رياض السنباطي عملاق الموسيقى العربية المعاصرة

رياض السنباطي  عملاق الموسيقى العربية المعاصرة

رياض‭ ‬السنباطي‭ ‬هو‭ ‬رابع‭ ‬عمالقة‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭ ‬بعد‭ ‬سيد‭ ‬درويش،‭ ‬حسب‭ ‬ترتيب‭ ‬سن‭ ‬الولادة،‭ ‬محمد‭ ‬القصبجي‭ (‬1892‭)‬،‭ ‬زكريا‭ ‬أحمد‭ (‬1896‭)‬،‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ (‬1898‭)‬،‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التقدير،‭ ‬ورياض‭ ‬السنباطي‭ (‬1906‭). ‬أما‭ ‬وفاته‭ ‬فكانت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1981‭ ‬بمرض‭ ‬الربو،‭ ‬أي‭ ‬إننا‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الحالي،‭ ‬نحيي‭ ‬الذكرى‭ ‬الخامسة‭ ‬والثلاثين‭ ‬لرحيله‭.‬

مع‭ ‬أن‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي‭ ‬هو‭ ‬أصغر‭ ‬هؤلاء‭ ‬العمالقة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أطولهم‭ ‬سناً،‭ ‬إذ‭ ‬توفي‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬المولود‭ ‬قبله‭ ‬بثماني‭ ‬سنوات،‭ ‬بعده‭ ‬بعشر‭ ‬سنوات‭ (‬1991‭)‬،‭ ‬فإن‭ ‬مساهمــته‭ ‬فـــي‭ ‬تجديد‭ ‬البنيان‭ ‬الهندسي‭ ‬للموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬بعد‭ ‬ثورة‭ ‬انتقالها‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬سيد‭ ‬درويش،‭ ‬تتساوى‭ ‬في‭ ‬عظمتها‭ ‬واتساع‭ ‬مساحتها‭ ‬وتنوّع‭ ‬فصولها‭ ‬مع‭ ‬مساهمة‭ ‬زملائه‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأكبر‭ ‬منه‭ ‬سناً‭.‬

ولعل‭ ‬أغرب‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬هذا‭ ‬الموسيقار‭ ‬الكبير‭ ‬أنه‭ ‬بدأ‭ ‬مسيرته‭ ‬أستاذاً‭. ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬مدينته‭ ‬المنصورة‭ (‬كانت‭ ‬كنيته‭ ‬بلبل‭ ‬المنصورة‭) ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬ليستقر‭ ‬فيها‭ ‬للغوص‭ ‬في‭ ‬احتراف‭ ‬الموسيقى‭ ‬التي‭ ‬أولع‭ ‬بها‭ ‬منذ‭ ‬طفولته‭ ‬المبكّرة،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كان‭ ‬زملاؤه‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأكبر‭ ‬منه‭ ‬سناً،‭ ‬والأنضج‭ ‬تجربة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬قد‭ ‬استقر‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬عروش‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭ ‬بعد‭ ‬رحيل‭ ‬سيد‭ ‬درويش‭ ‬المبكر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1923‭: ‬محمد‭ ‬القصبجي‭ ‬وزكريا‭ ‬أحمد،‭ ‬مع‭ ‬سيدة‭ ‬العصر‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬النسائي‭ ‬العربي‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬التي‭ ‬أنهت‭ ‬عصر‭ ‬منيرة‭ ‬المهدية‭ ‬وفتحية‭ ‬أحمد،‭ ‬لتفتتح‭ ‬عصراً‭ ‬جديداً‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬النسائي،‭ ‬ومحمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الذي‭ ‬استقر‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭ ‬والغناء‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1927‭ ‬بشكل‭ ‬محدد‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬قصيدته‭ ‬الخالدة‭ ‬‮«‬يا‭ ‬جارة‭ ‬الوادي‮»‬‭.‬

قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬كان‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي‭ ‬يمارس‭ ‬هواية‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬العود،‭ ‬وهواية‭ ‬الغناء‭ ‬بصوته‭ ‬الجميل‭ ‬الشفّاف،‭ ‬فلما‭ ‬اتجه‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬إلى‭ ‬المعهد‭ ‬العالي‭ ‬للموسيقى‭ ‬العربية‭ (‬كان‭ ‬اسمه‭ ‬نادي‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية‭) ‬لينتسب‭ ‬إليه‭ ‬تلميذاً‭ ‬في‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬العود،‭ ‬قامت‭ ‬اللجنة‭ ‬الفاحصة‭ ‬بامتحانه،‭ ‬فإذا‭ ‬بها‭ ‬تعينه‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬أستاذاً‭ ‬للعزف‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬العود‭ ‬في‭ ‬المعهد‭.‬

تلك‭ ‬البداية‭ ‬الكبيرة‭ ‬كانت‭ ‬نبوءة‭ ‬مبكرة‭ ‬بولادة‭ ‬فنان‭ ‬بحجم‭ ‬غير‭ ‬عادي‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فيبدو‭ ‬أن‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي‭ ‬المتواضع‭ ‬والرصين‭ ‬والعاقل،‭ ‬أصرّ‭ ‬على‭ ‬بداية‭ ‬الطريق‭ ‬من‭ ‬أولها‭. ‬فما‭ ‬إن‭ ‬جاء‭ ‬عام‭ ‬1933،‭ ‬وقام‭ ‬النجم‭ ‬الموسيقي‭ ‬والغنائي‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬بإنتاج‭ ‬أول‭ ‬أفلامه‭ ‬‮«‬الوردة‭ ‬البيضاء‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬ظهر‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي‭ ‬عازفاً‭ ‬على‭ ‬العود‭ ‬في‭ ‬فرقة‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الموسيقية،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬أغنية‭ ‬‮«‬يللي‭ ‬شجاك‭ ‬الأنين‮»‬‭.‬

لكن‭ ‬الوقت‭ ‬لم‭ ‬يتأخر‭ ‬كثيراً‭ ‬ليأخذ‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬الكبير‭ ‬منذ‭ ‬بدايته‭ ‬فرصته‭ ‬التاريخية‭ ‬الأولى،‭ ‬بالانضمام‭ ‬إلى‭ ‬فريق‭ ‬ملحّني‭ ‬أغنيات‭ ‬أول‭ ‬أفلام‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬‮«‬وداد‮»‬‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1935،‭ ‬فكان‭ ‬لحن‭ ‬‮«‬على‭ ‬بلد‭ ‬المحبوب‮»‬‭.‬

لكن‭ ‬هذه‭ ‬الفرصة‭ ‬الأولى،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مكتملة‭ ‬منذ‭ ‬بدايتها،‭ ‬إذ‭ ‬رفضت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬الكبيرة‭ ‬يومها،‭ ‬أن‭ ‬تغني‭ ‬لحناً‭ ‬لملحن‭ ‬ناشئ‭ ‬غير‭ ‬معروف،‭ ‬فقام‭ ‬بأداء‭ ‬لحن‭ ‬‮«‬على‭ ‬بلد‭ ‬المحبوب‮»‬‭ ‬المطرب‭ ‬عبده‭ ‬السروجي‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬نجاح‭ ‬الأغنية‭ ‬الجماهيري‭ ‬السريع،‭ ‬أقنع‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬بتسجيل‭ ‬الأغنية‭ ‬على‭ ‬أسطوانة‭ ‬بصوتها‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬اللحن‭ ‬الشعبي‭ ‬البسيط،‭ ‬على‭ ‬جماله‭ ‬وانتشاره،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬البداية‭ ‬الكبيرة‭ ‬للتعاون‭ ‬بين‭ ‬صوت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬وألحان‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي،‭ ‬إذ‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬لها‭ ‬شاعرها‭ ‬المفضل‭ ‬أحمد‭ ‬رامي‭ ‬كلمات‭ ‬مونولوج‭ ‬‮«‬النوم‭ ‬يداعب‭ ‬عيون‭ ‬حبيبي‮»‬،‭ ‬فخرجت‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أنامل‭ ‬الملحن‭ ‬الجديد‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي‭ ‬لحناً‭ ‬خالداً،‭ ‬بقي‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬أغنيات‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬غريباً‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬اللحن‭ ‬الكبير‭ ‬المبكر‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬السنباطي‭ ‬الفنية،‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬التأثر‭ ‬الواضح‭ ‬للسنباطي‭ ‬بأستاذه‭ ‬محمد‭ ‬القصبجي،‭ ‬رائد‭ ‬فن‭ ‬المونولوج‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية،‭ ‬وإن‭ ‬بدت‭ ‬فيه‭ ‬الشخصية‭ ‬المميزة‭ ‬والخاصة‭ ‬لملحن‭ ‬كبير‭ ‬قادم‭ ‬هو‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬‮«‬النوم‭ ‬يداعب‮»‬،‭ ‬البداية‭ ‬الوحيدة‭ ‬الكبيرة‭ ‬بين‭ ‬السنباطي‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬فسرعان‭ ‬ما‭ ‬أخرجت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬من‭ ‬أدراجها‭ ‬قصيدة‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬التي‭ ‬تغزّل‭ ‬فيها‭ ‬بغنائها‭ ‬‮«‬سلوا‭ ‬كؤوس‭ ‬الطلا‮»‬‭ ‬وحوّلتها‭ ‬إلى‭ ‬السنباطي،‭ ‬الذي‭ ‬استبشرت‭ ‬به‭ ‬خيراً‭ ‬منذ‭ ‬اللحنين‭ ‬الأوّلين‭ ‬ليضع‭ ‬لها‭ ‬لحناً،‭ ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬الملحن‭ ‬الجديد‭ ‬سيسير‭ ‬على‭ ‬درب‭ ‬أبي‭ ‬العلا‭ ‬محمد،‭ ‬أستاذها‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬قصائدها‭ ‬الأولى‭.‬

لكن‭ ‬البدايات‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬على‭ ‬الألحان‭ ‬الأولى‭ ‬لرياض‭ ‬السنباطي،‭ ‬تكرّرت‭ ‬في‭ ‬لحن‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬سلوا‭ ‬كؤوس‭ ‬الطلا‮»‬‭ (‬1937‭) ‬عند‭ ‬ولادة‭ ‬مواسم‭ ‬الحفلات‭ ‬الإذاعية‭ ‬الشهرية‭ ‬لأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬فقــــد‭ ‬جاء‭ ‬لحن‭ ‬هذه‭ ‬القصــــيدة‭ ‬تــــجديداً‭ ‬خطيراً‭ ‬فــــي‭ ‬تلحـــين‭ ‬القصيدة‭ ‬الغنـــــائية‭ ‬العربيـــــة،‭ ‬في‭ ‬نمط‭ ‬يتسم‭ ‬بالبنيان‭ ‬الهندسي‭ ‬ذي‭ ‬الشخصية‭ ‬العربية‭ ‬الأصيلة‭ ‬والجميلة،‭ ‬أشبه‭ ‬بالهندسة‭ ‬المعمارية‭ ‬لقصور‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭. ‬

وسيتحول‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬السنباطي‭ ‬المبكر‭ ‬في‭ ‬تلحين‭ ‬القصيدة،‭ ‬إلى‭ ‬لون‭ ‬يتجدد‭ ‬مع‭ ‬قصائد‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬اذكريني‮»‬‭ ‬و«رباعيات‭ ‬الخيام‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬القصائد‭ ‬الدينية‭ ‬‮«‬سلوا‭ ‬قلبي‮»‬،‭ ‬و«نهج‭ ‬البردة‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬قصة‭ ‬الأمس‮»‬،‭ ‬و«الأطلال‮»‬‭ (‬1966‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬سيتحول‭ ‬أسلوب‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي‭ ‬العظيم‭ ‬في‭ ‬تلحين‭ ‬القصيدة‭ ‬الكلثومية‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬أعظم‭ ‬نماذج‭ ‬تطوير‭ ‬تلحين‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬الغنائية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الأساليب‭ ‬التجديدية‭ ‬الأخرى،‭ ‬التي‭ ‬أدخلها‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬على‭ ‬قصيدة‭ ‬أبي‭ ‬العلا‭ ‬محمد‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬تعاون‭ ‬السنباطي‭ ‬التاريخي‭ ‬مع‭ ‬صوت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬حتى‭ ‬رحيلها‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1975،‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬لون‭ ‬القصيدة‭ ‬الغنائية،‭ ‬فقد‭ ‬أبدع‭ ‬السنباطي‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬قمم‭ ‬فنية‭ ‬موازية‭ ‬لقمة‭ ‬تلحين‭ ‬القصيدة‭ ‬الغنائية،‭ ‬بتلحين‭ ‬المونولوجات‭ ‬المطوّلة‭ ‬لحفلات‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬الشهرية،‭ ‬حيث‭ ‬زوّدها‭ ‬بأغنياتها‭ ‬الخالدة‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬سهران‭ ‬لوحدي‮»‬‭ ‬و‮«‬غلبت‭ ‬أصالح‭ ‬في‭ ‬روحي‮»‬‭ ‬و«جدّدت‭ ‬حبك‭ ‬ليه‮»‬‭ ‬و‮«‬يا‭ ‬ظالمني‮»‬‭ ‬و«دليلي‭ ‬احتار‮»‬‭ ‬و«هجرتك‮»‬‭ ‬وكثير‭ ‬غيرها‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬ظروفاً‭ ‬معينة‭ ‬قد‭ ‬زادت‭ ‬من‭ ‬الارتباط‭ ‬بين‭ ‬اسمي‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬ورياض‭ ‬السنباطي،‭ ‬عندما‭ ‬وقع‭ ‬الخصام‭ ‬بين‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬والقصبجي‭ ‬أولاً،‭ ‬ثم‭ ‬زكريا‭ ‬أحمد‭ ‬ثانياً،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الأربعينيات،‭ ‬فأصبح‭ ‬صوت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬نضوجه‭ ‬ومجده‭ ‬الغنائي،‭ ‬حكراً‭ ‬على‭ ‬ألحان‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي،‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يفرّط‭ ‬يوماً‭ ‬بهذه‭ ‬النعمة،‭ ‬فراح‭ ‬يفجّر‭ ‬في‭ ‬سبيلها‭ ‬كل‭ ‬ينابيع‭ ‬عبقريته‭ ‬الموسيقية،‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬حفلات‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬في‭ ‬فبراير‭ ‬1973،‭ ‬التي‭ ‬أنشدت‭ ‬فيها‭ ‬آخر‭ ‬ألحان‭ ‬السنباطي‭ ‬لها‭ ‬‮«‬القلب‭ ‬يعشق‭ ‬كل‭ ‬جميل‮»‬‭ ‬شعر‭ ‬العبقري‭ ‬بيرم‭ ‬التونسي‭.‬

 

السنباطي‭ ‬غير‭ ‬الكلثومي

ورغم‭ ‬العظمة‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬أحاطت‭ ‬بالثلاثي‭ ‬الفني‭ ‬رامي‭ - ‬السنباطي‭ -  ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬فإننا‭ ‬نظلم‭ ‬العبقرية‭ ‬الفنية‭ ‬لهذا‭ ‬العملاق‭ ‬الموسيقي،‭ ‬إذا‭ ‬حصرناها‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬تعاونه‭ ‬مع‭ ‬العظيمة‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭.‬

فقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الفــــنان‭ ‬الغزير‭ ‬والمتدفق،‭ ‬يمتلك‭ ‬أيضاً‭ ‬شخصية‭ ‬رومانسية‭ ‬في‭ ‬التلحين،‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الألوان‭ ‬التحديثية‭ ‬لزميله‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب،‭ ‬كانت‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬ألحان‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي‭ ‬المبكّرة‭ ‬لأصوات‭ ‬أخرى‭ ‬مثل‭ ‬ليلى‭ ‬مراد‭ ‬وأسمهان،‭ ‬ونورالهدى‭ ‬وصباح،‭ ‬ومن‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬لحّن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬أيها‭ ‬النائم‮»‬‭ ‬الدرامية‭ ‬لأسمهان،‭ ‬وتانجو‭ ‬‮«‬الحبيب‮»‬‭ ‬لليلى‭ ‬مراد‭.‬

لكننا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬الذي‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬السنباطي‭ ‬غير‭ ‬الكلثومي‮»‬،‭ ‬فإننا‭ ‬نضع‭ ‬في‭ ‬ذروته‭ ‬الألحان‭ ‬السنباطية‭ ‬التي‭ ‬أدّاها‭ ‬بصوته‭ ‬الرائع،‭ ‬مثل‭ ‬قصــــائد‭ ‬‮«‬فجــــر‮»‬‭ ‬و«أشـــــواق‮»‬،‭ ‬و«على‭ ‬عودي‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬قال‭ ‬محـــمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬في‭ ‬إحداها‭ (‬أشواق‭) ‬إن‭ ‬السنباطي‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يغن‭ ‬بصوته‭ ‬سواها،‭ ‬لصحّ‭ ‬اعتــــباره‭ ‬مطــــرباً‭ ‬عظــــيماً‭. ‬

وقد‭ ‬توّج‭ ‬السنباطي‭ ‬هذه‭ ‬النزعة‭ ‬الرومانسية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬ممارستها‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬صوت‭ ‬العظيمة‭ ‬أم‭ ‬كلثوم،‭ ‬بأداء‭ ‬بطولة‭ ‬فيلم‭ ‬سينمائي‭ ‬وحيد‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬المطربة‭ ‬والممثلة‭ ‬هدى‭ ‬سلطان‭ (‬حبيب‭ ‬قلبي‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬قام‭ ‬بتلحين‭ ‬وأداء‭ ‬روائع‭ ‬موسيقية‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬روائع‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭ ‬الغنائية‭.‬

بقي‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬أن‭ ‬السنباطي‭ ‬وضع‭ ‬عدداً‭ ‬وافراً‭ ‬من‭ ‬الألحان‭ ‬البعيدة‭ ‬عن‭ ‬الطابع‭ ‬الكلثومي،‭ ‬لأصوات‭ ‬كبيرة‭ ‬مثل‭ ‬نجاة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬ومحمد‭ ‬عبدالمطلب،‭ ‬ووردة‭ ‬وعبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬ونازك‭ ‬وسعاد‭ ‬محمد‭ ‬ونجاح‭ ‬سلام‭ ‬وسواهم‭.‬

وكان‭ ‬مقدّراً‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬تعاون‭ ‬بين‭ ‬العبقرية‭ ‬الموسيقية‭ ‬لرياض‭ ‬السنباطي‭ ‬وصوتي‭ ‬وديع‭ ‬الصافي‭ ‬وفيروز،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المشاريع‭ ‬لم‭ ‬تكتمل‭ ‬لظروف‭ ‬خاصة‭.‬

ولا‭ ‬يجوز‭ ‬أن‭ ‬نختم‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬شبه‭ ‬إجماع‭ ‬بين‭ ‬العارفين‭ ‬بشؤون‭ ‬الموسيقى‭ ‬العربية،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬السنباطي‭ ‬هو‭ ‬أبرع‭ ‬من‭ ‬ضرب‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬العود‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬