موت اللغات وانقراضها
ما الذي يعنيه عمليًا انقراض لغة ما؟ ولماذا تضيع بعض اللغات وتندثر؟ وهل أن لغات العالم في حالة انحسار وزوال مستمر؟
اللغة بشكل عام هي علم قائم بذاته يسمى لكسيكولوجيا، وهي نظام من التعابير الصوتية المنطوقة نشأت كوسيلة للتعبير والتفاهم بين الشعوب، وهي ظاهرة اجتماعية في حالة تطور مستمر، ومفهوم اللغة يختلف عن مفهوم الكتابة، فاللغة المحكية عبارة عن أصوات منطوقة ذات معنى، تُفهم ويُدرك مغزاها من خلال السماع، أما الكتابة فهي إشارات أو رموز للأصوات المنطوقة، وتكون على شكل علامات مكتوبة مؤلفة فقرات وعبارات تنتظم على هيئة مدونات، ويتم فهم مغزى تلك العلامات بصرياً عن طريق القراءة.
إن تعبير الغة ميتةب يعني عدم استخدام تلك اللغة تماماً، وعدم تداولها، سواء عن طريق التحدث أو عن طريق الكتابة والتدوين. أما تعبير الغة آيلة إلى الانقراضب، فهو إشارة إلى اللغات غير المستخدمة استخداماً يومياً من قبل شعب من الشعوب، ونقص عدد الناطقين بتلك اللغة إلى حد كبير، فتدخل تلك اللغة في حالة الاضمحلال والجمود، ثم النسيان التدريجي من قبل الناطقين بها، وهنا تصل إلى مرحلة الخطر الذي يعرضها للانقراض.
إن عالمنا الحالي ثري بأبجدياته ولغاته المختلفة باختلاف الأجناس والأعراق والقوميات، فعدد لغات العالم اليوم يبلغ 2700 لغة حية، منها 860 لغة فاعلة ومهمة، ومن هذه اللغات الفاعلة يوجد 424 لغة في الأمريكتين فقط، فقبائل الهنود الحمر وحدها تتكلم حوالي 200، لغة، أما في آسيا فتوجد 153 لغة فاعلة، بينما الشائع بين الناس أن في الهند وحدها توجد مئات اللغات، وهذا صحيح، لكن الإحصاءات في هذا المجال تؤكد فقط اللغات المتداولة والمستخدمة استخداماً يومياً من فئة لا يقل عدد أفرادها عن ألفي نسمة. ومعنى ذلك أن لغات قديمة كالتدمرية والسبئية والأدموتية والأمهرية والبونية والحبشية القديمة والفينيقية والنبطية والحضرية والمندائية والبابلية والسومرية ومئات اللغات الأخرى لا تقع ضمن الإحصائية المذكورة (2700)، وتصنف ضمن االلغات الميتةب.
يذكر عالم اللغات برنارد كمري أنه بين عامي 1490 و1990 انقرض حوالي نصف لغات العالم، ولو لم تنقرض تلك اللغات لكان لدينا اليوم بين 10 آلاف إلى 15 ألف لغة محكية. وتؤكد آخر الدراسات وجود حوالي 2000 لغة مهددة بالزوال معظمها في آسيا وأمريكا اللاتينية، ويتوقع الباحثون انقراض 90 في المائة من لغات العالم خلال القرن الحادي والعشرين.
ولكن ما هي الأسباب الرئيسة التي تؤدي إلى انقراض اللغات؟
هنالك جملة أسباب أهمها:
أولاً: الكوارث الطبيعية، تعتبر الكوارث الطبيعية الكبرى عاملاً مهماً من عوامل تهديد لغات العالم بالانقراض أو انحسارها إلى حد كبير، فمثلا أدى إعصار تسونامي الرهيب عام 2004 إلى إبادة قبائل كاملة في إندونيسيا وتايلاند والهند وسريلانكا كانت تتخذ من سواحل البحار أماكن لتجمعاتها، وبزوال هذه القبائل زالت لغاتها المحلية معها. كما أدت الزلازل المدمرة التي ضربت مدن العالم في المائة عام الأخيرة إلى ضياع لغات بعض الشعوب المنكوبة، وهددت لغات أخرى بالانقراض، ذلك أن بعض اللغات لا يتجاوز عدد الناطقين بها بضعة آلاف أو مئات من الأشخاص فقط، وأن الغالب على تلك الجماعات أو القبائل أو الطوائف أنها تعيش ضمن تجمعات سكانية متقاربة إلى بعضها ضمن حيز جغرافي واحد ذ مدينة أو قصبة أو قرية أو ما شابه ذلك - وهذا يؤدي إلى خطر الزوال الجمعي أو الكلي في حال حدوث كارثة بيئية أو طبيعية أو عدوانية.
ومن أبرز الكوارث التي أثّرت على الإرث العالمي للغات، تلك الزلازل الكبرى التي سجلت خلال القرن العشرين، ومنها على سبيل المثال، زلزال مدينة كاتو اليابانية عام 1923 وزلزال تشيلي عام 1960 وزلزال مدينة تناغشان الصينية عام 1976 وزلزال مكسيكو سيتي عام 1985 وزلزال أرمينيا الرهيب عام 1988 وزلزال مدينة غيلان الإيرانية عام 1990 وزلزال الهند عام 1993 وزلزال جزيرة ساخالين الروسية عام 1995 وكوبي اليابانية 1995 أيضاً، إضافة إلى زلازل تركيا وبام الإيرانية وهايتي وغيرها من الزلازل والكوارث.
إن حدوث مثل هذه الكوارث الكبرى إضافة إلى التدمير الصناعي للبيئة واستغلال الطبيعة للمد العمراني، التي بسببها يتم القضاء على تجمعات الأقليات، أو ما يحصل أحياناً من انتشار عام وكثيف للأوبئة في مساحة محددة، ما يؤدي إلى وفيات بأعداد كبيرة أو تشتت أو تدهور للبيئة، كل ذلك يؤدي إلى تفكك المجتمعات التي تحيا فيها اللغات، والخطر الكبير هنا هو حين تكون تلك المجتمعات المتفككة هي مجتمعات الأقليات.
إذن الحفاظ على لغات الأقليات يرتبط بالحفاظ على ديمومة بقاء واستمرار تلك الأقليات في مناطق وجودها، وهذا يعني وجوب المحافظة على أنماط الحياة التقليدية السليمة لتلك الأقليات والحفاظ على البيئة التي تحيا فيها أيضاً.
ثانياً: الحروب والصراعات العرقية والإبادة الجماعية لفئات معينة، فالحروب والصراعات بمختلف أشكالها تؤدي إلى زوال بعض الأعراق والقوميات والطوائف والفئات الصغيرة المستضعفة، وهذا يؤدي بدوره إلى موت أو اندثار لغات تلك الفئات. لقد أدت الإبادة الجماعية لقبائل الهنود الحمر من قبل المستوطنين الغربيين لأمريكا الشمالية إلى ضياع واندثار عديد من اللغات المحلية لتلك القبائل البدائية. فمع تشرد وتفرّق واختفاء تلك الجماعات القبلية أو إبادتها، من الطبيعي أن تختفي لغاتها معها.
والمعروف أن قبائل الهنود الحمر العديدة التي كانت تنتشر في أرجاء الأراضي الأمريكية المترامية الأطراف، كان لديها عند حلول القرن السادس عشر حوالي 500 إلى 600 لغة متداولة، هذه اللغات لم يتبق منها في نهاية سبعينيات القرن الماضي سوى 18 عائلة لغوية، كل عائلة منها تحتوي من 1 إلى 20 لغة، أي إن ما تبقى منها اليوم لا يتجاوز 200 لغة، والبعض من تلك اللغات محدود التداول لقلة أعداد المستخدمين، وبالتالي فهي مهددة أيضاً بالانقراض. من جهة أخرى أدت حروب البلقان بداية القرن العشرين والحربان العالميتان والنزاع العرقي في يوغسلافيا السابقة، إلى انحسار أعداد بعض الأعراق والقوميات المتصارعة التي كانت الجانب الأضعف في تلك الحروب والنزاعات، وبالتالي اضمحلال لغاتها الأصلية وتهديدها بالاندثار.
ثالثاً: التكتم على اللغة الأم والعمل على تغييبها إرادياً، واتخاذ لغة ثانية سائدة بدلاً عنها، خشية انكشاف الهوية ومن ثم التعرض إلى الاضطهاد أو الملاحقة أو التصفية الدينية أو العرقية على يد أغلبية سائدة تفرض أعرافها بالقوة على الآخرين، أو تتعامل مع الأفراد على أساس عنصري.
إن أكثر من يميل إلى استخدام أسلوب التكتم على لغته هم أتباع الطوائف الضعيفة والأقليات الدينية (وأغلب الظن أن ما حصل من انحسار شديد للغات قديمة كالمندائية والسريانية يعود إلى هذا الجانب).
رابعاً: الهجرات القسرية إلى وجهات متعددة، أي الهجرات غير المبرمجة وغير المنظمة بفعل ظروف قاهرة خارجة عن إرادة الجماعة المهاجرة، تلك الهجرات بطبيعة الحال تؤدي إلى الاختلاط مع أمم جديدة وشعوب غريبة يصبح معها لزاماً على الفرد اتخاذ لغة تلك الأمة أو البلد ذ أي لغة الأكثرية - كلغة حديث وعمل ودراسة... أي لغة الحياة الجديدة، وبسبب ذلك تنحسر اللغة الأصلية وتضمحل ثم تتلاشى بتتابع الأجيال وتموت، فاللغة الأصلية قد تنتهي عند الجيل الثالث، أو الرابع على أبعد تقدير، فالجيل الأول يكون أحادي اللغة (يستخدم لغته الأم) ويتعلم قليلاً من اللغة السائدة (لغة المجتمع الجديد). أما الجيل الثاني فيصبح ثنائي اللغة، إذ يتعلم أفراد هذا الجيل لغة الأجداد من ذويهم، كما يتقنون اللغة السائدة من المجتمع المحيط. أما الجيل الثالث، فيتعلم فقط اللغة السائدة في المجتمع والبيت (ولغة البيت هنا تكون على الأغلب هي لغة المجتمع)، وبهذا تنحسر اللغة الأم شيئاً فشيئاً وتندثر.
خامساً: سيادة اللغات الكبرى أو الرئيسة، وهذا الأمر يؤدي بالنتيجة إلى انقراض اللغات المحلية، فحين تسود اللغة الكبرى وتصبح هي لغة التخاطب والدراسة والكتاب والصحيفة والتلفاز والإنترنت، تصبح معها اللغات المحلية لغات ثانوية. واليوم هنالك إحدى عشرة لغة كبرى في العالم هي السائدة بقوة في كل وسائل الاتصال والتواصل بين 78 في المائة من سكان العالم، هذه اللغات هي: الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، الإيطالية، الألمانية، الصينية، الروسية، العربية، الهندية، الهولندية، البرتغالية.
إن انقراض بعض اللغات سيؤدي حتما إلى ضياع التأريخ المدون وغير المدون بتلك اللغات على السواء، فالمدونات المكتوبة بلغات اضمحلت وماتت في ما بعد، تصبح بالنسبة للأجيال اللاحقة عبارة عن طلاسم لا غير، أي إنها رموز مبهمة المعنى والدلالة، وتصبح عملية فك رموز تلك المدونات بحاجة إلى إيجاد الشفرة الخاصة بتلك اللغة المنقرضة، أي تماماً كمسألة اكتشاف الشفرات التي تم من خلالها معرفة اللغتين المسمارية والهيروغليفية وبعض اللغات القديمة، بعد أن كانت تلك اللغات مبهمة وغريبة لفترة من الزمن.
إن على الشعوب الحية والناهضة واجب الحفاظ على لغاتها من الاندثار والتشويه، فاللغة هي هوية الشعب وسر تميزه، كما أنها علامة على عنفوانه وديمومته، وهي وسيلة تدوين تاريخه ومسيرته وعطائه. وكما قال صموئيل جونسون اإن اللغة تمثل أصالة الأممب >