ملف عبدالعزيز الدوري: نظرات الدوري في تاريخ العرب الحديث

ملف عبدالعزيز الدوري: نظرات الدوري في تاريخ العرب الحديث
        

          مؤرخ ثقة، تتميز خطته في كتابة التاريخ بالدقة والعمق والإخلاص للحق والحقيقة، أسلوبه علمي فيه الكثير من الجهد في انتقاء المادة وجمعها، هو لا يتحدث عن أشخاص بل عن فترات متميزة، ويرى أن مركز الثقل في التاريخ العربي هو الحضارة لا الأحداث السياسية العامة.
كتب الدوري «إن خير سبيل لدراسة التاريخ العربي، هو البحث عن أسس حديثة، وليست أصول البحث التاريخي الغربي وافية بل من الضروري تكوين مصطلح تاريخي ملائم».
طبيعة أصول التاريخ العربي وما أحرانا يقول الدوري «أن نبني التاريخ على أسس متينة من البحث ومن الشعور بالمسئولية». فكيف عمل الدوري على وضع تصوراته المثلى للدراسة التاريخية موضع التطبيق في مجال تاريخ العرب الحديث؟

أولاً: مكونات الوعي والأمة:

          يرى الدوري أن العرب مروا بثلاث فترات أساسية في تاريخهم: فترة قبل الإسلام، والفترات الإسلامية حتى القرن الثامن عشر والفترة الحديثة. وهو ينطلق من قناعة بأن الوعي العربي الحديث يرتبط بمفهوم الأمة الذي تكون في التاريخ واستند إلى الإسلام والعربية فكرة ولغة وتراثًا. والدوري يستعمل تعبيري القومية العربية والوعي العربي بصورة متكاملة «فإذا كانت القومية العربية بمفهومها الحالي حديثة، فإن الوعي العربي الذي يعبر عن شعور الأمة بذاتها ويدفعها إلى تحقيق آمالها وأمانيها قديم عند العرب» وبكلمات أخرى: القومية العربية لم تكن صدى لحركات قومية أخرى بل إنها تعبر عن تنبيه ذاتي وبذلك يعيد الدوري النظر ببعض المفاهيم الشائعة.

          وقام الدوري في كتاباته بتحليل دقيق لتقويم العناصر والاتجاهات التي كونت تاريخ العرب السابق للفترة الحديثة وشرح الأسس والظروف التي أدت إلى قيام الأمة العربية مع التركيز على الأثر الكبير للإسلام، وأوجز بكلمات فكرة تكوين الأمة العربية: «إن الأمة العربية في (عامتها) عربية بلغتها، إسلامية في تراثها ووجهتها، وقد تكونت في مسيرتها التاريخية على أساس لغوي ثقافي، وعروبتها تقوم على ذلك. وقد شارك في التكوين الثقافي المسلمون من عرب ومستعربة، كما ساهم فيه غير المسلمين من أهل العربية سليقة أو تعلمًا. وصار التراث المكتوب بالعربية تراث الناطقين بها، بصرف النظر عن أصولهم أو عقيدتهم أو اتجاهاتهم، وهكذا تمثلت فكرة الأمة العربية على أساس لغوي وثقافي».

          وقد وجد الدوري أن ظهور الوعي والحيوية عند العرب في أي فترة كان في نطاق الإسلام /العروبة أو العروبة/ الإسلام، وهذا اعتمد تاريخيًا على طبيعة التحديات التي تواجههم، فحين يكون التحدي الأكبر خارجيًا يبرز الوعي والمقاومة في إطار الإسلام، كما حصل في مواجهة غزو الإفرنج، وفي مواجهة المغول، وكما حصل في مواجهة الغزو الغربي في القرن السادس عشر (الحملات الإسبانية البرتغالية على شمال إفريقيا والغزو البرتغالي للخليج العربي وسواحل الجزيرة العربية). وهكذا أقبل العثمانيون باسم الإسلام وكقوة لحماية البلاد العربية من الغرب وانتقل مركز السلطة خارج البلاد العربية «وهو أمر جديد».

ثانيًا: العرب والعثمانيون.. أي علاقة؟:

          يتناول الدوري بالتحليل هذه العلاقة المركّبة بين العرب والعثمانيين، وهي أول مرة يكونون فيها في إطار سياسي واحد منذ قرون، مما جعلهم يتعرضون لتيارات عامة وجعل بلادهم مفتوحة كحركة التجارة الداخلية وللاتصال البشري، في حين أن الشريان الحيوي لجريان التجارة بين الشرق وعالم البحر المتوسط قد قطع بسيطرة الغرب على طرق التجارة الدولية «فكان ذلك أخطر ضربة حلّت باقتصاد البلاد العربية ورخائها، وهكذا سدت مسالك التجارة الخارجية حتى القرن التاسع عشر لتفتح لها بوابات من الغرب لفائدة إنتاجه (أي الغرب) ورءوس أمواله على حساب البلاد العربية».

          لقد كانت الدولة العثمانية، - كما يقول الدوري - «إسلامية في مؤسساتها وثقافتها، ولم تختلف عن الدول السابقة إلا في اتخاذها اللغة العثمانية بدل العربية، وهذه أول مرة يفصل فيها الإسلام والعربية على نطاق رسمي، ولم تعد الثقافة العربية تجد التشجيع الرسمي، ومع ذلك بقيت العربية لغة وثقافة من مقومات العرب الأساسية».

          ويفسر الدوري قبول العرب بالإطار العثماني وعدم التفكير في مواجهة التحديات الداخلية من تخلف وسوء إدارة وحكم مطلق، إلى كون الخطر الغربي يمثل المنزلة الأولى لدى أكثر الفئات بالقياس للتحديات الداخلية.

          فقد كانت الدولة العثمانية طليعة القوة الإسلامية في وجه الغرب، وبقيت لقرون مصدر تهديد له حتى بدأ يظهر الضعف على الدولة أمام الغرب في القرن الثامن عشر.

          وكان على الدولة العثمانية أن تعمل شيئًا لمواجهة التفوق الغربي الاقتصادي والتكنولوجي، وبدأت حركة التحديث (الإصلاح) على أسس غربية «سواء أكانت نتيجة للشعور بقوة الغرب ومحاولة تقليد عناصر قوته، أو كانت نتيجة الإعجاب بعلمه ومؤسساته، منذ أيام محمود الثاني إلى أيام عبدالحميد (مع محاولات محمد علي في مصر)». ورأى الدوري أن الاتجاه للأخذ من الغرب في المؤسسات والفكر أدى إلى مشكلات وقلق، والسبب برأيه هو أن المؤسسات الموروثة أهملت أو أزيلت دون دعم لها أو تحديث، في حين أن المؤسسات الجديدة أدخلت دون تطور في المجتمع يوازيها، وباتت المؤسسات والتشريعات الجديدة غريبة ولقيت مقاومة في قطاعات من المجتمع وأدت التنظيمات إلى انقسامات في المجتمعات العربية الإسلامية في الفكر والثقافة.

ثالثًا: الخطوات الأولى للوعي القومي:

          واجه العرب في إطار الدولة العثمانية (وفي مصر) في هذه الفترة، تحديات خارجية من التغلغل الغربي وخطر الهيمنة، كما واجهوا تحديات داخلية كان أخطرها الشعور بحالة التخلف الثقافي والفكري، والخوف على التراث بعد أن قوي تيار التقليد للغرب مع الخوف من تفوقه. ويتعقب الدوري بالتحليل أثر احتكاك العرب بالموجة الغربية، ثقافيا أول الأمر ثم اصطدامهم بها استعمارا. فقد حرص العرب على الأخذ بما يمكنهم من تحسين أمورهم المعيشية والاقتصادية إلا أنهم لم يكونوا مستعدين للتخلي عن تراثهم أو إنكار ذاتهم «فقد أشفقوا على هذا التراث أن يزول، وعلى شخصيتهم التاريخية أن تتصدّع فاشتد حرصهم على تأكيد الذات».

          وكان للإحياء الثقافي في مصر ابتداء، ثم في الشام ولبنان فيما بعد أثره في التعريف بالتراث وقيمه. ويلاحظ الدوري «أن ظاهرة العناية باللغة والأدب والتي تتجلى في الدفاع عن العروبة واللغة في كتابات مجموعة من الأدباء كانت في جانب منها صدى لظاهرة أعم هي تنبيه الوعي العربي والاتجاه إلى إبراز مقومات الأمة العربية وإثبات شخصيتها أمام التحديات. وحين انتشرت الأفكار الغريبة عن الوطن والدولة القومية ومفاهيم الحرية والمساواة مع الموجة الغربية وتوسعها إلى الدولة العثمانية والبلاد العربية في القرن التاسع عشر فإنها لم تأت إلى فراغ» برأي الدوري.

          إنه من هذه الجذور، كما يرى الدوري، وفي نطاق تحديات داخلية وأفكار خارجية ظهر الوعي الحديث ليتجه في العروبة بمفهوم ثقافي اجتماعي قبل أن يتجه إلى العروبة بمفهوم سياسي قومي، وهو مفهوم دعا إلى التأمل في وجهة المجتمع من الحكم العثماني. وفي نظر الدوري أن هذا الحكم وقف في طريق تحقيق الحياة الجديدة التي بدأ العرب يفكرون فيها، يقول الدوري «إن العرب في شعورهم بماضيهم، وبحقهم في مستقبل لائق، أنكروا بشدة نظرة الترك إليهم».

          لقد لخص الدوري حصيلة ما حققته هذه الفترة في الاتجاه القومي: فقد انتهت إلى آراء ومفاهيم دون أن تكون هناك نظرية عامة في القومية العربية، وانتهت بدعوة إلى النهوض بالعرب وإيجاد كيان سياسي لهم في بعض بلادهم دون عودة جادة إلى وحدة عربية، وفكرة الوطن العربي لم تجد التعبير الواضح. وانتهت الفترة دون أن تتبين الفئة أو الفئات التي تجسّد الفكرة العربية وجهة اجتماعية اقتصادية واضحة، ويبقى بعد ذلك لهذه الفترة برأي الدوري «أهمية واضحة في رسم وجهة الفكر العربي القومي».

رابعًا: القومية العربية في مواجهة الغرب:

          رسم الدوري في كتاباته معالم الفترة التالية للحرب العالمية الأولى وما رافقها من هيمنة غربية على البلاد العربية مع تجزئة وحدود مصطنعة. كل هذا فتح الباب لتطورات جديدة كانت تجربة جديدة في مسيرة العرب.

          وتناول الدوري نتائج تغلغل الموجة الغربية في مختلف نواحي الحياة مركّزًا على الجانب الفكري. لقد انتقل الفكر العربي في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى من كفاح بين القديم والجديد إلى كفاح بين الموجة الغربية والكيان العربي، ويخص الدوري في البداية موقف الاتجاه الإسلامي من هذه الموجة الجديدة (الموجة الغربية). وهذا الاتجاه في الفكر الحديث لم يقف عند تجديد الإسلام وقبول خير ما في المدنية الحديثة، بل تدرج إلى البحث عن سبيل النجاة من أزمة الغرب وذلك في المبادئ والأسس الإسلامية، ولكن بنظر الدوري هناك ضرورة لدراسة التراث الإسلامي بصورة تاريخية نقدية للتمييز بين المبادئ والتطورات العلمية، فحيوية الإسلام في مرونته وغزارة تجاربه.

          من جانب آخر، رصد الدوري رد أصحاب الاتجاه القومي على فرض الموجة الغربية على المجتمع العربي وتهديد التراث، فاتجهوا إلى التأكيد على التراث وإلى الاهتمام الخاص بالتاريخ العربي والتراث العربي. وكانت هذه الظاهرة مهمة في توسع الوعي القومي، ولكن هذا الاتجاه قد تطور أحيانًا إلى وجهة رومانتيكية لازمت الوعي القومي في الفترة بين الحربين واستمرت طويلاً. وعزا الدوري المرارة الشديدة التي يكنّها العرب للغرب إلى السيطرة الغربية وما رافقها من نكث للوعود، فقد بانت الفجوة بين المثل والقيم التي يدّعيها الغرب ووجهه الحقيقي في البلاد العربية.

          وتلخص رأي الدوري في الدعوة إلى أخذ خير ما في التراث العربي ومزج هذا بالاقتباس الغربي لتكوين مجتمع عربي حديث.

          هذا على صعيد الفكر، أما على صعيد العمل، فيقول الدوري: «وجد العرب أنفسهم بعد الحرب العالمية الأولى قد تهدد هدفهم القومي الكبير في التحرر والوحدة، ونجح الغرب في تجزئة جهاد العرب و«إشغال كل جزء ببليته» ولكن الدوري يرى رغم ذلك أن الوعي القومي قد التهب في كل بلد واشتدت الرغبة التحررية بعد الغزو الغربي، وشغل القوميون بمكافحة الاستعمار فهو مصدر كل تدهور ولا أمل في أي نهضة صادقة إلا بالتحرر. وقدم الدوري بضعة أدلة متفائلة في ملامح الوعي القومي لهذه الفترة: أولها أن التفكير في الأمة العربية كوحدة ظهر ضمن البرامج القومية بشكل أو بآخر، هذا رغم ظهور مصالح واتجاهات إقليمية. وكانت قضية فلسطين في هذه الفترة من العوامل المهمة في هذا الاتجاه. وثانيها إدراك القوميين أهمية وضع برامج توضح وجهة الحركة القومية. وقد كثرت الكتابات التي تحاول توضيح المفاهيم القومية أو إعادة مناقشتها وعرضها.

          نقطتان سلبيتان لاحظهما الدوري على مسار الوعي القومي في هذه المرحلة: تشير الأولى إلى بوادر غريبة عن الجذور التاريخية للقومية العربية، فقد أقلقه أن الحركات القومية التي ظهرت في أوربا بعد الحرب الأولى وجدت صدى عاطفيًا عند البعض، ولم يكن هذا العطف نتيجة تفهم لمدلولها بل السبب سلبي هو العداء للاستعمار، واستغل خصوم القومية العربية هذا للتهجم على القومية واتهامها بالعنصرية وهي بتكوينها وطبيعتها نقيض ذلك.

          أما النقطة السلبية الثانية فتتعلق بمدى انتشار الوعي القومي، يقول الدوري إن «الحركة القومية بقيت في الفترة بين الحربين تقتصر بالدرجة الأولى على المثقفين ولم تمس الجماهير إلا بصورة عاطفية عامة وغير مباشرة ولم يصبح نطاقها شعبيًا نتيجة شيوع الأمية ونتيجة الخبرة المحدودة لرجال الحركة القومية».

خامسًا: العمل القومي وتحدي خمسينيات القرن العشرين:

          تتبع الدوري بوقع سريع أحداث الحرب العالمية الثانية في المشرق العربي: ثورة قومية في العراق 1941م تبعها تنكيل، تحرر سورية ولبنان، ارتفاع المد القومي في مصر، تنامي الاتجاه نحو التضامن العربي، واعتبر الدوري تأسيس الجامعة العربية تعبيرًا أوليًا في هذا الاتجاه، وتجنب الدخول في ظروف نشأتها، يكفي على حد قوله «أن المد القومي الذي تغلغل في الأمة العربية أدى إلى هذه المحاولة، وكان دستورها تسوية بين القوى الأمنية من جهة والمصالح المحلية والضغط الخارجي من جهة أخرى.

          لقد وجد الدوري في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وخاصة منذ منتصف الخمسينيات ومطلع الستينيات، تغييرًا في توجهات الحركة القومية التي ميزتها عن سابقتها: اتخاذ الحركة بالتدريج وجهة شعبية، تأكيد الاتجاه الاشتراكي في التفكير القومي، وضوح الاتجاه الثوري الشامل في القومية العربية، ودخول الوعي القومي مرحلة نقد ذاتي، وبعبارة موجزة: ازدياد الوعي القومي عمقًا وسعة.

          يقول الدوري: «تبين للحركة القومية أن المشكلة الكبرى هي الذهنية الحاكمة التي تقف في وجه كل تحرر أو إصلاح شامل، واتضح للكيانات القائمة و(المصالح المركزة) التي رافقتها، أن وجهة الحركة القومية تؤدي إلى إزالتها، وأدركت أنه لا سند لها إلا الغرب، فراحت تتشبث بمتابعته وتحاول فرض الانحياز إليه. وقد تبين بالتدريج للقومية العربية أن معركتها مع الاستعمار ومعركتها مع (المصالح المحلية المركزة) واحدة» وهذا بنظر الدوري «قد أكسب الوعي القومي وضوحًا وشمولاً جديدين».

          والشيء المهم من وجهة نظر الدوري، هو اندفاع الحركة القومية نتيجة ذلك إلى الدعوة للإصلاحات التدريجية، واتجهت بالتدريج وجهة اشتراكية «حتى أصبحت الاشتراكية من أسس التفكير القومي»، ولكن التناحر بين عقلية حاكمة تريد إبقاء أوضاع هزيلة وتتمسّك بالتبعية والحركة القومية، قد أدى بالقومية العربية إلى أن تأخذ وجهة ثورية، بنظر الدوري، وأدى الصراع بين المد الثوري المتزايد والعقلية الرجعية التي تقف ضده إلى تركيز مفهوم الحرية والتأكيد على أهميتها في أي نهضة. ويضيف الدوري «أصبحت معركة القومية العربية معركة الحرية والتحرر، التحرر من الاستعمار والتحرر من التعسف الداخلي.. ومن كل استغلال وتبعية».

          أما عن رأي الدوري في أثر كارثة فلسطين على الوعي القومي، فقد حمل صرخة ألم حادة بقوله «كانت الكارثة أقسى وأعنف تحد للقومية العربية، وقد دلت على أن التجزئة والتأخر في الوطن العربي كانا أهم عوامل الفشل، وأزالت النكبة القناع عن هزال الكيانات الجوفاء». ويضيف الدوري «كانت الكارثة الزناد الذي أشعل نار الثورة في الوعي العربي وتبعتها سلسلة من الوثبات والثورات في سورية ومصر والعراق، فركزت لذلك الاتجاه الثوري في القومية العربية».

          وكان لكارثة فلسطين أثر جوهري آخر، بنظر الدوري، «فقد كشفت نهائيًا عن وجه الاستعمار وأزالت كل حجة في جدوى أي ارتباط مع الغرب، وكانت بذلك نقطة انطلاق إلى الاتجاه الحيادي والدعوة للوقوف خارج دائرتي الحرب الباردة ودفعت إلى اتخاذ وجهة تستوحي مصالح العرب المتميزة المستقلة».

سادسًا: نظرة ممتدة نحو المستقبل:

          لم يتوقف الدوري عند قضايا الماضي، بل كان من أول العاملين على وضع لمسات المستقبل من أجل بناء مجتمع متكامل معافى.

          ومع أن الدوري لا يأخذ برأي البعض الداعي إلى إهمال الماضي والالتفات إلى المستقبل، بحجة أنه لا فائدة مما فات «بعد أن أرهقنا برواسبه وأعاقنا عن اللحاق بالركب الحديث»، فإنه لا يقبل أيضا برأي آخرين يدعون للعيش في الماضي والاستنارة بهديه. وهو في مناقشته هؤلاء وأولئك يقدم رأيه العقلاني «وضع الأمة في فترة ما هو نهاية مرحلة في سيرها وبداية الفترة التي تليها، ونقطة انطلاق في مستقبلها، كما أن البناء القويم يوجب على الأمة أن تفهم ذاتها، وأن تدرك بعمق حاضرها، لتستطيع أن تخطط المستقبل بوعي»، فما مقومات بناء المستقبل في نظره؟

          وجد الدوري مطلع خمسينيات القرن العشرين أن العالم العربي كان فيه حينذاك اتجاهان يسيطران على نظرته الفكرية للأمور: الاتجاه الأول إسلامي أي الذي يريد أن ينظر للأمور نظرة قوامها الإسلام وأساسها تعاليمه ولذلك يخضع التفكير لهذه المقاييس، الثاني قومي يمكن تسميته «عربي» يريد أن يبني الفكر على عمد العروبة بحيث تكون القومية رائدة وموجهة. وينبه الدوري إلى أن الإطار لكل من هذين الاتجاهين تفاوتا في الدرجة والعمق والاتساع.

          كان الدوري يدعو مطلع خمسينيات القرن العشرين، ومن وعي الخبرة التاريخية إلى «أن نسير بأذهان متفتحة لا تقبل التقليد للماضي أو للأمثلة الخارجية، فالروح الثورية التي تتطلبها المرحلة الثورية لا تقلد بل تبدع». وثقته بالوعي العربي الحديث لا حدود لها، كما كتب عام 1960م «توثب ثوري يسير للأمام ويهدف للبناء، إنها ثورة عربية ولكنها تنطوي على روح إنسانية»: لم يجد الدوري للحركة القومية من سبيل لتكوين مجتمع جديد وفي تلك الظروف وقبل بسنوات قليلة إلا الثورة الشاملة.

          وبنبرة مرتفعة قال «آن لنا أن ندرك أن الثورة لا تأتي من فوق بل يجب أن تبدأ من القاعدة وتمثل الشعب بكامله». وردّ على المتشائمين الذين يظنون أن الحركة القومية أصيبت بنكسة وأن الوعي القومي تعرّض لأزمة بقوله: «لقد وصلت هذه الحركة إلى مرحلة جديدة من التطور إذ إنها حققت برنامجها الأول وهو التحرر وظنّت أن الثورة الاجتماعية ستلي ذلك بصورة طبيعية. وليس التحرر السياسي إلا تمهيد ضروري في حين أن الثورة يجب أن تبدأ من القاعدة، من الشعب، ومتى تم ذلك حصلت الثورة الكليّة».

          لقد ظلت دروس التاريخ حاضرة في ذهنه ومن آخر كتاباته جاء «ظهر الوعي العربي في التاريخ في حركة شعبية شاملة، وظهر الوعي القومي في مطلع النهضة في حركة المثقفين، ومتى ما حقق الوجهة الشعبية الشاملة، وركز عليها، حقق الثورة التي تخلق المجتمع العربي المنشود».

          ترى هل قدر للدوري أن يشهد قبل رحيله تحقق توقعاته؟.
-----------------------------
* أكاديمية من سورية.

 

خيرية قاسمية*