رياض السنباطي عملاق الموسيقى العربية المعاصرة

رياض السنباطي هو رابع عمالقة الموسيقى العربية المعاصرة بعد سيد درويش، حسب ترتيب سن الولادة، محمد القصبجي (1892)، زكريا أحمد (1896)، محمد عبدالوهاب (1898)، على وجه التقدير، ورياض السنباطي (1906). أما وفاته فكانت في عام 1981 بمرض الربو، أي إننا في العام الحالي، نحيي الذكرى الخامسة والثلاثين لرحيله.
مع أن رياض السنباطي هو أصغر هؤلاء العمالقة، ولم يكن أطولهم سناً، إذ توفي عبدالوهاب المولود قبله بثماني سنوات، بعده بعشر سنوات (1991)، فإن مساهمــته فـــي تجديد البنيان الهندسي للموسيقى العربية المعاصرة، بعد ثورة انتقالها من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين على يدي سيد درويش، تتساوى في عظمتها واتساع مساحتها وتنوّع فصولها مع مساهمة زملائه الثلاثة الأكبر منه سناً.
ولعل أغرب ما في مسيرة هذا الموسيقار الكبير أنه بدأ مسيرته أستاذاً. ذلك أنه عندما انتقل من مدينته المنصورة (كانت كنيته بلبل المنصورة) إلى القاهرة ليستقر فيها للغوص في احتراف الموسيقى التي أولع بها منذ طفولته المبكّرة، وذلك في أواخر عشرينيات القرن الماضي كان زملاؤه الثلاثة الأكبر منه سناً، والأنضج تجربة في ذلك الوقت، قد استقر كل منهم على أحد عروش الموسيقى العربية المعاصرة بعد رحيل سيد درويش المبكر في عام 1923: محمد القصبجي وزكريا أحمد، مع سيدة العصر الجديد في الغناء النسائي العربي أم كلثوم، التي أنهت عصر منيرة المهدية وفتحية أحمد، لتفتتح عصراً جديداً في الغناء النسائي، ومحمد عبدالوهاب الذي استقر على عرش الموسيقى العربية والغناء العربي منذ عام 1927 بشكل محدد مع ظهور قصيدته الخالدة «يا جارة الوادي».
قبل ذلك، كان رياض السنباطي يمارس هواية العزف على آلة العود، وهواية الغناء بصوته الجميل الشفّاف، فلما اتجه في القاهرة إلى المعهد العالي للموسيقى العربية (كان اسمه نادي الموسيقى العربية) لينتسب إليه تلميذاً في العزف على آلة العود، قامت اللجنة الفاحصة بامتحانه، فإذا بها تعينه على الفور أستاذاً للعزف على آلة العود في المعهد.
تلك البداية الكبيرة كانت نبوءة مبكرة بولادة فنان بحجم غير عادي.
ومع ذلك، فيبدو أن رياض السنباطي المتواضع والرصين والعاقل، أصرّ على بداية الطريق من أولها. فما إن جاء عام 1933، وقام النجم الموسيقي والغنائي محمد عبدالوهاب بإنتاج أول أفلامه «الوردة البيضاء» حتى ظهر رياض السنباطي عازفاً على العود في فرقة عبدالوهاب الموسيقية، خاصة في أغنية «يللي شجاك الأنين».
لكن الوقت لم يتأخر كثيراً ليأخذ هذا الفنان الكبير منذ بدايته فرصته التاريخية الأولى، بالانضمام إلى فريق ملحّني أغنيات أول أفلام أم كلثوم «وداد» في عام 1935، فكان لحن «على بلد المحبوب».
لكن هذه الفرصة الأولى، لم تكن مكتملة منذ بدايتها، إذ رفضت أم كلثوم، الكبيرة يومها، أن تغني لحناً لملحن ناشئ غير معروف، فقام بأداء لحن «على بلد المحبوب» المطرب عبده السروجي. غير أن نجاح الأغنية الجماهيري السريع، أقنع أم كلثوم على الفور بتسجيل الأغنية على أسطوانة بصوتها.
إلا أن هذا اللحن الشعبي البسيط، على جماله وانتشاره، لم يكن البداية الكبيرة للتعاون بين صوت أم كلثوم وألحان رياض السنباطي، إذ سرعان ما كتب لها شاعرها المفضل أحمد رامي كلمات مونولوج «النوم يداعب عيون حبيبي»، فخرجت من بين أنامل الملحن الجديد رياض السنباطي لحناً خالداً، بقي حتى يومنا هذا من أعظم أغنيات أم كلثوم، ولم يكن غريباً أن هذا اللحن الكبير المبكر في حياة السنباطي الفنية، جاء على درجة كبيرة من التأثر الواضح للسنباطي بأستاذه محمد القصبجي، رائد فن المونولوج في الموسيقى العربية، وإن بدت فيه الشخصية المميزة والخاصة لملحن كبير قادم هو رياض السنباطي.
لم تكن «النوم يداعب»، البداية الوحيدة الكبيرة بين السنباطي وأم كلثوم، فسرعان ما أخرجت أم كلثوم من أدراجها قصيدة أحمد شوقي التي تغزّل فيها بغنائها «سلوا كؤوس الطلا» وحوّلتها إلى السنباطي، الذي استبشرت به خيراً منذ اللحنين الأوّلين ليضع لها لحناً، وربما كانت تعتقد أن الملحن الجديد سيسير على درب أبي العلا محمد، أستاذها الأول في قصائدها الأولى.
لكن البدايات الكبيرة التي ظهرت على الألحان الأولى لرياض السنباطي، تكرّرت في لحن قصيدة «سلوا كؤوس الطلا» (1937) عند ولادة مواسم الحفلات الإذاعية الشهرية لأم كلثوم، فقــــد جاء لحن هذه القصــــيدة تــــجديداً خطيراً فــــي تلحـــين القصيدة الغنـــــائية العربيـــــة، في نمط يتسم بالبنيان الهندسي ذي الشخصية العربية الأصيلة والجميلة، أشبه بالهندسة المعمارية لقصور العرب في الأندلس.
وسيتحول هذا النمط السنباطي المبكر في تلحين القصيدة، إلى لون يتجدد مع قصائد مثل «اذكريني» و«رباعيات الخيام»، ثم القصائد الدينية «سلوا قلبي»، و«نهج البردة»، حتى قصيدة «قصة الأمس»، و«الأطلال» (1966)، حيث سيتحول أسلوب رياض السنباطي العظيم في تلحين القصيدة الكلثومية إلى أحد أعظم نماذج تطوير تلحين القصيدة العربية الغنائية، إلى جانب الأساليب التجديدية الأخرى، التي أدخلها محمد عبدالوهاب، على قصيدة أبي العلا محمد.
غير أن تعاون السنباطي التاريخي مع صوت أم كلثوم بعد ذلك، حتى رحيلها في عام 1975، لم يقتصر على لون القصيدة الغنائية، فقد أبدع السنباطي حتى وصل إلى قمم فنية موازية لقمة تلحين القصيدة الغنائية، بتلحين المونولوجات المطوّلة لحفلات أم كلثوم الشهرية، حيث زوّدها بأغنياتها الخالدة من مثل «سهران لوحدي» و«غلبت أصالح في روحي» و«جدّدت حبك ليه» و«يا ظالمني» و«دليلي احتار» و«هجرتك» وكثير غيرها.
والحقيقة أن ظروفاً معينة قد زادت من الارتباط بين اسمي أم كلثوم ورياض السنباطي، عندما وقع الخصام بين أم كلثوم والقصبجي أولاً، ثم زكريا أحمد ثانياً، وذلك في عقد الأربعينيات، فأصبح صوت أم كلثوم، وهو في ذروة نضوجه ومجده الغنائي، حكراً على ألحان رياض السنباطي، الذي يبدو أنه لم يفرّط يوماً بهذه النعمة، فراح يفجّر في سبيلها كل ينابيع عبقريته الموسيقية، حتى آخر حفلات أم كلثوم في فبراير 1973، التي أنشدت فيها آخر ألحان السنباطي لها «القلب يعشق كل جميل» شعر العبقري بيرم التونسي.
السنباطي غير الكلثومي
ورغم العظمة الفنية التي أحاطت بالثلاثي الفني رامي - السنباطي - أم كلثوم، فإننا نظلم العبقرية الفنية لهذا العملاق الموسيقي، إذا حصرناها فقط في مجال تعاونه مع العظيمة أم كلثوم.
فقد كان هذا الفــــنان الغزير والمتدفق، يمتلك أيضاً شخصية رومانسية في التلحين، أقرب إلى الألوان التحديثية لزميله محمد عبدالوهاب، كانت تتجلى في ألحان رياض السنباطي المبكّرة لأصوات أخرى مثل ليلى مراد وأسمهان، ونورالهدى وصباح، ومن أجمل ما لحّن في هذا المجال قصيدة «أيها النائم» الدرامية لأسمهان، وتانجو «الحبيب» لليلى مراد.
لكننا في هذا المجال الذي أحب أن أطلق عليه لقب «السنباطي غير الكلثومي»، فإننا نضع في ذروته الألحان السنباطية التي أدّاها بصوته الرائع، مثل قصــــائد «فجــــر» و«أشـــــواق»، و«على عودي»، التي قال محـــمد عبدالوهاب في إحداها (أشواق) إن السنباطي لو لم يغن بصوته سواها، لصحّ اعتــــباره مطــــرباً عظــــيماً.
وقد توّج السنباطي هذه النزعة الرومانسية التي كان يحب ممارستها بعيداً عن صوت العظيمة أم كلثوم، بأداء بطولة فيلم سينمائي وحيد إلى جانب المطربة والممثلة هدى سلطان (حبيب قلبي)، حيث قام بتلحين وأداء روائع موسيقية أقرب إلى روائع عبدالوهاب في أفلامه الغنائية.
بقي أن نذكر أن السنباطي وضع عدداً وافراً من الألحان البعيدة عن الطابع الكلثومي، لأصوات كبيرة مثل نجاة الصغيرة، ومحمد عبدالمطلب، ووردة وعبدالحليم حافظ ونازك وسعاد محمد ونجاح سلام وسواهم.
وكان مقدّراً أن يقوم تعاون بين العبقرية الموسيقية لرياض السنباطي وصوتي وديع الصافي وفيروز، غير أن هذه المشاريع لم تكتمل لظروف خاصة.
ولا يجوز أن نختم الحديث عن رياض السنباطي، دون أن نذكر أن هناك شبه إجماع بين العارفين بشؤون الموسيقى العربية، على أن السنباطي هو أبرع من ضرب على آلة العود عند العرب في القرن العشرين ■