سيرجيو ليوني... ما وراء الخير والشر

سيرجيو ليوني...  ما وراء الخير والشر

في‭ ‬مشهد‭ ‬صحراوي‭ ‬تختلط‭ ‬فيه‭ ‬النكهة‭ ‬الأمريكية‭ ‬بالمكسيكية،‭ ‬وفي‭ ‬مزاوجة‭ ‬بين‭ ‬اللقطات‭ ‬الواسعة‭ ‬للشاشة‭ ‬العريضة‭ ‬واللقطات‭ ‬القريبة‭ ‬التي‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬تفاصيل‭ ‬الوجه‭ ‬البشري؛‭ ‬يدخل‭ ‬راعي‭ ‬البقر‭ ‬صائد‭ ‬الجوائز‭ ‬المتوحد‭ ‬مع‭ ‬نفسه،‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬نعرف‭ ‬اسمه‭ ‬مطلقاً،‭ ‬يدخل‭ ‬على‭ ‬حصانه‭ ‬رفيق‭ ‬دربه،‭ ‬بقبعته‭ ‬العريضة‭ ‬الحواف،‭ ‬ومسدسه‭ ‬السداسي‭ ‬الطلقات،‭ ‬وذقنه‭ ‬غير‭ ‬الحليق،‭ ‬وبعينيه‭ ‬المثبتتين‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬البعيد،‭ ‬وبتضاريس‭ ‬سحنته‭ ‬المكافئة‭ ‬لقسوة‭ ‬الصحراء؛‭ ‬غضون‭ ‬وأخاديد‭ ‬وجراح،‭ ‬جديرة‭ ‬براعي‭ ‬بقر‭ ‬رحال،‭ ‬تمهد‭ ‬لدخول‭ ‬راعي‭ ‬البقر‭ ‬وتصاحبه‭ ‬موسيقى‭ ‬الموسيقار‭ ‬الإيطالي‭ ‬إنيو‭ ‬موريكوني‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬موسيقى‭ ‬تماماً؛‭ ‬وإنما‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬أصوات‭ ‬غير‭ ‬معتادة‭ ‬في‭ ‬التأليف‭ ‬الموسيقي‭ ‬الفيلمي‭: ‬أصوات‭ ‬طلقات‭ ‬نارية‭ ‬ومدافع،‭ ‬فرقعات‭ ‬سياط‭ ‬في‭ ‬الهواء،‭ ‬صهيل‭ ‬خيول،‭ ‬تكتكات‭ ‬عقارب‭ ‬ساعة،‭ ‬دندنات‭ ‬للحن‭ ‬الأساسي‭ ‬أو‭ ‬أحد‭ ‬هرمونياته،‭ ‬همهمات‭ ‬فردية‭ ‬وكورالية،‭ ‬أما‭ ‬جلال‭ ‬الموسيقى‭ ‬الأوركسترالية‭ ‬ومهابتها،‭ ‬التي‭ ‬يمزجها‭ ‬موريكوني‭ ‬بآلات‭ ‬إلكترونية‭ ‬فردية،‭ ‬فيدخرها‭ ‬ليوني‭ ‬للمواجهة‭ ‬الأخيرة‭ ‬بين‭ ‬راعي‭ ‬البقر‭ ‬وخصومه‭.‬

ما‭ ‬سبق‭ ‬هو‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬العناصر‭ ‬الأسلوبية‭ ‬للمخرج‭ ‬الإيطالي‭ ‬الكبير‭ ‬سيرجيو‭ ‬ليوني‭ ‬في‭ ‬خماسية‭ ‬الويسترن‭ ‬سباجيتي‭ ‬التي‭ ‬صنعها‭: ‬‮«‬من‭ ‬أجل‭ ‬حفنة‭ ‬دولارات‮»‬،‭ ‬‮«‬من‭ ‬أجل‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الدولارات‮»‬،‭ ‬‮«‬الطيب‭ ‬والشرس‭ ‬والقبيح‮»‬،‭ ‬‮«‬حدث‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الغرب‮»‬،‭ ‬‮«‬مهرجان‭ ‬الديناميت‮»‬‭. ‬والويسترن‭ ‬سباجيتي‭ ‬هو‭ ‬اصطلاح‭ ‬أطلقه‭ ‬أحد‭ ‬النقاد‭ ‬الإيطاليين‭ ‬على‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُنتج‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬في‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وتحاول‭ ‬محاكاة‭ ‬أفلام‭ ‬رعاة‭ ‬البقر‭ ‬الأمريكية،‭ ‬كانت‭ ‬أفلاماً‭ ‬تافهة‭ ‬بميزانيات‭ ‬تافهة،‭ ‬تحاول‭ ‬استثمار‭ ‬نجاحات‭ ‬الويسترن‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬بائس‭. ‬لكن‭ ‬ليوني‭ ‬وصل‭ ‬بهذه‭ ‬النوعية‭ ‬إلى‭ ‬مصاف‭ ‬الأفلام‭ ‬الفنية‭ ‬الخالصة‭ ‬وروعتها،‭ ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬انحدرت‭ ‬الويسترن‭ ‬سباجيتي‭ ‬انحداراً‭ ‬يرثى‭ ‬له،‭ ‬حتى‭ ‬لفظت‭ ‬أنفاسها‭.‬

الأسلبة‭ ‬التي‭ ‬عرفناها‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬ليوني‭ ‬عن‭ ‬الغرب‭ ‬الأمريكي‭ ‬تشمل‭ ‬أيضاً‭ ‬ندرة‭ ‬الشخصيات‭ ‬النسائية،‭ ‬حتى‭ ‬النساء‭ ‬القليلات‭ ‬في‭ ‬سينماه‭ ‬هن‭ ‬جميلات‭ ‬من‭ ‬ذوات‭ ‬الشعر‭ ‬الأحمر‭ ‬والعيون‭ ‬الزرقاء،‭ ‬أو‭ ‬ربات‭ ‬منازل‭ ‬مغلوبات‭ ‬على‭ ‬أمرهن‭. ‬الجمعيات‭ ‬النسائية‭ ‬الأمريكية،‭ ‬والمدافعات‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة،‭ ‬وناقدات‭ ‬السينما،‭ ‬لم‭ ‬يفوتن‭ ‬الفرصة‭ ‬للهجوم‭ ‬الشرس‭ ‬على‭ ‬أفلام‭ ‬ليوني‭ ‬التي‭ ‬تستبعد‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬الفعل،‭ ‬وتشيئها‭ ‬كسلعة‭. ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يخلو‭ ‬فيلم‭ ‬لليوني‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭: ‬لقطات‭ ‬لوجوه‭ ‬مجدورة‭ ‬لمرتزقة‭ ‬ومجرمين،‭ ‬أعين‭ ‬متوحشة‭ ‬خائفة‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬تتوقع‭ ‬تلقي‭ ‬رصاصة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لحظة،‭ ‬لقطات‭ ‬لحشر‭ ‬قطعة‭ ‬صابون‭ ‬أو‭ ‬خشب‭ ‬أو‭ ‬آلة‭ ‬هارمونيكا‭ ‬في‭ ‬فم‭ ‬إحدى‭ ‬الشخصيات،‭ ‬لقطات‭ ‬لسحب‭ ‬المسدسات‭ ‬بسرعة‭ ‬وحذق،‭ ‬وإصابة‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬الخصوم‭ ‬بطلقة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬راعي‭ ‬بقر‭ ‬يجيد‭ ‬التصويب‭ ‬ببراعة‭ ‬فائقة،‭ ‬وطيران‭ ‬القبعات‭ ‬عن‭ ‬الرؤوس‭ ‬بطلقات‭ ‬نارية،‭ ‬وإصابة‭ ‬نفس‭ ‬الثقب‭ ‬من‭ ‬القبعة‭ ‬مرتين‭ ‬بطلقتين‭ ‬متتاليتين؛‭ ‬مبالغات‭ ‬محببة‭ ‬أقرب‭ ‬لروح‭ ‬الكوميديا‭ ‬يقبلها‭ ‬الجمهور‭ ‬من‭ ‬ليوني‭ ‬ولا‭ ‬يقبلها‭ ‬بسهولة‭ ‬من‭ ‬غيره‭.‬

 

فلسفة‭ ‬الصمت

لكن‭ ‬ربما‭ ‬تستوجب‭ ‬مساحات‭ ‬الصمت‭ ‬الطويلة‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭ ‬بضع‭ ‬كلمات‭ ‬إضافية‭. ‬فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬لفيلم‭ ‬عن‭ ‬الغرب‭ ‬الأمريكي‭ ‬وعن‭ ‬رعاة‭ ‬البقر،‭ ‬عن‭ ‬المطاردات‭ ‬والإثارة،‭ ‬وعن‭ ‬النزالات‭ ‬والمواجهات؛‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لفيلم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النوعية‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬مساحات‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الصمت؟‭! ‬هل‭ ‬الصمت‭ ‬عند‭ ‬ليوني‭ ‬هو‭ ‬صمت‭ ‬المعرفة‭ ‬الزائدة،‭ ‬صمت‭ ‬الحكمة،‭ ‬صمت‭ ‬التعالي؟‭! ‬أم‭ ‬هو‭ ‬الصمت‭ ‬الصوفي‭ ‬التأملي؟‭! ‬أم‭ ‬هو‭ ‬صمت‭ ‬الترقب‭ ‬والتشويق‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬انتظار‭ ‬كاري‭ ‬جرانت‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬هيتشكوك‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬الشمال‭ ‬عبر‭ ‬الشمال‭ ‬الغربي،‭ ‬1959‮»‬؟‭! ‬

لا‭ ‬تحمل‭ ‬مساحات‭ ‬الصمت‭ ‬الطويلة‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬ليوني‭ ‬مغزى‭ ‬واحداً‭ ‬مكشوفاً،‭ ‬بل‭ ‬تحمل‭ ‬مجموعة‭ ‬مركبة‭ ‬من‭ ‬المغازي‭ ‬المُغلَّفة،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬كلها‭ ‬عن‭ ‬مصدر‭ ‬واحد‭ ‬يضفي‭ ‬عليها‭ ‬طابعاً‭ ‬عاماً‭ ‬هو‭ ‬التشاؤم‭ ‬حيال‭ ‬وضع‭ ‬الإنسان‭ ‬ومصيره‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬ليوني‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يستخدم‭ ‬الصمت‭ ‬استخداماً‭ ‬درامياً‭ ‬لتعظيم‭ ‬قدر‭ ‬الخطر؛‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مشاهد‭ ‬المواجهات‭ ‬الأخيرة‭ ‬بين‭ ‬البطل‭ ‬وخصومه؛‭ ‬حيث‭ ‬تحسم‭ ‬المصير‭ ‬مهارة‭ ‬استخدام‭ ‬المسدس،‭ ‬وكمثل‭ ‬المشهد‭ ‬الطويل‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬الشرس‮»‬‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطيب‭ ‬والشرس‭ ‬والقبيح‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬العائلة‭ ‬التي‭ ‬يريد‭ ‬الحصول‭ ‬من‭ ‬ربها‭ ‬على‭ ‬معلومات‭ ‬تهمه‭ ‬عن‭ ‬الكنز‭ ‬المدفون‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬ثم‭ ‬يبيد‭ ‬جميع‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭. ‬إن‭ ‬ليوني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المشاهد‭ ‬يستخدم‭ ‬الصمت‭ ‬كعامل‭ ‬لزيادة‭ ‬الإحساس‭ ‬بالخطر،‭ ‬ولمزيد‭ ‬من‭ ‬خلق‭ ‬التوتر،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يعمل‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬إضفاء‭ ‬الجلال‭ ‬والمهابة‭ ‬على‭ ‬طقوس‭ ‬استخدام‭ ‬القوة؛‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬الصمت‭ ‬والقوة‭ ‬القاهرة؛‭ ‬وكأن‭ ‬هناك‭ ‬تناسباً‭ ‬طردياً‭ ‬بينهما؛‭ ‬ويُعظم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬بأن‭ ‬يعمل‭ ‬عكس‭ ‬مبدأ‭ ‬الاختزال‭ ‬في‭ ‬المونتاج‭ ‬السينمائي؛‭ ‬أي‭ ‬يطيل‭ ‬زمن‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬تستعد‭ ‬فيه‭ ‬القوة‭ ‬لإظهار‭ ‬جبروتها‭ ‬‮«‬والصمت‭ ‬الذي‭ ‬يرافقها‮»‬‭ ‬بأطول‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬الفعلي‭ ‬الذي‭ ‬يستغرقه‭ ‬الحدث‭ ‬في‭ ‬الواقع‭.‬

لكن‭ ‬أحياناً‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬الصمت‭ ‬عند‭ ‬ليوني‭ ‬هو‭ ‬صمت‭ ‬الفراغ‭ ‬الذي‭ ‬يلتهم‭ ‬العالم‭ ‬والشخصيات،‭ ‬خصوصاً‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تُركت‭ ‬برهة‭ ‬لنفسها‭ ‬أو‭ ‬لضجر‭ ‬الانتظار‭.‬‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬في‭ ‬اللقطات‭ ‬الممتدة‭ ‬لفضاء‭ ‬الصحراء‭ ‬الخاوي،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬افتتاحياته‭ ‬الطويلة؛‭ ‬كافتتاحية‭ ‬‮«‬حدث‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الغرب‮»‬،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭. ‬يعمل‭ ‬الصمت‭ ‬هنا‭ ‬ككاشف‭ ‬لخواء‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات؛‭ ‬حتى‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬العُصبة‭ ‬الواحدة،‭ ‬والمكونة‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬عرقية‭ ‬مختلفة‭. ‬إنهم‭ ‬لا‭ ‬يتبادلون‭ ‬حرفاً‭ ‬أثناء‭ ‬انتظارهم‭ ‬وصول‭ ‬ضحيتهم‭ ‬بالقطار‭ (‬تشارلز‭ ‬برونسون‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬وجود‭ ‬هنا‭ ‬لأي‭ ‬اتصال‭ ‬بينهم؛‭ ‬وكأنهم‭ ‬جزر‭ ‬معزولة‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬المرتزقة‭ ‬الثلاثة‭ ‬تجمعهم‭ ‬مهمة‭ ‬واحدة،‭ ‬لذلك‭ ‬يحاولون‭ ‬قتل‭ ‬الضجر‭ ‬أثناء‭ ‬الانتظار‭ ‬بأفعال‭ ‬عبثية‭ ‬كوميدية‭ (‬حبس‭ ‬ذبابة‭ ‬داخل‭ ‬فوهة‭ ‬المسدس،‭ ‬اللعب‭ ‬مع‭ ‬قطرات‭ ‬الماء‭ ‬المتساقطة‭ ‬على‭ ‬الرأس‭... ‬إلخ‭). ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات‭ ‬عند‭ ‬ليوني‭: ‬الصمت‭ ‬والبرود‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الحوار‭ ‬القليل‭ ‬المُركز‭ ‬الأشبه‭ ‬بالتصريحات‭ ‬الجازمة‭ ‬والبليغة‭ ‬في‭ ‬سينماه‭ ‬يأتي‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬الاستثناء؛‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬رثاء‭ ‬للصمت‭. ‬نتذكر‭ ‬هنا‭ ‬قول‭ ‬القبيح‭ ‬‮«‬توكو‮»‬‭ ‬لضحيته‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطيب‭ ‬والشرس‭ ‬والقبيح‮»‬‭: ‬‮«‬عندما‭ ‬يجب‭ ‬عليك‭ ‬إطلاق‭ ‬النار،‭ ‬أطلق،‭ ‬لا‭ ‬تتكلم‭!‬‮»‬‭.‬

 

الصحراء‭... ‬رمز‭ ‬العدم

ليوني‭ ‬في‭ ‬مساحات‭ ‬صمته‭ ‬الطويلة‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يلتقط‭ ‬الحقيقة‭ ‬الخالدة‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬الصمت‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬حدثين‭ ‬متتاليين؛‭ ‬إنه‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يستنطق‭ ‬العالم‭ ‬ليبوح‭ ‬بالحقيقة‭ ‬الأزلية‭: ‬الخواء‭. ‬إن‭ ‬امتدادات‭ ‬الزمن‭ ‬الملحوظة‭ ‬في‭ ‬اللقطات‭ ‬الطويلة‭ ‬لفضاء‭ ‬الصحراء‭ ‬مثلاً‭ ‬تعطي‭ ‬ثقلاً‭ ‬هائلاً‭ ‬لصمت‭ ‬الصحراء‭ ‬وجمودها،‭ ‬وتذكرنا‭ ‬بلقطات‭ ‬الردهات‭ ‬الخاوية‭ ‬التي‭ ‬يترك‭ ‬ياسوجيرو‭ ‬أوزو‭ ‬الكاميرا‭ ‬تسجلها‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬عبور‭ ‬الشخصيات‭ ‬للتأكيد‭ ‬على‭ ‬الفراغ‭ ‬والعدم؛‭ ‬للتأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الحقيقة‭ ‬الكبرى‭ ‬للعالم‭. ‬ألا‭ ‬يستخدم‭ ‬ليوني‭ ‬الصحراء‭ ‬بنفس‭ ‬استخدام‭ ‬أوزو‭ ‬للردهات‭ ‬في‭ ‬أفلامه؟‭! ‬إن‭ ‬صحراء‭ ‬ليوني‭ ‬هنا‭ ‬تبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬أيضاً‭ ‬مكاناً‭ ‬للترانزيت؛‭ ‬يعبرها‭ ‬راعي‭ ‬البقر،‭ ‬ويغادرها‭ ‬سريعاً؛‭ ‬إنها‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يحفل‭ ‬بالآمال‭ ‬الزائفة‭ ‬للثروة‭ ‬والسعادة،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬هو‭ ‬الصحراء‭ ‬نفسها؛‭ ‬هو‭ ‬الخواء‭ ‬نفسه،‭ ‬هو‭ ‬مكان‭ ‬الترانزيت‭ ‬نفسه،‭ ‬الذي‭ ‬يكسبه‭ ‬الصمت‭ ‬بروداً‭ ‬زائداً‭ ‬مضاداً‭ ‬للعاطفية‭ ‬التي‭ ‬عودت‭ ‬أفلام‭ ‬الويسترن‭ ‬الهوليوودية‭ ‬المُشاهد‭ ‬عليها‭.‬

البطل‭ ‬المفضل‭ ‬لدى‭ ‬ليوني‭ ‬أيضاً‭ ‬هو‭ ‬بطل‭ ‬صامت؛‭ ‬عديم‭ ‬الاسم‭ ‬وصامت‭. ‬ويبدو‭ ‬صمته‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬توصل‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬الفطرية‭ ‬إلى‭ ‬عبثية‭ ‬الحياة‭ ‬وهشاشتها،‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬خاص‭ ‬بدائي‭ ‬من‭ ‬النضج‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬التجربة‭ ‬والترحال‭ ‬الطويل‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ - ‬الترانزيت،‭ ‬ويحدث‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬سابق‭ ‬على‭ ‬زمن‭ ‬الفيلم‭. ‬لذلك‭ ‬يندر‭ ‬أن‭ ‬يستجيب‭ ‬البطل‭ ‬عاطفياً‭ ‬لأي‭ ‬حدث،‭ ‬قد‭ ‬نلمح‭ ‬تعاطفاً‭ ‬متحفظاً‭ ‬منه‭ ‬تجاه‭ ‬أحد،‭ ‬لكنه‭ ‬تعاطف‭ ‬يبقى‭ ‬معلقاً‭ ‬في‭ ‬خواء‭ ‬الصحراء؛‭ ‬هو‭ ‬تعاطف‭ ‬القوي‭ ‬تجاه‭ ‬الضعيف،‭ ‬لكنه‭ ‬أيضاً‭ ‬تعاطف‭ ‬من‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬الظلم‭ ‬هو‭ ‬ظلم‭ ‬هيكلي‭ ‬ولن‭ ‬يجدي‭ ‬شيئاً‭ ‬تدخله‭ ‬هو‭ ‬شخصياً‭. ‬وربما‭ ‬لذلك‭ ‬يرد‭ ‬له‭ ‬العالم‭ ‬هذا‭ ‬التعاطف،‭ ‬فلا‭ ‬يناله‭ ‬القانون‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬بطل‭ ‬ليوني‭ ‬أنضج‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬القانون،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬أزهد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحاول‭ ‬تغيير‭ ‬القانون‭ ‬‭(‬الخارج‭ ‬عن‭ ‬القانون‭ ‬هو‭ ‬إما‭ ‬ثائر‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬القانون،‭ ‬وإما‭ ‬مجرم‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬استثناءً‭ ‬من‭ ‬تطبيق‭ ‬القانون‭)‬،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬يرتكب‭ ‬راعي‭ ‬البقر‭ ‬مخالفات‭ ‬قانونية‭ (‬سواء‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الفيلم‭ ‬نفسه،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬سابق‭ ‬على‭ ‬زمن‭ ‬الفيلم‭)‬،‭ ‬وبرغم‭ ‬ذلك‭ ‬يغض‭ ‬القانون‭ ‬الطرف‭ ‬عن‭ ‬مخالفاته؛‭ ‬وكأن‭ ‬القانون‭ ‬هنا‭ ‬يستعمل‭ ‬ضميره‭ ‬لا‭ ‬منطوقه‭ ‬في‭ ‬التفرقة‭ ‬بين‭ ‬الطيب‭ ‬والمجرم‭.‬

إذا‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬الطيب‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطيب‭ ‬والشرس‭ ‬والقبيح‮»‬،‭ ‬فما‭ ‬بال‭ ‬حال‭ ‬‮«‬القبيح‮»‬‭ ‬و«الشرس»؟‭! ‬ألا‭ ‬ينجوان‭ ‬هما‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬عقاب‭ ‬القانون؟‭!‬‭ ‬يعلم‭ ‬المُشاهد‭ ‬أن‭ ‬كليهما‭ ‬قد‭ ‬ارتكب‭ ‬مصائب‭ ‬وأهوالاً‭ ‬وقتلاً‭ ‬وسلباً‭ ‬واغتصاباً‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬السابق‭ ‬على‭ ‬زمن‭ ‬الفيلم،‭ ‬فضلاً‭ ‬عما‭ ‬نشاهده‭ ‬بأعيننا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الفيلم‭ ‬نفسه‭. ‬فما‭ ‬بال‭ ‬القانون‭ ‬لا‭ ‬ينالهما‭ ‬بالعقاب؟‭! ‬هل‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬ليوني‭ ‬للضعفاء‭ ‬فقط؟‭! ‬هل‭ ‬القوة‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬القانون؟‭! ‬إن‭ ‬القانون‭ ‬نفسه‭ ‬يستخدم‭ ‬كعامل‭ ‬سخرية،‭ ‬كلعبة‭ ‬لزيادة‭ ‬الربح‭. ‬يتفق‭ ‬الطيب‭ ‬مع‭ ‬القبيح‭ ‬على‭ ‬تسليم‭ ‬الأخير‭ ‬للسلطات‭ ‬لإعدامه،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يقبض‭ ‬الطيب‭ ‬مبلغ‭ ‬المكافأة‭ ‬ويقتسمه‭ ‬مع‭ ‬القبيح‭. ‬وعند‭ ‬تنفيذ‭ ‬العقوبة،‭ ‬يحرر‭ ‬الطيب‭ ‬القبيح‭ ‬من‭ ‬حبل‭ ‬المشنقة‭ ‬ويفران،‭ ‬فتتضاعف‭ ‬قيمة‭ ‬المكافأة‭ ‬المرصودة‭ ‬لرأس‭ ‬القبيح،‭ ‬فيعيد‭ ‬الطيب‭ ‬تسليمه‭ ‬للسلطات‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬ليقبض‭ ‬المكافأة‭ ‬المضاعفة،‭ ‬ثم‭ ‬يحرره‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ويتكرر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭. ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يحجم‭ ‬الطيب‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬عن‭ ‬تكرار‭ ‬اللعبة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬ثمن‭ ‬رأس‭ ‬القبيح‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬سعر‭ ‬ممكن‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬التساؤل‭ ‬عن‭ ‬كون‭ ‬‮«‬الطيب‮»‬‭ ‬طيباً‭ ‬بحق،‭ ‬ويثير‭ ‬السؤال‭: ‬على‭ ‬أي‭ ‬مقياس‭ ‬صنّف‭ ‬ليوني‭ ‬كلنت‭ ‬إيستوود‭ ‬‮«‬طيباً‮»‬؟‭! ‬

اعتبر‭ ‬القبيح‭ ‬أن‭ ‬الطيب‭ ‬قد‭ ‬خانه‭ ‬بتخليه‭ ‬عنه‭ ‬وعن‭ ‬لعبتهما‭ ‬المشتركة‭ ‬المثمرة‭ ‬مالياً،‭ ‬فبدأت‭ ‬لعبة‭ ‬القط‭ ‬والفأر‭ ‬بينهما،‭ ‬وحين‭ ‬تمكن‭ ‬القبيح‭ ‬من‭ ‬الفرصة،‭ ‬راح‭ ‬يعذب‭ ‬بلوندي‭ (‬الأشقر‭) ‬في‭ ‬مشاهد‭ ‬طويلة‭ ‬بالفيلم‭. ‬لكن،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬تعذيبه‭ ‬للطيب‭ ‬يحركه‭ ‬الحقد‭ ‬والضغينة‭ ‬العاجزة؟‭! ‬ألم‭ ‬يكن،‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬حافلاً‭ ‬بالمتعة‭ ‬للقبيح،‭ ‬كمتعة‭ ‬الدائن‭ ‬الذي‭ ‬يعذب‭ ‬جسد‭ ‬المستدين‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬القديمة؟‭! ‬

 

تبادل‭ ‬القوة‭ ‬والتفوق

في‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة‭: ‬اليونانية،‭ ‬والرومانية،‭ ‬والعربية،‭ ‬والجرمانية،‭ ‬واليابانية،‭ ‬والاسكندنافية،‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬المستدين‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬عدم‭ ‬وفائه‭ ‬بالدين‭ - ‬أن‭ ‬يعوض‭ ‬الدائن‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬يملكها‭: ‬جسده،‭ ‬أو‭ ‬حريته،‭ ‬أو‭ ‬امرأته،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬حياته‭ ‬نفسها‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬الدائن‭ ‬أن‭ ‬يعذب‭ ‬جسد‭ ‬المستدين؛‭ ‬كأن‭ ‬يقطع‭ ‬منه‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬مما‭ ‬يبدو‭ ‬له‭ ‬متناسباً‭ ‬مع‭ ‬أهمية‭ ‬الدين‭. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬أهمية‭ ‬التعذيب‭ ‬الجسدي‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬ينل‭ ‬معه‭ ‬الدائن‭ ‬التعويض‭ ‬عن‭ ‬ماله‭ ‬الذي‭ ‬ضاع؟‭! ‬كانت‭ ‬المعادلة‭ ‬التي‭ ‬توصل‭ ‬إليها‭ ‬الإنسان‭ ‬القديم‭ ‬حينذاك‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الأساس‭ ‬التالي‭:‬‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬تقديم‭ ‬شيء‭ ‬نافع‭ ‬ومفيد‭ (‬في‭ ‬صورة‭ ‬نقد‭ ‬أو‭ ‬عقار‭ ‬أو‭ ‬زوجة‭)‬،‭ ‬يُمنح‭ ‬الدائن‭ ‬متعة‭ ‬ممارسة‭ ‬قوته‭ ‬البدنية‭ ‬على‭ ‬كائن‭ ‬عاجز‭ ‬عن‭ ‬المقاومة،‭ ‬وكلما‭ ‬كانت‭ ‬مرتبة‭ ‬الدائن‭ ‬في‭ ‬السلم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬منخفضة‭ ‬عن‭ ‬مرتبة‭ ‬المستدين،‭ ‬كانت‭ ‬متعته‭ ‬في‭ ‬تعذيب‭ ‬الأخير‭ ‬أكثر‭ ‬تأججاً‭ ‬وتوقداً؛‭ ‬وكأنه‭ ‬هنا‭ ‬يتذوق‭ ‬طعم‭ ‬المرتبة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الأعلى‭.‬

أليس‭ ‬هذا‭ ‬بالضبط‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬تعذيب‭ ‬توكو‭ ‬لبلوندي؟‭! ‬ألا‭ ‬يتذوق‭ ‬القبيح‭ ‬هنا‭ ‬ذلك‭ ‬الشعور‭ ‬الذي‭ ‬يتولد‭ ‬عن‭ ‬تعذيب‭ ‬الأدنى‭ ‬مرتبة‭ ‬للأعلى‭ ‬مرتبة،‭ ‬وكأنه‭ ‬نوع‭ ‬مؤقت‭ ‬من‭ ‬تبدل‭ ‬مراكز‭ ‬القوة‭ ‬والتفوق؟‭! ‬فالمرتبة‭ ‬والوضع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للقبيح‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬الأمريكي‭ ‬على‭ ‬تضارب‭ ‬واضح‭ ‬مع‭ ‬وضع‭ ‬الطيب؛‭ ‬الأقوى‭ ‬والأرقى‭ ‬والأشجع‭ ‬والأنبل،‭ ‬والذي‭ ‬يمثل‭ ‬أرستقراطية‭ ‬البداوة‭ ‬لدى‭ ‬رعاة‭ ‬البقر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ (‬وهي‭ ‬حقبة‭ ‬متخيلة‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬ليوني‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال،‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬حقبة‭ ‬حقيقية،‭ ‬فالجزء‭ ‬الخيالي‭ ‬فيها‭ ‬أبعد‭ ‬كثيراً‭ ‬عن‭ ‬التاريخ‭ ‬الفعلي‭ ‬للغرب‭ ‬الأمريكي‭). ‬ورغم‭ ‬ذلك،‭ ‬لا‭ ‬نكاد‭ ‬نلمس‭ ‬في‭ ‬طقوس‭ ‬إلحاق‭ ‬الألم‭ ‬التي‭ ‬يمارسها‭ ‬القبيح‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الوحش‭ ‬الأشقر‭ ‬الجميل،‭ ‬لا‭ ‬مشاعر‭ ‬ضغينة‭ ‬عاجزة،‭ ‬ولا‭ ‬حسداً‭ ‬كريهاً،‭ ‬بل‭ ‬يتم‭ ‬التعذيب‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬احتفالي،‭ ‬كأنه‭ ‬مهرجان‭ ‬من‭ ‬البهجة‭ ‬للاحتفال‭ ‬بهزيمة‭ ‬العدو‭.‬

 

الاحتفال‭ ‬بهزيمة‭ ‬العدو

لذلك،‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬تنتابنا‭ ‬كمشاهدين‭ ‬مشاعر‭ ‬القلق‭ ‬على‭ ‬مصير‭ ‬كلنت‭ ‬إيستوود،‭ ‬ونتطلع‭ ‬إلى‭ ‬الدقيقة‭ ‬التي‭ ‬ينجو‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬قدره‭ ‬المحتوم‭ ‬فيتخلص‭ ‬من‭ ‬القبيح،‭ ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬لا‭ ‬نكره‭ ‬القبيح‭ ‬ولا‭ ‬نحتقره‭ ‬ولا‭ ‬ننقم‭ ‬عليه‭. ‬بل‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬رهان‭ ‬ليوني‭ ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬أن‭ ‬يتذوق‭ ‬المُشاهد‭ ‬ولو‭ ‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬اللذة‭ ‬التي‭ ‬تجتاح‭ ‬القبيح‭ ‬في‭ ‬تعذيبه‭ ‬للطيب،‭ ‬كمثل‭ ‬اللذة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يجدها‭ ‬قديماً‭ ‬جمهور‭ ‬التراجيديات‭ ‬العظيمة‭ ‬في‭ ‬مشاهدة‭ ‬آلام‭ ‬الأبطال‭ ‬على‭ ‬المسرح،‭ ‬وكمثل‭ ‬اللذة‭ ‬التي‭ ‬يجدها‭ ‬الجمهور‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬مشاهدة‭ ‬من‭ ‬يتم‭ ‬تعذيبهم‭ ‬نفسياً‭ ‬في‭ ‬برامج‭ ‬الكاميرا‭ ‬الخفية‭.‬

المحرك‭ ‬الدائم‭ ‬للشخصيات‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬ليوني‭ ‬هو‭ ‬المال؛‭ ‬إنه‭ ‬المحرك‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتحرك؛‭ ‬إنه‭ ‬المتمكن‭ ‬في‭ ‬استبداده‭ ‬وغموضه‭. ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬هنا‭ ‬بين‭ ‬الطيب‭ ‬والشرس‭ ‬والقبيح،‭ ‬ولا‭ ‬بين‭ ‬الأطفال‭ ‬والشباب‭ ‬والشيوخ،‭ ‬ولا‭ ‬بين‭ ‬رجال‭ ‬القانون‭ ‬والخارجين‭ ‬عنه؛‭ ‬فالجميع‭ ‬يتحركون‭ ‬وراء‭ ‬المال،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يتمتعون‭ ‬فيه‭ ‬جميعاً‭ ‬بامتياز‭ ‬راحة‭ ‬الضمير،‭ ‬وكأن‭ ‬ممارسات‭ ‬السلب‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أمراً‭ ‬‮«‬ظالماً‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬شريراً‮»‬؛‭ ‬فالبقاء‭ ‬للأقوى،‭ ‬والقوة‭ ‬مطالبة‭ ‬بأن‭ ‬تتجلى‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬قادرة‭ ‬عليه‭: ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إرادة‭ ‬إخضاع‭ ‬وانتصار‭. ‬في‭ ‬سينما‭ ‬ليوني‭ ‬القوي‭ ‬ليست‭ ‬له‭ ‬إرادة‭ ‬حيادية؛‭ ‬أي‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬له‭ ‬الخيار‭ ‬في‭ ‬إظهار‭ ‬قوته‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬إظهارها؛‭ ‬كمثل‭ ‬السبع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ينقض‭ ‬على‭ ‬الحمل،‭ ‬ويظل‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬بريئاً،‭ ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬بالذنب‭ ‬ولا‭ ‬الإثم،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يشكل‭ ‬ذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬حقد‭ ‬الحمل‭ ‬على‭ ‬السبع‭ ‬المفترس‭. ‬

في‭ ‬أخلاقيات‭ ‬سينما‭ ‬ليوني‭ ‬أيضاً‭: ‬الضعف‭ ‬ليس‭ ‬‮«‬جدارة‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬يتجمل‭ ‬الجبن‭ ‬فيُمسى‭ ‬‮«‬صبراً‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬العجز‭ ‬يصير‭ ‬‮«‬صفحاً‭ ‬عن‭ ‬الإساءة‮»‬‭. ‬إن‭ ‬ليوني‭ ‬يحطم‭ ‬منظومة‭ ‬القيم‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬أفلام‭ ‬الويسترن‭ ‬في‭ ‬هوليوود‭ ‬بزرعها‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬المشاهدين‭. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بطلاً‭ ‬لدى‭ ‬ليوني‭ ‬جيمس‭ ‬ستيوارت‭ ‬مثلاً‭ (‬رجل‭ ‬القانون‭ ‬الرافض‭ ‬لممارسة‭ ‬العنف‭) ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬جون‭ ‬فورد‭ (‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬ليبرتي‭ ‬فالانس،‭ ‬1962‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬كلنت‭ ‬إيستوود‭ ‬نفسه‭ ‬ورفاقه‭ ‬في‭ ‬فيلمه‭ (‬لا‭ ‬غفران،‭ ‬1992‭). ‬لذلك‭ ‬نظرت‭ ‬إليه‭ ‬هوليوود‭ ‬دائماً‭ ‬نظرة‭ ‬شك‭ ‬وكره،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬النجاحات‭ ‬التجارية‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬حققتها‭ ‬أفلامه،‭ ‬وربما‭ ‬لذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬ظل‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬جهته‭ ‬لا‭ ‬يصور‭ ‬أفلامه‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬هوليوود،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بأسرها،‭ ‬محافظاً‭ ‬على‭ ‬خياله‭ ‬الشخصي‭ ‬الخاص‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الغرب‭ ‬الأمريكي،‭ ‬ومنظومة‭ ‬قيم‭ ‬الويسترن‭ ‬الخاصة‭ ‬به‭ ‬التي‭ ‬يحقنها‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭. ‬

في‭ ‬سينما‭ ‬ليوني،‭ ‬العلاقات‭ ‬تشبه‭ ‬العلاقات‭ ‬في‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة؛‭ ‬العلاقات‭ ‬الأولى‭ ‬لأشكال‭ ‬التبادل‭ ‬بين‭ ‬الرجال‭: ‬أي‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المشتري‭ ‬والبائع،‭ ‬والعدالة‭ ‬هنا‭ ‬عدالة‭ ‬بدائية‭ ‬تستمد‭ ‬أصولها‭ ‬من‭ ‬تحديد‭ ‬أسعار‭ ‬الأشياء،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تكون‭ ‬العدالة‭ ‬في‭ ‬أبسط‭ ‬قوانينها‭ ‬وأقدمها‭: ‬‮«‬عدالة‭ ‬دفع‭ ‬ثمن‭ ‬الشيء‮»‬،‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬له‭ ‬ثمن،‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬ينبغي‭ ‬دفع‭ ‬ثمنه‭. ‬من‭ ‬يدفع‭ ‬ثمن‭ ‬الشيء‭ ‬هو‭ ‬الطيب،‭ ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬يفعل‭ ‬هو‭ ‬الخبيث‭ ‬الدنيء‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬القانون‭ ‬الأخلاقي‭ ‬الأول‭ ‬للعدالة،‭ ‬وهو‭ ‬بداية‭ ‬كل‭ ‬طيبة،‭ ‬وكل‭ ‬إنصاف،‭ ‬وكل‭ ‬حسن‭ ‬نية،‭ ‬وكل‭ ‬موضوعية‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الدستور‭ ‬الذي‭ ‬يتحدد‭ ‬بناءً‭ ‬عليه‭ ‬الطيب‭ ‬من‭ ‬الخبيث‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬ليوني،‭ ‬وهو‭ ‬نسق‭ ‬قيمي‭ ‬لا‭ ‬يضع‭ ‬الشر‭ ‬بالضرورة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الخير،‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬الحضارات‭ ‬الحديثة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬الأخلاق‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬أثينا‭ ‬وروما‭ ‬القديمتين‭. ‬وكأننا‭ ‬هنا‭ ‬نسمع‭ ‬الشاعر‭ ‬الأثيني‭ ‬الذي‭ ‬رثى‭ ‬بلاده‭ ‬بعد‭ ‬سقوطها،‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬شقت‭ ‬جرأتنا‭ ‬طريقها‭ ‬في‭ ‬البر‭ ‬والبحر،‭ ‬وشيدت‭ ‬لنفسها‭ ‬أينما‭ ‬كانت‭ ‬روائع‭ ‬لا‭ ‬يمحوها‭ ‬الزمن،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬الخير‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬الشر‮»‬‭.  ‬وبالمثل،‭ ‬يحتفي‭ ‬ليوني‭ ‬بالقوة؛‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬الخير‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬الشر‭: ‬ألم‭ ‬يصبح‭ ‬لي‭ ‬فان‭ ‬كليف‭ (‬الشرس‭) ‬عظيماً‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬ممثلاً‭ ‬ثانوياً‭ ‬باهتاً‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬جون‭ ‬فورد‭ ‬وفريد‭ ‬زينمان؟‭! ‬ألم‭ ‬يصبح‭ ‬ملكاً‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬ليوني‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬خادماً‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬هوليوود؟‭! ‬بل‭ ‬إن‭ ‬إنجل‭ ‬آيز‭ (‬عيون‭ ‬الملائكة‭) ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬الأولوية‭ ‬بعد‭ ‬‮«‬الطيب‮»‬‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطيب‭ ‬والشرس‭ ‬والقبيح»؛‭ ‬فالترتيب‭ ‬في‭ ‬اسم‭ ‬الفيلم‭ ‬هو‭ ‬ترتيب‭ ‬قوة؛‭ ‬سواء‭ ‬أكانت‭ ‬خيرة‭ ‬أم‭ ‬شريرة‭.‬

 

أخلاقيات‭ ‬سينمائية‭ ‬مختلفة

من‭ ‬المثير‭ ‬كذلك‭ ‬ملاحظة‭ ‬أن‭ ‬ليوني‭ ‬يربط‭ ‬دائماً‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الطيبة‭ ‬وبين‭ ‬النظافة‭ ‬الشخصية،‭ ‬مستخدماً‭ ‬هذا‭ ‬المعيار‭ ‬للتمييز‭ ‬بين‭ ‬الطبقات‭ ‬في‭ ‬جماعة‭ ‬الغرب‭ ‬الأمريكي‭ ‬المستوحش‭. ‬ومن‭ ‬الغريب‭ ‬ملاحظة‭ ‬أن‭ ‬الحضارات‭ ‬الأولى‭ ‬قد‭ ‬استخدمت‭ ‬أيضاً‭ ‬النظافة‭ ‬كمعيار‭ ‬في‭ ‬التفرقة‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الطيب‮»‬‭ ‬‭(‬أو‭ ‬الطاهر‭) ‬و«الخبيث‮»‬‭ (‬أو‭ ‬النجس‭)‬،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وأثينا‭ ‬وروما‭. ‬وكأنه‭ ‬يعود‭ ‬للتفرقة‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬مستخدماً‭ ‬المعيار‭ ‬الأولي،‭ ‬البدائي،‭ ‬الغليظ،‭ ‬غير‭ ‬الرمزي‭: ‬الطيب‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يغتسل،‭ ‬ويعتني‭ ‬بنظافته‭ ‬الشخصية،‭ ‬ولا‭ ‬يعاشر‭ ‬النساء‭ ‬القذرات،‭ ‬ويشمئز‭ ‬من‭ ‬الوساخة‭ ‬وينفر‭ ‬منها،‭ ‬والعكس‭ ‬بالعكس‭. ‬وربما‭ ‬بسبب‭ ‬هذا‭ ‬التشابه‭ ‬في‭ ‬الأنساق‭ ‬القيمية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬بين‭ ‬أفلامه‭ ‬والحضارات‭ ‬القديمة،‭ ‬تحمل‭ ‬أفلام‭ ‬ليوني‭ ‬دائماً‭ ‬روحاً‭ ‬ملحمية‭ ‬عظيمة،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬بدا‭ ‬غريباً‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬فيلم‭ ‬من‭ ‬نوعية‭ ‬الويسترن‭ ‬سباجيتي‭ ‬روحاً‭ ‬ملحمية‭.‬

ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬بالنسبة‭ ‬لصورة‭ ‬الإنسان‭ ‬العادي‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬ليوني؛‭ ‬إنسان‭ ‬العامة‭ ‬الذي‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬راعي‭ ‬بقر‭ ‬ولا‭ ‬مرتزقاً‭ ‬صائد‭ ‬جوائز؟‭! ‬ما‭ ‬نلاحظه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬أن‭ ‬صورة‭ ‬ذلك‭ ‬الإنسان‭ ‬تبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬تتحدر‭ ‬من‭ ‬جنس‭ ‬‮«‬هابيل‮»‬‭ ‬المغدور‭. ‬على‭ ‬عكس‭ ‬أبطاله‭ ‬الذين‭ ‬يتحدرون‭ ‬من‭ ‬جنس‭ ‬‮«‬قابيل»؛‭ ‬والذين‭ ‬ينظرون‭ ‬للعامة‭ ‬نظرة‭ ‬متعالية‭ ‬ومترفعة،‭ ‬ويتجنبون‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬ممارسة‭ ‬العنف‭ ‬عليهم‭. ‬إنها‭ ‬نظرة‭ ‬فيها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الإهمال‭ ‬واللامبالاة،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬إنسان‭ ‬العامة‭ ‬يتحول‭ ‬بالنسبة‭ ‬لراعي‭ ‬البقر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الكاريكاتير،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يصبح‭ ‬بطل‭ ‬ليوني‭ ‬رؤوفاً‭ ‬متساهلاً‭ ‬مع‭ ‬سواد‭ ‬الشعب‭ ‬التعيس،‭ ‬المسكين،‭ ‬المنحوس،‭ ‬العاجز‭.‬

أما‭ ‬المشاهد‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬نلمح‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬ظلماً‮»‬‭ ‬ما،‭ ‬كمشاهد‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬وضحاياها‭ ‬مثلاً‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطيب‭ ‬والشرس‭ ‬والقبيح‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬مشاهد‭ ‬البؤس‭ ‬والفقر‭ ‬اللذين‭ ‬يرزح‭ ‬تحتهما‭ ‬أهالي‭ ‬القرية‭ ‬التي‭ ‬تتحارب‭ ‬فيها‭ ‬العائلتان‭ ‬الكبيرتان‭ ‬في‭ ‬‮«‬من‭ ‬أجل‭ ‬حفنة‭ ‬دولارات»؛‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الوقائع‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬إسباغ‭ ‬صفة‭ ‬‮«‬الظلم‮»‬‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬ليوني،‭ ‬تتصف‭ ‬بأن‭ ‬طابع‭ ‬‮«‬الظلم‮»‬‭ ‬فيها‭ ‬عام؛‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬تقسيمات‭ ‬الطبقة‭ ‬والثروة،‭ ‬وتراتبيات‭ ‬السلطة‭ ‬والقوة؛‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬الظلم‭ ‬هنا‭ ‬هيكلي،‭ ‬مسؤول‭ ‬عنه‭ ‬المجتمع‭ ‬بأكمله؛‭ ‬الإنسانية‭ ‬كلها؛‭ ‬وبعبارة‭ ‬أخرى‭: ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬مسؤول‭ ‬عنه‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬فإن‭ ‬المخالفات‭ ‬والانتهاكات‭ ‬الفردية،‭ ‬والسلب‭ ‬والنهب‭ ‬الفردي‭ ‬الذي‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬إنساني‭ ‬مُهيكل‭ ‬بالكامل‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬الظلم،‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬بالضرورة‭ ‬أمراً‭ ‬ظالماً؛‭ ‬فهو‭ ‬ظلم‭ ‬داخل‭ ‬الظلم،‭ ‬وجرم‭ ‬داخل‭ ‬الجرم؛‭ ‬وكما‭ ‬أن‭ ‬نفي‭ ‬النفي‭ ‬إثبات،‭ ‬فإن‭ ‬الحياة‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬ليوني‭ ‬لا‭ ‬تجري‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬المخالفات‭ ‬والانتهاكات‭ ‬والسلب‭ ‬والنهب،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬تصورها‭ ‬تجري‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف‭ .