موت اللغات وانقراضها

موت اللغات وانقراضها

ما‭ ‬الذي‭ ‬يعنيه‭ ‬عمليًا‭ ‬انقراض‭ ‬لغة‭ ‬ما؟‭ ‬ولماذا‭ ‬تضيع‭ ‬بعض‭ ‬اللغات‭ ‬وتندثر؟‭ ‬وهل‭ ‬أن‭ ‬لغات‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬انحسار‭ ‬وزوال‭ ‬مستمر؟

اللغة‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬هي‭ ‬علم‭ ‬قائم‭ ‬بذاته‭ ‬يسمى‭ ‬لكسيكولوجيا،‭ ‬وهي‭ ‬نظام‭ ‬من‭ ‬التعابير‭ ‬الصوتية‭ ‬المنطوقة‭ ‬نشأت‭ ‬كوسيلة‭ ‬للتعبير‭ ‬والتفاهم‭ ‬بين‭ ‬الشعوب،‭ ‬وهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعية‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تطور‭ ‬مستمر،‭ ‬ومفهوم‭ ‬اللغة‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الكتابة،‭ ‬فاللغة‭ ‬المحكية‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬أصوات‭ ‬منطوقة‭ ‬ذات‭ ‬معنى،‭ ‬تُفهم‭ ‬ويُدرك‭ ‬مغزاها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬السماع،‭ ‬أما‭ ‬الكتابة‭ ‬فهي‭ ‬إشارات‭ ‬أو‭ ‬رموز‭ ‬للأصوات‭ ‬المنطوقة،‭ ‬وتكون‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬علامات‭ ‬مكتوبة‭ ‬مؤلفة‭ ‬فقرات‭ ‬وعبارات‭ ‬تنتظم‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬مدونات،‭ ‬ويتم‭ ‬فهم‭ ‬مغزى‭ ‬تلك‭ ‬العلامات‭ ‬بصرياً‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬القراءة‭.‬

إن‭ ‬تعبير‭ ‬الغة‭ ‬ميتةب‭ ‬يعني‭ ‬عدم‭ ‬استخدام‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬تماماً،‭ ‬وعدم‭ ‬تداولها،‭ ‬سواء‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬التحدث‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الكتابة‭ ‬والتدوين‭. ‬أما‭ ‬تعبير‭ ‬الغة‭ ‬آيلة‭ ‬إلى‭ ‬الانقراضب،‭ ‬فهو‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬اللغات‭ ‬غير‭ ‬المستخدمة‭ ‬استخداماً‭ ‬يومياً‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬شعب‭ ‬من‭ ‬الشعوب،‭ ‬ونقص‭ ‬عدد‭ ‬الناطقين‭ ‬بتلك‭ ‬اللغة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬فتدخل‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الاضمحلال‭ ‬والجمود،‭ ‬ثم‭ ‬النسيان‭ ‬التدريجي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الناطقين‭ ‬بها،‭ ‬وهنا‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الخطر‭ ‬الذي‭ ‬يعرضها‭ ‬للانقراض‭. ‬

إن‭ ‬عالمنا‭ ‬الحالي‭ ‬ثري‭ ‬بأبجدياته‭ ‬ولغاته‭ ‬المختلفة‭ ‬باختلاف‭ ‬الأجناس‭ ‬والأعراق‭ ‬والقوميات،‭ ‬فعدد‭ ‬لغات‭ ‬العالم‭ ‬اليوم‭ ‬يبلغ‭ ‬2700‭ ‬لغة‭ ‬حية،‭ ‬منها‭ ‬860‭ ‬لغة‭ ‬فاعلة‭ ‬ومهمة،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬اللغات‭ ‬الفاعلة‭ ‬يوجد‭ ‬424‭ ‬لغة‭ ‬في‭ ‬الأمريكتين‭ ‬فقط،‭ ‬فقبائل‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر‭ ‬وحدها‭ ‬تتكلم‭ ‬حوالي‭ ‬200،‭ ‬لغة،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬فتوجد‭ ‬153‭ ‬لغة‭ ‬فاعلة،‭ ‬بينما‭ ‬الشائع‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬وحدها‭ ‬توجد‭ ‬مئات‭ ‬اللغات،‭ ‬وهذا‭ ‬صحيح،‭ ‬لكن‭ ‬الإحصاءات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬تؤكد‭ ‬فقط‭ ‬اللغات‭ ‬المتداولة‭ ‬والمستخدمة‭ ‬استخداماً‭ ‬يومياً‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عدد‭ ‬أفرادها‭ ‬عن‭ ‬ألفي‭ ‬نسمة‭. ‬ومعنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬لغات‭ ‬قديمة‭ ‬كالتدمرية‭ ‬والسبئية‭ ‬والأدموتية‭ ‬والأمهرية‭ ‬والبونية‭ ‬والحبشية‭ ‬القديمة‭ ‬والفينيقية‭ ‬والنبطية‭ ‬والحضرية‭ ‬والمندائية‭ ‬والبابلية‭ ‬والسومرية‭ ‬ومئات‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى‭ ‬لا‭ ‬تقع‭ ‬ضمن‭ ‬الإحصائية‭ ‬المذكورة‭ (‬2700‭)‬،‭ ‬وتصنف‭ ‬ضمن‭ ‬االلغات‭ ‬الميتةب‭.‬

يذكر‭ ‬عالم‭ ‬اللغات‭ ‬برنارد‭ ‬كمري‭ ‬أنه‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1490‭ ‬و1990‭ ‬انقرض‭ ‬حوالي‭ ‬نصف‭ ‬لغات‭ ‬العالم،‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬تنقرض‭ ‬تلك‭ ‬اللغات‭ ‬لكان‭ ‬لدينا‭ ‬اليوم‭ ‬بين‭ ‬10‭ ‬آلاف‭ ‬إلى‭ ‬15‭ ‬ألف‭ ‬لغة‭ ‬محكية‭. ‬وتؤكد‭ ‬آخر‭ ‬الدراسات‭ ‬وجود‭ ‬حوالي‭ ‬2000‭ ‬لغة‭ ‬مهددة‭ ‬بالزوال‭ ‬معظمها‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬وأمريكا‭ ‬اللاتينية،‭ ‬ويتوقع‭ ‬الباحثون‭ ‬انقراض‭ ‬90‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬لغات‭ ‬العالم‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭.‬

ولكن‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬الأسباب‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬انقراض‭ ‬اللغات؟

هنالك‭ ‬جملة‭ ‬أسباب‭ ‬أهمها‭:‬

أولاً‭: ‬الكوارث‭ ‬الطبيعية،‭ ‬تعتبر‭ ‬الكوارث‭ ‬الطبيعية‭ ‬الكبرى‭ ‬عاملاً‭ ‬مهماً‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬تهديد‭ ‬لغات‭ ‬العالم‭ ‬بالانقراض‭ ‬أو‭ ‬انحسارها‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬فمثلا‭ ‬أدى‭ ‬إعصار‭ ‬تسونامي‭ ‬الرهيب‭ ‬عام‭ ‬2004‭ ‬إلى‭ ‬إبادة‭ ‬قبائل‭ ‬كاملة‭ ‬في‭ ‬إندونيسيا‭ ‬وتايلاند‭ ‬والهند‭ ‬وسريلانكا‭ ‬كانت‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬سواحل‭ ‬البحار‭ ‬أماكن‭ ‬لتجمعاتها،‭ ‬وبزوال‭ ‬هذه‭ ‬القبائل‭ ‬زالت‭ ‬لغاتها‭ ‬المحلية‭ ‬معها‭. ‬كما‭ ‬أدت‭ ‬الزلازل‭ ‬المدمرة‭ ‬التي‭ ‬ضربت‭ ‬مدن‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬عام‭ ‬الأخيرة‭ ‬إلى‭ ‬ضياع‭ ‬لغات‭ ‬بعض‭ ‬الشعوب‭ ‬المنكوبة،‭ ‬وهددت‭ ‬لغات‭ ‬أخرى‭ ‬بالانقراض،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬اللغات‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬عدد‭ ‬الناطقين‭ ‬بها‭ ‬بضعة‭ ‬آلاف‭ ‬أو‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬فقط،‭ ‬وأن‭ ‬الغالب‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الجماعات‭ ‬أو‭ ‬القبائل‭ ‬أو‭ ‬الطوائف‭ ‬أنها‭ ‬تعيش‭ ‬ضمن‭ ‬تجمعات‭ ‬سكانية‭ ‬متقاربة‭ ‬إلى‭ ‬بعضها‭ ‬ضمن‭ ‬حيز‭ ‬جغرافي‭ ‬واحد‭ ‬ذ‭ ‬مدينة‭ ‬أو‭ ‬قصبة‭ ‬أو‭ ‬قرية‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬شابه‭ ‬ذلك‭ - ‬وهذا‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬خطر‭ ‬الزوال‭ ‬الجمعي‭ ‬أو‭ ‬الكلي‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬حدوث‭ ‬كارثة‭ ‬بيئية‭ ‬أو‭ ‬طبيعية‭ ‬أو‭ ‬عدوانية‭. ‬

ومن‭ ‬أبرز‭ ‬الكوارث‭ ‬التي‭ ‬أثّرت‭ ‬على‭ ‬الإرث‭ ‬العالمي‭ ‬للغات،‭ ‬تلك‭ ‬الزلازل‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬سجلت‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ومنها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬زلزال‭ ‬مدينة‭ ‬كاتو‭ ‬اليابانية‭ ‬عام‭ ‬1923‭ ‬وزلزال‭ ‬تشيلي‭ ‬عام‭ ‬1960‭ ‬وزلزال‭ ‬مدينة‭ ‬تناغشان‭ ‬الصينية‭ ‬عام‭ ‬1976‭ ‬وزلزال‭ ‬مكسيكو‭ ‬سيتي‭ ‬عام‭ ‬1985‭ ‬وزلزال‭ ‬أرمينيا‭ ‬الرهيب‭ ‬عام‭ ‬1988‭ ‬وزلزال‭ ‬مدينة‭ ‬غيلان‭ ‬الإيرانية‭ ‬عام‭ ‬1990‭ ‬وزلزال‭ ‬الهند‭ ‬عام‭ ‬1993‭ ‬وزلزال‭ ‬جزيرة‭ ‬ساخالين‭ ‬الروسية‭ ‬عام‭ ‬1995‭ ‬وكوبي‭ ‬اليابانية‭ ‬1995‭ ‬أيضاً،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬زلازل‭ ‬تركيا‭ ‬وبام‭ ‬الإيرانية‭ ‬وهايتي‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الزلازل‭ ‬والكوارث‭. ‬

إن‭ ‬حدوث‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الكوارث‭ ‬الكبرى‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬التدمير‭ ‬الصناعي‭ ‬للبيئة‭ ‬واستغلال‭ ‬الطبيعة‭ ‬للمد‭ ‬العمراني،‭ ‬التي‭ ‬بسببها‭ ‬يتم‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬تجمعات‭ ‬الأقليات،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬أحياناً‭ ‬من‭ ‬انتشار‭ ‬عام‭ ‬وكثيف‭ ‬للأوبئة‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬محددة،‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬وفيات‭ ‬بأعداد‭ ‬كبيرة‭ ‬أو‭ ‬تشتت‭ ‬أو‭ ‬تدهور‭ ‬للبيئة،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تفكك‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تحيا‭ ‬فيها‭ ‬اللغات،‭ ‬والخطر‭ ‬الكبير‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬حين‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتفككة‭ ‬هي‭ ‬مجتمعات‭ ‬الأقليات‭.‬

‭ ‬إذن‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬لغات‭ ‬الأقليات‭ ‬يرتبط‭ ‬بالحفاظ‭ ‬على‭ ‬ديمومة‭ ‬بقاء‭ ‬واستمرار‭ ‬تلك‭ ‬الأقليات‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬وجودها،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬وجوب‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬أنماط‭ ‬الحياة‭ ‬التقليدية‭ ‬السليمة‭ ‬لتلك‭ ‬الأقليات‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬البيئة‭ ‬التي‭ ‬تحيا‭ ‬فيها‭ ‬أيضاً‭.‬

ثانياً‭:‬‭ ‬الحروب‭ ‬والصراعات‭ ‬العرقية‭ ‬والإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬لفئات‭ ‬معينة،‭ ‬فالحروب‭ ‬والصراعات‭ ‬بمختلف‭ ‬أشكالها‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬زوال‭ ‬بعض‭ ‬الأعراق‭ ‬والقوميات‭ ‬والطوائف‭ ‬والفئات‭ ‬الصغيرة‭ ‬المستضعفة،‭ ‬وهذا‭ ‬يؤدي‭ ‬بدوره‭ ‬إلى‭ ‬موت‭ ‬أو‭ ‬اندثار‭ ‬لغات‭ ‬تلك‭ ‬الفئات‭. ‬لقد‭ ‬أدت‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬لقبائل‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المستوطنين‭ ‬الغربيين‭ ‬لأمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬إلى‭ ‬ضياع‭ ‬واندثار‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬المحلية‭ ‬لتلك‭ ‬القبائل‭ ‬البدائية‭. ‬فمع‭ ‬تشرد‭ ‬وتفرّق‭ ‬واختفاء‭ ‬تلك‭ ‬الجماعات‭ ‬القبلية‭ ‬أو‭ ‬إبادتها،‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تختفي‭ ‬لغاتها‭ ‬معها‭. ‬

والمعروف‭ ‬أن‭ ‬قبائل‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر‭ ‬العديدة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنتشر‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬الأراضي‭ ‬الأمريكية‭ ‬المترامية‭ ‬الأطراف،‭ ‬كان‭ ‬لديها‭ ‬عند‭ ‬حلول‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬حوالي‭ ‬500‭ ‬إلى‭ ‬600‭ ‬لغة‭ ‬متداولة،‭ ‬هذه‭ ‬اللغات‭ ‬لم‭ ‬يتبق‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬سوى‭ ‬18‭ ‬عائلة‭ ‬لغوية،‭ ‬كل‭ ‬عائلة‭ ‬منها‭ ‬تحتوي‭ ‬من‭ ‬1‭ ‬إلى‭ ‬20‭ ‬لغة،‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬منها‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬200‭ ‬لغة،‭ ‬والبعض‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬اللغات‭ ‬محدود‭ ‬التداول‭ ‬لقلة‭ ‬أعداد‭ ‬المستخدمين،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهي‭ ‬مهددة‭ ‬أيضاً‭ ‬بالانقراض‭. ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬أدت‭ ‬حروب‭ ‬البلقان‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬والحربان‭ ‬العالميتان‭ ‬والنزاع‭ ‬العرقي‭ ‬في‭ ‬يوغسلافيا‭ ‬السابقة،‭ ‬إلى‭ ‬انحسار‭ ‬أعداد‭ ‬بعض‭ ‬الأعراق‭ ‬والقوميات‭ ‬المتصارعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬الجانب‭ ‬الأضعف‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحروب‭ ‬والنزاعات،‭ ‬وبالتالي‭ ‬اضمحلال‭ ‬لغاتها‭ ‬الأصلية‭ ‬وتهديدها‭ ‬بالاندثار‭. ‬

ثالثاً‭: ‬التكتم‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬الأم‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تغييبها‭ ‬إرادياً،‭ ‬واتخاذ‭ ‬لغة‭ ‬ثانية‭ ‬سائدة‭ ‬بدلاً‭ ‬عنها،‭ ‬خشية‭ ‬انكشاف‭ ‬الهوية‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬التعرض‭ ‬إلى‭ ‬الاضطهاد‭ ‬أو‭ ‬الملاحقة‭ ‬أو‭ ‬التصفية‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬العرقية‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬أغلبية‭ ‬سائدة‭ ‬تفرض‭ ‬أعرافها‭ ‬بالقوة‭ ‬على‭ ‬الآخرين،‭ ‬أو‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬الأفراد‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬عنصري‭.‬

إن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬أسلوب‭ ‬التكتم‭ ‬على‭ ‬لغته‭ ‬هم‭ ‬أتباع‭ ‬الطوائف‭ ‬الضعيفة‭ ‬والأقليات‭ ‬الدينية‭ (‬وأغلب‭ ‬الظن‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬من‭ ‬انحسار‭ ‬شديد‭ ‬للغات‭ ‬قديمة‭ ‬كالمندائية‭ ‬والسريانية‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭).‬

رابعاً‭:‬‭ ‬الهجرات‭ ‬القسرية‭ ‬إلى‭ ‬وجهات‭ ‬متعددة،‭ ‬أي‭ ‬الهجرات‭ ‬غير‭ ‬المبرمجة‭ ‬وغير‭ ‬المنظمة‭ ‬بفعل‭ ‬ظروف‭ ‬قاهرة‭ ‬خارجة‭ ‬عن‭ ‬إرادة‭ ‬الجماعة‭ ‬المهاجرة،‭ ‬تلك‭ ‬الهجرات‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الاختلاط‭ ‬مع‭ ‬أمم‭ ‬جديدة‭ ‬وشعوب‭ ‬غريبة‭ ‬يصبح‭ ‬معها‭ ‬لزاماً‭ ‬على‭ ‬الفرد‭ ‬اتخاذ‭ ‬لغة‭ ‬تلك‭ ‬الأمة‭ ‬أو‭ ‬البلد‭ ‬ذ‭ ‬أي‭ ‬لغة‭ ‬الأكثرية‭ - ‬كلغة‭ ‬حديث‭ ‬وعمل‭ ‬ودراسة‭... ‬أي‭ ‬لغة‭ ‬الحياة‭ ‬الجديدة،‭ ‬وبسبب‭ ‬ذلك‭ ‬تنحسر‭ ‬اللغة‭ ‬الأصلية‭ ‬وتضمحل‭ ‬ثم‭ ‬تتلاشى‭ ‬بتتابع‭ ‬الأجيال‭ ‬وتموت،‭ ‬فاللغة‭ ‬الأصلية‭ ‬قد‭ ‬تنتهي‭ ‬عند‭ ‬الجيل‭ ‬الثالث،‭ ‬أو‭ ‬الرابع‭ ‬على‭ ‬أبعد‭ ‬تقدير،‭ ‬فالجيل‭ ‬الأول‭ ‬يكون‭ ‬أحادي‭ ‬اللغة‭ (‬يستخدم‭ ‬لغته‭ ‬الأم‭) ‬ويتعلم‭ ‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬السائدة‭ (‬لغة‭ ‬المجتمع‭ ‬الجديد‭). ‬أما‭ ‬الجيل‭ ‬الثاني‭ ‬فيصبح‭ ‬ثنائي‭ ‬اللغة،‭ ‬إذ‭ ‬يتعلم‭ ‬أفراد‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬لغة‭ ‬الأجداد‭ ‬من‭ ‬ذويهم،‭ ‬كما‭ ‬يتقنون‭ ‬اللغة‭ ‬السائدة‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬المحيط‭. ‬أما‭ ‬الجيل‭ ‬الثالث،‭ ‬فيتعلم‭ ‬فقط‭ ‬اللغة‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬والبيت‭ (‬ولغة‭ ‬البيت‭ ‬هنا‭ ‬تكون‭ ‬على‭ ‬الأغلب‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬المجتمع‭)‬،‭ ‬وبهذا‭ ‬تنحسر‭ ‬اللغة‭ ‬الأم‭ ‬شيئاً‭ ‬فشيئاً‭ ‬وتندثر‭.‬

خامساً‭: ‬سيادة‭ ‬اللغات‭ ‬الكبرى‭ ‬أو‭ ‬الرئيسة،‭ ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬يؤدي‭ ‬بالنتيجة‭ ‬إلى‭ ‬انقراض‭ ‬اللغات‭ ‬المحلية،‭ ‬فحين‭ ‬تسود‭ ‬اللغة‭ ‬الكبرى‭ ‬وتصبح‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬التخاطب‭ ‬والدراسة‭ ‬والكتاب‭ ‬والصحيفة‭ ‬والتلفاز‭ ‬والإنترنت،‭ ‬تصبح‭ ‬معها‭ ‬اللغات‭ ‬المحلية‭ ‬لغات‭ ‬ثانوية‭. ‬واليوم‭ ‬هنالك‭ ‬إحدى‭ ‬عشرة‭ ‬لغة‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬هي‭ ‬السائدة‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬والتواصل‭ ‬بين‭ ‬78‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬العالم،‭ ‬هذه‭ ‬اللغات‭ ‬هي‭: ‬الإنجليزية،‭ ‬الفرنسية،‭ ‬الإسبانية،‭ ‬الإيطالية،‭ ‬الألمانية،‭ ‬الصينية،‭ ‬الروسية،‭ ‬العربية،‭ ‬الهندية،‭ ‬الهولندية،‭ ‬البرتغالية‭. 

إن‭ ‬انقراض‭ ‬بعض‭ ‬اللغات‭ ‬سيؤدي‭ ‬حتما‭ ‬إلى‭ ‬ضياع‭ ‬التأريخ‭ ‬المدون‭ ‬وغير‭ ‬المدون‭ ‬بتلك‭ ‬اللغات‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬فالمدونات‭ ‬المكتوبة‭ ‬بلغات‭ ‬اضمحلت‭ ‬وماتت‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد،‭ ‬تصبح‭ ‬بالنسبة‭ ‬للأجيال‭ ‬اللاحقة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬طلاسم‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬أي‭ ‬إنها‭ ‬رموز‭ ‬مبهمة‭ ‬المعنى‭ ‬والدلالة،‭ ‬وتصبح‭ ‬عملية‭ ‬فك‭ ‬رموز‭ ‬تلك‭ ‬المدونات‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إيجاد‭ ‬الشفرة‭ ‬الخاصة‭ ‬بتلك‭ ‬اللغة‭ ‬المنقرضة،‭ ‬أي‭ ‬تماماً‭ ‬كمسألة‭ ‬اكتشاف‭ ‬الشفرات‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬معرفة‭ ‬اللغتين‭ ‬المسمارية‭ ‬والهيروغليفية‭ ‬وبعض‭ ‬اللغات‭ ‬القديمة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬اللغات‭ ‬مبهمة‭ ‬وغريبة‭ ‬لفترة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭.‬

إن‭ ‬على‭ ‬الشعوب‭ ‬الحية‭ ‬والناهضة‭ ‬واجب‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬لغاتها‭ ‬من‭ ‬الاندثار‭ ‬والتشويه،‭ ‬فاللغة‭ ‬هي‭ ‬هوية‭ ‬الشعب‭ ‬وسر‭ ‬تميزه،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬عنفوانه‭ ‬وديمومته،‭ ‬وهي‭ ‬وسيلة‭ ‬تدوين‭ ‬تاريخه‭ ‬ومسيرته‭ ‬وعطائه‭. ‬وكما‭ ‬قال‭ ‬صموئيل‭ ‬جونسون‭ ‬اإن‭ ‬اللغة‭ ‬تمثل‭ ‬أصالة‭ ‬الأممب‭ >‬