الرياضيات... منهجاً للتفكير

الرياضيات... منهجاً للتفكير

‭ ‬يقول‭ ‬الرياضي‭ ‬الأمريكي‭ (‬الهنغاري‭ ‬الأصل‭) ‬الفذ‭ ‬جون‭ ‬فون‭ ‬نيومان‭ ‬john‭ ‬von‭ ‬neawmann  (‬1903-‭ ‬1957‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬إنجازاته‭ ‬علامة‭ ‬فارقة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬في‭ ‬الرياضيات‭ (‬البحتة‭ ‬والتطبيقية‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬الفيزياء‭ ‬النووية،‭ ‬وفي‭ ‬الحاسوب,‭ ‬وفي‭ ‬الاقتصاد‭ (‬أحد‭ ‬مؤسسي‭ ‬نظرية‭ ‬المبارزة‭ ‬Game‭ ‬theory‭)‬،‭ ‬وأحد‭ ‬المساهمين‭ ‬الرئيسيين‭ ‬في‭ ‬القنبلة‭ ‬الهيدروجينية،‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المؤتمرات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬متحدثاً‭ ‬رئيساً‭ ‬فيها‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬لا‭ ‬يقتنعون‭ ‬بأن‭ ‬الرياضيات‭ ‬بسيطة،‭ ‬فإن‭ ‬السبب‭ ‬الوحيد‭ ‬لذلك‭ ‬هو‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يدركون‭ ‬كم‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭ ‬معقدة‮»‬‭.‬

وهذا‭ ‬الكلام‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الرياضيات‭ ‬بسيطة‭,‬‭ ‬لأنها‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬تماماً‭,‬‭ ‬ولكن‭ ‬صعوبتها‭ ‬نسبية‭. ‬فعندما‭ ‬نقارنها‭ ‬بتعقيد‭ ‬الحياة‭ ‬نجد‭ ‬أنها‭ ‬بسيطة‭. ‬أما‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يستسهلون‭ ‬الحياة،‭ ‬وعلى‭ ‬خلاف‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬حقيقة‭,‬‭ ‬فلربما‭ ‬يجدون‭ ‬صعوبة‭ ‬في‭ ‬الرياضيات‭. ‬والسؤال‭,‬‭ ‬ببساطة‭,‬‭ ‬إذا‭ ‬سلّمنا‭ ‬بصحة‭ ‬مقارنة‭ ‬الرياضي‭ ‬نيومان،‭ ‬فأين‭ ‬يكمن‭ ‬تعقيد‭ ‬الحياة؟‭ ‬وهل‭ ‬التعقيد‭ ‬في‭ ‬ماهية‭ ‬الحياة‭ ‬نفسها،‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬سوء‭ ‬فهم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الإنسان؟‭ ‬وهذا‭ ‬السؤال‭ ‬يمكن‭ ‬الإجابة‭ ‬عنه‭,‬‭ ‬جزئياً‭,‬‭ ‬بالاستفادة‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬الرياضيات‭ ‬نفسها‭,‬‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التفكير‭ ‬الرياضي‭ ‬الحديث‭. ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬الرياضيات‭ ‬قد‭ ‬أوحت‭ ‬بالسؤال‭,‬‭ ‬فإنها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تجيب‭ ‬عنه‭ ‬أيضاً‭,‬‭ ‬وهنا‭ ‬ربما‭ ‬يسأل‭ ‬بعضهم‭: ‬ما‭ ‬علاقة‭ ‬الرياضيات‭ ‬بذلك؟‭ ‬

 

التناظر‭ ‬بين‭ ‬الرياضيات‭ ‬والطبيعة

في‭ ‬البدء‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قسماً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬الرياضيين‭ ‬يؤمنون‭ ‬بأن‭ ‬الرياضيات‭ ‬‮«‬هبة‭ ‬إلهية‮»‬،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬وجودها‭ ‬أزلي،‭ ‬ومستقل‭ ‬عن‭ ‬الإنسان،‭ ‬لذلك‭ - ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬هذه‭ - ‬هي‭ ‬تُكتشف‭,‬‭ ‬ولا‭ ‬تُخترع‭. ‬وجُلّ‭ ‬ما‭ ‬نقوم‭ ‬به‭ ‬هو‭ ‬اختراع‭ ‬اللغة‭ ‬اللازمة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬المعطيات‭ ‬وصوغها،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭: ‬‮«‬النماذج‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬الرياضيات‭ ‬قد‭ ‬اختارتها‭ ‬فإن‭ ‬الطبيعة‭ ‬تكون‭ ‬اختارتها‭ ‬سلفاً‮»‬،‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬الفيزيائي‭ ‬بول‭ ‬ديراك‭ ‬Paul Dirac‭. ‬ونتيجة‭ ‬لهذا‭ ‬التناظر‭ ‬الكبير‭ ‬بين‭ ‬تفكير‭ ‬الإنسان‭ (‬الرياضي‭ ‬على‭ ‬الأقل‭)  ‬والطبيعة‭ ‬بمعناها‭ ‬الواسع،‭ ‬فإن‭ ‬الرياضيات،‭ ‬وفكرها،‭ ‬يساعداننا‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬المغلقة‭ ‬أو‭ ‬المبهمة‭. ‬لذلك‭ ‬أضحت‭ ‬الرياضيات،‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬كثيرين‭,‬‭ ‬تشكل‭ ‬‮«‬برمجيات‮»‬‭ ‬software  (‬بالمعنى‭ ‬الاصطلاحي‭) ‬العلوم‭,‬‭ ‬وسنحاول‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬نجعلها‭ ‬‮«‬برمجيات‮»‬‭ ‬لبعض‭ ‬القضايا‭ ‬الإنسانية‭.                                                                       ‬‭ ‬ولتوضيح‭ ‬الأمر‭ ‬أكثر‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كبار‭ ‬علماء‭ ‬الرياضيات‭ ‬بذلوا‭ ‬جهوداً‭ ‬مضنية،‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭,‬‭ ‬كي‭ ‬يتوصلوا‭ ‬إلى‭ ‬جواب‭ ‬مقنع‭ ‬حول‭ ‬السؤال‭: ‬أيهما‭ ‬أكثر‭ ‬أهمية‭ ‬طبيعة‭ ‬مكونات‭ ‬الرياضيات‭ ‬أم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬المكونات؟‭ ‬وبعد‭ ‬قرون‭ ‬عدة‭,‬‭ ‬ومخاض‭ ‬كبير‭ ‬ذي‭ ‬طبيعة‭ ‬فلسفية‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬للتطرق‭ ‬إليه،‭ ‬تبين‭ ‬للرياضيين،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمة‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرياضي‭ ‬الألماني‭ ‬ديفيد‭ ‬هيلبرت
‭ ‬David‭ ‬Hilbert‭ (‬م1944‭-‬1862‭)‬‭ ‬أن‭: ‬‮«‬طبيعة‭ ‬الكيانات‭ ‬المدروسة‭ ‬في‭ ‬الرياضيات‭ ‬لا‭ ‬أهمية‭ ‬لها‭,‬‭ ‬وأن‭ ‬العلاقات‭ ‬الموجودة‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الكيانات‭ ‬هي‭ ‬وحدها‭ ‬المهمة‮»‬‭. ‬

 

التجريد‭ ‬الرياضي‭ ‬يخوض‭ ‬في‭ ‬طبائع‭ ‬البشر

ومن‭ ‬روح‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬يمتح‭ ‬الرياضي‭ ‬البريطاني‭ (‬اللبناني‭ ‬الجذور‭ ‬والحاصل‭ ‬على‭ ‬لقب‭ ‬النبالة‭ ‬البريطانية‭ ‬1929م‭) ‬مايكل‭ ‬عطية
Michael‭ ‬Atiya‭ ‬‭ ‬في‭ ‬خطبة‭ ‬الوداع‭ ‬التي‭ ‬ألقاها‭ ‬عند‭ ‬انتهاء‭ ‬فترة‭ ‬رئاسته‭ ‬للجمعية‭ ‬الملكية‭ ‬البريطانية‭: ‬‮«‬وتمضي‭ ‬الرياضيات‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تجاهل‭ ‬هوية‭ ‬اللاعبين‭ ‬والتركيز‭ ‬على‭ ‬درس‭ ‬علاقاتهم‭ ‬المشتركة‮»‬‭. ‬وهذه‭ ‬‮«‬الفكرة‮»‬‭ - ‬المفتاح‭ (‬البسيطة‭ ‬في‭ ‬مظهرها‭ ‬والعميقة‭ ‬في‭ ‬مغزاها‭)‬‭,‬‭ ‬وبعد‭ ‬تبلورها‭ ‬في‭ ‬الرياضيات،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬واضح‭ ‬وراسخ‭,‬‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬العلوم‭ ‬الأخرى‭,‬‭ ‬وأصبح‭ ‬من‭ ‬الجلي،‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭,‬‭ ‬المهم‭ ‬هو‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬لا‭ ‬طبيعتهم،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬معظمنا‭ ‬يركّز‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬فهم‭ ‬الآخرين،‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬إهمال‭ ‬دراسة‭ ‬طبيعة‭ ‬العلاقة‭ ‬معهم‭. ‬لذلك‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬الوقت‭ ‬المصروف‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬الناس‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يصرف‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬العلاقة‭ ‬معهم‭. ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬طبيعتهم‭ ‬ليست‭ ‬مهمة‭,‬‭ ‬ولكن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يهمنا،‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الطبيعة‭,‬‭ ‬هو‭ ‬تأثيرها‭ ‬على‭ ‬العلاقة‭ ‬بيننا،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬طبيعتهم‭ ‬ذاتها‭,‬‭ ‬التي‭ ‬يصعب‭ ‬فهم‭ ‬كنهها،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬أحياناً‭ ‬مقاربتها‭,‬‭ ‬هذا‭ ‬عدا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬فهم‭ ‬الآخرين‭ ‬يتطلب‭ ‬قدراً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬التجريد‭. ‬هذا‭ ‬وربما‭ ‬لاحظ‭ ‬بعض‭ ‬العاملين،‭ ‬في‭ ‬الحقول‭ ‬المعرفية‭ ‬الأخرى‭,‬‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬الرياضيين‭ ‬هم‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬بلورها‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬علمي‭ ‬واضح‭ ‬وأبرزوا‭ ‬مكانتها‭. ‬وإن‭ ‬صح‭ ‬هذا‭ ‬الظن‭ ‬فإنه‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الرياضيين‭ ‬يذهبون‭ ‬بعيداً‭ ‬في‭ ‬محاكاتهم‭. ‬فهم‭ ‬لايحاكون‭ ‬الطبيعة،‭ ‬فحسب‭,‬‭ ‬بل‭ ‬يحاكون‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬لهم‭ ‬على‭ ‬طريقتهم‭ ‬الخاصة‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬والفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬غوته‭  Goethe 
‭(‬1749 ‭- ‬1832م‭): ‬‮«‬إن‭ ‬الرياضيين‭ ‬مثل‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬تقوله‭ ‬لهم‭ ‬يترجمونه‭ ‬إلى‭ ‬لغتهم،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬يصبح‭ ‬هذا‭ ‬الشيء‭ ‬أمراً‭ ‬مختلفاً‭ ‬تماماً‮»‬‭.‬

     

مهارات‭ ‬التواصل

إن‭ ‬تطبيقات‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬أصبحت‭ ‬كثيرة،‭ ‬وفي‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات‭,‬‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬آلت‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المرجعية‭ ‬العامة‭. ‬ففي‭ ‬علم‭ ‬الجمال‭ ‬عندما‭ ‬يقول‭ ‬بعضهم‭ ‬إن‭ ‬الجمال،‭ ‬أو‭ ‬الكمال‭,‬‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬الاعتدال،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الاعتدال‮»‬،‭ ‬هو‭ ‬تجسيد‭ ‬للعلاقة‭ ‬بين‭ ‬المكونات‭ ‬التي‭ ‬نتحدث‭ ‬عنها‭ (‬الوجه‭ ‬أو‭ ‬الجسم‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭)‬،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإن‭ ‬اهتمامنا‭ ‬أصبح،‭ ‬ضمناً‭,‬‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭. ‬وعندما‭ ‬ندرس‭ ‬‮«‬النسبة‭ ‬الذهبية‮»‬‭ ‬Golden‭ ‬ratio‭ ‬المعروفة‭ ‬في‭ ‬العمارة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الجمال،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬النسبة‮»‬‭ ‬هو‭ ‬حالة‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬العلاقات،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬نسبة‭ ‬هي‭ ‬علاقة،‭ ‬لكن‭ ‬العكس‭ ‬غير‭ ‬صحيح‭ ‬بالضرورة‭. ‬ومنظرو‭ ‬السياسة‭ ‬يقولون‭ ‬إن‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬المنافع‭ ‬المتبادلة‭ ‬بين‭ ‬أفرادها‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬إننا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنظور‭,‬‭ ‬نجد‭ ‬أنها‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬أفرادها‭,‬‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬فهمهم‭ ‬لبعضهم‭.‬

لذلك،‭ ‬انتشر‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬جامعات‭ ‬العالم،‭ ‬حالياً‭,‬‭ ‬تدريس‭ ‬مقرر‭ ‬‮«‬مهارات‭ ‬التواصل‮»‬‭ ‬لكل‭ ‬الاختصاصات،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تعليم‭ ‬علم‭ ‬النفس‭,‬‭ ‬وأضحى‭ ‬متطلباً‭ ‬جامعياً‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬للمتلقي‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬مهارات‭ ‬التواصل،‭ ‬لأنه‭ ‬طرف‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭,‬‭ ‬وله‭ ‬مساهمة‭ ‬في‭ ‬نسجها‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬فهم‭ ‬الآخرين‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬نجاح‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬الشاقة،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نقل‭ ‬المستحيلة‭,‬‭ ‬لأن‭ ‬الإنسان‭ ‬لغز‭ ‬صعب،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬صندوق‭ ‬مغلق‭. ‬ثم‭ ‬من‭ ‬يضمن،‭ ‬أو‭ ‬يؤكد‭,‬‭ ‬صحة‭ ‬النتائج‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬استخلاصها،‭ ‬أو‭ ‬انتزاعها‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬الآخرين؟‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬هذين‭ ‬الأمرين‭ (‬الخيارين‭) ‬ليسا‭ ‬على‭ ‬قدم‭ ‬المساواة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الأهمية،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬إمكان‭ ‬الحصول‭ ‬عليهما‭. ‬والحل‭ ‬الأكثر‭ ‬منطقية‭ ‬هو‭ ‬اختيار‭ ‬المتاح‭ ‬والتركيز‭ ‬عليه‭. ‬لذلك‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الديانات‭ ‬السماوية‭ ‬لا‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬طبيعة‭ ‬الإنسان،‭ ‬بل‭ ‬ينصب‭ ‬معظم‭ ‬تركيزها‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬الفرد‭ ‬بنفسه،‭ ‬وبربه‭,‬‭ ‬وبالآخرين‭. ‬ولهذا‭ ‬يقال‭ ‬إن‭ ‬‮«‬الدين‭ ‬المعاملة‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬حجر‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬هو‭ ‬العلاقة‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬لهذه‭ ‬الفكرة‭ ‬تطبيقات‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬تساعدنا‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مناحيها‭. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الذكر‭ ‬لا‭ ‬الحصر،‭ ‬أنه‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الأثر‭: ‬‮«‬رب‭ ‬أخ‭ ‬لك‭ ‬لم‭ ‬تلده‭ ‬أمك‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬إنه‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬القرابة،‭ ‬هناك‭ ‬شيء‭ ‬أكثر‭ ‬أهمية‭ ‬منها،‭ ‬هو‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭,‬‭ ‬وقد‭ ‬تتفوق‭ ‬على‭ ‬رابطة‭ ‬الدم‭. ‬كذلك‭ ‬نجد‭ ‬من‭ ‬تطبيقاتها‭ ‬أن‭ ‬سوء‭ ‬التفاهم‭ ‬المزمن‭ ‬بين‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة‭ ‬في‭ ‬المؤسسة‭ ‬الزوجية،‭ ‬يعزى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬الآخر‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭,‬‭ ‬وربما‭ ‬يصعب‭ ‬أن‭ ‬ينجحا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬لأسباب‭ ‬عديدة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭,‬‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يستغرق‭ ‬زمناً‭ ‬طويلاً‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬الحل‭ ‬المتاح،‭ ‬والبسيط‭,‬‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬العلاقة‭ ‬بينهما‭. ‬هذا‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬لهذه‭ ‬الفكرة‭ ‬أثر‭ ‬بيّن‭,‬‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الاجتماعي‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬المعاصر‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الحقول‭ ‬المعرفية،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬الفكر‭ ‬العلمي‭ ‬الحديث‭ ‬بدأ‭ ‬ينحو‭ ‬المنحى‭ ‬نفسه‭. ‬يقول‭ ‬جون‭ ‬ليشته‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬خمسون‭ ‬مفكراً‭ ‬أساسياً‭ ‬معاصراً‭ ‬من‭ ‬البنيوية‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‮»‬‭: ‬‮«‬إن‭ ‬باشلار‭ (‬فيلسوف‭ ‬علم‭ ‬فرنسي‭) ‬في‭ ‬مجرى‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬الفكر‭ ‬العلمي‭ ‬الحديث‭ ‬يقول‭: ‬إنه‭ ‬يتجه‭ ‬أساساً‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬الظواهر‭ ‬باعتبارها‭ ‬علاقات،‭ ‬وليست‭ ‬جواهر‭ ‬أو‭ ‬أشياء‭,‬‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬تمتلك‭ ‬صفات‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬ذاتها‮»‬‭.‬

‭ ‬

السرائر‭ ‬ومناهج‭ ‬التفكير

لقد‭ ‬أثمر‭ ‬ذلك‭ ‬ولادة‭ ‬علم‭ ‬خاص،‭ ‬ومستقل‭,‬‭ ‬للعلاقات‭ ‬أو‭ ‬العلامات‭ ‬بكل‭ ‬أنواعها،‭ ‬يسمى‭ ‬علم‭ ‬السيميولوجيا‭ (‬أحياناً‭ ‬هناك‭ ‬تسميات‭ ‬أخرى‭ ‬له‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬ذلك‭)‬،‭ ‬ولن‭ ‬ندخل‭ ‬في‭ ‬تفصيلاته‭ ‬لأنه‭ ‬خارج‭ ‬اهتمامنا،‭ ‬ويتطلب‭ ‬شرحاً‭ ‬مطولاً‭,‬‭ ‬وبخاصة‭ ‬ما‭ ‬يربط‭ ‬‮«‬العلاقات‮»‬‭ ‬مع‭ ‬‮«‬العلامات‮»‬،‭ ‬وربط‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬بالبنيوية‭ ‬كمنهج‭ ‬للتفكير‭. ‬وفي‭ ‬ظلال‭ ‬ما‭ ‬تقدم‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬ما‭ ‬ينطوي‭ ‬عليه‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭ ‬الشريف‭ ‬المعروف‭ ‬الموجه‭ ‬لأسامة‭ ‬بن‭ ‬زيد‭: ‬‮«‬هلاّ‭ ‬شققت‭ ‬عن‭ ‬قلبه؟‮»‬‭. ‬لأن‭ ‬القاعدة‭ ‬المعروفة‭ ‬في‭ ‬الفقه‭ ‬والأصول‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الأحكام‭ ‬يحكم‭ ‬فيها‭ ‬بالظاهر،‭ ‬والله‭ ‬تعالى‭ ‬يتولى‭ ‬السرائر‮»‬‭. ‬والظاهر‭ ‬يشير‭,‬‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك‭,‬‭ ‬إلى‭ ‬الممارسة،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬العلاقة‭,‬‭ ‬وليس‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬الآخرين،‭ ‬وما‭ ‬في‭ ‬سرائرهم‭. ‬وهذا‭ ‬نظير‭,‬‭ ‬أو‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬عالم‭ ‬الشهادة،‭ ‬وعالم‭ ‬الغيب‭. ‬فالعلاقة‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تندرج‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الشهادة‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬متناول‭ ‬الإنسان،‭ ‬أما‭ ‬طبيعة‭ ‬الإنسان،‭ ‬فهذا‭ ‬يندرج‭ - ‬إن‭ ‬جاز‭ ‬التعبير‭ - ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الغيب‭. ‬والفكرة‭ ‬الجنينية‭ ‬لأهمية‭ ‬‮«‬العلاقة‮»‬‭ ‬موغلة‭ ‬جداً‭ ‬في‭ ‬القدم‭ ‬في‭ ‬الرياضيات،‭ ‬وكان‭ ‬يكتنفها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الغموض‭,‬‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬اكتشافها،‭ ‬وبلورتها‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو،‭ ‬كانا‭ ‬مع‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬
وما‭ ‬يؤكد‭ ‬قدمها‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬العدد‮»‬،‭ ‬والمألوف‭ ‬للجميع‭,‬‭ ‬تولد‭ ‬أصلاً‭ ‬من‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬العلاقة‮»‬‭. ‬فنحن‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬العدد‭ ‬‮«‬ثلاثة‮»‬،‭ ‬مثلاً‭,‬‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تشترك‭ ‬فيه‭ ‬المجموعات‭ ‬المؤلفة‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬زهرات،‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬كتب‭,‬‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬طيور‭... ‬أي‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬المشترك‮»‬‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬المجموعات‭ ‬قاد‭ ‬إلى‭ ‬تشكيل‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الثلاثية‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬المشترك‭ ‬هو‭ ‬تجسيد‭ ‬للعلاقة‭ ‬بينهما‭. ‬فالمهم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬المجموعات،‭ ‬وليس‭ ‬طبيعة‭ ‬عناصرها‭. ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬العدد‭ ‬أربعة،‭ ‬أو‭ ‬خمسة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الأعداد‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬الختام،‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الرياضيات‭ ‬ليست‭ ‬علماً‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬الحسابات،‭ ‬وحل‭ ‬المسائل‭,‬‭ ‬كما‭ ‬يخال‭ ‬بعضهم،‭ ‬بل‭ ‬إنها،‭ ‬باختصار‭,‬‭ ‬منهج‭ ‬للتفكير،‭ ‬وطريقة‭ ‬للوصول‭ ‬للحقيقة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬
مقاربتها‭ ‬‭ ‬