حكايات السقا المصري

حكايات السقا المصري

قال‭ ‬أحد‭ ‬الكتَّاب‭ ‬الفرنسيين‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬‮«‬إن‭ ‬عظمة‭ ‬أي‭ ‬شعب‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تقاس‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬يُعمل‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الماء‮»‬،‭ ‬لذا‭ ‬اشترط‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬عند‭ ‬التخطيط‭ ‬ضرورة‭ ‬توفير‭ ‬المياه‭ ‬الصالحة‭ ‬للشرب‭ ‬والزراعة‭ ‬بسهولة‭ ‬ويسر،‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬ومن‭ ‬طرق‭ ‬توفير‭ ‬المياه‭ ‬وجود‭ ‬أشخاص‭ ‬ينقلون‭ ‬المياه‭ ‬العذبة‭ ‬من‭ ‬منابعها‭ ‬للناس‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬مختلفة،‭ ‬وهم‭ ‬السقاءون‭. ‬

مصادر‭ ‬الماء‭ ‬العذب‭ ‬عديدة،‭ ‬منها‭ ‬الأمطار‭ ‬والآبار‭ ‬والبحيرات‭ ‬العذبة‭ ‬والأنهار،‭ ‬وقد‭ ‬تميزت‭ ‬مصر‭ ‬بهبات‭ ‬ومنح‭ ‬ربانية‭ ‬عظيمة،‭ ‬فامتلكت‭ ‬هذه‭ ‬المصادر،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬نهر‭ ‬النيل،‭ ‬فكان‭ ‬ومازال‭ ‬شريان‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬كلها‭. ‬ومهنة‭ ‬السقاء‭ ‬انتشرت‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المصري‭ ‬منذ‭ ‬فترات‭ ‬طويلة،‭ ‬وكانت‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المهن‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الخلفاء‭ ‬والولاة‭ ‬المسلمين‭ ‬بعد‭ ‬الفتح‭ ‬الإسلامي‭ ‬لمصر‭.‬

 

تصنيف‭ ‬العاملين‭ ‬بمهنة‭ ‬السقاية‭ 

العريف‭: ‬هو‭ ‬شخص‭ ‬يختاره‭ ‬المحتسب‭ ‬ويجعله‭ ‬رئيساً‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حرفة،‭ ‬ويتصف‭ ‬بسمات‭ ‬خاصة،‭ ‬فيجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬خبيراً‭ ‬بحرفته‭ ‬ومشهوراً‭ ‬بالثقة‭ ‬والأمانة‭ ‬ومشرفاً‭ ‬على‭ ‬أحوال‭ ‬أهل‭ ‬المهنة،‭ ‬ويخبر‭ ‬المحتسب‭ ‬بما‭ ‬يحدث‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬الطائفة،‭ ‬كما‭ ‬يجب‭ ‬عليه‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬حقوق‭ ‬الحرفيين‭.‬

‭ ‬صبي‭ ‬السقاء‭: ‬هو‭ ‬غلام‭ ‬صغير‭ ‬السن‭ ‬يختاره‭ ‬السقاء‭: ‬ليعاونه‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬ويلتزم‭ ‬بالقواعد‭ ‬نفسها‭.‬

‭ ‬سقاءو‭ ‬الجمال‭: ‬هم‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬السقائين‭ ‬تستخدم‭ ‬الجمال‭ ‬لنقل‭ ‬الرَوايا‭ ‬من‭ ‬مصدرها‭ ‬على‭ ‬الجمال‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬التوزيع‭.‬

‭ ‬سقاءو‭ ‬الكيزان‭: ‬هم‭ ‬أصحاب‭ ‬حوانيت‭ ‬الماء،‭ ‬ويقدمونه‭ ‬للمارة‭ ‬في‭ ‬كيزان‭ ‬نظيفة‭ ‬معطرة‭ ‬بالبخور‭ ‬والمسك،‭ ‬ثم‭ ‬تطور‭ ‬اسم‭ ‬سقائي‭ ‬الكيزان‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬السقا‭ ‬شربة‮»‬،‭ ‬وأصبحوا‭ ‬يحملون‭ ‬قِرباً‭ ‬جلدية‭ ‬ذات‭ ‬أنبوبة‭ ‬نحاسية‭ ‬طويلة‭ ‬ويصبون‭ ‬الماء‭ ‬للظمآن‭ ‬في‭ ‬طاس‭ ‬نحاسي‭ ‬أو‭ ‬قُلة‭ ‬فخارية‭. ‬

سقاءو‭ ‬القِرَب‭: ‬هم‭ ‬حاملو‭ ‬الماء‭ ‬على‭ ‬ظهورهم‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬أكتافهم‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬رقابهم‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الحمير‭ ‬في‭ ‬قِرب‭ ‬لحي‭ ‬باب‭ ‬البحر‭ ‬وحي‭ ‬باب‭ ‬اللوق‭ ‬وحارة‭ ‬السقائين،‭ ‬وفي‭ ‬قناطر‭ ‬السباع،‭ ‬وقد‭ ‬تفنّنوا‭ ‬في‭ ‬تزيين‭ ‬فوهاتها‭ ‬بزخارف‭ ‬مختلفة‭.‬

 

كيفية‭ ‬اختيار‭ ‬السقا‭ ‬

نظراً‭ ‬لطول‭ ‬المسافة‭ ‬من‭ ‬النيل‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬توزيع‭ ‬المياه،‭ ‬ونظراً‭ ‬للمشقة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتحملها‭ ‬السقا‭ ‬أثناء‭ ‬توزيع‭ ‬الماء،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬مسموحاً‭ ‬لأحد‭ ‬أن‭ ‬يتولى‭ ‬تلك‭ ‬المهنة‭ ‬بسهولة،‭ ‬فالسقاءون‭ ‬كأصحاب‭ ‬حرفة‭ ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬طائفة‭ ‬ورئيس،‭ ‬ولكي‭ ‬يستطيع‭ ‬المبتدئ‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يُقبل‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬طائفة‭ ‬السقائين،‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يجتاز‭ ‬اختباراً‭ ‬خاصاً‭ ‬يثبت‭ ‬به‭ ‬جدارته‭ ‬وقدرته‭ ‬الجسمانية‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬مشاق‭ ‬هذه‭ ‬المهنة‭. ‬وكما‭ ‬ذكر‭ ‬الرحالة‭ ‬الإسباني‭ ‬ليون‭ ‬الإفريقي‭ (‬حسن‭ ‬الوزان‭)‬،‭ ‬عندما‭ ‬زار‭ ‬القاهرة،‭ ‬فإن‭ ‬أحداً‭ ‬من‭ ‬السقائين‭ ‬كان‭ ‬يراهن‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬على‭ ‬كتفه‭ ‬قربة‭ ‬من‭ ‬الجلد‭ ‬مملوءة‭ ‬بالماء‭ ‬ومربوطة‭ ‬بسلسلة‭ ‬من‭ ‬حديد‭ ‬سبعة‭ ‬أيام‭ ‬متوالية‭ ‬من‭ ‬الصباح‭ ‬حتى‭ ‬المساء،‭ ‬وتمكن‭ ‬فعلاً‭ ‬من‭ ‬كسب‭ ‬الرهان،‭ ‬فنال‭ ‬تكريماً‭ ‬من‭ ‬الجميع،‭ ‬واحتفلوا‭ ‬به‭ ‬احتفالاً‭ ‬كبيراً‭ ‬ضم‭ ‬المغنيين‭ ‬وجميع‭ ‬السقائين‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬ولعل‭ ‬ما‭ ‬شاهده‭ ‬ليون‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬رهاناً‭ ‬كما‭ ‬ظن،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬اختباراً‭ ‬لأحد‭ ‬المبتدئين‭ ‬الراغبين‭ ‬في‭ ‬الانضمام‭ ‬إلى‭ ‬طائفة‭ ‬السقائين‭. ‬ورغم‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬كلام‭ ‬ليون‭ ‬فإنه‭ ‬مثال‭ ‬يؤكد‭ ‬وجود‭ ‬قواعد‭ ‬معينة‭ ‬لاختيار‭ ‬السقاء‭. ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬وثيقة‭ ‬عثمانية‭ ‬تنص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬السقا‭ ‬كان‭ ‬يمر‭ ‬باختبار‭ ‬مبدئي‭ ‬للقبول‭ ‬في‭ ‬المهنة،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬قربة‭ ‬أو‭ ‬كيس‭ ‬رمل‭ ‬يزن‭ ‬67‭ ‬رطلاً‭ (‬الرطل‭ ‬أقل‭ ‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬كيلوجرام‭) ‬لمدة‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسمح‭ ‬له‭ ‬بالاستناد‭ ‬أو‭ ‬الاستراحة‭ ‬أو‭ ‬النوم،‭ ‬فإذا‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬الاختبار‭ ‬انضم‭ ‬إلى‭ ‬طائفة‭ ‬السقائين‭. ‬ورغم‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أيضاً،‭ ‬فإنه‭ ‬كلام‭ ‬منطقي،‭ ‬لأنه‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬مشقات‭ ‬ومتاعب‭ ‬تلك‭ ‬المهنة‭.‬

وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬حصول‭ ‬السقا‭ ‬على‭ ‬رخصة،‭ ‬فكل‭ ‬مهنة‭ ‬قديمة‭ ‬كانت‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬رخصة‭ ‬لحاملها‭ ‬لكي‭ ‬يمتهنها‭ ‬بعد‭ ‬عمل‭ ‬الكشف‭ ‬الصحي‭ ‬عليه‭ ‬والتوقيع‭ ‬الطبي‭ ‬ومدى‭ ‬لياقته‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المهنة‭. ‬ولأن‭ ‬مهنة‭ ‬السقا‭ ‬مهنة‭ ‬صعبة،‭ ‬فكانت‭ ‬تمنح‭ ‬له‭ ‬رخصة‭ ‬ورقية‭ ‬صادرة‭ ‬من‭ ‬نظارة‭ ‬الداخلية‭ ‬باسم‭ ‬السقا،‭ ‬وطوله‭ ‬ولون‭ ‬عينيه‭ ‬وجنسيته‭ ‬ومكانه،‭ ‬مرسوماً‭ ‬عليها‭ ‬صوره‭ ‬للسقا‭ ‬حاملاً‭ ‬قربة‭ ‬المياه‭ ‬ليستطيع‭ ‬التنقل‭ ‬بين‭ ‬شوارع‭ ‬القاهرة،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬عام‭ ‬1877م،‭ ‬ثم‭ ‬وُضع‭ ‬نظام‭ ‬دقيق‭ ‬لكل‭ ‬أصحاب‭ ‬الحرف‭ ‬القديمة،‭ ‬فتطورت‭ ‬الحال،‭ ‬وكان‭ ‬كل‭ ‬سقا‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬رخصة‭ ‬معدنية‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬المدينة‭ ‬والرقم‭ ‬واسم‭ ‬السقا‭ ‬بالعربية‭ ‬والإنجليزية،‭ ‬وكانت‭ ‬توضع‭ ‬علي‭ ‬كتفه‭ ‬برباط‭ ‬من‭ ‬الجلد،‭ ‬وكذلك‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬صاحب‭ ‬مهنة‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬المحروسة‭.‬

 

الالتزامات‭ ‬والقواعد‭ ‬المفروضة‭ ‬على‭ ‬السقائين‭ ‬

نظراً‭ ‬لأن‭ ‬الماء‭ ‬هو‭ ‬قوام‭ ‬الحياة،‭ ‬ومن‭ ‬دونه‭ ‬لا‭ ‬تستمر،‭ ‬ونظراً‭ ‬لأن‭ ‬المصريين‭ ‬اعتمدوا‭ ‬على‭ ‬السقائين‭ ‬اعتماداً‭ ‬مباشراً‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الماء‭ ‬العذب،‭ ‬فكانوا‭ ‬يدخلون‭ ‬كل‭ ‬البيوت‭ ‬ويتعاملون‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬الطبقات،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحرفة‭ ‬ارتبطت‭ ‬بالصحة‭ ‬العامة‭ ‬للسكان،‭ ‬لم‭ ‬تُترك‭ ‬هذه‭ ‬الطائفة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬رقابة‭ ‬أو‭ ‬إشراف،‭ ‬وتشهد‭ ‬كتب‭ ‬الحسبة‭ ‬مدى‭ ‬اعتناء‭ ‬السلطات‭ ‬الحاكمة‭ ‬بالسقائين،‭ ‬فكان‭ ‬المحتسب‭ ‬يُعين‭ ‬عريفاً‭ ‬على‭ ‬السقائين‭ ‬يساعده‭ ‬في‭ ‬مراقبتهم‭ ‬والإشراف‭ ‬عليهم‭ ‬لمنع‭ ‬وقوع‭ ‬إهمال‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬عواقب‭ ‬وخيمة‭. ‬كما‭ ‬فرض‭ ‬المحتسب‭ ‬قواعد‭ ‬وتعليمات‭ ‬عدة‭ ‬على‭ ‬السقاء،‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬ينفذها‭ ‬وإلا‭ ‬سيتعرض‭ ‬للعقاب،‭ ‬وينتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬عواقب‭ ‬وخيمة‭.  ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬كتب‭ ‬الحسبة‭ ‬والفقه،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعرض‭ ‬هذه‭ ‬القواعد‭ ‬كالآتي‭:  ‬حدد‭ ‬المحتسب‭ ‬كمية‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬المياه‭ ‬يأخذها‭ ‬السقاءون‭ ‬من‭ ‬النهر،‭ ‬وهي‭ ‬24‭ ‬دلواً‭ ‬وكل‭ ‬دلو‭ ‬40‭ ‬رطلاً‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الواحد،‭ ‬وألا‭ ‬يأخذ‭ ‬الماء‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬البر،‭ ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬تكون‭ ‬فيه‭ ‬فضلات‭ ‬أو‭ ‬تراب،‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬الأماكن‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬المنازل‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬النهر‭ ‬أو‭ ‬موضع‭ ‬سقاية‭ ‬الدواب‭ ‬والحمام،‭ ‬ولذا‭ ‬فيجب‭ ‬على‭ ‬السقا‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬النهر‭ ‬حتى‭ ‬يرى‭ ‬نظافة‭ ‬ونقاء‭ ‬الماء‭ ‬ووقتها‭ ‬يملأ‭ ‬القربة‭ ‬ليضمن‭ ‬سلامة‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬التلوث‭. ‬وكان‭ ‬لزاماً‭ ‬على‭ ‬السقائين‭ ‬أن‭ ‬يلبسوا‭ ‬سراويل‭ ‬قصيرة‭ ‬تستر‭ ‬عوراتهم‭ ‬وتساعدهم‭ ‬في‭ ‬نزول‭ ‬النهر‭ ‬بسهولة،‭ ‬وينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الوعاء‭ ‬نظيفاً،‭ ‬فإذا‭ ‬دخله‭ ‬شيء‭ ‬يجب‭ ‬تنظيفه‭ ‬وتطهيره‭ ‬من‭ ‬النجاسة،‭ ‬كما‭ ‬يتعين‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬يداه‭ ‬نظيفتين‭. ‬وعندما‭ ‬يبيع‭ ‬الماء‭ ‬للمارة‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يغطي‭ ‬‮«‬الراوية‮»‬‭ ‬بغطاء‭ ‬سميك‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يسكب‭ ‬الماء‭ ‬منها‭ ‬ويؤذي‭ ‬المارة،‭ ‬وكان‭ ‬السقاءون‭ ‬حاملو‭ ‬الماء‭ ‬على‭ ‬ظهور‭ ‬الدواب‭ ‬يضعون‭ ‬أجراساً‭ ‬حديدية‭ ‬أو‭ ‬نحاسية‭ ‬في‭ ‬أعناق‭ ‬دوابهم‭ ‬لتحدث‭ ‬صوتاً‭ ‬عالياً‭ ‬لتنبيه‭ ‬المارة‭.‬

‭ ‬كذلك‭ ‬لم‭ ‬يتجاهل‭ ‬المحتسب‭ ‬الالتزامات‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والأدبية،‭ ‬نظراً‭ ‬لأن‭ ‬السقا‭ ‬بحسب‭ ‬مهنته‭ ‬كان‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬والطرقات‭ ‬ينادي‭ ‬على‭ ‬الماء،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬مضطراً‭ ‬لدخول‭ ‬المنازل‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الطبقات،‭ ‬ولذلك‭ ‬ألزمه‭ ‬المحتسب‭ ‬بأن‭ ‬يغض‭ ‬البصر‭ ‬عند‭ ‬دخول‭ ‬المنزل‭ ‬وألا‭ ‬ينظر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬قدمه‭ ‬وموضع‭ ‬سكب‭ ‬الماء،‭ ‬ويلتزم‭ ‬الأدب‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬العام‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يسبب‭ ‬الإحراج‭ ‬للنساء‭ ‬أو‭ ‬يكون‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬حدوث‭ ‬الفتنة‭. ‬ولم‭ ‬يتجاهل‭ ‬المحتسب‭ ‬السقائين‭ ‬أرباب‭ ‬القرب‭ ‬والروايا‭ ‬والدلاء،‭ ‬فكان‭ ‬يمنعهم‭ ‬من‭ ‬استعمال‭ ‬مواد‭ ‬حافظة‭ ‬للماء‭.‬

 

أماكن‭ ‬إقامة‭ ‬السقائين‭ ‬

من‭ ‬خلال‭ ‬الوثائق‭ ‬والمصادر‭ ‬المعاصرة،‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬السقائين‭ ‬كانوا‭ ‬يقيمون‭ ‬في‭ ‬أحياء‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬نهر‭ ‬النيل،‭ ‬حيث‭ ‬دلت‭ ‬إحدى‭ ‬الوثائق‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬السقائين‭ ‬داخل‭ ‬حي‭ ‬باب‭ ‬البحر،‭ ‬المنطقة‭ ‬الواقعة‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬حي‭ ‬الجيش‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يلتقي‭ ‬مع‭ ‬حي‭ ‬كلوت‭ ‬بك،‭ ‬وقرية‭ ‬أم‭ ‬دُنينو‭ ‬وهي‭ ‬الآن‭ ‬ميدان‭ ‬رمسيس،‭ ‬حيث‭ ‬أشارت‭ ‬وثيقة‭ ‬بدرالدين‭ ‬الونائي‭ ‬إلى‭ ‬اسم‭ ‬حانوت‭ ‬للسقا‭ ‬تم‭ ‬فتحه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحي‭ ‬لبيع‭ ‬المياه،‭ ‬ومن‭ ‬المحتمل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الحي‭ ‬قد‭ ‬ضم‭ ‬أعداداً‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬السقائين‭. ‬وما‭ ‬يرجح‭ ‬هذا‭ ‬الاحتمال‭ ‬هو‭ ‬قرب‭ ‬حي‭ ‬باب‭ ‬البحر‭ ‬من‭ ‬النيل‭ ‬ومن‭ ‬الخليج‭. ‬كما‭ ‬وجد‭ ‬حانوت‭ ‬آخر‭ ‬بجوار‭ ‬جامع‭ ‬الآمير‭ ‬آق‭ ‬سنقر‭ ‬بين‭ ‬باب‭ ‬الوزير‭ ‬والتبانة،‭ ‬أما‭ ‬الشارع‭ ‬المعروف‭ ‬بحارة‭ ‬السقائين،‭ ‬فلم‭ ‬يُعرف‭ ‬باسمه‭ ‬هكذا‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وأوله‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬شارع‭ ‬الشيخ‭ ‬ريحان،‭ ‬وآخره‭ ‬شارع‭ ‬درب‭ ‬الحمام،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬اليمين‭ ‬درب‭ ‬الخولا‭ ‬وسكة‭ ‬الدروة‭ ‬بداخلها‭ ‬درب‭ ‬الميضأة‭ ‬وعطفة‭ ‬عريان‭ ‬ودرب‭ ‬الصبان‭. ‬كما‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬القربية‭ ‬الذي‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬باب‭ ‬زويلة،‭ ‬وكان‭ ‬به‭ ‬حوانيت‭ ‬لبيع‭ ‬القِرب‭ ‬والدلاء،‭ ‬وكان‭ ‬مكاناً‭ ‬مناسباً‭ ‬لسكنى‭ ‬السقائين،‭ ‬لأنه‭ ‬بذلك‭ ‬يتوسط‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬القاهرة‭ ‬والفسطاط،‭ ‬مما‭ ‬يسهل‭ ‬على‭ ‬القربيين‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬السقائين،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أن‭ ‬باب‭ ‬زويلة‭ ‬كان‭ ‬معبراً‭ ‬رئيساً‭ ‬للسقائين‭ ‬من‭ ‬الخليج‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭.‬

 

أجرة‭ ‬السقائين

وهنا‭ ‬نتساءل‭: ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬يحصل‭ ‬السقاءون‭ ‬على‭ ‬أجرتهم‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬المنازل‭ ‬والمنشآت،‭ ‬مثل‭ ‬المعاصر‭ ‬والطواحين‭ ‬والأفران‭ ‬وغيرها؟‭ ‬فمن‭ ‬خلال‭ ‬أقوال‭ ‬المستشرقين‭ ‬والرحالة‭ ‬الأجانب،‭ ‬كان‭ ‬الساقي‭ ‬ينادي‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬والطرقات‭ ‬بعبارات‭ ‬معينة‭ ‬لينبّه‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬وجوده،‭ ‬فيفتحون‭ ‬أبواب‭ ‬منازلهم‭. ‬ومن‭ ‬نداءاتهم‭ ‬‮«‬سبيل‭ ‬يا‭ ‬عطشان‮»‬،‭ ‬‮«‬الجنة‭ ‬والمغفرة‭ ‬يا‭ ‬صاحب‭ ‬السبيل‮»‬،‭ ‬‮«‬يا‭ ‬رب‭ ‬عوِّض‭ ‬علي‮»‬،‭ ‬‮«‬العوض‭ ‬على‭ ‬الله‭... ‬عليه‭ ‬العوض‮»‬‭ ‬ثم‭  ‬يتوجهون‭ ‬إلى‭ ‬المنازل‭ ‬والمنشآت‭ ‬الخاصة‭ ‬ويقومون‭ ‬بصب‭ ‬المياه‭ ‬في‭ ‬الخزانات‭ ‬والأزيار‭. ‬ولكي‭ ‬يحصل‭ ‬السقا‭ ‬على‭ ‬أجرته،‭ ‬كان‭ ‬يتبع‭ ‬طرقاً‭ ‬مختلفة،‭ ‬فأحياناً‭ ‬كان‭ ‬يسجل‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬العميل‭ ‬خطوطاً‭ ‬بعدد‭ ‬القِرب‭ ‬التي‭ ‬أحضرها،‭ ‬له‭ ‬وأحياناً‭ ‬كان‭ ‬يستخدم‭ ‬عقداً‭ ‬من‭ ‬الخرز‭ ‬الأزرق‭ ‬يسحب‭ ‬منه‭ ‬خرزة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬قربة‭ ‬يحضرها‭ ‬لمنزله،‭ ‬وعندما‭ ‬تنتهي‭ ‬كل‭ ‬خرزات‭ ‬العقد‭ ‬يحسب‭ ‬أجرته‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬سقاءو‭ ‬الروايا‭ ‬والقِرب،‭ ‬فكانوا‭ ‬يبيعون‭ ‬المياه‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬للمارة‭ ‬مقابل‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬الخبز‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الطعام،‭ ‬وأحياناً‭ ‬بلا‭ ‬مقابل‭ ‬من‭ ‬الفقراء،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬الأغنياء‭ ‬يؤجرون‭ ‬هؤلاء‭ ‬السقائين‭ ‬لبيع‭ ‬المياه‭ ‬مجاناً‭ ‬رغبة‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬الماء‭ ‬صدقة‭ ‬للفقراء،‭ ‬ولتشجيع‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬النبيل‭ ‬سُمح‭ ‬للسقائين‭ ‬بأخذ‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مقابل‭ ‬من‭ ‬الأسبلة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أنهم‭ ‬أعفوا‭ ‬من‭ ‬دفع‭ ‬الضرائب‭.‬

 

المهام‭ ‬الأخرى‭ ‬للسقا‭ ‬

بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬السقائين‭ ‬في‭ ‬توصيل‭ ‬المياه‭ ‬العذبة‭ ‬للمنازل‭ ‬والمؤسسات،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬دور‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬نقل‭ ‬الماء،‭ ‬حيث‭ ‬كانوا‭ ‬يكلفون‭ ‬بإطفاء‭ ‬الحرائق،‭ ‬ولذلك‭ ‬كانوا‭ ‬يمثلون‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬الحراسة‭ ‬الأمنية‭ ‬التي‭ ‬ترافق‭ ‬الشرطة‭ ‬ليلاً،‭ ‬فكان‭ ‬وجودهم‭ ‬مهماً‭ ‬لإطفاء‭ ‬حريق‭ ‬قد‭ ‬ينشب‭ ‬ليلاً‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬منطقة‭. ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬والي‭ ‬القاهرة‭ ‬يُرغم‭ ‬السقائين‭ ‬والقربيين‭ ‬والعرفاء‭ ‬على‭ ‬الوجود‭ ‬باستمرار‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬القاهرة‭ ‬خشية‭ ‬وقوع‭ ‬حريقٍ‭ ‬ما،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬كان‭ ‬يقدم‭ ‬لهم‭ ‬العشاء‭ ‬يومياً‭. ‬

كما‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬حي‭ ‬من‭ ‬أحياء‭ ‬القاهرة‭ ‬يختص‭ ‬به‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬السقائين،‭ ‬يقومون‭ ‬برشه‭ ‬مرتين‭ ‬بالنهار‭ ‬نظير‭ ‬أجر‭ ‬معين،‭ ‬فنراهم‭ ‬يقومون‭ ‬برش‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬يركب‭ ‬فيها‭ ‬الخليفة‭ ‬مقابل‭ ‬دينار‭ ‬واحد،‭ ‬وكان‭ ‬والي‭ ‬القاهرة‭ ‬ومصر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬يُرغم‭ ‬السقائين‭ ‬على‭ ‬عمل‭ ‬ذلك‭ ‬بالسُخرة‭ ‬بغير‭ ‬أجر،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬منع‭ ‬الوالي‭ ‬ذلك‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬تعجّب‭ ‬الرحالة‭ ‬جان‭ ‬تينو‭ ‬من‭ ‬نظافة‭ ‬شوارع‭ ‬القاهرة،‭ ‬حيث‭ ‬يقوم‭ ‬السقاءون‭ ‬برشها‭ ‬بالمياه‭ ‬لترطيب‭ ‬المدينة‭ ‬نتيجة‭ ‬ارتفاع‭ ‬درجة‭ ‬الحرارة‭. ‬أما‭ ‬الرحالة‭ ‬اليهودي‭ ‬ميشولم،‭ ‬فذكر‭ ‬أنه‭ ‬وجد‭ ‬بالقاهرة‭ ‬10‭ ‬آلاف‭ ‬شخص‭ ‬يرشون‭ ‬الشوارع‭ ‬لتهدأ‭ ‬ثورة‭ ‬الغبار‭ ‬والأتربة،‭ ‬لكن‭ ‬الراهب‭ ‬فيلكس‭ ‬فابري،‭ ‬ذكر‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬عدداً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬بجمالهم‭ ‬لرش‭ ‬الشوارع‭ ‬لتهدئة‭ ‬الغبار‭ ‬الذي‭ ‬يُثار‭ ‬بسبب‭ ‬حركة‭ ‬الأعداد‭ ‬المتزايدة‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬والخيول‭ ‬والبغال،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬ذلك‭ ‬بصورة‭ ‬منتظمة‭ ‬لاختنق‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الغبار‮»‬‭.‬

كما‭ ‬كان‭ ‬للسقا‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬السبيل،‭ ‬فمن‭ ‬خلال‭ ‬وثيقة‭ ‬وقف‭ ‬للسلطان‭ ‬فرج‭ ‬صاحب‭ ‬السبيل‭  ‬الملحق‭ ‬بمسجده‭ ‬بشارع‭ ‬تحت‭ ‬الربع،‭ ‬يتبين‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬السبيل‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬المزملاتي‭ ‬القائم‭ ‬بعملية‭ ‬تسبيل‭ ‬الماء‭ ‬في‭ ‬السبيل،‭ ‬حيث‭ ‬يملأ‭ ‬الأواني‭ ‬المختلفة،‭ ‬وكان‭ ‬فيه‭ ‬شباكان‭ ‬عليهما‭ ‬كيزان‭ ‬بسلاسل‭ ‬نحاسية‭ ‬غليظة،‭ ‬أحدهما‭ ‬مطل‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬مقابل‭ ‬باب‭ ‬زويلة‭ ‬وفيه‭ ‬باب‭ ‬صغير‭ ‬يسبل‭ ‬الماء،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬سقاء‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬نافذة‭ ‬الشباك‭ ‬يقدم‭ ‬الكيزان‭ ‬المليئة‭ ‬بالماء،‭ ‬وألزم‭ ‬الساقي‭ ‬أن‭ ‬يسبل‭ ‬الماء‭ ‬طوال‭ ‬النهار‭ ‬وطرفي‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬رمضان‭ ‬ويجلس‭ ‬في‭ ‬مقامه‭ ‬لذلك‭ ‬أسوة‭ ‬بأمثاله‭ ‬من‭ ‬حوانيت‭ ‬السبيل‭ ‬وهم‭ ‬يسقون‭ ‬المارة‭.‬‭ ‬

ولم‭ ‬تقتصر‭ ‬وظيفة‭ ‬السقائين‭ ‬على‭ ‬توصيل‭ ‬المياه‭ ‬للمنازل‭ ‬أو‭ ‬الأسواق‭ ‬والشوارع‭ ‬والحوانيت‭ ‬والمؤسسات‭ ‬المختلفة‭ ‬أو‭ ‬رش‭ ‬الشوارع‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬أدّوا‭ ‬أدوراً‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬نقل‭ ‬المياه‭ ‬للسكان،‭ ‬حيث‭ ‬كانوا‭ ‬يخرجون‭ ‬مع‭ ‬الجيش‭ ‬ويسيرون‭ ‬في‭ ‬صحبته،‭ ‬وذلك‭ ‬لإمداد‭ ‬الجنود‭ ‬بما‭ ‬يلزمهم‭ ‬من‭ ‬المياه،‭ ‬كما‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬مقدم‭ ‬المواكب‭ ‬الخاصة‭ ‬بالشخصيات‭ ‬المهمة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المناسبات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬مثل‭ ‬يوم‭ ‬دوران‭ ‬المحمل‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬موكب‭ ‬رؤية‭ ‬هلال‭ ‬رمضان‭ ‬أو‭ ‬توزيع‭ ‬المياه‭ ‬في‭ ‬الموالد‭.‬

كما‭ ‬كانوا‭ ‬مرسالاً‭ ‬للحريم،‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬سبباً‭ ‬مباشراً‭ ‬في‭ ‬تسمية‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬وصف‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬تلك‭ ‬الفئة‭ ‬بالخدم،‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬أما‭ ‬السقاءون‭ ‬فهم‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬رسل‭ ‬الحريم‭ (‬أي‭ ‬النساء‭)‬،‭ ‬وينتهي‭ ‬بهم‭ ‬الأمر‭ ‬بأن‭ ‬يكوّنوا‭ ‬أموالاً‭ ‬من‭ ‬الحريم‭ ‬والنساء‭ ‬وهن‭ ‬اللائي‭ ‬يخترنهم‭ ‬ويتبادلنهم‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينهن،‭ ‬ويتمتع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الخدم‭ ‬عامة‭ ‬بحظ‭ ‬أوفر‭ ‬من‭ ‬الآخرين،‭ ‬ويوليهم‭ ‬أرباب‭ ‬البيوت‭ ‬أكبر‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الرعاية،‭ ‬وتبسط‭ ‬النساء‭ ‬عليهم‭ ‬حمايتهن‭ ‬ويحرصن‭ ‬على‭ ‬إراحتهم‮»‬‭. ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬الفقهاء‭ ‬يفرضون‭ ‬عليهم‭ ‬اتباع‭ ‬الآداب‭ ‬العامة‭ ‬وعدم‭ ‬الاختلاط‭ ‬بالحريم‭ ‬لمنع‭ ‬الفتنة‭ ‬والوقوع‭ ‬في‭ ‬المتاعب‭ ‬والتعرض‭ ‬للعقاب‭.‬

 

المهن‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالسقائين‭ ‬

ارتبطت‭ ‬طوائف‭ ‬حرفية‭ ‬بطائفة‭ ‬السقائين،‭ ‬نظراً‭ ‬لأنها‭ ‬حرف‭ ‬مساندة‭ ‬لهم،‭ ‬مثل‭ ‬حرفة‭ ‬الفاخوري،‭ ‬وظهر‭ ‬ذلك‭ ‬واضحاً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بعض‭ ‬الوثائق‭ ‬العثمانية‭ ‬التي‭ ‬أوضحت‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬رئيس‭ ‬هذه‭ ‬الحرفة‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬نسميه‭ ‬العريف،‭ ‬كان‭ ‬يقيم‭ ‬داخل‭ ‬حي‭ ‬باب‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬الصناع‭ ‬كانوا‭ ‬يقومون‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬بصنع‭ ‬الأواني‭ ‬الفخارية‭ ‬من‭ ‬قُلل‭ ‬وأزيار،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬الأدوات‭ ‬التي‭ ‬يستخدمها‭ ‬السقاءون‭. ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬مصنع‭ ‬تصنع‭ ‬فيه‭ ‬هذه‭ ‬الأدوات‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬الأزبكية‭ ‬غير‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬باب‭ ‬البحر،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬حرفة‭ ‬القِربَ،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬سوق‭ ‬تصنع‭ ‬فيه‭ ‬القِرَب‭ ‬كان‭ ‬يقع‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬السقائين‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬زويلة‭ ‬وحتى‭ ‬باب‭ ‬البحر،‭ ‬إحدى‭ ‬مناطق‭ ‬دخول‭ ‬السقائين،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬ثلاث‭ ‬طوائف‭ ‬تخصصت‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬وإصلاح‭ ‬وبيع‭ ‬القِرَب‭ ‬الجلدية،‭ ‬وقد‭ ‬سمى‭ ‬الحي‭ ‬كله‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬حي‭ ‬القربية‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬يفتح‭ ‬كل‭ ‬أيام‭ ‬الجمع‭ ‬حتى‭ ‬الظهر‭ ‬لخدمة‭ ‬طوائف‭ ‬السقائين‭ ‬التي‭ ‬تركزت‭ ‬داخل‭ ‬حي‭ ‬باب‭ ‬البحر‭ ‬وباب‭ ‬زويلة‭.‬

 

السقا‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬المصري‭ ‬

تذكر‭ ‬إحدى‭ ‬الحكايات‭ ‬الشعبية‭ ‬أن‭ ‬حماراً‭ ‬كان‭ ‬ينتظر‭ ‬نهايته،‭ ‬فكان‭ ‬يشكو‭ ‬قائلاً‭ ‬‮«‬عندما‭ ‬لا‭ ‬أعود‭ ‬أستطيع‭ ‬الجري،‭ ‬فسوف‭ ‬يغطون‭ ‬ظهري‭ ‬بسرج‭ ‬خشبي‭ ‬ويسلمونني‭ ‬إلى‭ ‬سقا‭ ‬يجعلني‭ ‬أحمل‭ ‬المياه‭ ‬في‭ ‬القِرب‭ ‬والجِرار،‭ ‬ويا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬نهاية‭ ‬حقيرة‮»‬‭... ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬صعوبة‭ ‬المهنة‭ ‬ومتاعبها‭ ‬التي‭ ‬ترهق‭ ‬الحمار،‭ ‬فرأى‭ ‬أنها‭ ‬مهنة‭ ‬حقيرة‭ ‬ومُهينة‭ ‬له‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬يغطي‭ ‬ظهره‭ ‬بالسرج‭ ‬المزخرف‭ ‬بالألوان‭ ‬الزاهية‭ ‬وينقل‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬ظهره‭ ‬ويحصل‭ ‬على‭ ‬طعام‭ ‬وفير‭.‬

وجاء‭ ‬ذكر‭ ‬السقا‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬علي‭ ‬الزيبق،‭ ‬وهي‭ ‬المهنة‭ ‬التي‭ ‬تخفى‭ ‬بها‭ ‬البطل‭ ‬وارتدى‭ ‬ملابس‭ ‬السقا‭ ‬وحمل‭ ‬القِربة‭ ‬على‭ ‬ظهره‭ ‬المُنحني‭ ‬ليستطيع‭ ‬دخول‭ ‬منزل‭ ‬الوالي‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬ويستطلع‭ ‬الأخبار‭ ‬لينتقم‭ ‬منه‭. ‬وبذلك‭ ‬فالراوي‭ ‬الشعبي‭ ‬يؤكد‭ ‬لنا‭ ‬قدرة‭ ‬السقا‭ ‬على‭  ‬دخول‭ ‬المنازل‭ ‬بسهولة‭ ‬والإنصات‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬فيها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كان‭ ‬مصدراً‭ ‬مهماً‭ ‬لمعرفة‭ ‬أحوال‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬بيوتهم‭.‬

وأخيراً،‭ ‬كتب‭ ‬الأديب‭ ‬الراحل‭ ‬يوسف‭ ‬السباعي‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬السقا‭ ‬مات‮»‬،‭ ‬التي‭  ‬صدرت‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬عام‭ ‬1952م،‭ ‬واعتبرها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬أهم‭ ‬رواية‭ ‬كتبها‭ ‬السباعي،‭ ‬وتدور‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬حارة‭ ‬مصرية‭ ‬في‭ ‬العشرينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬حول‭ ‬فلسفة‭ ‬الموت‭ ‬ومحاولة‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭ (‬المعلم‭ ‬شوشة‭ ‬السقا‭) ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬ذكرى‭ ‬وفاة‭ ‬زوجته‭ ‬الشابة‭. ‬وتحدث‭ ‬مفارقة‭ ‬عجيبة‭ ‬عندما‭ ‬ينقذ‭ ‬المعلم‭ ‬شوشة‭ ‬شخصاً‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬الضرب‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المطاعم،‭ ‬ثم‭ ‬تتوثق‭ ‬علاقته‭ ‬به‭ ‬ويدعوه‭ ‬للإقامة‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬مع‭ ‬حماته‭ ‬وابنه‭ ‬سيد،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬متعلق‭ ‬بدفن‭ ‬الموتى‭. ‬وينفر‭ ‬المعلم‭ ‬شوشة‭ ‬من‭ ‬ضيفه‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬لكن‭ ‬الضيف‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬إقناع‭ ‬المعلم‭ ‬شوشة‭ ‬بمواصلة‭ ‬حياته‭ ‬ونبذ‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الموت،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أكبر‭ ‬مفارقة‭ ‬تحدث‭ ‬عندما‭ ‬يموت‭ ‬الضيف‭ ‬نفسه‭ ‬فجأة‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬شوشة،‭ ‬فينهار‭ ‬المعلم‭ ‬بسبب‭ ‬ذلك‭. ‬وبعد‭ ‬فترة‭ ‬يستعيد‭ ‬المعلم‭ ‬شوشة‭ ‬عافيته‭ ‬ويأتيه‭ ‬خبر‭ ‬سار‭ ‬بتعيينه‭ ‬شيخاً‭ ‬للسقائين‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬البيت‭ ‬ينهار‭ ‬فوق‭ ‬رأس‭ ‬المعلم‭ ‬وتنتهي‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬قوي‭ ‬ومؤثر‭.‬

 

نهاية‭ ‬السقا‭ ‬المصري‭ ‬

في‭ ‬الماضي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬رؤية‭ ‬السقا‭ ‬منحني‭ ‬الظهر‭ ‬يجول‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الله‭ ‬تحت‭ ‬شمسه‭ ‬وسمائه،‭ ‬بين‭ ‬المجاذيب‭ ‬وأصحاب‭ ‬الوظائف‭ ‬الخفيفة،‭ ‬فيصطبغ‭ ‬وجهه‭ ‬بالسواد‭ ‬القمحي،‭ ‬وتتخذ‭ ‬قدمه‭ ‬شكلاً‭ ‬مفلطحاً‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬الوقوف‭ ‬والمشي‭ ‬ليلاً‭ ‬ونهاراً،‭ ‬وسيظهر‭ ‬لك‭ ‬قديماً‭ ‬قدم‭ ‬الدهر‭ ‬والدروب‭ ‬التي‭ ‬تحتويه‭ ‬ساعياً‭ ‬بين‭ ‬الحسين‭ ‬وبيت‭ ‬القاضي‭ ‬وبوابة‭ ‬المتولي‭ ‬وحارة‭ ‬السقائين‭ ‬والسيدة‭ ‬زينب‭ ‬والسيدة‭ ‬عائشة،‭ ‬فمهنة‭ ‬السقاية‭ ‬كانت‭ ‬معروفة‭ ‬لدى‭ ‬الجميع،‭ ‬وكان‭ ‬للسقائين‭ ‬شيخ‭ ‬طائفة‭ ‬وأماكن‭ ‬للتجمعات‭ ‬وأخرى‭ ‬للسكن،‭ ‬أما‭ ‬الآن‭ ‬فهم‭ ‬عملة‭ ‬نادرة‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬اندثرت‭. ‬وقد‭ ‬أخذت‭ ‬مهنة‭ ‬السقا‭ ‬في‭ ‬الاحتضار‭ ‬بالقاهرة‭ ‬حينما‭ ‬أنشئت‭ ‬شركة‭ ‬المياه‭ ‬وبدأت‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬آلات‭ ‬الضخ‭ ‬والأنابيب‭ ‬التي‭ ‬توزع‭ ‬المياه‭ ‬داخل‭ ‬المدينة،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬مستمراً‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المناطق‭ ‬ولم‭ ‬يختف‭ ‬نهائياً،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬وسائل‭ ‬السقاية‭ ‬قد‭ ‬تطورت،‭ ‬فلم‭ ‬تعد‭ ‬القربة‭ ‬القديمة‭ ‬المصنوعة‭ ‬من‭ ‬جلد‭ ‬الماعز،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬فناطيس‭ ‬معدنية‭ ‬ومكعبات‭ ‬بلاستيكية،‭ ‬وجراكن‭ ‬محمولة‭ ‬على‭ ‬أكتافهم،‭ ‬أو‭ ‬براميل‭ ‬على‭ ‬عربات‭ ‬الكارو‭ ‬التي‭ ‬تجرها‭ ‬الخيول‭ ‬والحمير،‭ ‬يملأها‭ ‬السقا‭ ‬المعاصر‭ ‬من‭ ‬صنابير‭ ‬المياه،‭ ‬لكي‭ ‬يوزعها‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬العشوائية‭ ‬المحرومة‭ ‬من‭ ‬المياه‭ ‬بأطراف‭ ‬القاهرة‭ ‬وقرى‭ ‬مصر‭ ‬