ظلال الدم وصراع الثقافات
يتردد في بعض المصادر التاريخية أن سكان خليج المكسيك الأصليين، الأزتك، أي سكان ما تدعى الآن أمريكا الوسطى، كانوا يؤمنون بأسطورة أسهمت في تدمير حضارتهم التي وصلت إلى ذروتها في عام 1521 عن «إله» أبيض غادرهم ذات يوم ووعد أن يعود من وراء البحر، وحين وصل الإسباني إرنان كورتيز في عام 1520 على رأس قوة مسلحة لا يتجاوز عدد أفرادها 400 جندي، اعتقد حرس الشواطئ الأزتيك أنه هو «الإله» الموصوف في أسطورتهم؛ بدليل بياض الوجه، وامتطاء الحصان الذي شاهدوه لأول مرة، والتماع الدروع والسيوف، فسلموه أسلحتهم طواعية، ودعاه إمبراطورهم صاحب الجيوش الجرارة إلى اعتلاء سدة عرشه الذي ينتظره.
لم يكتشف هذا الشعب حقيقة هؤلاء البرابرة القادمين من وراء البحر إلا متأخراً، بعد خدعة ذبح فيها الإسبانُ حرس الإمبراطور وأسروه وقتلوه، وبعد أن اجتاح مرض الجدري الذي حمله بعض الغزاة ملايين الأزتك، فهذا المرض لم يسبق لهذه المنطقة من العالم أن عرفته، ولذا لم يمتلك أحد مناعة ضده آنذاك.
وهناك قصص أخرى تماثل هذه القصة التي تتكفل فيها الأساطير بتدمير حضارة شعب وإبادة السكان، بعد أن تمهد الأرض للغزاة، فيستقبلهم السكان بالفرح والاستبشار، ثم تبدأ المجازر، ويقاد من ظل حياً إلى المناجم والمزارع عبيداً، كما حدث لسكان جزر «أوشانيا» في المحيط الهادئ الذين تشيع بينهم ما تسمى «عبادة حمولة السفن». وتقوم هذه العبادة على أسطورة فحواها أن عصراً سعيداً سيحل في قادم الأيام يستعيد فيه أهالي هذه الجزر السيادة على جزرهم، ولن يكدحوا بعدها أبداً، لأن الأسلاف/الموتى سيعودون على متن سفنهم العملاقة المحملة بالبضائع، وعندها لن يكون عليهم سوى قتل ماشيتهم وتحطيم آلات الزراعة وإعداد المخازن الواسعة لاستقبال المؤن الخرافية. وموقف جزر هاييتي في القرن الثامن عشر يشبه موقف شعب الأزتك، فقد تجمعوا على الشاطئ لدى رؤية قدوم السفن الحربية البريطانية، وثار بينهم الجدل، فمنهم من يقول هذه سفن الأسلاف العائدين بالخيرات، ومنهم من يشكك، إلى أن حسمت المدافع البريطانية الجدل وهبطت بسكان الخرافة إلى الأرض، ولكن قتلى أو مستعبدين أو مطاردين.
وتقودنا هذه الأحداث إلى قصة أسطورية من هذا النوع قريبة العهد والمكان، ذات تأثير لايزال سارياً في أكثر من منطقة إفريقية وآسيوية شهدت ما شهده سكان أمريكا الجنوبية وجزر أوشانيا الأصليون. هذه الأسطورة لم تكن مما هو شائع، ولكن نشرها وتعميمها كان صناعة غربية قامت على أساس معتقد خرافي شائع بين القبائل الإفريقية؛ أن الأسلاف/ الموتى غالباً ما يظهرون، ويلجأ الناس إليهم طلباً للمشورة.
قبيلة «كوسا»، وهي إحدى قبائل «البانتو» التي سكنت الأجزاء الجنوبية الشرقية من إفريقيا، وقعت ضحية أسطورة مختلقة قامت على أساس هذا المعتقد؛ استشارة الأسلاف في كل شأن من شؤون حياتها، الكبير منها والصغير، واتّباع ما يشيرون به.
وتتلخص الحكاية وفق رواية كريدو موتوا (Credo Mutwa) الساحر الآسي من قبيلة الزولو الذي كتب تاريخ شعب البانتو في كتاب متداول باللغة الإنجليزية تحت عنوان «شعبي» My People في أن الحاكم البريطاني جورج جري، حاكم مقاطعة الكاب والمفوض البريطاني لشؤون جنوب إفريقيا، في سعيه لمد السيطرة الاستعمارية، استثمر هذا المعتقد لدى قبيلة «كوسا»، فأرسل ثلاثة من رجاله في يوم من أيام عام 1957 في زي الأسلاف، بالملابس التقليدية والأقنعة، ليعلنوا لهذه القبيلة القوية، التي كانت قد خاضت لتوها حرباً واسعة على المستعمرين الأوربيين، نبوءة مفرحة مفادها أن انتصار هذه القبيلة قادم لا محالة، وستطرد الأوربيين ويعم أرضها الخير والسلام، ولكن بعد حدوث معجزة ستتحقق قريباً؛ معجزة شروق الشمس من جهة الغرب لا من جهة الشرق. وحتى تحقق القبيلة هذه المعجزة، يجب أن تتطهر تماماً من حطام الدنيا، بأن تذبح مواشيها وتحرق مزروعاتها، وتجلس أمام أبواب أكواخها في انتظار حدوث المعجزة.
زعيم قبيلة «كوسا» شكك في أن تكون هذه رسالة من الأسلاف المزعومين، إلا أنه، وقلة من المحيطين به، لم يستطع أن يمنع الشعب من الانقضاض على الماشية والمزروعات وتدميرها، ومن ثم الوقوع في مصيدة السيد جري. وهكذا قصم الحاكم البريطاني ظهر أقوى القبائل التي وقفت ضد المستعمرين الغربيين.
ربما كانت هذه الخديعة، وتجربة هذا الساحر الآسي الذي تعلم في مدارس الإرساليات واعتنق المسيحية، وأخذ بطرف من الثقافة الأوربية في ثلاثينيات القرن الماضي، هي التي أعادته إلى ديانة شعبه وجعلته يعمل مرشداً روحياً حتى الآن لقبيلة الزولو. وربما هي التي جعلته يقرر كتابة سيرة تاريخية لديانة ومعتقدات شعب «البانتو» منذ بدايات الخلق حتى القرن العشرين.
ونجد شبيهاً لهذا السلوك وهذا النحو من التفكير في مناطق عدة من العالم تعرضت لما تعرضت له إفريقيا من امتهان. وبهذه الطريقة جاء كتاب «شعبي» كاشفاً، للأساطير التي تلعب دوراً خطيراً في مصائر الشعوب، سواء كانت أساطير من النوع المتوارث، كما هي حالة أسطورة شعب «الأزتك»، وكذلك أسطورة سكان جزر «أوشانيا»، وكشفاً هو الأول من نوعه لغوامض العقلية الإفريقية، ومفسراً للكثير مما يعتبر ألغازاً في نظر المؤرخين.
ويبدو تصميم صاحب هذا الكتاب على أن ما يكتبه هو «الحقيقة» ولا شيء غير الحقيقة مؤثراً، وخاصة حين تفند حقائقه، كما فندت حقائق من كتب من أهل البلاد الأصليين في أمريكا الجنوبية وجزر المحيط الهادئ، النظرات الشائعة عن هذه الشعوب، سواء تلك التي تنظر إليها كشعوب بدائية لم تنجز شيئاً في مضمار الحضارة، أو بوصفها جنساً أدنى من الجنس البشري.
صحيح أن بعض أساطيرها أسهمت في شل قدراتها على مواجهة تحدي الغزوات التي تعرضت لها، ولكن لديها جوانب إيجابية بدأت تسهم في تصحيح مسارات تاريخها المعاصر. من ذلك حفاظها على الموروث الشفاهي بوصفه عنصراً مهماً في إعادة الذاكرة وإعادة قراءة الشخصية في ظل سلب الهويات واللغات والثروات الذي تعرضت له هذه الشعوب، بحيث لم تعد تستطيع تحديد مكانها في الزمان والمكان.
ولعل ما منح هذه المرويات الشفاهية صدقية أكبر جعلتها تتغلب على محاولات تشويه تاريخ هذه الشعوب، هي بالنسبة لإفريقيا كنموذج، موضوعة تقع في صميم ديانة «البانتو»، الشعب الذي يعني اسمه هذا «الكائن الإنساني الذي يسير منتصب القامة»، مفادها أن العبث بالتاريخ القبلي نوع من الخطيئة الدينية التي لا تغتفر. وثمة سمة مهمة هنا جديرة بالتقدير، هي أن قبائل هذا الشعب، بمختلف فروعه من «كوسا» و«زولو» على سبيل المثال، لا تروي فقط أخبار انتصاراتها، بل تحرص على رواية تفاصيل الهزائم أيضاً لتنقل إلى الأجيال القادمة. ولهذا، وبسبب هذا التقديس لرواية التاريخ، نجد أن القاص القبلي في نيجيريا يروي التفاصيل ذاتها التي يرويها القاص القبلي في زامبيا للقصة نفسها.
ومما يدعم هذا الرأي هنا، المكتشفات الأثرية في الكهوف، وهي رسوم موجودة في آلاف الكهوف التي يعرف مواقعها جيداً أمثال المرشد الروحي كريدو موتوا، وتعتبر سجلاً تاريخياً دقيقاً يروي أحداث التاريخ التي تتطابق مع الرواية الشفهية.
من أكثر المرويات إثارة ذلك الحدث التاريخي الذي يسجله موتوا نقلاً عن التاريخ الشفهي ورسوم الكهوف، وهو قدوم الكنعانيين إلى غرب إفريقيا في زمن يرجعه إلى 500 قبل الميلاد بسفنهم المميزة وأسلحتهم البرونزية التي لم تستطع أسلحة العصر الحجري الإفريقي الصمود أمامها. ومن ثم إنشاؤهم إمبراطورية كبيرة عاشت بضعة قرون حول بحيرة كماركيري في ما يعرف الآن بحوض نهر زامبيزي. وتذكر المرويات وصول «العرب» بأثوابهم السابغة وجلودهم السمراء وخيولهم الغريبة. وتقول المرويات إن هذه الإمبراطورية جندت الأفارقة في حفر مناجم الذهب والحديد. ثم تمضي المرويات في سرد قصة انهيار هذه الإمبراطورية بسبب الثورات المتتالية ضدها، وقصة هجرة قبائل البانتو من حوض الزامبيزي إلى الأرض الخضراء المعروفة الآن باسم زمبابوي وجنوب إفريقيا بوصفها الأرض الموعودة! وهنا، بحدود القرن الخامس عشر، يبدأ الاحتكاك بين هذه القبائل والبرتغاليين.
ويتخلل وصف هذه الأحداث التاريخية وصف طقوس احتفالات الحرب والسلام التي لا يرى فيها الأجانب إلا ممارسات بدائية، بينما هي في حقيقتها طقوس على جانب كبير من الأهمية، لأنها نواظم للتنظيم الاجتماعي خاصة ببيئة وشعب، وتمنحها معناها خلفية شعب «البانتو» الدينية، ففي احتفالات السلام التي تعقد لإقرار السلم بين قبيلتين مثلاً، يعاد تمثيل قصة الخلق الأسطوري المتوارثة؛ أي خلق الإنسان والكائنات.
ويظهر هذا الساحر الآسي، وهو يفسر بعض طقوس الزواج والمتاجرة والحرب والسلام، كم أن هذه الطقوس مرتبطة بالمعتقدات الراسخة، ابنة هذه المجتمعات وبيئتها، وكم أن هذه المعتقدات ذات معنى أخلاقي عميق. ويضرب مثلاً بنظرة هذه المجتمعات إلى قتل المرأة، فقتل المرأة يعتبر جريمة كبرى لا تعادلها أي جريمة، ليس بسبب أنه قضاء على حياة إنسانة فقط، بل لأنه قضاء على آلاف الكائنات الإنسانية التي كان يمكن أن تولد من نسل هذه المرأة. ويضرب مثلاً آخر، وهو تحريم قتل بعض الحيوانات، ليس لأنها معبودة أو «طواطم قبلية» كما هو شائع، بل بسبب عقيدة ترى الخلق سلسلة متصلة بدءاً من الأعشاب فالأشجار فالكائنات الحية، وصولا إلى النجوم.
وعطفاً على الصراع الدائر في إفريقيا، والذي قام بعد وصول سفن البرتغاليين والهولنديين والإنجليز.. إلخ، ومازال دائراً بأشكال مختلفة، يعتقد موتوا أن هذا الصراع، وخاصة ما كان دائراً منه في جنوب إفريقيا، هو صراع بين جنسين فشلا في أن يفهما عادات وطرق تفكير بعضهما. ويقول إن الإفريقي يمكنه أن يفهم عقلية وسلوك البيض بالاطلاع على تراثهم المكتوب وصحفهم وتصريحاتهم، وبالدراسة في جامعاتهم، ولكن من الصعب أن يفهم البيض ما هو الإفريقي، لأنه لا شيء مكتوباً، والتحريم القبلي يمنع اطلاع الأجانب على ما يعتبر أسراراً مقدسة.
وبعد كل هذا هناك سؤال يطرح نفسه، سواء تعلق الأمر بشعب «البانتو» أو شعب «الأزتك» أو شعوب «أوشانيا»، وهو: هل هذا الصراع الدامي بين هذه الشعوب والغزاة الأجانب مجرد ناتج من نواتج سوء الفهم؟
هنا نجد أنفسنا مختلفين مع هذا الساحر الآسي «موتوا» الذي يعتقد بأن معرفة البيض بالثقافة والتاريخ الإفريقيين سيجعل تعاملهم مع الأفارقة، وبقية الشعوب التي غزوها ونهبوا ثرواتها وأبادوا بعضها إبادة تامة، مختلفاً. لو كان هذا صحيحاً لما تحدث في نهاية كتابه بمرارة عن أنه حتى مع تحوّل بعض أفراد من «البانتو» إلى المسيحية وتبنيهم للثقافة الغربية، مازالوا يعتبرون جنساً «وثنياً»، ولما تحدث بالمرارة نفسها عن أهداف السياسة الاستعمارية منذ البداية تجاه «البانتو»، أي تحويلهم إلى عبيد في مزارع ومناجم الأقلية البيضاء، سواء ظلوا «وثنيين» أو «مؤمنين» بديانة الرجل الأبيض. ولعل اختراع سياسة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، قبل أن تلغى بعد نضال دام خاضه السكان الأصليون ضد مستعمريهم، هي الدليل الساطع على أن أسباب هذا الصراع بعيدة كل البعد عن أن تكون ناجمة عن «سوء تفاهم»، وجهل البيض بعادات ومعتقدات الأفارقة.
إن ما يمكن أخذه على كتاب من هذا النوع، مع تقدير محاولة المؤلف توضيح وشرح معتقدات وتاريخ شعبه، شأنه شأن أي فرد من أفراد الشعوب التي تم التنكر لإنسانيتها، هو تفسيره للتاريخ وأحداثه الدموية تفسيراً مبسطاً؛ فحواه أن أحداثه المأساوية ناجمة عن «سوء فهم» بين جماعتين، وجهل بعضهما ببعض، وإرجاعه سبب المرارة وظلال الدم إلى الفشل في أن يفهم كلا الفريقين بعضهما بعضاً. ولو أخذنا بهذا التفسير، سيبدو سبب ثورة «الماو ماو» في كينيا على سبيل المثال قتل مستعمر بريطاني لقطة مقدسة، وتصبح حروب المستعمرين، من برتغاليين وهولنديين، على قبائل «البانتو» ناجمة عن عجز هؤلاء الغرباء عن فهم السبب الذي يمنع هذه القبيلة من بيع أبقارها.
إن ذخيرة هذا السرد الكبيرة في التعريف بإفريقيا وثقافتها منذ جذورها حتى الأزمنة الحديثة، يشوبها، بالإضافة إلى هذا، نقص خطير يتمثل في عدم استقصاء التاريخ الحديث لجنوب إفريقيا منذ قدوم البرتغاليين. وإذا كان الانتحار الجماعي لقبيلة «كوسا» هو ما لفت انتباه الكاتب ودفعه إلى استقصاء الحدث، وتأكيد أنه كان من تدبير الحاكم البريطاني، فإن أحداثاً أكثر ضخامة كان يمكن أن تستخلص من الموروث الشفهي الإفريقي وسجلات تاريخ الاستعمار المعاصر لتتكامل قصة ظلال الدم ■