سيرجيو ليوني... ما وراء الخير والشر

في مشهد صحراوي تختلط فيه النكهة الأمريكية بالمكسيكية، وفي مزاوجة بين اللقطات الواسعة للشاشة العريضة واللقطات القريبة التي تركز على تفاصيل الوجه البشري؛ يدخل راعي البقر صائد الجوائز المتوحد مع نفسه، الذي لن نعرف اسمه مطلقاً، يدخل على حصانه رفيق دربه، بقبعته العريضة الحواف، ومسدسه السداسي الطلقات، وذقنه غير الحليق، وبعينيه المثبتتين في الأفق البعيد، وبتضاريس سحنته المكافئة لقسوة الصحراء؛ غضون وأخاديد وجراح، جديرة براعي بقر رحال، تمهد لدخول راعي البقر وتصاحبه موسيقى الموسيقار الإيطالي إنيو موريكوني التي هي ليست موسيقى تماماً؛ وإنما مزيج من أصوات غير معتادة في التأليف الموسيقي الفيلمي: أصوات طلقات نارية ومدافع، فرقعات سياط في الهواء، صهيل خيول، تكتكات عقارب ساعة، دندنات للحن الأساسي أو أحد هرمونياته، همهمات فردية وكورالية، أما جلال الموسيقى الأوركسترالية ومهابتها، التي يمزجها موريكوني بآلات إلكترونية فردية، فيدخرها ليوني للمواجهة الأخيرة بين راعي البقر وخصومه.
ما سبق هو بعض من أشهر العناصر الأسلوبية للمخرج الإيطالي الكبير سيرجيو ليوني في خماسية الويسترن سباجيتي التي صنعها: «من أجل حفنة دولارات»، «من أجل مزيد من الدولارات»، «الطيب والشرس والقبيح»، «حدث ذات مرة في الغرب»، «مهرجان الديناميت». والويسترن سباجيتي هو اصطلاح أطلقه أحد النقاد الإيطاليين على الأفلام التي كانت تُنتج في إيطاليا في خمسينيات القرن الماضي، وتحاول محاكاة أفلام رعاة البقر الأمريكية، كانت أفلاماً تافهة بميزانيات تافهة، تحاول استثمار نجاحات الويسترن على نحو بائس. لكن ليوني وصل بهذه النوعية إلى مصاف الأفلام الفنية الخالصة وروعتها، ومن بعده مع الأسف انحدرت الويسترن سباجيتي انحداراً يرثى له، حتى لفظت أنفاسها.
الأسلبة التي عرفناها في أفلام ليوني عن الغرب الأمريكي تشمل أيضاً ندرة الشخصيات النسائية، حتى النساء القليلات في سينماه هن جميلات من ذوات الشعر الأحمر والعيون الزرقاء، أو ربات منازل مغلوبات على أمرهن. الجمعيات النسائية الأمريكية، والمدافعات عن حقوق المرأة، وناقدات السينما، لم يفوتن الفرصة للهجوم الشرس على أفلام ليوني التي تستبعد المرأة من الفعل، وتشيئها كسلعة. لا يكاد يخلو فيلم لليوني أيضاً من: لقطات لوجوه مجدورة لمرتزقة ومجرمين، أعين متوحشة خائفة كما لو كانت تتوقع تلقي رصاصة في أي لحظة، لقطات لحشر قطعة صابون أو خشب أو آلة هارمونيكا في فم إحدى الشخصيات، لقطات لسحب المسدسات بسرعة وحذق، وإصابة اثنين من الخصوم بطلقة واحدة من راعي بقر يجيد التصويب ببراعة فائقة، وطيران القبعات عن الرؤوس بطلقات نارية، وإصابة نفس الثقب من القبعة مرتين بطلقتين متتاليتين؛ مبالغات محببة أقرب لروح الكوميديا يقبلها الجمهور من ليوني ولا يقبلها بسهولة من غيره.
فلسفة الصمت
لكن ربما تستوجب مساحات الصمت الطويلة في أفلامه بضع كلمات إضافية. فكيف يمكن لفيلم عن الغرب الأمريكي وعن رعاة البقر، عن المطاردات والإثارة، وعن النزالات والمواجهات؛ كيف يمكن لفيلم من هذه النوعية أن يحمل مساحات طويلة من الصمت؟! هل الصمت عند ليوني هو صمت المعرفة الزائدة، صمت الحكمة، صمت التعالي؟! أم هو الصمت الصوفي التأملي؟! أم هو صمت الترقب والتشويق كما في مشهد انتظار كاري جرانت في الصحراء في فيلم هيتشكوك الشهير «الشمال عبر الشمال الغربي، 1959»؟!
لا تحمل مساحات الصمت الطويلة في أفلام ليوني مغزى واحداً مكشوفاً، بل تحمل مجموعة مركبة من المغازي المُغلَّفة، وإن كانت تصدر كلها عن مصدر واحد يضفي عليها طابعاً عاماً هو التشاؤم حيال وضع الإنسان ومصيره. صحيح أن ليوني كثيراً ما يستخدم الصمت استخداماً درامياً لتعظيم قدر الخطر؛ كما في مشاهد المواجهات الأخيرة بين البطل وخصومه؛ حيث تحسم المصير مهارة استخدام المسدس، وكمثل المشهد الطويل الذي يصل فيه «الشرس» في «الطيب والشرس والقبيح» إلى منزل العائلة التي يريد الحصول من ربها على معلومات تهمه عن الكنز المدفون في الصحراء، ثم يبيد جميع أفراد العائلة في ما بعد. إن ليوني في هذه المشاهد يستخدم الصمت كعامل لزيادة الإحساس بالخطر، ولمزيد من خلق التوتر، كما أنه يعمل هنا على إضفاء الجلال والمهابة على طقوس استخدام القوة؛ وهو ما يؤدي إلى الربط بين الصمت والقوة القاهرة؛ وكأن هناك تناسباً طردياً بينهما؛ ويُعظم من ذلك أيضاً بأن يعمل عكس مبدأ الاختزال في المونتاج السينمائي؛ أي يطيل زمن المشهد الذي تستعد فيه القوة لإظهار جبروتها «والصمت الذي يرافقها» بأطول كثيراً من الزمن الفعلي الذي يستغرقه الحدث في الواقع.
لكن أحياناً ما يكون الصمت عند ليوني هو صمت الفراغ الذي يلتهم العالم والشخصيات، خصوصاً إذا ما تُركت برهة لنفسها أو لضجر الانتظار. على سبيل المثال، في اللقطات الممتدة لفضاء الصحراء الخاوي، أو في افتتاحياته الطويلة؛ كافتتاحية «حدث ذات مرة في الغرب»، على سبيل المثال. يعمل الصمت هنا ككاشف لخواء العلاقات بين الشخصيات؛ حتى بين أفراد العُصبة الواحدة، والمكونة من أصول عرقية مختلفة. إنهم لا يتبادلون حرفاً أثناء انتظارهم وصول ضحيتهم بالقطار (تشارلز برونسون)، ولا وجود هنا لأي اتصال بينهم؛ وكأنهم جزر معزولة عن بعضها البعض، رغم أن المرتزقة الثلاثة تجمعهم مهمة واحدة، لذلك يحاولون قتل الضجر أثناء الانتظار بأفعال عبثية كوميدية (حبس ذبابة داخل فوهة المسدس، اللعب مع قطرات الماء المتساقطة على الرأس... إلخ). هذا هو الأساس في العلاقات بين الشخصيات عند ليوني: الصمت والبرود. بل إن الحوار القليل المُركز الأشبه بالتصريحات الجازمة والبليغة في سينماه يأتي كما لو أنه هو الاستثناء؛ كما لو أنه رثاء للصمت. نتذكر هنا قول القبيح «توكو» لضحيته في «الطيب والشرس والقبيح»: «عندما يجب عليك إطلاق النار، أطلق، لا تتكلم!».
الصحراء... رمز العدم
ليوني في مساحات صمته الطويلة يحاول أن يلتقط الحقيقة الخالدة بالتركيز على الصمت ما بين حدثين متتاليين؛ إنه يحاول أن يستنطق العالم ليبوح بالحقيقة الأزلية: الخواء. إن امتدادات الزمن الملحوظة في اللقطات الطويلة لفضاء الصحراء مثلاً تعطي ثقلاً هائلاً لصمت الصحراء وجمودها، وتذكرنا بلقطات الردهات الخاوية التي يترك ياسوجيرو أوزو الكاميرا تسجلها حتى بعد عبور الشخصيات للتأكيد على الفراغ والعدم؛ للتأكيد على أن هذه هي الحقيقة الكبرى للعالم. ألا يستخدم ليوني الصحراء بنفس استخدام أوزو للردهات في أفلامه؟! إن صحراء ليوني هنا تبدو كما لو كانت هي أيضاً مكاناً للترانزيت؛ يعبرها راعي البقر، ويغادرها سريعاً؛ إنها المكان الذي يحفل بالآمال الزائفة للثروة والسعادة، لكن ما يبقى في النهاية هو الصحراء نفسها؛ هو الخواء نفسه، هو مكان الترانزيت نفسه، الذي يكسبه الصمت بروداً زائداً مضاداً للعاطفية التي عودت أفلام الويسترن الهوليوودية المُشاهد عليها.
البطل المفضل لدى ليوني أيضاً هو بطل صامت؛ عديم الاسم وصامت. ويبدو صمته كما لو أنه قد توصل بنوع من المعرفة الفطرية إلى عبثية الحياة وهشاشتها، هو نوع خاص بدائي من النضج القائم على التجربة والترحال الطويل في الصحراء - الترانزيت، ويحدث في زمن سابق على زمن الفيلم. لذلك يندر أن يستجيب البطل عاطفياً لأي حدث، قد نلمح تعاطفاً متحفظاً منه تجاه أحد، لكنه تعاطف يبقى معلقاً في خواء الصحراء؛ هو تعاطف القوي تجاه الضعيف، لكنه أيضاً تعاطف من يعرف أن الظلم هو ظلم هيكلي ولن يجدي شيئاً تدخله هو شخصياً. وربما لذلك يرد له العالم هذا التعاطف، فلا يناله القانون. صحيح أن بطل ليوني أنضج من أن يخرج عن القانون، وهو في الوقت نفسه أزهد من أن يحاول تغيير القانون (الخارج عن القانون هو إما ثائر يرغب في تغيير القانون، وإما مجرم يرغب في أن يصبح استثناءً من تطبيق القانون)، لكن مع ذلك يرتكب راعي البقر مخالفات قانونية (سواء في زمن الفيلم نفسه، أو في زمن سابق على زمن الفيلم)، وبرغم ذلك يغض القانون الطرف عن مخالفاته؛ وكأن القانون هنا يستعمل ضميره لا منطوقه في التفرقة بين الطيب والمجرم.
إذا كانت هذه هي الحال مع الطيب في «الطيب والشرس والقبيح»، فما بال حال «القبيح» و«الشرس»؟! ألا ينجوان هما أيضاً من عقاب القانون؟! يعلم المُشاهد أن كليهما قد ارتكب مصائب وأهوالاً وقتلاً وسلباً واغتصاباً في الزمن السابق على زمن الفيلم، فضلاً عما نشاهده بأعيننا في زمن الفيلم نفسه. فما بال القانون لا ينالهما بالعقاب؟! هل القانون في سينما ليوني للضعفاء فقط؟! هل القوة أعلى من القانون؟! إن القانون نفسه يستخدم كعامل سخرية، كلعبة لزيادة الربح. يتفق الطيب مع القبيح على تسليم الأخير للسلطات لإعدامه، على أن يقبض الطيب مبلغ المكافأة ويقتسمه مع القبيح. وعند تنفيذ العقوبة، يحرر الطيب القبيح من حبل المشنقة ويفران، فتتضاعف قيمة المكافأة المرصودة لرأس القبيح، فيعيد الطيب تسليمه للسلطات مرة أخرى ليقبض المكافأة المضاعفة، ثم يحرره من جديد، ويتكرر الأمر على هذا النحو عدة مرات. إلى أن يحجم الطيب في النهاية عن تكرار اللعبة بعد أن وصل ثمن رأس القبيح إلى أعلى سعر ممكن. وهو ما يثير التساؤل عن كون «الطيب» طيباً بحق، ويثير السؤال: على أي مقياس صنّف ليوني كلنت إيستوود «طيباً»؟!
اعتبر القبيح أن الطيب قد خانه بتخليه عنه وعن لعبتهما المشتركة المثمرة مالياً، فبدأت لعبة القط والفأر بينهما، وحين تمكن القبيح من الفرصة، راح يعذب بلوندي (الأشقر) في مشاهد طويلة بالفيلم. لكن، هل كان تعذيبه للطيب يحركه الحقد والضغينة العاجزة؟! ألم يكن، على العكس، حافلاً بالمتعة للقبيح، كمتعة الدائن الذي يعذب جسد المستدين في العصور القديمة؟!
تبادل القوة والتفوق
في الحضارات القديمة: اليونانية، والرومانية، والعربية، والجرمانية، واليابانية، والاسكندنافية، كان على المستدين – في حالة عدم وفائه بالدين - أن يعوض الدائن بشيء من الأشياء الأخرى التي يملكها: جسده، أو حريته، أو امرأته، أو حتى حياته نفسها. وكان من حق الدائن أن يعذب جسد المستدين؛ كأن يقطع منه هذا الجزء أو ذاك مما يبدو له متناسباً مع أهمية الدين. لكن ما أهمية التعذيب الجسدي إن لم ينل معه الدائن التعويض عن ماله الذي ضاع؟! كانت المعادلة التي توصل إليها الإنسان القديم حينذاك تقوم على الأساس التالي: بدلاً من تقديم شيء نافع ومفيد (في صورة نقد أو عقار أو زوجة)، يُمنح الدائن متعة ممارسة قوته البدنية على كائن عاجز عن المقاومة، وكلما كانت مرتبة الدائن في السلم الاجتماعي منخفضة عن مرتبة المستدين، كانت متعته في تعذيب الأخير أكثر تأججاً وتوقداً؛ وكأنه هنا يتذوق طعم المرتبة الاجتماعية الأعلى.
أليس هذا بالضبط هو حال تعذيب توكو لبلوندي؟! ألا يتذوق القبيح هنا ذلك الشعور الذي يتولد عن تعذيب الأدنى مرتبة للأعلى مرتبة، وكأنه نوع مؤقت من تبدل مراكز القوة والتفوق؟! فالمرتبة والوضع الاجتماعي للقبيح في الغرب الأمريكي على تضارب واضح مع وضع الطيب؛ الأقوى والأرقى والأشجع والأنبل، والذي يمثل أرستقراطية البداوة لدى رعاة البقر في تلك الحقبة (وهي حقبة متخيلة في ذهن ليوني على كل حال، أكثر منها حقبة حقيقية، فالجزء الخيالي فيها أبعد كثيراً عن التاريخ الفعلي للغرب الأمريكي). ورغم ذلك، لا نكاد نلمس في طقوس إلحاق الألم التي يمارسها القبيح على ذلك الوحش الأشقر الجميل، لا مشاعر ضغينة عاجزة، ولا حسداً كريهاً، بل يتم التعذيب في شكل احتفالي، كأنه مهرجان من البهجة للاحتفال بهزيمة العدو.
الاحتفال بهزيمة العدو
لذلك، وبقدر ما تنتابنا كمشاهدين مشاعر القلق على مصير كلنت إيستوود، ونتطلع إلى الدقيقة التي ينجو فيها من قدره المحتوم فيتخلص من القبيح، إلا أننا في الحقيقة لا نكره القبيح ولا نحتقره ولا ننقم عليه. بل أظن أن جزءًا من رهان ليوني هنا كان أن يتذوق المُشاهد ولو قليلاً من مشاعر اللذة التي تجتاح القبيح في تعذيبه للطيب، كمثل اللذة التي كان يجدها قديماً جمهور التراجيديات العظيمة في مشاهدة آلام الأبطال على المسرح، وكمثل اللذة التي يجدها الجمهور الحديث في مشاهدة من يتم تعذيبهم نفسياً في برامج الكاميرا الخفية.
المحرك الدائم للشخصيات في أفلام ليوني هو المال؛ إنه المحرك الذي لا يتحرك؛ إنه المتمكن في استبداده وغموضه. لا فرق هنا بين الطيب والشرس والقبيح، ولا بين الأطفال والشباب والشيوخ، ولا بين رجال القانون والخارجين عنه؛ فالجميع يتحركون وراء المال، في الوقت نفسه الذي يتمتعون فيه جميعاً بامتياز راحة الضمير، وكأن ممارسات السلب بحد ذاتها لا يمكن أن تكون أمراً «ظالماً» أو «شريراً»؛ فالبقاء للأقوى، والقوة مطالبة بأن تتجلى بما هي قادرة عليه: أن تكون إرادة إخضاع وانتصار. في سينما ليوني القوي ليست له إرادة حيادية؛ أي لا يعود له الخيار في إظهار قوته أو عدم إظهارها؛ كمثل السبع الذي لا يملك إلا أن ينقض على الحمل، ويظل مع ذلك بريئاً، لا يشعر بالذنب ولا الإثم، كما لا يشكل ذلك أيضاً سبباً في حقد الحمل على السبع المفترس.
في أخلاقيات سينما ليوني أيضاً: الضعف ليس «جدارة»، ولا يتجمل الجبن فيُمسى «صبراً»، ولا العجز يصير «صفحاً عن الإساءة». إن ليوني يحطم منظومة القيم الكلاسيكية التي قامت أفلام الويسترن في هوليوود بزرعها في نفوس المشاهدين. لا يمكن أن يكون بطلاً لدى ليوني جيمس ستيوارت مثلاً (رجل القانون الرافض لممارسة العنف) في فيلم جون فورد (الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس، 1962)، ولا كلنت إيستوود نفسه ورفاقه في فيلمه (لا غفران، 1992). لذلك نظرت إليه هوليوود دائماً نظرة شك وكره، بالرغم من النجاحات التجارية الكبيرة التي حققتها أفلامه، وربما لذلك أيضاً ظل هو من جهته لا يصور أفلامه على أرض هوليوود، ولا حتى في الولايات المتحدة بأسرها، محافظاً على خياله الشخصي الخاص عن تاريخ الغرب الأمريكي، ومنظومة قيم الويسترن الخاصة به التي يحقنها في أفلامه.
في سينما ليوني، العلاقات تشبه العلاقات في الحضارات القديمة؛ العلاقات الأولى لأشكال التبادل بين الرجال: أي العلاقة بين المشتري والبائع، والعدالة هنا عدالة بدائية تستمد أصولها من تحديد أسعار الأشياء، وبالتالي تكون العدالة في أبسط قوانينها وأقدمها: «عدالة دفع ثمن الشيء»، فكل شيء له ثمن، وكل شيء ينبغي دفع ثمنه. من يدفع ثمن الشيء هو الطيب، ومن لا يفعل هو الخبيث الدنيء. هذا هو القانون الأخلاقي الأول للعدالة، وهو بداية كل طيبة، وكل إنصاف، وكل حسن نية، وكل موضوعية. هذا هو الدستور الذي يتحدد بناءً عليه الطيب من الخبيث في سينما ليوني، وهو نسق قيمي لا يضع الشر بالضرورة في مواجهة الخير، كما تفعل الحضارات الحديثة، بل هو أقرب إلى مفهوم الأخلاق في مجتمع أثينا وروما القديمتين. وكأننا هنا نسمع الشاعر الأثيني الذي رثى بلاده بعد سقوطها، فقال: «لقد شقت جرأتنا طريقها في البر والبحر، وشيدت لنفسها أينما كانت روائع لا يمحوها الزمن، سواء في ميادين الخير أو في ميادين الشر». وبالمثل، يحتفي ليوني بالقوة؛ سواء في ميادين الخير أو في ميادين الشر: ألم يصبح لي فان كليف (الشرس) عظيماً في أفلامه بعد أن كان ممثلاً ثانوياً باهتاً في أفلام جون فورد وفريد زينمان؟! ألم يصبح ملكاً في بلاط ليوني بعد أن كان خادماً في بلاط هوليوود؟! بل إن إنجل آيز (عيون الملائكة) يأتي في الأولوية بعد «الطيب» في «الطيب والشرس والقبيح»؛ فالترتيب في اسم الفيلم هو ترتيب قوة؛ سواء أكانت خيرة أم شريرة.
أخلاقيات سينمائية مختلفة
من المثير كذلك ملاحظة أن ليوني يربط دائماً في أفلامه ما بين الطيبة وبين النظافة الشخصية، مستخدماً هذا المعيار للتمييز بين الطبقات في جماعة الغرب الأمريكي المستوحش. ومن الغريب ملاحظة أن الحضارات الأولى قد استخدمت أيضاً النظافة كمعيار في التفرقة بين «الطيب» (أو الطاهر) و«الخبيث» (أو النجس)، خصوصاً في المجتمعات القديمة في مصر وأثينا وروما. وكأنه يعود للتفرقة بين البشر مستخدماً المعيار الأولي، البدائي، الغليظ، غير الرمزي: الطيب هو من يغتسل، ويعتني بنظافته الشخصية، ولا يعاشر النساء القذرات، ويشمئز من الوساخة وينفر منها، والعكس بالعكس. وربما بسبب هذا التشابه في الأنساق القيمية والأخلاقية بين أفلامه والحضارات القديمة، تحمل أفلام ليوني دائماً روحاً ملحمية عظيمة، حتى وإن بدا غريباً أن يحمل فيلم من نوعية الويسترن سباجيتي روحاً ملحمية.
ولكن ماذا بالنسبة لصورة الإنسان العادي في سينما ليوني؛ إنسان العامة الذي ليس هو راعي بقر ولا مرتزقاً صائد جوائز؟! ما نلاحظه في هذا الشأن أن صورة ذلك الإنسان تبدو كما لو كانت تتحدر من جنس «هابيل» المغدور. على عكس أبطاله الذين يتحدرون من جنس «قابيل»؛ والذين ينظرون للعامة نظرة متعالية ومترفعة، ويتجنبون في الوقت نفسه ممارسة العنف عليهم. إنها نظرة فيها كثير من الإهمال واللامبالاة، كما لو أن إنسان العامة يتحول بالنسبة لراعي البقر إلى ما يشبه الكاريكاتير، ومن هنا يصبح بطل ليوني رؤوفاً متساهلاً مع سواد الشعب التعيس، المسكين، المنحوس، العاجز.
أما المشاهد القليلة التي نلمح فيها «ظلماً» ما، كمشاهد الحرب الأهلية وضحاياها مثلاً في «الطيب والشرس والقبيح»، أو مشاهد البؤس والفقر اللذين يرزح تحتهما أهالي القرية التي تتحارب فيها العائلتان الكبيرتان في «من أجل حفنة دولارات»؛ فإن هذه الوقائع التي يمكن إسباغ صفة «الظلم» عليها في سينما ليوني، تتصف بأن طابع «الظلم» فيها عام؛ ناتج عن تقسيمات الطبقة والثروة، وتراتبيات السلطة والقوة؛ أي إن الظلم هنا هيكلي، مسؤول عنه المجتمع بأكمله؛ الإنسانية كلها؛ وبعبارة أخرى: لا أحد مسؤول عنه. ومن هنا فإن المخالفات والانتهاكات الفردية، والسلب والنهب الفردي الذي يجري في نظام إنساني مُهيكل بالكامل على أساس الظلم، لا يكون بالضرورة أمراً ظالماً؛ فهو ظلم داخل الظلم، وجرم داخل الجرم؛ وكما أن نفي النفي إثبات، فإن الحياة نفسها في سينما ليوني لا تجري إلا عبر المخالفات والانتهاكات والسلب والنهب، ولا يمكن تصورها تجري بشكل مختلف .