«لغز المتنبي»... فرادة نادرة في الشعر والحياة

«لغز المتنبي»...     فرادة نادرة في الشعر والحياة

أدهشت المكانة التي احتلها المتنبي القراء على مر العصور، حتى وجدنا كثيراً  من النقاد (ابن جني، القاضي الجرجاني، طه حسين، إيليا حاوي، جبرا إبراهيم جبرا...) يحاولون البحث عن أسرار صنعت مجده، وجعلته مالئ الدنيا وشاغل الناس، حتى بات أكثر  الشعراء تأثيرا بالذائقة العربية، إذ يحسه المتلقي ينطق بآلامه ومخاوفه وطموحاته، فيبدو معاصراً  له، إذ يتيح تلقي شعره رحلة ممتعة في فضاءات قيم خالدة، تطرح أسئلة الوجود، فيمتزج فيها العمق الفكري بالجمال المدهش.

إن‭ ‬أحد‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬حاولوا‭ ‬استجلاء‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬الفريدة‭ ‬الشاعر‭ ‬نزار‭ ‬بريك‭ ‬هنيدي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬لغز‭ ‬المتنبي‮»‬‭*‬‭ ‬فتوقف‭ ‬عند‭ ‬نبوءة‭ ‬المتنبي‭ ‬بانتشار‭ ‬شعره‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬الزمان،‭ ‬مسلّطاً‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬لغز‭ ‬رواج‭ ‬شعره،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭  ‬بات‭ ‬فيها‭ ‬الدهر‭ ‬راوياً‭ ‬لقصائده،‭ ‬بل‭ ‬خادماً‭ ‬لها،‭ ‬لا‭ ‬وظيفة‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬إنشادها‭:‬

وما‭ ‬الدهر‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬رواة‭ ‬قصائدي

إذا‭ ‬قلت‭ ‬شعراً‭ ‬أصبح‭ ‬الدهر‭ ‬منشداً

ما‭ ‬كان‭ ‬لهذا‭ ‬الشعر‭ ‬أن‭ ‬ينتشر‭ ‬لولا‭  ‬تمتعه‭ ‬بلغز‭ ‬جمالي،‭ ‬يتجلى‭ ‬في‭ ‬روعة‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‭ ‬‮«‬حتى‭ ‬طغى‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬معاصريه،‭ ‬وفشلت‭ ‬المحاولات‭ ‬العديدة،‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬خصومه‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬ومبغضوه‭ ‬من‭ ‬الحكام‭ ‬والأمراء‭ ‬للتقليل‭ ‬من‭ ‬سطوته،‭ ‬وإخماد‭ ‬ذكره،‭ ‬ومازال‭ ‬يحظى‭ ‬بجمهور‭ ‬كبير‭ ‬حتى‭ ‬يوم‭ ‬الناس‭ ‬هذا‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬طرح‭ ‬الكتاب‭ ‬سؤالاً‭ ‬مهماً،‭ ‬يشكل‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬ألغاز‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‭: ‬‮«‬ألم‭ ‬يكن‭ ‬شعر‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬وطرفة‭ ‬والنابغة‭ ‬وجرير‭ ‬وأبي‭ ‬تمام‭ ‬والمعري‭ ‬وابن‭ ‬الرومي،‭ ‬وغيرهم،‭ ‬شعراً‭ ‬حقيقياً‭ ‬أيضاً؟‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬المتنبي‭ ‬يحتل‭ ‬المرتبة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬الناس‭ ‬جميعهم‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا؟‭ ‬وما‭ ‬الخصائص‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬الانتشار‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭ ‬الذي‭ ‬قلّ‭ ‬نظيره‭ ‬في‭ ‬آداب‭ ‬الشعوب‭ ‬جميعاً؟‭ ‬توقف‭ ‬أولاً‭ ‬عند‭ ‬لغز‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية،‭ ‬صنع‭ ‬أسطورته‭ ‬الشخصية،‭ ‬مبيناً‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬السيرة‭ ‬انطوت‭ ‬على‭ ‬سمات‭ ‬أدهشت‭ ‬الناس‭ ‬‮«‬لما‭ ‬تضمنته‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬تمسّ‭ ‬أوتار‭ ‬قلوبهم،‭ ‬وتحرّض‭ ‬عقولهم‭ ‬على‭ ‬التفكير،‭ ‬وتدفع‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬الموازنة‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬آرائهم‭ ‬وتوجهاتهم‭ ‬إزاء‭ ‬المسائل‭ ‬التي‭ ‬تعرض‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬حياتهم،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬السمات‭ ‬والمواقف‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬إنسانية‭ ‬عامة،‭ ‬تمس‭ ‬الوجدان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬ستعيش‭ ‬في‭ ‬القلوب‭ ‬وتمنح‭ ‬صاحبها‭ ‬الشهرة‭ ‬والخلود‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬لاحظ‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬معالم‭ ‬الأسطورة‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬نشأته،‭ ‬التي‭ ‬تنازعها‭ ‬رأيان‭: ‬الأول‭ ‬يبيّن‭ ‬انتماءه‭ ‬الطبقي‭ ‬البسيط،‭ ‬إذ‭ ‬نُسب‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬أب‭ ‬فقير‭ ‬يعمل‭ ‬سقاء‭ ‬في‭ ‬الكوفة،‭ ‬وبذلك‭ ‬نشأ‭ ‬في‭ ‬أدنى‭ ‬السلم‭ ‬الاجتماعي؛‭ ‬فالمتنبي‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قول‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬‮«‬نبات‭ ‬شعبي‭ ‬خالص‮»‬‭ ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬شعوره‭ ‬بالضعة‭ ‬صبياً‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أسرته‭ ‬إلى‭ ‬تعويض‭ ‬هذا‭ ‬النقص‭ ‬عبر‭ ‬الإبداع‭ ‬الشعري‭.‬

وقد‭ ‬أكّد‭ ‬لنا‭ ‬المؤلف‭ ‬‮«‬أن‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان‭ ‬يكنّون‭ ‬العطف‭ ‬والتقدير‭ ‬للفقير‭ ‬المستضعف،‭ ‬الذي‭ ‬يتغلب‭ ‬على‭ ‬شرطه‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ويجتهد‭ ‬لتحقيق‭ ‬وجوده‭ ‬مخترقاً‭ ‬طبقات‭ ‬مجتمعه،‭ ‬وواصلاً‭ ‬إلى‭ ‬الدرجة‭ ‬العليا‭ ‬فيه‮»‬‭.   

أما‭ ‬الرأي‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬نشأته‭ ‬الأسطورية‭ ‬فقد‭ ‬منحه‭ ‬هالة‭ ‬التقديس،‭ ‬إذ‭ ‬نُسب‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬المهدي‭ ‬بن‭ ‬الحسن‭ ‬العسكري،‭ ‬الذي‭ ‬ينتهي‭ ‬نسبه‭ ‬إلى‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب،‭ ‬وبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬صحة‭ ‬هذه‭ ‬المزاعم،‭ ‬فإن‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬شدة‭ ‬التعلق‭ ‬بهذا‭ ‬الشاعر،‭ ‬الذي‭ ‬يستحق‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الكثيرين‭ ‬هالة‭ ‬التقديس‮»‬‭.‬

ومما‭ ‬قرّب‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬وجدان‭ ‬المتلقي‭ ‬ما‭ ‬عاناه‭ ‬من‭ ‬طفولة‭ ‬معذّبة،‭ ‬فقد‭ ‬كابد‭ ‬وحشة‭ ‬السجن‭ ‬وقسوته‭ ‬رغم‭ ‬حداثة‭ ‬سنه،‭ ‬ثم‭ ‬تشرّد‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬غريباً‭ ‬معدماً،‭ ‬لا‭ ‬أرض‭ ‬يركن‭ ‬إليها‭ ‬ولا‭ ‬صديق‭ ‬يأنس‭ ‬به‭.‬

ومما‭ ‬منحه‭ ‬ملامح‭ ‬أسطورية‭ ‬أيضاً،‭  ‬كثرة‭ ‬تنقله‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬حياته،‭ ‬ومثل‭ ‬هذا‭ ‬الطبع‭ ‬السندبادي‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قول‭ ‬الناقد‭ ‬إيليا‭ ‬حاوي‭ ‬يغذي‭ ‬المخيال‭ ‬الشعبي‭ ‬حول‭ ‬شخصيته،‭ ‬إذ‭ ‬عايش‭ ‬عن‭ ‬كثب‭ ‬حواضر‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬والشام‭ ‬ومصر،‭ ‬وآلمه‭ ‬طغيان‭ ‬الأعاجم‭ ‬عليها،‭ ‬فبات‭ ‬شاعر‭ ‬العروبة،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬أكثر‭ ‬تأثيراً‭ ‬في‭ ‬المتلقي،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬مغامرة‭ ‬السفر‭ ‬لديه‭ ‬ارتبطت‭ ‬بالمعاناة‭ ‬لا‭ ‬بالمتعة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬المترفون‭.‬

أبداً‭ ‬أقطع‭ ‬البلاد‭ ‬ونجمي

في‭ ‬نحوس‭ ‬وهمتي‭ ‬في‭ ‬سعود

ثمة‭ ‬لغز‭ ‬آخر‭ ‬استمده‭ ‬د‭. ‬هنيدي‭ ‬من‭ ‬سيرته،‭ ‬هو‭ ‬علاقة‭ ‬المتنبي‭ ‬بالحكام،‭ ‬وما‭ ‬تمتع‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬مستقلة‭ ‬واثقة‭ ‬بنفسها،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يخضع‭ ‬للتقاليد‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الحاكم،‭ ‬فخالف‭ ‬مثقفي‭ ‬عصره،‭ ‬فلم‭ ‬نجده‭ ‬تابعاً‭ ‬ذليلاً‭ ‬يقف‭ ‬مستجدياً‭ ‬على‭ ‬أبوابه،‭ ‬يمدحه‭ ‬بما‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬منتظرا‭ ‬فتاته،‭ ‬بل‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬أسساً‭ ‬جديدة‭ ‬للعلاقة‭ ‬بين‭ ‬المثقف‭ ‬والسلطة،‭ ‬وقد‭ ‬أعطى‭ ‬مثالاً‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬قصائده‭ ‬في‭ ‬كافور‭ ‬وسخريته‭ ‬منه،‭ ‬التي‭ ‬تتناغم‭ ‬مع‭ ‬الرغبة‭ ‬المكتومة‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬تعاني‭ ‬ظلم‭ ‬الحكام‭ ‬واستبدادهم،‭ ‬فكسر‭ ‬هالة‭ ‬القداسة‭ ‬التي‭ ‬يحيطون‭ ‬بها‭ ‬أنفسهم،‭ ‬ولما‭ ‬كانت‭ ‬الغالبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الشعوب‭ ‬تخشى‭ ‬الجهر‭ ‬بما‭ ‬يعتمل‭ ‬في‭ ‬نفوسها،‭ ‬فإنها‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‭ ‬لسان‭ ‬حالها‭ ‬الذي‭ ‬يتجرأ‭ ‬على‭ ‬الحاكم،‭ ‬فينزع‭ ‬هيبته،‭ ‬ويحوّله‭ ‬إلى‭ ‬مادة‭ ‬للتهكم‭ ‬والسخرية‭.‬

 

علاقته‭ ‬بسيف‭ ‬الدولة

عاش‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬يتهافت‭ ‬فيه‭ ‬الشعراء‭ ‬على‭ ‬بلاط‭ ‬سيف‭ ‬الدولة،‭ ‬أعظم‭ ‬الحكام‭ ‬في‭ ‬عصره،‭ ‬فتجرأ‭ ‬أول‭ ‬اتصاله‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬شرط،‭ ‬يعلي‭ ‬مكانته‭ ‬ويميزه‭ ‬عن‭ ‬غيره،‭ ‬وهو‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬أنشده‭ ‬مادحاً،‭ ‬لا‭ ‬ينشده‭ ‬إلا‭ ‬وهو‭ ‬قاعد،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬يكلّف‭ ‬بتقبيل‭ ‬الأرض‭ ‬بين‭ ‬يديه‭... ‬فنسب‭ ‬شرطه‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬الجنون،‭ ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭ ‬القصيدة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يطلبها،‭ ‬ويستعجلها‭ ‬أشهراً‭ ‬طويلة‭.‬

ونظراً‭ ‬لهذه‭ ‬العلاقة‭ ‬النادرة‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬والممدوح،‭ ‬فإنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مريحة‭ ‬للحاكم؛‭ ‬لهذا‭ ‬اتسم‭ ‬ردّ‭ ‬فعله‭ ‬تجاه‭ ‬المتنبي‭ ‬بالعنف،‭ ‬إذ‭ ‬رماه‭ ‬بمحبرة‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬يده،‭ ‬مما‭ ‬وتّر‭ ‬العلاقة‭ ‬بينهما‭.‬

 

الممدوح‭ ‬يجلس‭ ‬بين‭ ‬يديه

لا‭ ‬يكتفي‭ ‬برفض‭ ‬الوقوف‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬الممدوح،‭ ‬بل‭ ‬نجد‭ ‬أحدهم‭ (‬طاهر‭ ‬بن‭ ‬حسين‭ ‬العلوي‭) ‬قد‭ ‬جلس‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬مستمعاً‭ ‬لمدحه،‭ ‬إذ‭ ‬أجلسه‭ ‬من‭ ‬مجلسه‭ ‬في‭ ‬الصدارة،‭ ‬وبذلك‭ ‬حصل‭ ‬تبادل‭ ‬أدوار‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬والممدوح‭!‬

 

لغز‭ ‬مقتله

وقف‭ ‬د‭. ‬هنيدي‭ ‬عند‭ ‬لحظة‭ ‬نادرة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬حوّلت‭ ‬المتنبي‭ ‬إلى‭ ‬بطل‭ ‬تراجيدي،‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬مخيلة‭ ‬المتلقي؛‭ ‬إذ‭ ‬برز‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬مثقف،‭ ‬ينسجم‭ ‬قوله‭ ‬بفعله‭ ‬حدّ‭ ‬الموت،‭ ‬فقد‭ ‬عرض‭ ‬عليه‭ ‬مضيفه‭ (‬أبونصر‭ ‬محمد‭ ‬الجبلي‭) ‬أن‭ ‬يرسل‭ ‬برفقته‭ ‬حراساً،‭ ‬فأجابه‭: ‬‮«‬والله‭ ‬لا‭ ‬أرضى‭ ‬أن‭ ‬يتحدث‭ ‬الناس‭ ‬بأني‭ ‬سرت‭ ‬في‭ ‬خفارة‭ ‬أحد‭ ‬غير‭ ‬سيفي‮»‬‭ ‬وحين‭ ‬خرج‭ ‬عليه‭ ‬أحد‭ ‬قطاع‭ ‬الطرق‭ (‬فاتك‭ ‬الأسدي‭) ‬وعصابته،‭ ‬قاتلهم‭ ‬قتالاً‭ ‬شديداً،‭ ‬ثم‭ ‬فرّ‭ ‬منهم،‭ ‬وكان‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬ينقذ‭ ‬حياته،‭ ‬لولا‭ ‬غلامه‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬له‭: ‬أبا‭ ‬الطيب‭ ‬ألست‭ ‬القائل‭:‬

الخيلُ‭ ‬والليلُ‭ ‬والبيداءُ‭ ‬تعرفني

والسيفُ‭ ‬والرمحُ‭ ‬والقرطاسُ‭ ‬والقلمُ

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬شاعراً‭ ‬مثله‭ ‬يقاتل‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬كلمة‭ ‬قالها‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬سيحظى‭ ‬بمكانة‭ ‬متميزة‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الناس،‭ ‬مهما‭ ‬بعُد‭ ‬الزمن‭ ‬وستحفظ‭ ‬المخيلة‭ ‬صورته‭ ‬بطلاً‭ ‬لا‭ ‬يهاب‭ ‬الموت‭.‬

 

موقفه‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬

شكل‭ ‬أحد‭ ‬ألغاز‭ ‬شهرته،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يستسلم‭ ‬لنوائب‭ ‬الدهر،‭ ‬بل‭ ‬راح‭ ‬يقارع‭ ‬خطوبه،‭ ‬حتى‭ ‬جسّد‭ ‬أنياب‭ ‬الدهر،‭ ‬وقد‭ ‬خبرت‭ ‬صلابته‭: ‬

إن‭ ‬نيوب‭ ‬الزمان‭ ‬تعرفنيأنا‭ ‬

الذي‭ ‬طال‭ ‬عجمها‭ ‬عودي

لم‭ ‬يقدّم‭ ‬له‭ ‬الزمن‭ ‬سوى‭ ‬الآلام،‭ ‬وحين‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يخفف‭ ‬عنه،‭ ‬ويؤنس‭ ‬وحشته‭ ‬أصابه‭ ‬بأفظع‭ ‬الكوارث،‭ ‬ولم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بذلك‭ ‬بل‭ ‬عرقل‭ ‬طموحه،‭ ‬ولم‭ ‬يهدأ‭ ‬في‭ ‬حربه؛‭ ‬لهذا‭ ‬يخبرنا‭ ‬قائلاً‭:‬

أهم‭ ‬بشيء‭ ‬والليالي‭ ‬كأنها

تطاردني‭ ‬عن‭ ‬كونه‭ ‬وأطارد

يبدو‭ ‬الصراع‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الزمن‭ ‬محتدماً،‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يحرمه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬طموح،‭ ‬لكنه‭ ‬يطارده،‭ ‬ويردّ‭ ‬عليه‭ ‬معلناً‭ ‬ثباته‭ ‬في‭ ‬وجهه،‭ ‬فيخاطب‭ ‬ذاته‭: ‬

وحالات‭ ‬الزمن‭ ‬عليكَ

شتىوحالكَ‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حال

ولشدة‭ ‬توتر‭ ‬العلاقة‭ ‬بينهما،‭ ‬يبرز‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬عدو،‭ ‬فيتحداه‭ ‬المتنبي‭ ‬عبر‭ ‬صورة‭  ‬مدهشة؛‭ ‬ليوحي‭ ‬للمتلقي‭ ‬بمدى‭ ‬تحديه‭ ‬ورغبته‭ ‬في‭ ‬الانتصار‭ ‬عليه‭.‬

ولو‭ ‬برز‭ ‬الزمان‭ ‬إليّ‭ ‬شخصاً

لخضّب‭ ‬شعر‭ ‬مفرقه‭ ‬حسامي

يقدّم‭ ‬المتنبي‭ ‬معاناة‭ ‬كل‭ ‬إنسان،‭ ‬يحاصره‭ ‬الزمن‭ ‬حتى‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬مقبرة‭ ‬لآماله،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يواجهه‭ ‬بطموحه،‭ ‬وبرغبته‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬إبداع‭ ‬فريد،‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬متميزة،‭ ‬وهذا‭ ‬مما‭ ‬يفضي‭ ‬بالمتلقي‭ ‬إلى‭ ‬لغز‭ ‬آخر‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬شعره،‭ ‬هو‭ ‬تجسيده‭ ‬للإنسان‭ ‬الكامل،‭ ‬الذي‭ ‬يطمح‭ ‬للمثل‭ ‬الأعلى،‭ ‬فيعزّز‭ ‬سمو‭ ‬الإنسان‭ ‬وسعيه‭ ‬للمجد،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬الظروف‭ ‬والآلام‭.‬

تغرّب‭ ‬لا‭ ‬مستعظماً‭ ‬غير‭ ‬نفسه

ولا‭ ‬قابلاً‭ ‬إلا‭ ‬لخالقه‭ ‬حكما

لهذا‭ ‬لن‭ ‬نستغرب‭ ‬ابتعاده‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يسيء‭ ‬إلى‭ ‬شخصيته‭ ‬وما‭ ‬تمثله‭ ‬من‭ ‬شرف‭ ‬وعظمة‭ ‬وطموح‭ ‬للكمال

ما‭ ‬أبعدَ‭ ‬العيبَ‭ ‬والنقصانَ‭ ‬من‭ ‬شرفي

أنا‭ ‬الثريا‭ ‬وذانِ‭ ‬الشّيبُ‭ ‬والهَرَمُ

حتى‭ ‬إنه‭ ‬حين‭ ‬يتأمل‭ ‬الطبيعة‭ ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬بالصغار‭ ‬أمامها،‭ ‬مثل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬يحوّلها‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬إلى‭ ‬إنسان‭ ‬يقرّ‭ ‬بعظمته،‭ ‬فيحس‭ ‬المتلقي‭ ‬بأن‭ ‬ثمة‭ ‬تبادلاً‭ ‬للأدوار‭ ‬بينه‭ ‬وبينها‭.‬

وكم‭ ‬من‭ ‬جبال‭ ‬جبت‭ ‬تشهد‭ ‬أنني

الجبال‭ ‬وبحر‭ ‬شاهد‭ ‬أنني‭ ‬البحر

يسجل‭ ‬للمتنبي‭ ‬في‭ ‬تقديمه‭ ‬الإنسان‭ ‬الكامل،‭ ‬استخدامه‭ ‬صيغة‭ ‬الخطاب،‭ ‬ليشارك‭ ‬المتلقي‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬السمو،‭ ‬دون‭ ‬مبالاة‭ ‬بأشباه‭ ‬البشر،‭ ‬وبذلك‭ ‬يحقق‭ ‬عظمته‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬المعوقات‭:‬

الناس‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يروك‭ ‬أشباه

والدهر‭ ‬لفظ‭ ‬وأنت‭ ‬معناه

إن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬النزعة‭ ‬في‭ ‬تعظيم‭ ‬الإنسان،‭ ‬وتأكيد‭ ‬مكانته‭ ‬السامية،‭ ‬كما‭ ‬يبيّن‭ ‬د‭. ‬هنيدي،‭ ‬متأصلة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬البشري،‭ ‬وستظل‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬تعبّر‭ ‬عنها‭ ‬خالدة‭ ‬في‭ ‬ضمير‭ ‬الناس‭.‬

 

انتشار‭ ‬الحكم‭ ‬والأمثال‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬

شكّل‭ ‬ذلك‭ ‬لغزاً‭ ‬من‭ ‬ألغازه،‭ ‬وأحد‭ ‬أسباب‭ ‬انتشاره‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬منذ‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬فيه،‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬وقد‭ ‬قدّم‭ ‬أبيات‭ ‬الحكمة‭ ‬عبر‭ ‬محاولة‭ ‬صوغ‭ ‬معجزة،‭ ‬اجتمع‭ ‬فيها‭ ‬أزمة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬علاقاته‭ ‬الاجتماعية‭:‬

ومن‭ ‬نكد‭ ‬الدنيا‭ ‬على‭ ‬الحرّ‭ ‬أن‭ ‬يرى

عدواً‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬صداقته‭ ‬بدّ

‭ ‬فيحس‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬ينطق‭ ‬بحاله‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬زمان‭ ‬وأي‭ ‬مكان،‭ ‬إذ‭ ‬يعكس‭ ‬معاناة‭ ‬إنسان‭ ‬حر،‭ ‬يتسم‭ ‬بمكارم‭ ‬الأخلاق،‭ ‬يضطر‭ ‬إلى‭ ‬مجاملة‭ ‬إنسان‭ ‬لا‭ ‬يتحمله،‭ ‬وبذلك‭ ‬يسند‭ ‬شعره‭ ‬الروح؛‭ ‬لتواجه‭ ‬ما‭ ‬يؤذيها،‭ ‬أو‭ ‬يقهرها‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬‮«‬من‭ ‬بدائعه‭ ‬إرسال‭ ‬الأمثال‭ ‬في‭ ‬أنصاف‭ ‬الأبيات‮»‬‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قول‭ ‬البديعي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الصبح‭ ‬المنبي‮»‬‭ ‬فتبدو‭ ‬حكماً‭ ‬قصيرة‭ ‬سهلة‭ ‬التداول‭ ‬والحفظ،‭ ‬مثل‭:‬

مصائب‭ ‬قوم‭ ‬عند‭ ‬قوم‭ ‬فوائد

وخير‭ ‬جليس‭ ‬في‭ ‬الأنام‭ ‬كتاب

إن‭ ‬النفيس‭ ‬غريب‭ ‬حيثما‭ ‬كانا

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬إبداع‭ ‬الحكمة‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تكوين‭ ‬ثقافي‭ ‬متميز،‭ ‬أتيح‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬منفتحة‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬إذ‭ ‬اتصل‭ ‬بأساتذة‭ ‬عصره‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬والمنطق‭ ‬والتصوف،‭ ‬وقد‭ ‬التقى‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬بشيوخ‭ ‬عصره‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والعلم‭. 

 

الترويج‭ ‬الذاتي‭ ‬وصناعة‭ ‬المجد

توقف‭ ‬د‭. ‬هنيدي‭ ‬عند‭ ‬نقطة‭ ‬لم‭ ‬نجد‭ ‬أحداً‭ ‬يسبقه‭ ‬إليها،‭ ‬وهي‭ ‬القدرة‭ ‬الإعلامية،‭ ‬بلغة‭ ‬عصرنا،‭ ‬التي‭ ‬تمتّع‭ ‬بها‭ ‬المتنبي،‭ ‬وبيّن‭ ‬أن‭ ‬المجد‭ ‬ليس‭ ‬هدية‭ ‬من‭ ‬السماء،‭ ‬تسقط‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مبدع‭ ‬متميز‭... ‬وليست‭ ‬الشهرة‭ ‬نتيجة‭ ‬محتمة‭ ‬أو‭ ‬مكافأة‭ ‬جاهزة‭  ‬لكل‭ ‬عمل‭ ‬مبتكر‭ ‬وأصيل‭... ‬وبيّن‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬عدداً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬الموهوبين‭ ‬أنجزوا‭ ‬أعمالاً‭ ‬إبداعية‭ ‬جديرة‭ ‬بالتقدير‭ ‬والذيوع،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يقوموا‭ ‬بالترويج‭ ‬لأعمالهم،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الظروف‭ ‬لم‭ ‬تخدمهم،‭ ‬فضاعت‭ ‬إنجازاتهم،‭ ‬أو‭ ‬بقيت‭ ‬مجهولة،‭ ‬وتنتظر‭ ‬من‭ ‬يكشفها،‭ ‬ويقدّر‭ ‬قيمتها،‭ ‬ويعمل‭ ‬على‭ ‬نشرها‭ ‬وإشاعتها‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يَنَمْ‭ ‬عن‭ ‬الترويج‭ ‬لشعره،‭ ‬بل‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬اجتذاب‭ ‬المريدين‭ ‬والنقاد،‭ ‬وإحاطتهم‭ ‬برعايته،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يؤسس‭ ‬الحلقات‭ ‬التي‭ ‬تدرس‭ ‬شعره،‭ ‬ويشرف‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬عليها،‭ ‬ويخوض‭ ‬السجالات‭ ‬الطويلة‭ ‬لمناقشة‭ ‬شعره‭ ‬والدفاع‭ ‬عنه،‭ ‬ولا‭ ‬يتوانى‭ ‬في‭ ‬تعديل‭ ‬بيت‭ ‬أو‭ ‬تصحيح‭ ‬لفظة‭ ‬أو‭ ‬حذف‭ ‬قصائد‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬ديوانه،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يشرف‭ ‬على‭ ‬نسخه‭ ‬وتداوله‭.‬

 

وسائل‭ ‬الترويج

إن‭ ‬قصة‭ ‬ادعاء‭ ‬النبوة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬إلا‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الوسائل،‭ ‬ومنها‭ ‬استخدامه‭ ‬بعض‭ ‬الحيل‭ ‬التي‭ ‬تعلمها‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬العرب،‭ ‬ليوهم‭ ‬الناس‭ ‬بقدرته‭ ‬على‭ ‬الإتيان‭ ‬بمعجزات‭ ‬مثل‭ ‬حيلة‭ ‬‮«‬صدحة‭ ‬المطر‮»‬‭ ‬يدّعي‭ ‬أنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬حبس‭ ‬المطر‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬أو‭ ‬يدّعي‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬ترويض‭ ‬الناقة‭ ‬الجامحة‭ ‬لبني‭ ‬عُدي،‭ ‬كما‭ ‬تفل‭ ‬على‭ ‬جرح‭ ‬أحد‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬اللاذقية‭ ‬وشدّه،‭ ‬فبرئ‭ ‬جرحه‭.‬

وبمثل‭ ‬هذه‭ ‬الأفعال‭ ‬جعل‭ ‬الناس‭ ‬يلهجون‭ ‬باسمه،‭ ‬ويعترفون‭ ‬به‭ ‬بصفته‭ ‬إنساناً‭ ‬متميزاً،‭ ‬يحوز‭ ‬ملكات‭ ‬لم‭ ‬يحزها‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

ومن‭ ‬أجل‭ ‬ترويج‭ ‬شعره‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬لقاء‭ ‬المسافرين؛‭ ‬ليفيد‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬نشره‭ ‬في‭ ‬بلدانهم‭ (‬ابن‭ ‬الوليد‭ ‬بن‭ ‬عيال‭ ‬الأندلسي،‭ ‬ابن‭ ‬الأشج‭ ‬المغربي‭...).‬

كان‭ ‬يخوض‭ ‬معارك‭ ‬نقدية‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬الترويج‭ ‬لشعره،‭ ‬إذ‭ ‬أثارت‭ ‬آراؤه‭ ‬معارضات‭ ‬كثيرة،‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬تردّ‭ ‬عليه‭ (‬أبوالقاسم‭ ‬بن‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الأصفهاني،‭ ‬أبوحيان‭ ‬التوحيدي،‭ ‬الشريف‭ ‬المرتضى‭...).‬

كما‭ ‬أسقط‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬النقاد،‭ ‬فقد‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬البصرة‭ ‬وله‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬قصيدة،‭ ‬وعاد‭ ‬إليها‭ ‬وله‭ ‬مئة‭ ‬ونيف،‭ ‬يقول‭ ‬إحسان‭ ‬عباس‭: ‬مشى‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬صغره‭ ‬وراء‭ ‬أضواء‭ ‬كاذبة،‭ ‬لكنه‭ ‬لما‭ ‬نضج‭ ‬عرف‭ ‬معنى‭ ‬الشعر‭ ‬الصحيح‭ ‬الحقيق‭ ‬بالخلود،‭ ‬فأسقط‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬شعره‭.‬

ومن‭ ‬أجل‭ ‬الردّ‭ ‬على‭ ‬منتقديه‭ ‬وحسّاده‭ ‬أسس‭ ‬حلقة‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الشباب،‭ ‬واللغويين،‭ ‬فقد‭ ‬لقيه‭ ‬ابن‭ ‬جني‭ ‬في‭ ‬حلب،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬وسافر‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬شيراز،‭ ‬وبقي‭ ‬معه‭ ‬حتى‭ ‬مقتله،‭ ‬وقد‭ ‬ألّف‭ ‬شرحين‭ ‬لديوانه‭: ‬الأول‭ ‬‮«‬الفسر‮»‬‭ ‬والثاني‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬معاني‭ ‬أبيات‭ ‬المتنبي‮»‬‭. ‬

أخيرا‭ ‬إن‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬ألغاز‭ ‬المتنبي‭ ‬اجتماع‭ ‬الموهبة‭ ‬والثقافة‭ ‬الأصيلة‭ ‬والطموح‭ ‬لبناء‭ ‬عالم‭ ‬المثل،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬الدؤوب،‭ ‬لم‭ ‬يدع‭ ‬فرصة‭ ‬إلا‭ ‬اغتنمها‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬صناعة‭ ‬مجده،‭ ‬يكفي‭ ‬أنه‭ ‬قُتل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬كلـــــماته،‭ ‬ويجــــسدها‭ ‬للناس‭ ‬فعلاً‭ ‬لا‭ ‬قولاً،‭ ‬لهــــــذا‭ ‬بــــدا‭ ‬فــــي‭ ‬مخيلة‭ ‬الناس‭ ‬شاعراً‭ ‬فارساً‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬جبرا‭ ‬إبراهيم‭ ‬جبرا‭ ‬