حول الكون في التصور العراقي القديم

حول الكون  في التصور العراقي القديم

دراسة‭ ‬التصور‭ ‬الكوني‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬القديم‭- ‬أو‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬حضارة‭ ‬أخرى‭ - ‬لا‭ ‬تكتمل‭ ‬ملامحها‭ ‬البارزة‭ ‬إلا‭ ‬بمعرفة‭ ‬ماهية‭ ‬الكون،‭ ‬وذلك‭ ‬حتى‭ ‬تتسنى‭ ‬لنا‭ ‬معرفة‭ ‬مدى‭ ‬مصداقية‭ ‬رؤية‭ ‬هذه‭ ‬الحضارة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬للكون‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬الكون‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬موجود‭ ‬وما‭ ‬وجد‭ ‬وما‭ ‬سيوجد،‭ ‬أما‭ ‬عن‭ ‬كلمة‭ ‬الكون‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬‮«‬cosmos‮»‬‭ ‬في‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية‭ ‬مثل‭: ‬الإنجليزية‭ ‬والفرنسية‭ ‬والروسية‭... ‬إلى‭ ‬آخره‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬كلمة‭ ‬إغريقية‭ ‬تعني‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬الكون‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬بشكل‭ ‬ما‭ ‬عكس‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬cosmos‮»‬‭ ‬أي‭ ‬الاختلاط‭ ‬والتشوش،‭ ‬أو‭ ‬بمعني‭ ‬آخر‭ ‬حالة‭ ‬الكون‭ ‬المختلطة‭ ‬قبل‭ ‬تكونه‭. ‬وهي‭ ‬تتضمن‭ ‬العلاقة‭ ‬المتبادلة‭ ‬العميقة‭ ‬لكل‭ ‬الأشياء‭ ‬وتبعث‭ ‬الرهبة‭ ‬من‭ ‬الطريقة‭ ‬الدقيقة‭ ‬والماهرة،‭ ‬التي‭ ‬جمع‭ ‬فيها‭ ‬الكون‭ ‬بالشكل‭ ‬الراهن‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬يختص‭ ‬بالكون،‭ ‬فإن‭ ‬مسائل‭ ‬الكونيات‭ - ‬أي‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬أصل‭ ‬العالم‭ - ‬كانت‭ ‬مبعث‭ ‬حيرة‭ ‬للعقل‭ ‬البشري‭ ‬منذ‭ ‬فجر‭ ‬التاريخ،‭ ‬فقد‭ ‬اتصل‭ ‬التصور‭ ‬في‭ ‬أصل‭ ‬العالم‭ ‬عند‭ ‬القدماء‭ ‬بفكرة‭ ‬الخلق،‭ ‬حيث‭ ‬قام‭ ‬به‭ - ‬وفقاً‭ ‬لتصورهم‭ ‬ذ‭ ‬إله‭ ‬فصل‭ ‬بين‭ ‬النور‭ ‬والظلمة‭ ‬ورفع‭ ‬السماوات‭ ‬وثبتها‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬الأرض،‭ ‬وصور‭ ‬المجالات‭ ‬الأخرى،‭ ‬التي‭ ‬اختصت‭ ‬بها‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭ ‬الكونية‭ ‬الضيقة‭ ‬المحدودة،‭ ‬التي‭ ‬تحيزت‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬الإنسان‭ ‬الأول،‭ ‬ومرت‭ ‬القرون،‭ ‬واستجمع‭ ‬الإنسان‭ ‬بمرورها‭ ‬المعرفة‭ ‬بمختلف‭ ‬الظاهرات،‭ ‬التي‭ ‬يعايشها‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬تتألف‭ ‬منه‭ ‬بيئته،‭ ‬وتكيفت‭ ‬نظرياته‭ ‬الكونية‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬العلم‭. ‬وعند‭ ‬دراسة‭ ‬ملامح‭ ‬التصور‭ ‬العراقي‭ ‬القديم‭ ‬للكون،‭ ‬نرى‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬مر‭ ‬على‭ ‬العراق‭ ‬في‭ ‬تاريخه‭ ‬القديم‭ ‬حضارات‭ ‬عدة‭ ‬علي‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭:‬

 

1 ‭- ‬حضارة‭ ‬سومر‭:‬

أ‭- ‬من‭ ‬هم‭ ‬السومريون؟

ثمة‭ ‬تساؤل‭ ‬حيوي‭ ‬من‭ ‬المنظار‭ ‬التاريخي‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬بساط‭ ‬البحث،‭ ‬مفاده‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬السومريون؟‭ ‬وللإجابة‭ ‬عن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التساؤل‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬السومريين‭ ‬أو‭ ‬الشومريين،‭ ‬هم‭ ‬قوم‭ ‬تحدروا‭ ‬من‭ ‬الأقوام‭ ‬التي‭ ‬قطنت‭ ‬العراق‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التاريخ،‭ ‬وهي‭ ‬العصور‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬عصر‭ ‬فجر‭ ‬السلالات،‭ ‬وقد‭ ‬عرفوا‭ ‬باسم‭ ‬خاص،‭ ‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬السومريين‭ ‬في‭ ‬الأزمنة‭ ‬التاريخية‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬الجزء‭ ‬الخاص‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬الذي‭ ‬تمركزوا‭ ‬فيه،‭ ‬وهو‭ ‬القسم‭ ‬الجنوبي‭ ‬الذي‭ ‬سمي‭ ‬باسم‭ ‬اشومرب‭ ‬أو‭ ‬اسومرب،‭ ‬ولعل‭ ‬أقوى‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬هذه‭ ‬الفرضية‭ ‬رأياً‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬الواقع،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أسس‭ ‬الحضارة‭ ‬السومرية،‭ ‬التي‭ ‬ازدهرت‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬السلالات،‭ ‬يمكن‭ ‬إرجاعها‭ ‬إلى‭ ‬الأطوار‭ ‬الحضارية‭ (‬عصور‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬السلالات‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬يشكل‭ ‬استمراراً‭ ‬حضارياً،‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬أصول‭ ‬الحضارة‭ ‬السومرية‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يمكن‭ ‬تتبع‭ ‬أسسها‭ ‬وأصولها‭ ‬فيه‭ ‬منذ‭ ‬أقدم‭ ‬الأزمان‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬فترة،‭ ‬تراوحت‭ ‬تقديرات‭ ‬المؤرخين‭ ‬بشأنها،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬الثلاثين‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬والقرن‭ ‬الثامن‭ ‬والعشرين‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭.‬

وخلاصة‭ ‬القول،‭ ‬إنه‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬أصل‭ ‬السومريين‭ ‬والمهد‭ ‬الذي‭ ‬نزحوا‭ ‬منه،‭ ‬فالأمر‭ ‬المهم‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الحضارية،‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬نعرف‭ ‬نشوء‭ ‬حضارتهم‭ ‬وتطورها‭ ‬ومراحل‭ ‬ذلك‭ ‬التطور‭ ‬وخصائصها،‭ ‬وأنها‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الجنوبي‭ ‬من‭ ‬العراق‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬أصلهم‭ ‬وعرقهم‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقود‭ ‬الباحث‭ ‬إلى‭ ‬شيء،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬أنه‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭.‬

 

ب‭ - ‬الكون‭ ‬لدى‭ ‬السومريين

يشي‭ ‬الواقع‭ ‬التاريخي‭ ‬لمعطيات‭ ‬حضارة‭ ‬سومر،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬العلمي‭ ‬الدقيق،‭ ‬بأن‭ ‬فقهاء‭ ‬سومر‭ ‬قد‭ ‬تخيلوا‭ ‬السماء‭ ‬والأرض‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬أمرهما‭ ‬ملتصقتين‭ ‬يحيط‭ ‬بهما‭ ‬محيط‭ ‬مائي‭ ‬عظيم،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬أولهما‭ ‬إله‭ ‬مذكر‭ ‬وهو‭ ‬اآنب‭ ‬أو‭ ‬اآنوب‭ ‬الذي‭ ‬اعتبروه‭ ‬الجد‭ ‬الأكبر‭ ‬للمعبودات،‭ ‬ثم‭ ‬إلهة‭ ‬مؤنثة‭ ‬اكيب،‭ ‬ونتج‭ ‬عن‭ ‬اتصال‭ ‬هذين‭ ‬الزوجين‭ ‬عنصر‭ ‬ثالث،‭ ‬وهو‭ ‬اإنليلب‭ ‬رب‭ ‬الهواء‭ ‬والأنفاس‭ ‬والفضاء‭ ‬الذي‭ ‬تدخل‭ ‬بينهما‭ ‬وفصلهما،‭ ‬ورفع‭ ‬أباه‭ ‬اآنب‭ ‬بسمائه‭ ‬إلى‭ ‬أعلى،‭ ‬وحط‭ ‬بأمه‭ ‬اكيب‭ ‬إلى‭ ‬أسفل‭ ‬حيث‭ ‬اختلط‭ ‬بها،‭ ‬وترتب‭ ‬على‭ ‬وجوده‭ ‬معها‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬ظهور‭ ‬بقية‭ ‬الأرباب،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬سموا‭ ‬باسم‭ ‬الأنوناكي‭ ‬الخمسين‭ ‬العظام‭ ‬والسبعة‭ ‬أصحاب‭ ‬المصائر،‭ ‬ثم‭ ‬بدأ‭ ‬خلق‭ ‬النباتات‭ ‬والأنعام‭ ‬والناس‭.‬

إن‭ ‬التصور‭ ‬الكوني‭ ‬لدى‭ ‬السومريين،‭ ‬يجعل‭ ‬الباحث‭ ‬المعاصر‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬قناعة‭ ‬عملية‭ ‬تاريخية‭ ‬مفادها،‭ ‬أن‭ ‬أرباب‭ ‬السماء‭ ‬والأرض‭ ‬والهواء‭ - ‬وفقاً‭ ‬لهذا‭ ‬التصور‭- ‬قد‭ ‬تسنى‭ ‬لهم‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬النشأة‭  ‬عند‭ ‬السومريين‭ ‬فـ‭ ‬اإنكيب‭ ‬روح‭ ‬الماء‭ ‬المحيط‭ ‬بالسماء‭ ‬والأرض،‭ ‬وكان‭ ‬ابن‭ ‬هو‭ ‬انموب‭ ‬الذي‭ ‬مثل‭ ‬عنصر‭ ‬الأمومة‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬الأزلي،‭ ‬وزوج‭  ‬هو‭ ‬اتماخب،‭ ‬أي‭ ‬السيدة‭ ‬العظمى،‭ ‬التي‭ ‬لقبت‭ ‬أيضاً‭ ‬بلقب‭ ‬انينتوب‭ ‬بمعنى‭ ‬السيدة‭ ‬الوالدة،‭ ‬ولهذا‭  ‬كان‭ ‬اإنكيب‭ ‬يعتبر‭ ‬إلها‭ ‬للماء‭ ‬وللحكمة‭ ‬ومقرراً‭ ‬لمصائر‭ ‬الأقطار‭ ‬والمدن‭ ‬وحافظ‭ ‬نواميس‭ ‬الحضارة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مظاهرها‭ ‬المادية‭ ‬والروحية،‭ ‬والموصي‭  ‬بمظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬أربابها،‭ ‬مثل‭ ‬ادوموزيب‭ ‬الذي‭ ‬عهد‭ ‬بخصوبة‭ ‬الأنعام‭ ‬وخصوبة‭  ‬الأرض‭ ‬واإشكودب‭ ‬الذي‭ ‬عهد‭ ‬إليه‭ ‬بأمر‭ ‬الرياح،‭ ‬إن‭  ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الآلهة‭ ‬ذ‭ ‬وفقاً‭ ‬للتصور‭ ‬السومري‭ ‬ذ‭ ‬قد‭ ‬شاركوا‭ ‬في‭ ‬نشأة‭ ‬الكون‭ ‬وتكوينه‭.‬

وفي‭ ‬التحليل‭ ‬الأخير،‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬التصور‭ ‬السومري‭ ‬للكون،‭ ‬يؤكد‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬حضارة‭ ‬سومر‭ ‬قد‭ ‬عرفت‭ ‬آلهة‭ ‬متعددة،‭ ‬عرفت‭ ‬بآلهة‭ ‬الكون‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭: ‬

 

الإله‭ ‬الأول‭: ‬إله‭ ‬السماء‭: ‬آن،‭ ‬آنوم،‭ ‬آن‭ ‬
‮«‬
An  Anum‭ ‬An‮»‬

واأنب‭ ‬تعني‭ ‬أصلاً‭ ‬السماء‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬السومرية‭ ‬وتقابلها‭ ‬اشاموب‭ ‬في‭ ‬الأكدية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإن‭ ‬اآنوب‭ ‬أو‭ ‬اآنومب‭ ‬هو‭ ‬إله‭ ‬السماء،‭ ‬وهو‭ ‬أيضاً‭ ‬أب‭ ‬السماوات‭ ‬وملكها،‭ ‬وعرشه‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬قبة‭ ‬السماء،‭ ‬وحين‭ ‬حدث‭ ‬الطوفان‭ ‬لجأ‭ ‬إليه‭ ‬الآلهة‭ ‬مذعورين‭ ‬ليحتموا‭ ‬به،‭ ‬وجثوا‭ ‬كالكلاب‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬حائط‭ ‬السماء‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬تشير‭ ‬المصادر‭ ‬التاريخية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الآلهة‭ ‬قد‭ ‬ظلوا‭ ‬كذلك‭ ‬حتى‭ ‬قدم‭ ‬أهم‭ ‬ازيوسودراب‭ ‬قرابين‭ ‬التضحية‭ ‬فوصلت‭ ‬رائحتها‭ ‬إلى‭ ‬خياشيمهم‭ ‬وعنذئذ‭ ‬اطمأنت‭ ‬قلوبهم،‭ ‬وعلى‭ ‬عتبته،‭ ‬أي‭ ‬اآنوب،‭ ‬يقف‭ ‬اذوموزيب‭ ‬واجشزيداب‭ ‬الإلهان‭ ‬الوحيدان‭ ‬اللذان‭ ‬ذاقا‭ ‬الموت،‭ ‬ويحكم‭ ‬اآنوب‭ ‬مجموعتين‭ ‬من‭ ‬الآلهة‭ ‬هما‭ ‬الـ‭ ‬اأجيجيب‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬والـ‭ ‬اأنوناكيب‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬وهم‭ ‬الذين‭ ‬يقتسمون‭ ‬التصرف‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬العالم‭ ‬بإشرافه‭ ‬وكان‭ ‬مقر‭ ‬عبادة‭ ‬اآنوب‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬االوركاءب،‭ ‬حيث‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬معبده‭ ‬مع‭ ‬زوجته،‭ ‬وتشير‭ ‬نصوص‭ ‬من‭ ‬الوركاء‭ ‬إلى‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬التضحيات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقدم‭ ‬لهما‭ ‬في‭ ‬معبدهما‭.‬

 

الإله‭ ‬الثاني‭: ‬إله‭ ‬الأرض‭: ‬إنليل،‭ ‬إليل‭ ‬Enlin‭ ,‬Ellil

إن‭ ‬اإن‭ ‬ذليلب‭ ‬بالسومرية‭ ‬هي‭ ‬اال‭-‬ليلب‭ ‬بالأكدية،‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬تعني‭ ‬اسيدب،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬سيداً‭ ‬للمجمع‭ ‬السومري‭ ‬للآلهة،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬ابعلاب‭ ‬له‭. ‬وكلمة‭ ‬اإن‭ ‬ذليلب‭ ‬تعني‭ ‬أصلاً‭ ‬اسيد‭ ‬الريح‭ ‬والروحب‭ ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يأخذ‭ ‬لقب‭ ‬سيد‭ ‬الأرض‭ ‬إلا‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭. ‬ومن‭ ‬لقبه‭ ‬كسيد‭ ‬للريح،‭ ‬التي‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬الجبل‭ ‬وتدفع‭ ‬المياه‭ ‬جاء‭ ‬لقبة‭ ‬اإيمهور‭ ‬ساج‭ ‬imhu‭-‬sagب‭ ‬أي‭ ‬اجبل‭ ‬الريحب‭ ‬كإله‭ ‬لزقورة‭ ‬
انيبور‭ ‬Nippvrب‭ ‬وقد‭ ‬اغتصب‭ ‬الإله‭ ‬آشور‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الصفة،‭ ‬التي‭ ‬علقت‭ ‬به‭ ‬االجبل‭ ‬العظيمب،‭ ‬أما‭ ‬معبده‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬نيبور‭ ‬فيدعى‭ ‬اأي‭ ‬كور‭ ‬E‭-‬kurب‭ ‬أي‭ ‬معبد‭ ‬الجبل‭. ‬وكانت‭ ‬ترافقه‭ ‬فيه‭ ‬الآلهة‭ ‬انن‭ ‬هور‭ ‬ساجب‭ ‬سيدة‭ ‬الجبل،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬منها‭ ‬ثمانية‭ ‬مواليد‭ ‬إلهية‭.‬

 

الإله‭ ‬الثالث‭: ‬إله‭ ‬الماء‭: ‬إنكي،‭ ‬أيا‭ ‬En‭- ‬Ki‭, ‬Ea‭ ‬

كان‭ ‬ثالث‭ ‬أفراد‭ ‬الثالوث،‭ ‬الذي‭ ‬نلتقي‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬أقدم‭ ‬النصوص‭ ‬هو‭ ‬اشوروباكب‭ (‬فارة‭) ‬والجشب‭ (‬تللو‭) ‬والارساب‭ (‬سكنرة‭)‬،‭ ‬ولهذا‭ ‬كان‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬ثلاثة‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬الأرض‭: ‬الأرض‭  ‬العليا،‭ ‬حيث‭ ‬يحكم‭ ‬اانليلب‭ ‬والأرض‭ ‬السفلى،‭ ‬حيث‭ ‬انرجالب‭ ‬والأرض‭  ‬الوسطى‭ ‬بين‭ ‬الاثنين،‭ ‬حيث‭  ‬مملكة‭ ‬اأياب‭ ‬Ea‭ ‬أو‭ ‬اإنكيب‭ ‬سيد‭ ‬الماء‭ ‬المقدس‭. ‬وتمجده‭ ‬أقدم‭ ‬النصوص‭ ‬السومرية‭ ‬كملك‭ ‬للـ‭ ‬لـ‭ ‬اأبوب‭ ‬ومدينته‭ ‬المقدسة‭ ‬هي‭ ‬اإريدو‭ ‬Eriduب‭ (‬أبو‭ ‬شهرين‭) ‬ويحمل‭ ‬معبده‭ ‬بها‭ ‬لقب‭ ‬اإيابزوب‭ ‬E‭-‬abzu‭ ‬بالسومرية‭ ‬أو‭ ‬ابيت‭ ‬أبسيب‭ ‬Bit‭-‬apsi‭ ‬بالأكدية‭ (‬بيت‭ ‬أبسو‭).‬

 

الإله‭ ‬الرابع‭: ‬إله‭ ‬العالم‭ ‬السفلي‭: ‬نرجال‭ ‬Nergal

وهو‭ ‬رابع‭ ‬آلهة‭ ‬العالم‭ ‬الكبرى،‭ ‬أي‭ ‬الأرض‭ ‬السفلية‭ ‬وتسمى‭ ‬عادة‭ ‬االأرضب‭ ‬أو‭ ‬االأرض‭ ‬الكبرىب‭  ‬وهي‭ ‬اكي‭ ‬جالب‭ ‬بالسومرية‭ ‬واكي‭ ‬جاللوب‭ ‬بالأكدية،‭ ‬وهي‭ ‬االأرض‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬عودة‭ ‬منهاب‭ ‬وبالسومرية‭: ‬اكورنوجي‭ ‬آب،‭ ‬وتعرف‭ ‬كذلك‭ ‬اأرا‭ ‬للوب،‭ ‬ويحكم‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬انرجالب،‭ ‬ومعناه‭ ‬افوق‭ ‬المسكن‭ ‬العظيمب‭ ‬وهو‭ ‬يقرن‭ ‬بالإله‭ ‬اإيرراب‭ ‬Irra،‭ ‬وهو‭ ‬أصلاً‭ ‬إله‭ ‬الوباء‭ ‬المنوط‭ ‬به‭  ‬تعمير‭ ‬العالم‭ ‬السفلي،‭ ‬ويعرف‭ ‬اإيرراب‭ ‬باسم‭  ‬انرجال‭ ‬كوثاب‭ ‬وكوكب‭ ‬نرجال‭ ‬هو‭ ‬المريخ،‭ ‬وقد‭ ‬استطاع‭ ‬نرجال‭ ‬بقوته‭ ‬أن‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬الـ‭ ‬اارا‭ ‬للوب‭ ‬أما‭ ‬ربة‭ ‬العالم‭ ‬السفلي‭ ‬فهي‭ ‬نن‭ ‬كي‭ ‬جالب‭ ‬وينطق‭ ‬اسمها‭ ‬أحياناً‭ ‬اإرشن‭ ‬كي‭ ‬جالب‭ ‬Ereshkigal‭ ‬أي‭ ‬اسيدة‭ ‬كيجاللوب‭  ‬أو‭ ‬سيدة‭ ‬الأرض‭ ‬العظمى‭.‬

‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬حضارة‭ ‬سومر،‭ ‬قد‭ ‬عرفت‭ ‬ذ‭ ‬كما‭  ‬ألمحنا‭ ‬سابقاً‭ - ‬آلهة‭ ‬عدة‭ ‬خالقة‭ ‬لهذا‭ ‬الكون‭ ‬الهائل،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬دلالة‭ ‬أكيدة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬المتهافت‭ ‬لخلق‭ ‬الكون‭ ‬إنما‭ ‬ينافي‭ ‬التصور‭ ‬الإسلامي‭ ‬الحق،‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬بالوحدانية‭ ‬الحقة،‭ ‬التي‭ ‬ردت‭ ‬الاعتبار‭ ‬للخالق‭ ‬الأوحد‭ ‬لهذا‭ ‬الكون‭ ‬الرحيب،‭ ‬إنه‭ ‬الله‭ ‬جل‭ ‬جلاله‭.‬

 

2 ‭- ‬التصور‭ ‬الكوني‭ ‬لدى‭ ‬حضارة‭ ‬بابل

يلاحظ‭ ‬الباحث‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يدرس‭ ‬ملامح‭ ‬تصور‭ ‬الكون‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحضارة‭ ‬أن‭ ‬السماء‭ ‬والأرض‭ (‬الكون‭) ‬في‭ ‬اعتقاد‭  ‬البابليين‭ ‬إنما‭ ‬كانتا‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬صورتين‭ ‬متعادلتين‭ ‬ومتكاملتين،‭ ‬وقد‭ ‬خرج‭ ‬كلاهما‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬الأزلي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬المحيط‭ ‬الأول‭ ‬الأصلي،‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬اعتقاد‭ ‬البابليين‭ ‬في‭ ‬خروج‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬منبثقاً‭ ‬من‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬استخلص‭ ‬بها‭ ‬السومريون‭ ‬أرضهم‭ ‬من‭ ‬الأنهار،‭ ‬وكان‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬نظرهم‭ ‬محصوراً‭ ‬كله‭ ‬داخل‭ ‬قبة‭ ‬السماء‭ ‬التي‭ ‬اعتقدوا‭ ‬أن‭ ‬لها‭ ‬أعمدة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬البحار‭. ‬أما‭ ‬مركز‭ ‬الكون‭ ‬فقد‭ ‬زعموه‭  ‬واقعاً‭ ‬عند‭ ‬منبع‭ ‬الفرات‭ ‬في‭ ‬جبال‭ ‬اطوروسب‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يؤكد‭ ‬بعض‭ ‬المؤرخين‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬تشابهاً‭ ‬واضحاً‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الأسطورة‭ ‬وما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬سفر‭ ‬التكوين‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يوجد‭ ‬سوى‭ ‬هيولي‭ ‬مظلم‭ ‬من‭ ‬الماء،‭ ‬لكن‭  ‬الأسطورة‭  ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬الكتب‭ ‬السماوية‭ ‬عموماً‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬جعلت‭ ‬المادة‭ ‬أزلية‭ ‬سبقت‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬الأسطورة‭ ‬تعكس‭ ‬صورة‭ ‬لما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬بلاد‭ ‬ما‭ ‬بين‭  ‬النهرين‭ ‬من‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬عناصر‭ ‬الطبيعة‭ ‬والإنسان‭ ‬وبيئته‭. ‬ولذا‭ ‬فإنه‭ ‬ليس‭ ‬غريباً‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬الكتب‭ ‬المقدسة‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬فلقد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬التوراة‭ ‬افي‭ ‬البدء‭ ‬خلق‭ ‬الله‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض،‭ ‬وكانت‭ ‬الأرض‭ ‬خاوية‭ ‬خالية،‭ ‬وعلى‭ ‬وجه‭ ‬القمر‭ ‬ظلام،‭ ‬وروح‭ ‬الله‭ ‬يرف‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬المياهب‭.‬

كذلك‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬نصت‭ ‬آيات‭  ‬كثيرة‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار‭ ‬والمعتقدات‭ ‬الكونية،‭ ‬فمن‭ ‬ذلك‭ ‬مثلا‭ ‬قوله‭ ‬عز‭ ‬من‭ ‬قائل‭ {‬أَنَّ‭ ‬السَّمَاوَاتِ‭ ‬وَالْأَرْضَ‭ ‬كَانَتَا‭ ‬رَتْقًا‭ ‬فَفَتَقْنَاهُمَا‭ ‬وَجَعَلْنَا‭ ‬مِنَ‭ ‬الْمَاءِ‭ ‬كُلَّ‭ ‬شَيْءٍ‭ ‬حَيٍّ‭ ‬أَفَلَا‭ ‬يُؤْمِنُونَ‭} ‬‭(‬سورة‭ ‬الأنبياء‭/ ‬آية‭ ‬30‭)‬،‭ ‬وكذا‭ ‬قوله‭ ‬الأقدس‭ {‬خَلَقَ‭ ‬السَّمَاوَاتِ‭ ‬وَالْأَرْضَ‭ ‬فِي‭ ‬سِتَّةِ‭ ‬أَيَّامٍ‭ ‬وَكَانَ‭ ‬عَرْشُهُ‭ ‬عَلَى‭ ‬الْمَاء‭}‬،‭ ‬‭(‬سورة‭ ‬هود‭/‬آية‭ ‬7‭).‬

ومن‭ ‬عجب‭ ‬أن‭ ‬يجيء‭ ‬العلم‭ ‬الحديث‭ ‬بما‭ ‬يؤكد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬النظرية‭ ‬التي‭ ‬قال‭ ‬بها‭ ‬العلماء‭ ‬المعاصرون‭ ‬بشأن‭ ‬خلق‭ ‬الكون،‭ ‬ومضمونها‭ ‬اأن‭ ‬تكون‭ ‬العالم‭ ‬بدأ‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬تحولت‭ ‬الأبخرة‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬ماءب‭.‬

وفي‭ ‬التحليل‭ ‬الأخير،‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬التصور‭ ‬الكوني‭ ‬البابلي‭ ‬يؤكد‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يدع‭ ‬مجالاً‭ ‬للشك،‭ ‬أن‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬نشأة‭ ‬الوجود،‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬أساطير‭ ‬مختلفة‭ ‬وصلت‭ ‬إلينا‭ ‬منها‭ ‬بعض‭ ‬النماذج‭ ‬وتعد‭ ‬الأسطورة‭ ‬البابلية‭ ‬أقدم‭ ‬نموذج‭ ‬وصل‭ ‬إلينا‭ ‬كأسطورة‭ ‬طويلة،‭  ‬وهي‭ ‬مدونة‭ ‬على‭ ‬سبعة‭ ‬ألواح‭ ‬طينية‭ ‬تعرف‭ ‬لدى‭ ‬علماء‭ ‬الآشوريات‭ ‬باسم‭ ‬األواح‭ ‬الخليقة‭ ‬السبعةب،‭ ‬وتحتوي‭ ‬هذه‭ ‬الأسطورة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ألف‭ ‬بيت‭ ‬تقريباً‭ ‬وتشير‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬البدء‭ ‬سوى‭ ‬الماء‭ ‬العذب‭ ‬االإله‭ ‬إيسوب‭ ‬والماء‭ ‬المالح‭ ‬االإلهة‭ ‬تيامةب،‭ ‬وكانا‭ ‬مختلطين،‭ ‬ثم‭ ‬ولدت‭ ‬منهما‭ ‬الآلهة‭ ‬الآخرى‭ ‬متعاقبة،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المادة‭ (‬المياه‭) ‬أزلية،‭ ‬وهما‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬الإلهان‭ ‬اللذان‭ ‬جاءت‭ ‬منهما‭ ‬الآلهة‭ ‬ومن‭ ‬أعقابهما‭ ‬أعظم‭ ‬الآلهة‭ ‬لدى‭ ‬البابليين‭ ‬وهو‭ ‬امردوخب‭.‬

والخلاصة‭ ‬أن‭  ‬هذه‭ ‬الأسطورة‭ ‬البابلية‭ ‬بشأن‭ ‬خلق‭ ‬الكون‭ ‬تعتبر‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭ ‬ضمن‭ ‬تلك‭ ‬الأساطير‭ ‬التي‭ ‬سادتها‭ ‬فكرة‭ ‬عدم‭ ‬التكون‭ ‬الذاتي،‭ ‬أو‭ ‬النشأة‭ ‬الذاتية‭ ‬للكون،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬االهيوليب‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬المادة‭ ‬الأولى‭ ‬للكون،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬مياه‭ (‬water‭) ‬قد‭ ‬انقسم‭ ‬بقوة‭ ‬إلهية‭ ‬إلى‭ ‬مياه‭ ‬علوية‭  ‬وأخرى‭ ‬سفلية‭. ‬ومن‭ ‬المياه‭ ‬السفلية‭ ‬برزت‭ ‬الأرض‭ ‬كجزيرة،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬يتضح‭ ‬أن‭ ‬المادة‭ ‬الأولى‭ ‬للكون،‭ ‬والجوهر‭ ‬والأوحد‭ ‬للوجود،‭ ‬في‭ ‬اعتقاد‭ ‬البابليين‭ ‬هو‭ ‬الماء‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أصل‭  ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

 

3 ‭-‬التصور‭ ‬الكوني‭ ‬لدى‭ ‬الآشوريين

كانت‭ ‬قصص‭ ‬خلق‭ ‬الكون‭ ‬عند‭ ‬الآشوريين‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الروايات،‭ ‬التي‭ ‬تواترت‭ ‬إليهم‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬الأزمنة،‭ ‬ولاسيما‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬أثبتتها‭ ‬الألواح‭ ‬السبعة،‭ ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬ألمحنا،‭ ‬وكان‭  ‬الآشوريون‭ ‬يتقبلون‭ ‬الحكايات‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬نصوصها‭ ‬القديمة‭ ‬وكأنها‭ ‬قضية‭ ‬مسلمة‭ ‬لا‭ ‬يعتريها‭ ‬الشك‭ ‬ولا‭ ‬الظن،‭ ‬ولاسيما‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أدخلوا‭ ‬على‭ ‬نصوصها‭ ‬الأصلية‭ ‬تغييرات‭ ‬جوهرية‭ ‬فظيعة،‭ ‬وقد‭ ‬نقلوا‭ ‬هذه‭ ‬الأسطورة‭ ‬عن‭ ‬بابل‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬بطلها‭ ‬مردوك‭ ‬Merduk‭ ‬بابلياً‭ ‬محلياً،‭ ‬فلما‭ ‬نقلها‭ ‬الآشوريون‭ ‬استبدلوا‭ ‬ببطل‭ ‬بابل‭ ‬هذا‭ ‬بطل‭ ‬إقليمهم‭ ‬وهو‭ ‬آشور،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬بالفعل‭ ‬انتحالاً‭ ‬مألوفاً‭ ‬عند‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬القسس‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬مردوك‭ (‬Murduk‭)‬ابن‭ ‬آيا‭ ‬Ea،‭ ‬كما‭ ‬ترويه‭ ‬الأسطورة‭ ‬البابلية،‭ ‬فإن‭ ‬أسطورة‭ ‬آشور‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الإله‭ ‬المحلي،‭ ‬وهو‭ ‬آشور‭ ‬بن‭ ‬لخمو‭ ‬ولا‭ ‬خامو‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬أي‭ ‬معرفة‭ ‬التصور‭ ‬الكوني‭ ‬لدى‭ ‬الآشوريون،‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬الأحداث‭ ‬الدنيوية‭ ‬في‭ ‬أحاديث‭ ‬الناس‭ ‬وعاداتهم،‭ ‬كانت‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالأحداث‭ ‬الكونية‭ ‬الكبيرة،‭ ‬ولعل‭ ‬المثال‭ ‬المثير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬هو‭ ‬التعويذة‭ ‬ضد‭ ‬الدودة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬الآشوريون‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬ألف‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬يرون‭ ‬فيها‭ ‬سبب‭ ‬الألم‭ ‬في‭ ‬الأسنان،‭ ‬وتبدأ‭ ‬التعويذة‭ ‬من‭ ‬نشوء‭ ‬الكون‭ ‬وتختتم‭ ‬بعلاج‭ ‬ألم‭ ‬الأسنان‭.‬

 

التصورات‭ ‬الختامية‭ ‬حول‭ ‬الكون‭ ‬في‭ ‬حضارة‭ ‬وادي‭ ‬الرافدين‭.‬

نخلص‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬النظام‭ ‬الكوني‭ ‬والهيولي،‭ ‬كان‭ ‬مأساة‭ ‬تستحق‭ ‬التسجيل‭ ‬لدى‭ ‬أهل‭ ‬بلاد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النهرين‭ ‬الأقدمين‭ ‬تتجدد‭ ‬كل‭ ‬عام‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كانت‭ ‬الملحمة‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث‭ ‬ذات‭ ‬دلالة‭ ‬وأثر‭ ‬خاصين‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الديني،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬سبع‭ ‬لوحات‭ ‬تعرف‭ ‬بالأكدية‭ ‬باسم‭ ‬اإنوماإليشب‭ ‬Enuma‭-‬Elish‭ ‬وتعني‭ ‬افي‭ ‬الأعالي‭ ‬حينب،‭ ‬ولسنا‭ ‬ندري‭ ‬على‭ ‬التحقيق‭ ‬تاريخ‭ ‬تجميعها‭ ‬أو‭ ‬تأليفها،‭ ‬ويعيد‭ ‬المؤرخون‭ ‬إرجاع‭ ‬الملحمة‭ ‬إلى‭ ‬العهد‭ ‬البابلي‭ ‬القديم‭ ‬حوالي‭ ‬الألف‭ ‬الثاني‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭. ‬والملحمة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬تكوين‭ ‬المادة‭ ‬الأولى‭ ‬للكون‭ ‬من‭ ‬عنصرين‭  ‬ماء‭ ‬عذب‭ (‬مذكر‭)‬،‭ ‬وماء‭ ‬مالح‭  (‬مؤنث‭) ‬هما‭: ‬اأبوب‭ ‬واتيامةب‭ ‬هما‭ ‬أصل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ - ‬كما‭ ‬ألمحنا‭ ‬سابقاً‭ - ‬وبعد‭ ‬الصراع‭ ‬بينهما‭ ‬يحل‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬الكون،‭ ‬ولعلنا‭ ‬نستشف‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ذلك،‭ ‬العراك‭ ‬ضد‭ ‬ماء‭ ‬البحر‭ ‬والانتصار‭ ‬بكسب‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬البحر‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬يؤكد‭ ‬الواقع‭ ‬التاريخي‭ ‬والحضاري،‭ ‬أن‭ ‬التصور‭ ‬السومري‭ ‬للكون‭ ‬قد‭ ‬امتد‭ ‬تأثيره‭ ‬إلى‭ ‬حضارة‭ ‬بابل،‭ ‬حيث‭ ‬أدخل‭ ‬علم‭ ‬تكوين‭ ‬الخلق‭ ‬عند‭ ‬الكلدانيين‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أرقى‭ ‬عناصر‭ ‬الرطوبة‭ ‬في‭ ‬أصل‭ ‬الأشياء،‭ ‬ومن‭ ‬الزواج‭ ‬الأول‭ ‬خرج‭ ‬أولاً‭ ‬الاهموب‭ ‬وزوجه‭ ‬الاهاموب‭ ‬وهما‭ ‬معبودان‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬قاما‭ ‬به‭ ‬ملحوظاً،‭ ‬ثم‭ ‬مرت‭ ‬فترة‭ ‬غير‭ ‬محددة‭ ‬وانبثق‭ ‬من‭ ‬الزوج‭ ‬الأصلي‭ ‬اانشارب‭ ‬واكيشاريب‭ ‬وهما‭ ‬يمثلان‭ ‬في‭ ‬ذاتيتهما‭ ‬كل‭ ‬السماء‭ ‬والأرض،‭ ‬ومنهما‭ ‬جاء‭ ‬ثلاثة‭ ‬آلهة‭ ‬آخرون‭ ‬هم‭ ‬مجموعة‭ ‬الآلهة‭ ‬البابلية‭: ‬آنو‭ ‬وإنليل‭ ‬وأيا،‭ ‬وقد‭ ‬قسم‭ ‬هؤلاء‭ ‬الآلهة‭ ‬الثلاثة‭ ‬الكون‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينهم،‭ ‬لأنه‭ ‬طبقاً‭ ‬للآراء‭ ‬السامية،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بمقدور‭ ‬الشيء‭ ‬أن‭ ‬يوجد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬سيد،‭ ‬وكان‭ ‬اآنوب‭ ‬الإله‭ ‬الأكبر‭ ‬يحكم‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬وكان‭ ‬اإنليلب‭ ‬سيد‭ ‬الجو‭ ‬والأرض،‭ ‬وكانت‭ ‬اآياب‭ ‬المسماة‭ ‬اإنكيب‭ ‬في‭ ‬السومرية‭ - ‬تحكم‭ ‬أمواه‭ ‬المحيط‭ ‬البدئي،‭ ‬وكان‭ ‬لكل‭ ‬منهم‭ ‬طريقه‭ ‬الخاص‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الشمس،‭ ‬وكانت‭ ‬مساكنهم‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬السماوات‭.‬

وكان‭ ‬يلي‭ ‬هذا‭ ‬الثالوث‭ ‬ثالوث‭ ‬آخر‭ ‬يتألف‭ ‬من‭ ‬إله‭ ‬القمر‭ ‬اسنب‭ ‬وإله‭ ‬الشمس‭ ‬اشماشب‭ ‬وإلهة‭ ‬هي‭ ‬الزهرة‭ ‬اعشتارب،‭ ‬وكان‭ ‬إله‭ ‬القمر‭ ‬يقيس‭ ‬الزمن‭ ‬ويعاقب‭ ‬المذنبين‭ ‬من‭ ‬الملوك‭ ‬بقضاء‭ ‬حياتهم‭ ‬في‭ ‬التأوهات‭ ‬والدموع،‭ ‬وكان‭ ‬إله‭ ‬الشمس‭ ‬هو‭ ‬القاضي‭ ‬الأعظم،‭ ‬الذي‭ ‬أملى‭ ‬قوانين‭ ‬العدالة‭ ‬على‭ ‬الملوك،‭ ‬أما‭ ‬اعشتارب،‭ ‬فكانت‭ ‬إلهة‭ ‬الحرب‭ ‬وإلهة‭ ‬اللذة‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬لغواية‭ ‬البشر،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تعد‭ ‬أخت‭ ‬إله‭ ‬الشمس‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬أخت‭ ‬إلهة‭ ‬العالم‭ ‬السفلي‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬مدينة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحضارة‭ ‬العريقة،‭ ‬قد‭ ‬اتخذت‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬لنفسها‭ ‬إلهاً‭ ‬وآلهة،‭ ‬ثم‭ ‬تعددت‭ ‬الآلهة‭ ‬بمرور‭ ‬الزمن،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الثالوث‭ ‬الذي‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬آنو‭ (‬السماء‭) ‬وإنليل‭ (‬الجو‭ ‬والأرض‭)‬،‭ ‬وآيا‭ (‬الماء‭). ‬ولذا‭ ‬يمكن‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬قصص‭ ‬ميثولوجية‭ ‬شرحت‭ ‬أخبار‭ ‬قصة‭ ‬خلق‭ ‬العالم‭ ‬والطوفان‭ ‬والبحث‭ ‬عبثاً‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬الأزلية،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬الإنسان‭ ‬القديم‭ - ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬الحديث‭ - ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬ملامحها‭ ‬العامة،‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬الهداية‭ ‬الربانية،‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬الأديان‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬الإسلام،‭ ‬لبلورة‭ ‬هذه‭ ‬الملامح‭ .