ذكريات الملتقى الأول للرواية

ذكريات الملتقى الأول للرواية

أذكر أنني كنت مشتركاً في آخر مهرجان حضرته للمربد في بغداد. وفاجأني ضعف المستوى الشعري الذي استمعت إليه حتى من الشعراء الكبار، وكنت قبل ذلك قد كتبت مقالة أثارت نوعاً من الاحتجاج في مصر بعنوان: «حالة وخم شعري»، وتحدثت فيها عن ضعف شعر صلاح عبدالصبور رئيس تحرير مجلة «الكاتب» التي نشرت فيها هذا المقال. وبعد ذلك ظللت أشعر على نحو مبهم أن الشعر العربي المعاصر لم تعد له الحرارة والقوة نفسها التي كان عليها من قبل، وبدا يتضح لي تدريجياً أننا نغادر  زمن الشعر  إلى زمن آخر هو «زمن الرواية». 

أما لماذا اخترت العنوان «زمن الرواية» فلأن أدونيس (علي أحمد سعيد) كان له كتاب ذائع الصيت بعنوان: «زمن الشعر» (2005) وكنت قد قرأت هذا الكتاب وأعجبت به، ويبدو أن تأثري به قد دفعني إلى أن أقتبس من العنوان كلمة زمن وأستخدمها في مجال الرواية. 
ومن هنا خطر على بالي أننا نعيش في زمن الرواية وليس في زمن الشعر. ولم يكن ذلك أولاً انتقاصاً من قيمة الشعر أو تقليلاً من شأنه، فالأمر لم يكن يتجه في ذهني إلى صوغ هيراركية جديدة بدل هيراركية قديمة، وإنما كنت أعرف من تاريخ الأدب في العالم أن كل عصر له نوعه الأدبي الذي يزدهر على نحو خاص، مرتبطاً بطبيعة العصر نفسه وتفاعلاته السياسية والاجتماعية والثقافية، ولهذا كانت الرومانسية مرتبطة في صعودها بصعود الليبرالية والطبقة الوسطى، كما كان صعود الطبقة الوسطى، وازدهار المدينة مرتبطاً بصعود فن القص في أوربا. وحتى في أوربا نفسها كانت كلمة عصر تستخدم في الدلالة على الفكر، فهناك عصر العقل الذي كان يطلق على الزمن الذي ازدهرت فيه الفلسفة العقلانية في القرن السابع عشر، وهناك عصر الاستنارة وهو يرتبط بالقرن الثامن عشر،... إلخ. 
ولكني لم أكن معجبا بكلمة عصر (Age)، وإنما كنت معجباً بكلمة «زمن» التي استخدمها أدونيس، ولهذا ألحَّ على ذهني مصطلح زمن الرواية استجابة عقلية مني لما رأيته من تدافع الروايات أولاً، مرتبطة بازدهار القصة القصيرة بالطبع في ستينيات القرن الماضي، خصوصاً عند الجيل الذي كان يحاول التمرد على يوسف إدريس من ناحية، ونجيب محفوظ من ناحية ثانية. وكان الإحساس المرير بهزيمة 1967 هو الوقود المحرك لأبناء هذا الجيل كي يقبلوا على فن القص أكثر من غيره. وذلك لأن فن القص يتيح لكاتبه التوقف إزاء الأحداث الحاسمة في تاريخ الأمم، وتتبع مظاهرها ونواتجها، والغوص إلى جذورها، وتأمل العوامل المادية والمعنوية التي قادت إليها، فالرواية هي لحظات البحث المتأني، والتحليل الهادئ المتروي.

زمن السرد
بالتأكيد كان قبلي من كبار النقاد الذين ينتسبون إلى جيل أساتذتي من شَعر بمثل ما شعرت به من قبل، وألمح إلى ذلك بوضوح، خصوصا أستاذنا علي الراعي في كتابه الضخم عن الرواية العربية الذي أطلق فيه على الرواية العربية صفة «ديوان العرب المحدثين». وكان ذلك في السياق الذي انتهت فيه إعارتي من الكويت سنة 1983 وعودتي إلى مصر وانشغالي برئاسة قسم اللغة العربية في آداب القاهرة لأعوام 1990 و1991 و1992 و1993 ثم تعييني رئيساً لتحرير مجلة «فصول» سنة 1992. ومنذ العدد الأول الذي أشرفت عليه، وكان بعنوان «الأدب والحرية»، لم يفارق ذهني ملاحظة الصعود اللافت للرواية، إلى أن جاء عاما 1992 و1993 وخصصت عددين من فصول بعنوان «زمن الرواية»، وقد رحب بالكتابة في هذا العدد ترحيباً حماسياً علي الراعي نفسه وجبرا إبراهيم جبرا ومحمد برادة وغيرهم من كبار النقاد من أساتذتنا وأبناء جيلي في الوقت نفسه.
 وكان العددان إعلاناً واضحاً بأننا دخلنا في زمن أدبي مختلف، وأن هذا الزمن هو زمن الرواية بالدرجة الأولى والقصة القصيرة بالدرجة الثانية، أو هو بعبارة أخرى زمن القص أو السرد. وكان واضحاً أن أدب الستينيات قد وصل إلى تحقيق نبوءة نجيب محفوظ بأن الرواية هي «شعر الدنيا الحديثة»، ذلك لأن الشعر - في ما يرى حائز جائزة نوبل - «ساد في عصور الفطرة والأساطير. أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتماً إلى فن جديد، يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال. وقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فليس لأنه أرقى من الزمن، ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائماً للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة». 
هذه العبارات قالها نجيب محفوظ سنة 1945، رداً على عباس العقاد. وقد فرحت بها حين قرأتها في مجلة الرسالة وأحسست بأنها تؤكد ظني وحدسي وإيماني أيضاً بأننا نعيش في زمن الرواية أو بعبارة نجيب محفوظ زمن القص، أو بالعبارة المترجمة زمن السرد. لهذا كنت فرحاً بالعددين اللذين أصدرتهما من مجلة «فصول» بعنوان: «زمن الرواية». الطريف أنني عُينت – وأنا رئيس تحرير لمجلة «فصول» - أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة. 
وكانت مصر أيامها لاتزال تعاني العزلة الثقافية المفروضة عليها بسبب معاهدة كامب ديفيد، وكنت أشعر أن مهمتي تحطيم هذه العزلة بأدوات ووسائل الثقافة وليس السياسة، لأنه إذا كانت السياسة تفرق دائماً ما بين العرب، فالثقافة تجمع بينهم، خصوصاً لأن المثقفين العرب ليسوا – لحسن الحظ - يتبعون حرفياً سياسات أقطارهم، وإنما يبتعدون عنها بالقدر الذي يتيح لهم حرية الحركة والاستقلال النسبي، وشيئاً فشيئاً منذ أن توليت أمانة المجلس الأعلى في يناير 1993 بدأت، من خلال المجلس، تحطيم هذه العزلة بواسطة المؤتمرات الثقافية القومية التي دعوت إليها كل المثقفين العرب البارزين الذين كانت تربطني بأكثرهم علاقة احترام متبادل، إلى أن جئنا في عام 1998، وألح عليّ الهاجس الذي لم يتركني، وهو أننا نعيش في زمن الرواية، اتباعاً لرأي نجيب محفوظ أن القصة هي شعر الدنيا الحديثة، لذلك دعوت المثقفين العرب إلى ملتقى القاهرة الأول للإبداع الروائي في المجلس الأعلى للثقافة سنة 1998، ولم تكن صحة نجيب محفوظ تسمح له بإلقاء كلمة، بعد أن حاول أحد الإرهابيين المنتسبين إلى «الجماعة الإسلامية» قتله وأنجته العناية الإلهية من محاولة القتل، وكان ذلك في أكتوبر عام 1994. وقد تأثرت أعصاب نجيب محفوظ من الطعنة التي تلقاها، ولم يعد قادراً على الكتابة. 

خصوصية الرواية
ولذلك أملى كلمته على الصديق محمد سلماوي الذي كان موكلاً عنه، والذي ألقى كلمته عندما حصل على جائزة نوبل التي لم يتسلمها بنفسه، بل تسلمتها ابنتاه. وقد كانت قاعة المسرح الصغير بالأوبرا مليئة بالحضور إلى درجة لم تحدث من قبل، وكان المثقفون العرب يشاركون المثقفين المصريين الحضور الحاشد احتفالاً بالرواية العربية وإعلاناً أننا دخلنا زمنها. وقد ألقى كلمة الروائيين العرب الروائي الكبير حنا مينا، وأذكر أن رئيس المؤتمر كان الأستاذ فتحي غانم، عليه رحمة الله، وكان رئيساً للجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة، أما رئيس لجنة التحكيم التي ستمنح جائزة الملتقى للفائز من الروائيين العرب فكان الأستاذ الدكتور إحسان عباس، ويشترك معه في هذه اللجنة نخبة من ألمع النقاد العرب المهتمين بالرواية، وأذكر منهم توفيق بكار والطيب صالح ويمنى العيد وفيصل دراج.  وكان الموضوع الأساسي لنقاشات المؤتمر وأبحاثه هو الإجابة عن السؤال: هل هناك خصوصية للرواية العربية بعد نشأتها في منتصف القرن التاسع عشر وازدهارها في كل الأقطار العربية تقريباً في تسعينيات القرن الماضي، خصوصاً بعد أن دخلت هذه الرواية إلى محيط العالمية بفضل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل سنة 1988؟
وكان هذا السؤال طبيعياً ومنطقياً بعد أن تكاثرت عوامل التواصل بين الرواية العربية والرواية العالمية، وبعد أن ترجمت العديد من أعمال الكتاب العرب، ابتداء من نجيب محفوظ وليس انتهاء بأصغر كاتب من كتاب ذلك الزمان. وكنت شاهداً على ذلك، فقد كنت أرى بعيني في مكتبات بيع الكتب في أوربا وأمريكا ركناً خاصاً للقص العربي وللكتّاب العرب من الرجال والنساء في الوقت نفسه، خصوصاً بعد أن كنت لا أجد لهم ذكراً قبل ذلك، تحديداً قبل أن يحصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل. وقد تبارى في الإجابة عن هذا السؤال عشرات الباحثين والنقاد من العالم العربي. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يستضيف فيها المجلس الأعلى للثقافة ما يقرب من مائة دارس وناقد وأديب من العالم العربي والأجنبي في الوقت نفسه. 
وكانت جلسات المؤتمر تتم بالتوازي عبر قاعات المجلس الأعلى للثقافة وفي قاعة مكتبة القاهرة الكبرى، وكانت اللجنة السرية المشكلة لاختيار الفائز بجائزة الملتقى الأول للرواية العربية في القاهرة تجتمع سراً لاختيار واحد من أبرز كتاب الرواية العربية لتعطيه جائزة الملتقى. وقد ابتدعت سُنّة أن تعطى الجائزة مرة لكاتب عربي ومرة لكاتب مصري. ومضى المؤتمر بأيامه والجميع ملتف حوله، مشارك في نشاطه. 

المثل العليا
وكنت موزعاً بين المجلس الأعلى ومكتبة القاهرة الكبرى، حيث تنعقد جلسات المؤتمر في قاعاتها، إذ لم نكن قد أكملنا البناء الجديد للمجلس بعد، وجاء اليوم الأخير وانتهت بحوث المؤتمر وتوجه الجميع إلى قاعة المسرح الكبير بدار الأوبرا التي تتسع لأكثر من ألف شخص لحضور الاحتفال بختام وقائع الملتقى، وكان حدثاً ثقافياً مهيباً مؤثراً على كل المستويات، واصطف كتاب الرواية من النقاد والدارسين والقُرّاء عبر صفوف قاعة الأوبرا الكبيرة، وبعد تقديم عدد من المشاهد الفنية والكلمات الاحتفائية التي ألقاها وزير الثقافة، وكان الفنان فاروق حسني، وشخصي باعتباري أمين المجلس، مرحباً بالحضور العربي، معتذراً عن أي تقصير، صعد د. فيصل دراج لكي يقرأ تقرير اللجنة الذي يحدد أسباب الاختيار وبعده الاسم الذي تم اختياره، وعندما قرأ 
د. فيصل دراج اسم المرحوم عبدالرحمن منيف اهتزت جدران الأوبرا من التصفيق الحار والحاد الذي ظل لدقائق، وكنت أتطلع إلى وجه المرحوم عبدالرحمن منيف الذي أضاء على نحو استثنائي، وعلته لمعة من الفرح والعرفان. وانتهى الاحتفال بختام الملتقى بعد أن تسلم عبدالرحمن منيف الشيك بالمبلغ المالي الرمزي للجائزة ومعه درع وتمثال خشبي ليد الكاتب، مكتوب على قاعدته كلمات من الجزء الثالث من ثلاثية نجيب محفوظ تتحدث عن المثل الأعلى الذي ينبغى أن يسعى وراءه الكاتب الذي لابد له من الالتزام بالقيم العليا حتى ولو اصطدم بمجتمعه في سبيل نشر هذه القيم العليا. 
وتقول الكلمات نصاً: «إني أؤمن بالحياة والناس، وأرى نفسى ملزماً باتباع مثلهم العليا مادمت أعتقد أنها الحق، إذ إن النكوص عن ذلك جبن وهرب، كما أرى نفسي ملزما بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل، إذ إن النكوص عن ذلك خيانة، وهذا هو معنى الثورة الأبدية». ومن المؤكد أن بعض الكتاب قد شعروا بالحزن لأنهم لم يحصلوا على الجائزة التي لم تكن مهمة بقيمتها المادية وإنما بالمكانة التي يحققها صاحبها التي يحصل عليها من ملتقى القاهرة للإبداع الروائي الأول الذي كان حدثاً بالغ الأهمية في زمنه. ولاأزال أذكر الغضب الذي انتاب الصديق حنا مينا حين أعلن عن منح الجائزة لعبدالرحمن منيف، فقد كان يرى نفسه أحق منه. ويبدو أنني كنت السبب – دون أن أدري - في غضبه، فقد طلبت منه إلقاء كلمة الروائيين العرب تكريماً لمكانته وسنه. 
ولكن هذا ما كنت أملكه بحكم صفتي التنظيمية فحسب. أما الجائزة فلم يكن لي شأن بها، فما كان لمثلي أن يملي رأيه على لجنة يرأسها الأستاذ د. إحسان عباس رحمه الله، ومن أعضائها الطيب صالح رحمه الله، والأستاذ توفيق بكار الناقد التونسي الأشهر في ذلك الوقت، رحمة الله عليه، وغيرهم من أعضاء اللجنة التي اجتمعت في مكان سري، وأصدرت قرارها في حيدة كاملة. وقد نالني من غضب الأستاذ حنا مينا الكثير في حواراته التي أعقبت ذلك. 
ولكني أسامحه على سوء ظنه بي. فقد كان حضوره إضافة كبيرة إلى الملتقى الذي لايزال مستمراً في المجلس الأعلى للثقافة, حتى بعد أن تركت أمانة المجلس وتنقلت بين المناصب العديدة, إلى أن أصبحت حراً من الوظائف ليس لى سوى وظيفة واحدة أقدسها كل التقديس، وهي الكتابة .