الأيام الجميلة
كنت في العاشرة من عمري، العاشرة تمامًا، أذكر هذا الرقم لأني شعرت عند بلوغه أني كبرت. ابتسمت وعددتُ من الواحدة إلى العشرة. ابتسمت أكثر عندما قلت لنفسي: هذا كثير، عشرة أعوام، في هذه السنة كنت في مدرسة في حي من بيروت جميل جدًّا، منازله تزيّنها حدائق مازلت أراها الآن، والآن عمري يفوق السنوات العشر، سأضحكك لهذه الفكرة، العدد كبير، حتى إني لا أستطيع أن أعدّه، عشرة عشرون ثلاثون أربعون... وأكثر... وأكثر.
السنوات تمرّ وتمضي دون إذن مني، وكل سنة تنقش ذكرى مرورها عليّ... على جسدي... على مسمعي... على سيري... المنازل.... الجنائن... والأزهار... وسكان البيوت... وساكنات البيوت... أعمارهن من أعمارنا... عشرة وأكثر قليلاً أو أقل قليلاً... كنا عدة رفقاء في المدرسة، أنا وألبرتو ومانولي أخوه وأيوب وروبير وإميل، كل وحد منا اختار فتاة من بيوت الحي... وكثيرًا ما كان للفتاة الواحدة صديقان منّا أو أكثر، أو أننا نشترك كلنا بحبّهن جميعًا!
القصة هي أننا كنّا نحب الحب الذي اكتشفناه في تلك السنّ، في ذلك الحي الجميل، الشاعري العاطفي الذي حوّلنا إلى العيش في الأحلام، في انتظار الليل لنحلم، قلت إنهن صديقات، المسألة أننا لم نجرأ يومًا على التكلّم معهن، وكنا بالكاد ننظر إليهن عندما يقع نظرنا عليهن. كبرنا، لم يبق في المدرسة صف ليستقبلنا، تركنا المدرسة والحي، تخرّجنا، وكل واحد منا أدخل إلى مدرسة فيها صفوف عليا، اختيار المدارس كان وفق مقدرة العائلة، قسط معقول أو قسط متوسط أو عالٍ، أما نصيبي أنا فمدرسة شبه مجانية، جيوب العائلة لم تكن على ما يرام، حزنت لهذا لأسباب عديدة، السبب الأول لبعد رفقائي وتوزعهم في مدارس قريبة أو بعيدة، والسبب الثاني أني وجدت أن المدرسة الجديدة ليست كما كنت أتمنّاها، المستوى التعليمي ومستوى الطلاب جعلاني غريبًا فيها، غير منسجم مع أحد، وكبرت، وتركت المدرسة مضطرًا، الوالد قد ذهب، توفّاه الله، رحت أدرس في مدرسة ليلية وأعمل أجيرًا في النهار. كانت أتعس أيامي، مرضت، بقيت في الفراش أسبوعًا، طُردت من عملي، في هذه المرحلة كنت أعشق الموسيقى الكلاسيكية، وكنت أرسم وألوّن على أي شيء، على الورق أو على الخشب أو على القماش، كبرت، صرت شابًّا، لبست بنطلونًا طويلاً، أذكر لونه، أزرق غامقاً فيه خطوط بيضاء، هو أصلا لخالي، درست اللاسلكي «المورس»، نجحت في الدخول إلى شركة فرنسية للتلغراف اسمها Radio-Orient راديو أوريان، بقيت تسع سنوات، وكان الفن يملأ أفكاري واهتمامي، بدأت أرسم، درست الفن في مكانين، مع رسّام هنغاري ثم في الأكاديمية اللبنانية، وكان عملي الليلي في راديو أوريان، وذهابي صباحًا إلى الأكاديمية قد أهلكاني، فقررت أن أدخل عالم الفن وأترك عملي. في «صالون الربيع»، وهو معرض جماعي كان يقام في بيروت نلت جائزة السفارة الفرنسية. ذهبت إلى باريس، بقيت سنة، ثم كرّت السنوات وأصبحت ما بين بيروت وباريس، هنا لست أدري ماذا سأحكي أيضًا، أكثر، هل أكمّل حكايتي، أم أقف هنا وأعود إلى أيامي الأول؟ تلك الأيام التي تمنيت، وأتمنى الآن أن تعود وأعود معها في سن السنوات العشر التي لم تكن سعيدة كلها، هل أحكي عن العائلة، عن أبي وجهاده اليومي وأمي وهمومها، وأخوالي وخصوصًا خليل الموسيقي والرسام والذي منه أخذ أخي توفيق الموسيقى، وأنا أخذت الرسم وعشق الموسيقى؟ هذه مواضيع كبرى ساحرة أكاد أعيش فيها اليوم، وأحلم وأتمنى لو تعود تلك الأيام، وأعود أنا إلى سن السنوات العشر، ولكن لم يبق عندي سوى التمنيات والأحلام.