الديسيلكسيا خلل جيني في التطور الجنيني
يعد اكتشاف الجين المسؤول عن إعاقة الديسيلكسيا أو بطء التعلم إنجازاً علمياً هائلاً لأحد أكبر الأسرار الغامضة في علم دراسة الأعصاب، كما أنه يبعث ببارقة أمل للمصابين به ولذويهم، ويحدثنا التاريخ عن مشاهير كثر في مجـالات عدة، عانوا إعاقة بطء التعـلـم، منهم - على سبيل المثال لا الحصر - وينستون تشرشل، بابلو بيكاسـو، ألبرت أينشتاين، محمد علـي كلاي، ليوناردو دافنــشي، وبالرغم من أن معاناتهم لهذا المرض الذي تبدأ أعراضه في المراحل الأولى للعمر كان يمكن أن تتسبب في فشلهم فإنهم تداركوا الأمر وحققوا إنجازات مهمة شرفتهم في حياتهم، وبعد وفاتهم، وهناك فروق جوهرية بين بطء التعلم وصعوبة التعلم، وقد يصفه البعض خطأ بصعوبة التعلم.
تعد إعاقة الديسيلكسيا أو عسر القراءة والكتابة وبطئها، الشهيرة بمصطلح بطء التعلم، من الاضطرابات التي تصيب شريحة كبيرة من الأطفال، حيث يتراوح معدل انتشارها بين 5 و12 في المائة، وتكثر على وجه الخصوص بين الأقارب بالدرجة الأولى، وبين الذكور أكثر من الإناث، ووفق دراسة أنجزت بفرنسا وأجرتها مجموعة من خبراء التربية واختصاصيي الأعصاب هناك، حددت أهم أعراض بطء التعلم بعسر القراءة عند قيام الطفل بزيادة أو نقصان حرف أو نطقه بطريقة خاطئة، مع القراءة ببطء وفهم ضعيف، إضافة إلى أعراض أخرى تتمثل في التذبذب في النطق، حيث نجد أن الطفل يقرأ الكلمة أحياناً بطريقة صحيحة في أول الصفحة، ولكن إذا تكررت في سطر آخر، فإنه قد ينطقها بصورة خاطئة.
كان مصطلح «عسر التعلم» ولايزال مصطلحاً غامضاً بالنسبة لكثيرين بمن فيهم التربويون، وقد يستخدم بعضهم هذا المصطلح بمرونة كبيرة إلى درجة يصعب معها تمييزه عن غيره من الفئات التربوية الخاصة، وبخاصة الصعوبات التعلمية والتخلف العقلي، فعلى سبيل المثال، كان الاختصاصيون يصفون الأطفال المتخلفين عقلياً بأنهم بطيئو التعلم، لأنهم يحتاجون إلى تدريب مكثف يستغرق مدة طويلة كي يحققوا الأهداف النمائية التي يحققها أترابهم العاديون بجهد أقل ووقت أقصر. وحتى في هذه الأيام فإن مصطلح بطء التعلم يستخدم على نطاق واسع في الأوساط التربوية المهتمة بالتلاميذ الذين يعانون مشكلات تعلمية وسلوكية.
الطفل بطيء التعلم هو طفل لا يتمتع بقدرات عقلية عادية، ولكنه لا يعاني التخلف العقلي، لأن مستوى الأداء العقلي العام لديه إذا ما قيس باختبارات الذكاء الفردية يبقى في حدود مستويات الأداء الطبيعي، وذلك من الناحية الإجرائية يعني أن نسبته تتراوح بين 70 و85 في المائة. ورغم أن التقويم الأكاديمي لذكاء هذا الطفل يظهر أنه دون المستوى العام فإنه منسجم مع قدراته الحقيقية وقابلياته الفعلية، وبالرغم من أن هؤلاء الأطفال يعانون مشكلات تعلمية كبيرة فإنهم ليسوا من الفئات التي تخدمها التربية الخاصة لذوي الاحتياجات الخاصة (وهي فئات التخلف العقلي، الإعاقة السلوكية، الإعاقة البصرية، الإعاقة السمعية، الإعاقة الجسمية، صعوبات التعلم، اضطرابات الكلام واللغة). بعبارة أخرى، فإن الأطفال بطيئي التعلم يتلقون تعليمهم في المدارس العادية، في حين أن الأطفال ذوي الحاجات الخاصة يلتحقون جزئياً أو كلياً بمدارس التربية الخاصة.
و هكذا فإن بطء التعلم وصعوبات التعلم شيئان مختلفان، فالأطفال ذوو الصعوبات التعليمية لا يعانون انخفاضاً في مستوى الأداء العقلي العام، وتحصيلهم الأكاديمي لا ينسجم مع قدراتهم الفعلية، ومع ذلك فإن من الصعوبة بمكان التمييز بين بطء التعلم والصعوبات التعلمية في المدارس، وذلك أمر ينطوي على مخاطر وقد يقود إلى اتخاذ قرارات خاطئة في ما يتعلق بالأساليب التربوية العلاجية والتصحيحية.
ومن حيث الخصائص المميزة للأطفال بطيئي التعلم فإن أهمها أن نضجهم وسرعة تعلمهم أبطأ وبشكل ملحوظ من الأطفال الآخرين من الشريحة العمرية نفسها. كذلك فإن هؤلاء الأطفال لا ينشغلون بما فيه الكفاية بالمهمات التعلمية المطلوبة منهم ويظهرون مستويات عالية من التململ والتشتت وفقدان الاهتمام. ومن جهة أخرى، فإن الأطفال بطيئي التعلم يعانون اضطرابات، كذلك فإن لغة الطفل تكون غير ناضجة ونموه العام يتصف بالتأخر، وإذا ما درست حالة الطفل التطورية في المراحل العمرية المبكرة فسيتضح أيضاً أنه كان بطيئاً في كل شيء منذ مولده، فهو يمشي متأخراً مقارنة بالأطفال الآخرين، ويتكلم متأخراً، وهكذا.
إن الأطفال بطيئي التعلم ينضجون ويتعلمون ولكن ليس بمعدل نضج وتعلم الأطفال الآخرين، وهؤلاء الأطفال لا يتأخرون في اكتساب المظاهر النمائية فقط ولكنهم يتأخرون عن زملائهم في تعلم المهارات الأكاديمية الأساسية، مثل القراءة والكتابة، وفي معظم الحالات لا تتضح المشكلات الحقيقية التي يعانيها هؤلاء الأطفال إلا بعد الالتحاق بالمدرسة، فعندما يتابع المعلمون أداء هؤلاء الأطفال يلاحظون أنهم ليسوا كأقرانهم من حيث سرعة التعلم والنمو، ويلاحظون الصعوبات التي يواجهونها في استخدام اللغة التعبيرية واللغة الاستيعابية، وأن لدى هذه الفئة من التلاميذ صعوبات سلوكية أيضاً ولا غرابة في ذلك، فهناك ارتباط بين المشكلات التعلمية والمشكلات السلوكية.
صعوبات التعلم
يعاني أكثر من 10 في المائة من أطفال المدارس مشكلات صعوبات التعلم وهو مصطلح عام يشير إلى مجموعة غير متجانسة من الاضطراب التي تعبر عن نفسها من خلال صعوبات دالة في اكتساب واستخدام مهارات الاستماع أو الحديث أو القراءة أو الكتابة أو الاستدلال أو القدرات الرياضية، وهذه الاضطرابات ذاتية، أي تنشأ داخلياً، ويفترض أن تكون راجعة إلى خلل في الجهاز العصبي المركزي، ويمكن أن تحدث خلال حياة الفرد، كما يمكن أن تكون متلازمة مع مشكلات الضبط الذاتي والمشكلات الاجتماعية للإدراك والتفاعل، لكن هذه المشكلات لا تنشئ بذاتها صعوبات التعلم، ومع أن تلك الصعوبات تحدث متلازمة (متزامنة) مع بعض ظروف الإعاقة الأخرى (القصور الحسي والتأخر الحركي والاضطرابات الانفعالية), والمؤثرات الخارجية أي الفروق الثقافية، التعلم غير الكافي، ورداءة التدريس، فإن هذه الصعوبات ليست نتيجة لهذه الظروف والمؤثرات، كما أن الأطفال المصابين لا يتصرفون مثل أقرانهم، بالرغم من أنهم ليسوا مقصرين عقلياً ولا يشكون من آفات عصبية، وهي فئة ذات صفات خاصة، وإن كانت تتصرف بأشكال متشابهة. وقد أطلق على هذه الحالات في العقد الماضي تسميات عدة من أجل تصنيفها، ولكن المقبول من كل هذه التصنيفات أن هؤلاء الأطفال يعانون صعوبات التعلم، أو تناذر قصور الدماغ الطفيف.
ويعتقد البعض أن التسمية الأخيرة غير صحيحة، لأنه لا يمكن إثبات قصور الدماغ بالفحوص الفيزيائية أو الكيميائية الحيوية، بينما يعتبر البعض أن سوء التصرف، واختلاف التطور، وعسر التعلم، والحركات غير النظامية كلها أدلة على خلل في الوظيفة الدماغية، ويبدو من المقبول أن هؤلاء الأطفال يعانون شيئاً من عدم الانتظام في الجملة العصبية المركزية، ما يؤدي إلى نقص قدراتهم على الاستيعاب والتعلم والتصرف مثل أقرانهم الآخرين.
ويطلق تعبير قصور الدماغ الطفيف Minimal Cerebral Dysfunction ليميز تناذراً يكون فيه الطفل ذ بالرغم من أنه يتمتع بسوية من الذكاء عادية أو قريبة من الطبيعية ذ معانياً لدرجة ما من قصور التعلم والسلوك تتراوح بين الدرجة الطفيفة إلى المتوسطة الشدة، وتبتدئ بسوء تقبل الأشياء، أو تفهمه لها، أو المحادثة اللغوية أو التعبير، والنقص في الذاكرة، أو السيطرة على الانتباه/ضبط النفس أو غيرها من الوظائف الحركية الأخرى.
ويمكن أن تظهر هذه الأعراض أيضاً في اضطرابات أخرى أكثر وضوحاً من اضطرابات الجملة العصبية المركزية، مثل: التأخر العقلي، الاختلاجات، شلل الدماغ، سوء التصرف، العمى، الصمم، ويبدو كذلك أن هناك علاقة بين هذا التناذر وفرط الحركة للأطفال أو (الكنع الطفلي hyperkinetic-child) المصاب بقصور القراءة البدئي مع الحبسة. وفي معظم الحالات لا يمكن إيجاد سبب لتناذر قصور الدماغ الطفيف، ولكن قد يوجد أحياناً اضطراب في الصبغيات، أذية أثناء الولادة، أو في الرحم، أو ما بعد الولادة، تصاب خلالها الجملة العصبية المركزية.
إن الأعراض السريرية (الإكلينيكية) لصعوبات التعلم قد لا تظهر في مرحلة ما قبل المدرسة إلا بشيء من اضطراب السلوك الذي لا يتوافق مع مراحل نمو الطفل، ويتجلى ذلك في بعض الحركات، ومن بين الأشياء المميزة: اضطراب السلوك، العناد، قصر فترة التركيز، فرط الحركة، النزف، فرط الاستثارة، سرعة الغضب، صعوبة تقبل الأشياء وفهمها، عدم انتظام الربط بين الحركات، اضطراب النوم، سوء التركيز نحو المؤثرات الخارجية. فإذا دخل المدرسة فهو يعاني عدم تنظيم وإتمام واجباته، ومناقشاته وتتبعه للأشياء. كما يعاني صعوبة التعلم، والنطق، وتذكر الأشياء وحفظها... كل هذه الأشياء تؤدي إلى درجة من القصور الدراسي، ومع مرور فترة الطفولة يتزايد رد الفعل لشعوره باختلافه عن أقرانه، ولا يمكن اعتبار واحد من هذه الاضطرابات على حدة لتشخيص العلة، ولكن اجتماع عدد منها في طفل واحد يدعونا للتفكير في اضطراب الوظيفة، الدماغية، وقد يتباين سلوك الطفل بين يوم وآخر دونما سبب، ولا يستطيع هو تفسيره، كما لا يستطيع ذلك من هم حوله. كما يظهر عدم ارتياحه بفرط الحركة والمشي دونما هدى، وعدم اهتمامه بحركة الآخرين من حوله مثلما يجب في المرحلة التي هو فيها من النمو، وقد يبدي حماساً ولكن لفترة قصيرة، ويبدو أن كثيراً من تصرفاته لا يمت إلى التفكير والتعقل بصلة، وهو شديد التركيز والذعر نحو المؤثرات، وقد يكون سبباً لثورات عاصفة في محيط الأسرة.
وبالرغم من أنه يبدي ذكاء عادياً أو فائقاً أو عند الحدود، فإنه يعاني دوماً صعوبة في تقبل الأشياء، واستنباط نتائج منطقية من الأشياء (العويصة) الخالية، ويمكنه أن يفكر في الأشياء المادية أكثر من الأشياء الخيالية، وهكذا فإن بإمكانه أن يبدو جيداً في الأعمال الاعتيادية الرتيبة مثل التهجئة، وجداول الضرب، على عكس القراءة والمجالات الأخرى التي تتطلب الأشياء الرمزية.
ونظراً إلى أنه يعاني قصوراً في تفهم الأشياء الصعبة التجريدية، لذا يصعب عليه أن يتلاءم مع الظروف المحيطة، كما أنه يكون قليل الملاحظة والانتباه للأشياء التي تقع عليها عيناه أو سمعتها أذناه، وبهذا يكون مصدر إزعاج لغيره ولنفسه في الوقت ذاته.
وعندما يتقدم الطفل في العمر فإن المظاهر السلوكية التي تنجم عن قلقه حول نفسه وعن اتصالاته مع الآخرين قد تخفي المظهر الأول الطفولي، إذ كثيراً ما تكون المظاهر في هذه الفترة عبارة عن عدم النضج العاطفي، ضعف الحركة وليس انعدامها كما في بعض الإعاقات الأخرى.
بطء التعلم... إعاقة وراثية
من الناحية الوظيفية، ينقسم بطء التعلم إلى أقسام مختلفة منها: صعوبة تمييز الكلمات البصرية وصعوبة الربط بين الحرف وصوته، وصعوبة القدرة على دمج الوحدات الصوتية للكلمة، وصعوبة تتبع سلاسل الحروف من اليمين إلى اليسار، وصعوبة التوصيل بين الحروف والكلمات.
ومن أهم أعراض صعوبات الكتابة: نقل الكلمات بصورة خاطئة من السبورة، وعكس الأرقام والحروف عند الكتابة، وكذلك صعوبة التعرف على اتجاه اليمين أو الشمال، ومن الملاحظ أيضاً أن صعوبات الكتابة قد تصاحب صعوبات القراءة وقد تصاحب ضعف الفهم والتعبير اللغوي.
ويعتقد كثير من الباحثين أن هناك أساساً وراثياً لحدوث هذه الإعاقة، الأمر الذي دفع الباحثين لوبيك وماربورج (من الجمعية الوطنية لأبحاث الجينات في جامعة بون الألمانية) لتقصّي أسبابها، واستطاع هذان العالمان التعرف على الجين المسبب لهذا الخلل الذي يحمل اسم DCDC2، ولكن اكتشاف هذا الجين لا يشكل سوى الخطوة الأولى نحو تطوير وسائل العلاج المناسبة.
وقد بنيت الدراسة التي شملت 137 طفلاً على فرضية أن هذا الجين يسبب تغيرات في خلايا الأعصاب أثناء تطور الدماغ، وقد يمتد أساساً إلى رحم الأم. وفي هذا السياق، خلص د. يوهانس شوماخر (أحد الباحثين في قسم الجينات في جامعة بون) إلى أن التغيرات العصبية تبدأ في مرحلة التطور الجنيني وتنتهي بعملية الميلاد، وهذه الافتراضات تنسجم مع أبحاث أخرى أجراها العلماء باستخدام تقنية الرنين المغناطيسي Magnetic Resonance، وهو عبارة عن تصوير يعتمد على كشف مقدار الاهتزاز أو الرنين لجزيئات الخلية البشرية.
هذه المسوحات الدماغية أظهرت نوعاً من الخلل في النشاط الدماغي عند أولئك المصابين بعسر التعلم، وقد أشار د. شوماخر إلى أن هذا الخلل الوظيفي قد يصيب بعض أجزاء الدماغ الأيسر التي تعتبر المسؤولة فسيولوجياً عن عملية تحليل اللغة والإشارات العصبية البصرية، ولكن تبقى المشكلة قائمة بالرغم من اكتشاف الجين المسبب لهذا الخلل، إذ إنه لا توجد أدوات كافية لمقاومة هذه المشكلة.
وعن إمكان تطوير عقار لهذا الاضطراب، فإن الأمر يبدو بعيد المنال على الأقل في الوقت الحالي وفق الباحثين، ولكن اكتشاف الجين المسؤول عن هذا الخلل يبقى إنجازاً علمياً لأحد أكبر الأسرار الغامضة في علم دراسة الأعصاب، وكذلك يبعث ببارقة أمل للمصابين به ولذويهم ■