:
إذا كنت في مصرٍ ولم تكُ ساكناً
على نيلها الجاري فما أنت في مصرِ
وقبل هذا التاريخ بسنوات عدة، كان شوقي مندوباً عن الحكومة المصرية في أحد مؤتمرات المستشرقين الدولية، الذي انعقد بمدينة جنيف في سبتمبر سنة 1896، ثم شارك في مؤتمرات بعده، التقى في أحدها بأستاذ كبير من المستشرقين – كما كانوا يسمَّون في ذلك الوقت، أما الآن فيؤثرون كلمة «المستعربين» – وهو العلامة مرجليوث أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد، وقامت بين الرجلين مودة حميمة، جعلت شوقي يؤثره بقصيدته البديعة عن «النيل» التي أنجزها إبّان الحرب العالمية الأولى، ويهديها إليه مذكّراً بالأيام الجميلة والذكريات المشتركة بينهما في مدينة «أثينا» مدينة الحكمة في الدهور الخالية، وكان ذلك كما يقول شوقي: «والحوادث أجنّة، والأمور في أحسن الأعنّة، والأرض بالسلم مطمئنة، مغتبطة بسلامة الشباب، منبسطة بتلاقي الأحباب، والصفو في الدار والأكدار بالباب».
ثم يقول شوقي مخاطباً مرجليوث: «الشعر كالأحلام تُدخل على المسرور الكرى، وتكثُر على المحزون في السُّرى. وقريحة الشاعر كعين صاحب الأيام، عندها للحزن عَبرة، وللسرور عِبرة. وهذه – أيها الأستاذ الكريم – كلمة قيلت والهموم سارية، والأقدار بالمخاوف جارية، والدموع متبارية، وذئاب البشر يقتتلون على الفانية. نظمْتُها تغنِّياً بمحاسن الماضي، وتقييداً لمآثر الآباء، وقضاءً لحقِّ «النيل» الأسعد الأمجد، ونسبتُها إليك، عرفاناً بفضلك على لغة العرب، وما أنفقْت من شباب وكهولة في إحياء علومها ونشر آدابها، وإلقائها كلما طلعت الشمس خلف الضباب دروساً نافعة على أنبل شباب العصر، في أعظم جامعات العالم، فلعلَّها تقع إليك، فنتذاكر على النوى تلك الأيام، ونتنادم من بُعدٍ على بساط الأدب والكلام، ونسأل الله أن يحقن الدماء، ويقيم جدار السلام».
والغريب أن شوقي لم يرسل إلى مرجليوث قصيدة عن تأثير الحرب العالمية ووقعها على النفوس، لكنه آثر أن يبعث إليه بقصيدة تتكلم عن الحياة «مُمثَّلةً» في النيل، وعن «السلام» الذي يعمّ من يعيشون على ضفتيه وينهلون من مائه وخيراته، وعن الخلود الذي يجعل من النيل حقيقة كونية راسخة، لا تفنى ولا تزول، في وجه حروب من صنع الإنسان تأخذ وقتها ثم تزول؛ وعن الديانات التي قامت في واديه، والتقى من يعبدون الله تحت رايات موسى وعيسى ومحمد. نعم، اختار شوقي أن تكون رسالته الشعرية تمجيداً للحياة، وعظمة الكون، ولعن الدمار والخراب الذي تُسبِّبه الحروب.
يقول شوقي:
من أيّ عهدٍ في القرى تتدفقُ
وبأيّ كفٍّ في المدائن تُغدقُ (1)
ومن السماء نزلْتَ، أم فُجّرتَ من
عُليا الجنان جداولاً تترقرقُ؟
وبأيّ عينٍ، أم بأية مُزْنةٍ
أم أيّ طوفانِ تفيض وتفهقُ؟ (2)
وبأيّ نوْلٍ أنت ناسجُ بُردةٍ
للضّفتَين، جديدُها لا يخْلَقُ؟ (3)
تسودُّ ديباجاً إذا فارقْتَها
فإذا حضرْتَ اخضوضر الإستبرقُ (4)
في كلّ آونةً تُبَدَّل صبغةً
عجباً، وأنت الصابغُ المتأنقُ (5)
أتت الدهور عليْكَ، مهدُك مُترعٌ
وحياضُك الشُّرْقُ الشهيةُ دُفّقُ (6)
تسقي وتطعم، لا إناؤك ضائقٌ
بالواردين، ولا خِوانُك ينفُقُ (7)
والماء تسكبهُ فيُسْبكُ عسجداً
والأرضُ تُغرقها فيحيا الـمُغْرقُ (8)
تُعيي منابعُك العقول، ويستوي
مُتخبطٌ في علمها ومُحقّقُ
أَخَلقْتَ راووق الدهور، ولم تزلْ
بك حمأةٌ كالمسكِ، لا تتروّقُ (9)
حمراءُ في الأحواضِ، إلا أنها
بيضاءُ في عُنق الثرى، تتألقُ
دين الأوائل فيك دينُ مروءةٍ
لم لا يُؤلّهُ من يقوتُ ويرزقُ؟
لو أنَّ مخلوقاً يُؤلَّهُ، لم تكن
لسواك مرتبةُ الألوهة تُخلقُ
جعلوا الهوى لك والوقار عبادةً
إنّ العبادة خشيةٌ وتعلُّقُ
دانوا ببحرٍ بالمكارم زاخرٍ
عذْبِ المشارع، مدُّه لا يُلحقُ
متقيّدٍ بعهوده ووعودهِ
يجري على سَنن الوفاءِ ويصدقُ (10)
يتقبّل الوادي الحياة كريمةً
من راحتيْكَ، عميقةً تتدفقُ
مُتقلّبُ الجنبيْن في نعْمائهِ
يَعْرَى ويُصبغُ في نداك، فيورِقُ (11)
فتبيتُ خِصْباً في ثراهُ ونعمةً
ويعمُّهُ ماءُ الحياة الموُسِقُ (12)
وإليك – بعد الله – يرجعُ تحتهُ
ما جفَّ، أو ما مات، أو ما ينفقُ
ثم تحين التفاتة من شوقي – المولع دوماً بالتاريخ– إلى الفراعنة وعهودهم القديمة، وتأثيرهم الحضاريّ في الدنيا من حولهم، وميراثهم للأبناء والأحفــــاد من بعدهـــم، فيقول:
أين الفراعنةُ الأُلى استذرى بهم
عيسى وموسى والكليم الـمُصْعَقُ (13)
الموردون الناس منهل حكمةٍ
أفضى إليه الأنبياءُ ليستقوا
الرافعون إلى الضحى آباءهم
فالشمسُ أصلهمو الوضيءُ الـمُعْرِقُ (14)
وكأنما بين البلى وقبورهم
عهدٌ على ألَّا مساس وموثقُ
فحجابهم تحت الثرى من هيبةٍ
كحجابهم فوق الثرى لا يُحرقُ
بلغوا الحقيقة من حياةٍ، علْمُها
حُجُبٌ مكثَّفةٌ، وسرٌّ مُغلقُ
وتبينوا معنى الوجود، فلم يروْا
دون الخلود سعادةً تتحققُ
يبنون للدنيا كما تبني لهم
خِرباً، غرابُ البين فيها ينعقُ
فقصورهم كوخٌ وبيتُ بداوةٍ
وقبورُهم صرحٌ أَشمُّ، وجوْسقُ (15)
رفعوا لها من جندلٍ وصفائحٍ
عمداً، فكانت حائطاً لا  يُنتقُ (16)
تتشايع الداران فيه، فما بدا
دنيا، وما لم يبْدُ أُخرى تصدقُ
للموت سرٌّ تحته، وجداره
سورٌ على السرِّ الخفيِّ، وخندقُ
وكأن منزلهم بأعماق الثرى
بين المحلة والمحلة فندقُ (17)
موفورة تحت الثرى أزوادهم
رحبٌ بهم بين الكهوفِ الـمُطبقُ
ولمن هياكل قد علا الباَني بها
بين الثريا والثرى تتنسَّقُ؟
منها المشيّدُ كالبروج، وبعضُها
كالطودِ مضطجعٌ أَشمُّ مُنطّقُ
جُدُدٌ كأول عهدها، وحيالها
تتقادمُ الأرضُ الفضاءُ، وتعْتقُ
من كلّ ثِقْلٍ كاهلُ الدنيا به
تعِبٌ، ووجه الأرض عنه ضيّقُ
عالٍ على باع البِلى، لا يهتدي (18)
ما يعتلى منه، وما يتسلّقُ
متمكن كالطود أصلاً في الثرى
والفرعُ في حرم السماء مُحلِّقُ
هي من بناء الظلم، إلا أنه
يبيضُّ وجهُ الأرض منه ويُشرقُ
لم يُرهق الأممَ الملوكُ بمثلها
فخراً لهم يبقى، وذكراً يعبقُ
ويتتبّع شوقي مسيرة الإيمان على ضفاف النيل، ومواكب العبادات تتوالى وتتألق بدءاً بألوهية الفراعنة، وخلع هذه الألوهية على كثير من المخلوقات والحيوانات وصولاً إلى جوهر التوحيد وانفتاح أبواب العبادات للديانات التي عمرت بها الأرض، وازدهرت في ظلها الحضارات.
يقول شوقي:
فُتنت بشطَّيْك العبادُ، فلم يزلْ
قاصٍ يحجُّهما، ودانٍ يرمقُ
وتضوّعت مسْكَ الدهور، كأنما
في كلِّ ناحيةٍ بَخورٌ يُحْرقُ
وتقابلت فيها على السُّرر الدُّمى
مُسترديات الذلِّ، لا تتفتَّقُ
عطلتَ وكان مكانهن من العُلا
«بلقيس» تقبس من حلاهُ وتسرقُ
وعلا عليهنَّ الترابُ، ولم يكنْ
يزكو بهنّ سوى العبير، ويَلْبقُ
حُجراتها موطوءةٌ، وسُتورها
مهتوكةٌ، بيد البِلى تتخرّقُ
أوْدى بزينتها الزمان، وحلْيها
والحسنُ باقٍ والشبابُ الرّيّقُ
لو رُدَّ فرعون الغداة، لراعهُ
أنّ الغرانيق العُلا لا تنطقُ
خلع الزمان على الورى أيامه
فإذا الضحى لك حصةٌ والرونقُ
لك من مواسمه ومن أعيادهِ
ما تحسرُ الأبصارُ فيه وتبرُقُ
لا «الفرس» أُوتوا مثله يوماً، ولا
بغداد في ظلّ الرشيد وجِلَّق (19)
فتْح الممالك، أو قيام العجلِ، أو
يومُ القبور، أو الزفافُ المونقُ (20)
كم كوكب تتخايل الدنيا به
يُجلى كما تُجلى النجوم، وينُسقُ
فرعون فيه من الكتائب مُقبلٌ
كالسحب، قرْنُ الشمس منها مُفتقُ (21)
تعنو لعزته الوجوهُ، ووجههُ
للشمس في الآفاق عانٍ مُطرقُ (22)
آبت من السفر البعيد جنودهُ
وأتتْهُ بالفتح السعيد الفيلق (23)
ومشى الملوكُ مُصفّدين، خدودهم
نعلٌ لفرعون العظيم ونُمرقُ (24)
مملوكةً أعناقهم ليمينه
يأبى فيضربُ، أو يمُنّ فيُعْتقُ (25)
ونجيبةٍ بين الطفولة والصِّبا
عذراءَ، تَشْربها القلوبُ وتَعْلقُ
كان الزفاف إليك غاية حظّها
والحظُّ إن بلغ النهاية مُوبقُ
لاقيْت أعراساً، ولاقت مأتماً
كالشيخ ينعم بالفتاة، وتُزهقُ
في كلِّ عامٍ درةٌ تُلقى بلا
ثمنٍ إليك، وحُرّةٌ لا تصدقُ
حولٌ تسائلُ فيه كلُّ نجيبةٍ
سبقتْ إليك: متى يحولُ فتلحقُ
والمجد عند الغانيات رغيبةٌ
يُبغى كما يُبغى الجمال ويُعشقُ
إن زوّجوك بهن فهي عقيدةٌ
ومن العقائد ما يلبُّ ويحمقُ
ما أجمل الإيمان لولا ضلّةٌ
في كلّ دينٍ بالهداية تُلصقُ
زُفّت إلى ملك الملوكِ، يحثُّها (26)
دينٌ، ويدفعها هوى وتشوُّقُ
ولربَّما حسدتْ عليك مكانها
تِرْبٌ تمسّحُ بالعروس وتحدقُ
مجلوّةً في الفلْكِ يحدو فُلْكَها
بالشاطئين مُزغرِدٌ ومُصفِّقُ
في مهرجانٍ هزَّت الدنيا به
أعطافها، واختال فيه المشرقُ
فرعون تحت لوائه، وبناتهُ
يجري بهنّ على السّفين الزورقُ
حتى إذا بلغت مواكبُها المدى
وجرى لغايته القضاءُ الأسبقُ
وكسا سماء المهرجان جلالةً
سيف المنية، وهو صلْتٌ يبرقُ (27)
وتلفّتت في اليمِّ كلُّ سفينةٍ
وانثال بالوادي الجموعُ وحدّقوا
ألقت إليك بنفسها ونفيسها
وأتتْك شيّقةً حواها شيّقُ
خلعت عليك حياءها، وحياتها
أأعزُّ من هذين شيءٌ يُنفقُ؟
وإذا تناهى الحبُّ، واتفق الفدى
فالروح في باب الضحية أليقُ
ما العالم السُّفليُّ إلَّا طينة
أزلية فيه تضيءُ وتُغْسقِ (28)
هي فيه للخِصْب العميم خميرةٌ
يندى بما حملتْ إليه، ويبثقُ (29)
ما كان فيه للزيادة موضعٌ
وإلى حماها النقص لا يتطرَّقُ
مُنبثةٌ في الأرض، تنتظمُ الثرى
وتنال مما في السماء، وتعْلَقُ (30)
منها الحياةُ لنا، ومنها ضدُّها
أبداً نعودُ لها، ومنها نُخلقُ
والزرع سنبلهُ يطيبُ، وحبُّهُ
منها، فيخرجُ ذا، وهذا يفْلقُ
وتشدُّ بيت النحل، فهو مُطنّبٌ
وتمدُّ بيت النَّمل، فهو مُروّقُ
وتظلُّ بين قوى الحياة جوائلاً
لا تستقرُّ، دوائلاً لا تُمحقُ
هي كلْمةُ الله القدير، وروحهُ
في الكائنات، وسرُّهُ الـمـُستغلقُ
في النجم والقمريْن مظهرها، إذا
طلعت على الدنيا، وساعة تخفقُ
والذرُّ والصخراتُ مما كوّرت
والفيلُ مما صوَّرتْ، والخِرْنِقُ
فتنت عقول الأولين، فألّهوا 
من كل شيءٍ ما يروعُ ويخرقُ
سجدوا لمخلوقٍ، وظنُّوا خالقاً
من ذا يُميِّزُ في الظلام ويفرقُ؟
دانت بآبيس الرعيةُ كلُّها
من يستغلُّ الأرض، أو من يعزقُ
جاءوا من المرعى به يمشي، كما
تمشي وتلتفت المهاةُ وترشقُ
داجٍ كجنح الليل، زان جبينهُ
وَضَحٌ عليه من الأهلّة أشرقُ
العسجدُ الوهّاج وشْيُ جلاله
والورد موطئ خُفّهِ، والزنبقُ
ومن العجائب بعد طول عبادةٍ
يُؤتى به حوض الخلود فيُغرقُ
ياليت شعري: هل أضاعوا العهد، أم
حذروا من الدنيا عليه، وأشفقوا؟
قوم وقار الدين في أخلاقهم
والشعب ما يعتادُ، أو يتخلّقُ
يدْعون خلف السِّتْرِ آلهة لهم
ملأوا النديَّ جلالةً وتأبّقوا
واستحجبوا الكهانَ، هذا مُبلغٌ
ما يهتفون به، وذاك مُصدّقُ
لا يسألون إذا جَرتْ ألفاظهم
من أين للحَجرِ اللسانُ الأذلق؟
أو كيف تخترقُ الغيوب بهيمةٌ
فيما ينوب من الأمور، ويطرقُ
وصولاً إلى قول شوقي في هذه القصيدة المتوهجة بالحسّ التاريخي، والرؤية العميقة لعقائد الفراعنة وطقوس دياناتهم، وحركتهم الدائبة بين البرِّ الشرقي للنيل – وهو برُّ الحياة والسعي والعمل – والبرّ الغربي وهو برُّ الموت والفناء ومضجع السّابقين ومتكأ الراحلين. ونتأمله وهو يتحدث عن حضارة الوادي التي كان النيل وما يزال رمزاً لها، وحاضناً لميلادها، ومهداً لعلومها وفنونها، ويقول:
أصل الحضارة في صعيدك ثابتٌ
ونباتها حسنٌ عليك مُخلَّقُ
وُلدتْ، فكنت المهْدَ، ثم ترعرعتْ
فأظلّها منك الحفيُّ الـمُشْفقُ
ملأتْ ديارك حكمةً، مأثورُها
في الصخر والبرْدي الكريم مُنبّقُ
وبنت بيوت العلم باذخة الذُّرى
يسعى لهنّ، مُغرِّبٌ ومُشرِّقُ
واستحدثت ديناً، فكان فضائلاً
وبناء أخلاقٍ يطولُ ويشهقُ
مَهَد السبيل لكلّ دينٍ بعدهُ
كالمسكِ ريَّاهُ بأخرى تُفْتقُ
يدعو إلى بِرٍّ، ويرفعُ صالحاً
ويعافُ ما هو للمروءةِ مُخلقُ
للناس في أسراره ما عُلّموا
ولشُعْبة الكهنوت ما هو أعمقُ
فيه محلٌّ للأقانيم العُلا
ولجامع التوحيد فيه تعلُّقُ
تابوت موسى، لاتزال جلالةٌ
تبدو عليك له، ورَيَّا تنُشقُ
وجمال يوسف، لايزال لواؤهُ
حوْليك في أفق الحلال يُرنّقُ
ودموع إخوته رسائل توبةٍ
مسطورهنّ بشاطئيك مُنمّقُ
وصلاة مريم فوق زرعك، لم يزل
يزكو لذكراها النباتُ ويسمُقُ
وخطى المسيح عليك، روحاً طاهراً
بركاتُ ربّك، والنعيم الغيْدقُ
وودائع الفاروق عندك، دينهُ (31)
ولواؤه، وبيانُه، والمنطقُ
بعث الصحابة يحملون من الهدى
والحقّ ما يُحيي العقولَ ويفتقُ
فتحُ الفتوح، من الملائك رزدقٌ
فيه، ومن أصحاب بدرٍ رزدقُ (32)
يبنون لله الكنانةَ بالقنا
والله من حول البناء مُوفِّقُ
أحلاس خيلٍ، بيْد أنَّ حسامهم
في السلم من حذر الحوادث مُقْلَقُ
تُطوى البلاد لهم، ويُنجد جيْشهم
جيشٌ من الأخلاق غازٍ مُورقُ
في الحقّ سُلَّ، وفيه أُغمدَ سيفهمُ
سيف الكريمِ من الجهالةِ يَفْرَقُ
والفتح بغيٌ لا يُهوّن وقْعَهُ
إلا العفيفُ حسامهُ، المترفّقُ
ما كانت الفسطاط إلا حائطاً 
يأوي الضعيف لركنه، والـمُرهقُ (33)
وبه تلوذ الطيرُ في طلب الكرى
ويبيت «قيصرُ» وهو منه مُؤرّقُ
«عمرو» على شُطب الحصير مُعصّبٌ (34)
بقلادة الله العليِّ مطوّقُ
يدعو له الحاخام في صلواته
«موسى»، ويسألُ فيه عيسى البطْرقُ
وفي المقطع الأخير من هذه القصيدة الطويلة العامرة بالتــــأمــــلات، والحكمة العميــــقة، والنبش في التاريخ المــــليء بالأحــــداث والمواقـــف، والوجوه التي صنعت الأحداث، يقول شوقي:
يا نيل أنت بطيب ما نعَتَ الهُدى
وبمدْحة التوراة أحرى أخلقُ (35)
وإليكَ يُهدى الحمْدَ خلْقٌ حازهم
كَنفٌ على مرّ الدهور مُرهّقُ
كنفٌ كمعنٍ، أو كساحةِ حاتمٍ 
خلْق يودّعهُ، وخلقٌ يطرقُ (36)
وعليك تُجْلى من مصونات النُّهى
خودٌ، عرائسُ، خدرهنَّ الـمُهرقُ
الدرُّ في لبّاتهن منظّمٌ
والطيبُ في حبراتهنَّ مُرقرقُ
لي فيك مدحٌ ليس فيه تكلّفٌ
أملاهُ حبٌّ ليس فيه تملّقُ
مما يُحمّلنا الهوى لك أفرخٌ
سنطير عنها، وهي عندك تُرزقُ
تهفو إليهم في التراب قلوبنا
وتكاد فيه بغير عِرقٍ تخفقُ
تُرجَى لهم، والله جلَّ جلالهُ
منّا، ومنْكَ، بهم أَبرُّ وأرفقُ
فاحفظ ودائعكَ التي استُودِعْتَها
أنت الوفيُّ إذا اؤتمنْتَ الأصدقُ
للأرض يوم والسماء قيامةٌ
وقيامةُ الوادي غداةَ تُحلِّقُ (37)
لقد أطلق الفراعنة على النيل لقب «ملك الملوك» الذي وهب لهم الحياة، وروى الزرع والضرع، وشيَّد الحضارة، وعمر الدنيا، ورسم معالم الخلود. وجاء شوقي - من بعدهم بآلاف السنين - ليطلق عليه لقب «النجاشي»، المتّصف بالإنصاف والعدل والسماحة، وعدم التعصُّب لدين ضدَّ دين.
وبين اللّقبين، قام تاريخ، وازدهرت حياة وتألق خلود. وبين هذه العناصر الثلاثة من تاريخ وحياة وخلود: تنتصب قصيدة شوقي، رمزاً للشعر الحي الباقي على تعاقب الأزمان والعصور .