ظلال الدم وصراع الثقافات

ظلال الدم وصراع الثقافات

يتردد‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المصادر‭ ‬التاريخية‭ ‬أن‭ ‬سكان‭ ‬خليج‭ ‬المكسيك‭ ‬الأصليين،‭ ‬الأزتك،‭ ‬أي‭ ‬سكان‭ ‬ما‭ ‬تدعى‭ ‬الآن‭ ‬أمريكا‭ ‬الوسطى،‭ ‬كانوا‭ ‬يؤمنون‭ ‬بأسطورة‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬تدمير‭ ‬حضارتهم‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬ذروتها‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1521‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إله‮»‬‭ ‬أبيض‭ ‬غادرهم‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬ووعد‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬البحر،‭ ‬وحين‭ ‬وصل‭ ‬الإسباني‭ ‬إرنان‭ ‬كورتيز‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1520‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬قوة‭ ‬مسلحة‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬عدد‭ ‬أفرادها‭ ‬400‭ ‬جندي،‭ ‬اعتقد‭ ‬حرس‭ ‬الشواطئ‭ ‬الأزتيك‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الإله‮»‬‭ ‬الموصوف‭ ‬في‭ ‬أسطورتهم؛‭ ‬بدليل‭ ‬بياض‭ ‬الوجه،‭ ‬وامتطاء‭ ‬الحصان‭ ‬الذي‭ ‬شاهدوه‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬والتماع‭ ‬الدروع‭ ‬والسيوف،‭ ‬فسلموه‭ ‬أسلحتهم‭ ‬طواعية،‭ ‬ودعاه‭ ‬إمبراطورهم‭ ‬صاحب‭ ‬الجيوش‭ ‬الجرارة‭ ‬إلى‭ ‬اعتلاء‭ ‬سدة‭ ‬عرشه‭ ‬الذي‭ ‬ينتظره‭.‬

لم‭ ‬يكتشف‭ ‬هذا‭ ‬الشعب‭ ‬حقيقة‭ ‬هؤلاء‭ ‬البرابرة‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬البحر‭ ‬إلا‭ ‬متأخراً،‭ ‬بعد‭ ‬خدعة‭ ‬ذبح‭ ‬فيها‭ ‬الإسبانُ‭ ‬حرس‭ ‬الإمبراطور‭ ‬وأسروه‭ ‬وقتلوه،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬اجتاح‭ ‬مرض‭ ‬الجدري‭ ‬الذي‭ ‬حمله‭ ‬بعض‭ ‬الغزاة‭ ‬ملايين‭ ‬الأزتك،‭ ‬فهذا‭ ‬المرض‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لهذه‭ ‬المنطقة‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬أن‭ ‬عرفته،‭ ‬ولذا‭ ‬لم‭ ‬يمتلك‭ ‬أحد‭ ‬مناعة‭ ‬ضده‭ ‬آنذاك‭.‬

وهناك‭ ‬قصص‭ ‬أخرى‭ ‬تماثل‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬التي‭ ‬تتكفل‭ ‬فيها‭ ‬الأساطير‭ ‬بتدمير‭ ‬حضارة‭ ‬شعب‭ ‬وإبادة‭ ‬السكان،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تمهد‭ ‬الأرض‭ ‬للغزاة،‭ ‬فيستقبلهم‭ ‬السكان‭ ‬بالفرح‭ ‬والاستبشار،‭ ‬ثم‭ ‬تبدأ‭ ‬المجازر،‭ ‬ويقاد‭ ‬من‭ ‬ظل‭ ‬حياً‭ ‬إلى‭ ‬المناجم‭ ‬والمزارع‭ ‬عبيداً،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬لسكان‭ ‬جزر‭ ‬‮«‬أوشانيا‮»‬‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬الهادئ‭ ‬الذين‭ ‬تشيع‭ ‬بينهم‭ ‬ما‭ ‬تسمى‭ ‬‮«‬عبادة‭ ‬حمولة‭ ‬السفن‮»‬‭. ‬وتقوم‭ ‬هذه‭ ‬العبادة‭ ‬على‭ ‬أسطورة‭ ‬فحواها‭ ‬أن‭ ‬عصراً‭ ‬سعيداً‭ ‬سيحل‭ ‬في‭ ‬قادم‭ ‬الأيام‭ ‬يستعيد‭ ‬فيه‭ ‬أهالي‭ ‬هذه‭ ‬الجزر‭ ‬السيادة‭ ‬على‭ ‬جزرهم،‭ ‬ولن‭ ‬يكدحوا‭ ‬بعدها‭ ‬أبداً،‭ ‬لأن‭ ‬الأسلاف‭/‬الموتى‭ ‬سيعودون‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬سفنهم‭ ‬العملاقة‭ ‬المحملة‭ ‬بالبضائع،‭ ‬وعندها‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬عليهم‭ ‬سوى‭ ‬قتل‭ ‬ماشيتهم‭ ‬وتحطيم‭ ‬آلات‭ ‬الزراعة‭ ‬وإعداد‭ ‬المخازن‭ ‬الواسعة‭ ‬لاستقبال‭ ‬المؤن‭ ‬الخرافية‭. ‬وموقف‭ ‬جزر‭ ‬هاييتي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬يشبه‭ ‬موقف‭ ‬شعب‭ ‬الأزتك،‭ ‬فقد‭ ‬تجمعوا‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭ ‬لدى‭ ‬رؤية‭ ‬قدوم‭ ‬السفن‭ ‬الحربية‭ ‬البريطانية،‭ ‬وثار‭ ‬بينهم‭ ‬الجدل،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬يقول‭ ‬هذه‭ ‬سفن‭ ‬الأسلاف‭ ‬العائدين‭ ‬بالخيرات،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬يشكك،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حسمت‭ ‬المدافع‭ ‬البريطانية‭ ‬الجدل‭ ‬وهبطت‭ ‬بسكان‭ ‬الخرافة‭ ‬إلى‭ ‬الأرض،‭ ‬ولكن‭ ‬قتلى‭ ‬أو‭ ‬مستعبدين‭ ‬أو‭ ‬مطاردين‭. 

وتقودنا‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث‭ ‬إلى‭ ‬قصة‭ ‬أسطورية‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬قريبة‭ ‬العهد‭ ‬والمكان،‭ ‬ذات‭ ‬تأثير‭ ‬لايزال‭ ‬سارياً‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬إفريقية‭ ‬وآسيوية‭ ‬شهدت‭ ‬ما‭ ‬شهده‭ ‬سكان‭ ‬أمريكا‭ ‬الجنوبية‭ ‬وجزر‭ ‬أوشانيا‭ ‬الأصليون‭. ‬هذه‭ ‬الأسطورة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬شائع،‭ ‬ولكن‭ ‬نشرها‭ ‬وتعميمها‭ ‬كان‭ ‬صناعة‭ ‬غربية‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬معتقد‭ ‬خرافي‭ ‬شائع‭ ‬بين‭ ‬القبائل‭ ‬الإفريقية؛‭ ‬أن‭ ‬الأسلاف‭/ ‬الموتى‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬يظهرون،‭ ‬ويلجأ‭ ‬الناس‭ ‬إليهم‭ ‬طلباً‭ ‬للمشورة‭. ‬

قبيلة‭ ‬‮«‬كوسا‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬إحدى‭ ‬قبائل‭ ‬‮«‬البانتو‮»‬‭ ‬التي‭ ‬سكنت‭ ‬الأجزاء‭ ‬الجنوبية‭ ‬الشرقية‭ ‬من‭ ‬إفريقيا،‭ ‬وقعت‭ ‬ضحية‭ ‬أسطورة‭ ‬مختلقة‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬هذا‭ ‬المعتقد؛‭ ‬استشارة‭ ‬الأسلاف‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شأن‭ ‬من‭ ‬شؤون‭ ‬حياتها،‭ ‬الكبير‭ ‬منها‭ ‬والصغير،‭ ‬واتّباع‭ ‬ما‭ ‬يشيرون‭ ‬به‭. ‬

وتتلخص‭ ‬الحكاية‭ ‬وفق‭ ‬رواية‭ ‬كريدو‭ ‬موتوا‭ (‬Credo‭ ‬Mutwa‭) ‬الساحر‭ ‬الآسي‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬الزولو‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬تاريخ‭ ‬شعب‭ ‬البانتو‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬متداول‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬شعبي‮»‬‭ ‬My‭ ‬People‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الحاكم‭ ‬البريطاني‭ ‬جورج‭ ‬جري،‭ ‬حاكم‭ ‬مقاطعة‭ ‬الكاب‭ ‬والمفوض‭ ‬البريطاني‭ ‬لشؤون‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا،‭ ‬في‭ ‬سعيه‭ ‬لمد‭ ‬السيطرة‭  ‬الاستعمارية،‭ ‬استثمر‭ ‬هذا‭ ‬المعتقد‭ ‬لدى‭ ‬قبيلة‭ ‬‮«‬كوسا‮»‬،‭ ‬فأرسل‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬رجاله‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬عام‭ ‬1957‭ ‬في‭ ‬زي‭ ‬الأسلاف،‭ ‬بالملابس‭ ‬التقليدية‭ ‬والأقنعة،‭ ‬ليعلنوا‭ ‬لهذه‭ ‬القبيلة‭ ‬القوية،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬خاضت‭ ‬لتوها‭ ‬حرباً‭ ‬واسعة‭ ‬على‭ ‬المستعمرين‭ ‬الأوربيين،‭ ‬نبوءة‭ ‬مفرحة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬انتصار‭ ‬هذه‭ ‬القبيلة‭ ‬قادم‭ ‬لا‭ ‬محالة،‭ ‬وستطرد‭ ‬الأوربيين‭ ‬ويعم‭ ‬أرضها‭ ‬الخير‭ ‬والسلام،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬حدوث‭ ‬معجزة‭ ‬ستتحقق‭ ‬قريباً؛‭ ‬معجزة‭ ‬شروق‭ ‬الشمس‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الغرب‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الشرق‭. ‬وحتى‭ ‬تحقق‭ ‬القبيلة‭ ‬هذه‭ ‬المعجزة،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتطهر‭ ‬تماماً‭ ‬من‭ ‬حطام‭ ‬الدنيا،‭ ‬بأن‭ ‬تذبح‭ ‬مواشيها‭ ‬وتحرق‭ ‬مزروعاتها،‭ ‬وتجلس‭ ‬أمام‭ ‬أبواب‭ ‬أكواخها‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬حدوث‭ ‬المعجزة‭. ‬

زعيم‭ ‬قبيلة‭ ‬‮«‬كوسا‮»‬‭ ‬شكك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬الأسلاف‭ ‬المزعومين،‭ ‬إلا‭ ‬أنه،‭ ‬وقلة‭ ‬من‭ ‬المحيطين‭ ‬به،‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يمنع‭ ‬الشعب‭ ‬من‭ ‬الانقضاض‭ ‬على‭ ‬الماشية‭ ‬والمزروعات‭ ‬وتدميرها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬مصيدة‭ ‬السيد‭ ‬جري‭. ‬وهكذا‭ ‬قصم‭ ‬الحاكم‭ ‬البريطاني‭ ‬ظهر‭ ‬أقوى‭ ‬القبائل‭ ‬التي‭ ‬وقفت‭ ‬ضد‭ ‬المستعمرين‭ ‬الغربيين‭. ‬

ربما‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الخديعة،‭ ‬وتجربة‭ ‬هذا‭ ‬الساحر‭ ‬الآسي‭ ‬الذي‭ ‬تعلم‭ ‬في‭ ‬مدارس‭ ‬الإرساليات‭ ‬واعتنق‭ ‬المسيحية،‭ ‬وأخذ‭ ‬بطرف‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬أعادته‭ ‬إلى‭ ‬ديانة‭ ‬شعبه‭ ‬وجعلته‭ ‬يعمل‭ ‬مرشداً‭ ‬روحياً‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬لقبيلة‭ ‬الزولو‭. ‬وربما‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬يقرر‭ ‬كتابة‭ ‬سيرة‭ ‬تاريخية‭ ‬لديانة‭ ‬ومعتقدات‭ ‬شعب‭ ‬‮«‬البانتو‮»‬‭ ‬منذ‭ ‬بدايات‭ ‬الخلق‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬

ونجد‭ ‬شبيهاً‭ ‬لهذا‭ ‬السلوك‭ ‬وهذا‭ ‬النحو‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬تعرضت‭ ‬لما‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬إفريقيا‭ ‬من‭ ‬امتهان‭. ‬وبهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬جاء‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬شعبي‮»‬‭ ‬كاشفاً،‭ ‬للأساطير‭ ‬التي‭ ‬تلعب‭ ‬دوراً‭ ‬خطيراً‭ ‬في‭ ‬مصائر‭ ‬الشعوب،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬أساطير‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬المتوارث،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حالة‭ ‬أسطورة‭ ‬شعب‭ ‬‮«‬الأزتك‮»‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬أسطورة‭ ‬سكان‭ ‬جزر‭ ‬‮«‬أوشانيا‮»‬،‭ ‬وكشفاً‭ ‬هو‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬لغوامض‭ ‬العقلية‭ ‬الإفريقية،‭ ‬ومفسراً‭ ‬للكثير‭ ‬مما‭ ‬يعتبر‭ ‬ألغازاً‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬المؤرخين‭. ‬

ويبدو‭ ‬تصميم‭ ‬صاحب‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الحقيقة‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬غير‭ ‬الحقيقة‭ ‬مؤثراً،‭ ‬وخاصة‭ ‬حين‭ ‬تفند‭ ‬حقائقه،‭ ‬كما‭ ‬فندت‭ ‬حقائق‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬البلاد‭ ‬الأصليين‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الجنوبية‭ ‬وجزر‭ ‬المحيط‭ ‬الهادئ،‭ ‬النظرات‭ ‬الشائعة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب،‭ ‬سواء‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تنظر‭ ‬إليها‭ ‬كشعوب‭ ‬بدائية‭ ‬لم‭ ‬تنجز‭ ‬شيئاً‭ ‬في‭ ‬مضمار‭ ‬الحضارة،‭ ‬أو‭ ‬بوصفها‭ ‬جنساً‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬الجنس‭ ‬البشري‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬أساطيرها‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬شل‭ ‬قدراتها‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬تحدي‭ ‬الغزوات‭ ‬التي‭ ‬تعرضت‭ ‬لها،‭ ‬ولكن‭ ‬لديها‭ ‬جوانب‭ ‬إيجابية‭ ‬بدأت‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬تصحيح‭ ‬مسارات‭ ‬تاريخها‭ ‬المعاصر‭. ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬حفاظها‭ ‬على‭ ‬الموروث‭ ‬الشفاهي‭ ‬بوصفه‭ ‬عنصراً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬الذاكرة‭ ‬وإعادة‭ ‬قراءة‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬سلب‭ ‬الهويات‭ ‬واللغات‭ ‬والثروات‭ ‬الذي‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب،‭ ‬بحيث‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تستطيع‭ ‬تحديد‭ ‬مكانها‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭. ‬

ولعل‭ ‬ما‭ ‬منح‭ ‬هذه‭ ‬المرويات‭ ‬الشفاهية‭ ‬صدقية‭ ‬أكبر‭ ‬جعلتها‭ ‬تتغلب‭ ‬على‭ ‬محاولات‭ ‬تشويه‭ ‬تاريخ‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب،‭ ‬هي‭ ‬بالنسبة‭ ‬لإفريقيا‭ ‬كنموذج،‭ ‬موضوعة‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬ديانة‭  ‬‮«‬البانتو‮»‬،‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬اسمه‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الكائن‭ ‬الإنساني‭ ‬الذي‭ ‬يسير‭ ‬منتصب‭ ‬القامة‮»‬،‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬العبث‭ ‬بالتاريخ‭ ‬القبلي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الخطيئة‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تغتفر‭. ‬وثمة‭ ‬سمة‭ ‬مهمة‭ ‬هنا‭ ‬جديرة‭ ‬بالتقدير،‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬قبائل‭ ‬هذا‭ ‬الشعب،‭ ‬بمختلف‭ ‬فروعه‭ ‬من‭ ‬‮«‬كوسا‮»‬‭ ‬و«زولو‮»‬‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬لا‭ ‬تروي‭ ‬فقط‭ ‬أخبار‭ ‬انتصاراتها،‭ ‬بل‭ ‬تحرص‭ ‬على‭ ‬رواية‭ ‬تفاصيل‭ ‬الهزائم‭ ‬أيضاً‭ ‬لتنقل‭ ‬إلى‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭. ‬ولهذا،‭ ‬وبسبب‭ ‬هذا‭ ‬التقديس‭ ‬لرواية‭ ‬التاريخ،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬القاص‭ ‬القبلي‭ ‬في‭ ‬نيجيريا‭ ‬يروي‭ ‬التفاصيل‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬يرويها‭ ‬القاص‭ ‬القبلي‭ ‬في‭ ‬زامبيا‭ ‬للقصة‭ ‬نفسها‭.‬

ومما‭ ‬يدعم‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬هنا،‭ ‬المكتشفات‭ ‬الأثرية‭ ‬في‭ ‬الكهوف،‭ ‬وهي‭ ‬رسوم‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬آلاف‭ ‬الكهوف‭ ‬التي‭ ‬يعرف‭ ‬مواقعها‭ ‬جيداً‭ ‬أمثال‭ ‬المرشد‭ ‬الروحي‭ ‬كريدو‭ ‬موتوا،‭ ‬وتعتبر‭ ‬سجلاً‭ ‬تاريخياً‭ ‬دقيقاً‭ ‬يروي‭ ‬أحداث‭ ‬التاريخ‭ ‬التي‭ ‬تتطابق‭ ‬مع‭ ‬الرواية‭ ‬الشفهية‭.‬

من‭ ‬أكثر‭ ‬المرويات‭ ‬إثارة‭ ‬ذلك‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬يسجله‭ ‬موتوا‭ ‬نقلاً‭ ‬عن‭ ‬التاريخ‭ ‬الشفهي‭ ‬ورسوم‭ ‬الكهوف،‭ ‬وهو‭ ‬قدوم‭ ‬الكنعانيين‭ ‬إلى‭ ‬غرب‭ ‬إفريقيا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬يرجعه‭ ‬إلى‭ ‬500‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬بسفنهم‭ ‬المميزة‭ ‬وأسلحتهم‭ ‬البرونزية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أسلحة‭ ‬العصر‭ ‬الحجري‭ ‬الإفريقي‭ ‬الصمود‭ ‬أمامها‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬إنشاؤهم‭ ‬إمبراطورية‭ ‬كبيرة‭ ‬عاشت‭ ‬بضعة‭ ‬قرون‭ ‬حول‭ ‬بحيرة‭ ‬كماركيري‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬الآن‭ ‬بحوض‭ ‬نهر‭ ‬زامبيزي‭. ‬وتذكر‭ ‬المرويات‭ ‬وصول‭ ‬‮«‬العرب‮»‬‭ ‬بأثوابهم‭ ‬السابغة‭ ‬وجلودهم‭ ‬السمراء‭ ‬وخيولهم‭ ‬الغريبة‭. ‬وتقول‭ ‬المرويات‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬جندت‭ ‬الأفارقة‭ ‬في‭ ‬حفر‭ ‬مناجم‭ ‬الذهب‭ ‬والحديد‭. ‬ثم‭ ‬تمضي‭ ‬المرويات‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬قصة‭ ‬انهيار‭ ‬هذه‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬بسبب‭ ‬الثورات‭ ‬المتتالية‭ ‬ضدها،‭ ‬وقصة‭ ‬هجرة‭ ‬قبائل‭ ‬البانتو‭ ‬من‭ ‬حوض‭ ‬الزامبيزي‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬الخضراء‭ ‬المعروفة‭ ‬الآن‭ ‬باسم‭ ‬زمبابوي‭ ‬وجنوب‭ ‬إفريقيا‭ ‬بوصفها‭ ‬الأرض‭ ‬الموعودة‭! ‬وهنا،‭ ‬بحدود‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر،‭ ‬يبدأ‭ ‬الاحتكاك‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬القبائل‭ ‬والبرتغاليين‭.‬

ويتخلل‭ ‬وصف‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث‭ ‬التاريخية‭ ‬وصف‭ ‬طقوس‭ ‬احتفالات‭ ‬الحرب‭ ‬والسلام‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬فيها‭ ‬الأجانب‭ ‬إلا‭ ‬ممارسات‭ ‬بدائية،‭ ‬بينما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬حقيقتها‭ ‬طقوس‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأهمية،‭ ‬لأنها‭ ‬نواظم‭ ‬للتنظيم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬خاصة‭ ‬ببيئة‭ ‬وشعب،‭ ‬وتمنحها‭ ‬معناها‭ ‬خلفية‭ ‬شعب‭ ‬‮«‬البانتو‮»‬‭ ‬الدينية،‭ ‬ففي‭ ‬احتفالات‭ ‬السلام‭ ‬التي‭ ‬تعقد‭ ‬لإقرار‭ ‬السلم‭ ‬بين‭ ‬قبيلتين‭ ‬مثلاً،‭ ‬يعاد‭ ‬تمثيل‭ ‬قصة‭ ‬الخلق‭ ‬الأسطوري‭ ‬المتوارثة؛‭ ‬أي‭ ‬خلق‭ ‬الإنسان‭ ‬والكائنات‭. ‬

ويظهر‭ ‬هذا‭ ‬الساحر‭ ‬الآسي،‭ ‬وهو‭ ‬يفسر‭ ‬بعض‭ ‬طقوس‭ ‬الزواج‭ ‬والمتاجرة‭ ‬والحرب‭ ‬والسلام،‭ ‬كم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الطقوس‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالمعتقدات‭ ‬الراسخة،‭ ‬ابنة‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬وبيئتها،‭ ‬وكم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المعتقدات‭ ‬ذات‭ ‬معنى‭ ‬أخلاقي‭ ‬عميق‭. ‬ويضرب‭ ‬مثلاً‭ ‬بنظرة‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬إلى‭ ‬قتل‭ ‬المرأة،‭ ‬فقتل‭ ‬المرأة‭ ‬يعتبر‭ ‬جريمة‭ ‬كبرى‭ ‬لا‭ ‬تعادلها‭ ‬أي‭ ‬جريمة،‭ ‬ليس‭ ‬بسبب‭ ‬أنه‭ ‬قضاء‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬إنسانة‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬لأنه‭ ‬قضاء‭ ‬على‭ ‬آلاف‭ ‬الكائنات‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تولد‭ ‬من‭ ‬نسل‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭. ‬ويضرب‭ ‬مثلاً‭ ‬آخر،‭ ‬وهو‭ ‬تحريم‭ ‬قتل‭ ‬بعض‭ ‬الحيوانات،‭ ‬ليس‭ ‬لأنها‭ ‬معبودة‭ ‬أو‭ ‬‮«‬طواطم‭ ‬قبلية‮»‬‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬شائع،‭ ‬بل‭ ‬بسبب‭ ‬عقيدة‭ ‬ترى‭ ‬الخلق‭ ‬سلسلة‭ ‬متصلة‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬الأعشاب‭ ‬فالأشجار‭ ‬فالكائنات‭ ‬الحية،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬النجوم‭. ‬

وعطفاً‭ ‬على‭ ‬الصراع‭ ‬الدائر‭ ‬في‭ ‬إفريقيا،‭ ‬والذي‭ ‬قام‭ ‬بعد‭ ‬وصول‭ ‬سفن‭ ‬البرتغاليين‭ ‬والهولنديين‭ ‬والإنجليز‭.. ‬إلخ،‭ ‬ومازال‭ ‬دائراً‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة،‭ ‬يعتقد‭ ‬موتوا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الصراع،‭ ‬وخاصة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬دائراً‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا،‭ ‬هو‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬جنسين‭ ‬فشلا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يفهما‭ ‬عادات‭ ‬وطرق‭ ‬تفكير‭ ‬بعضهما‭. ‬ويقول‭ ‬إن‭ ‬الإفريقي‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬عقلية‭ ‬وسلوك‭ ‬البيض‭ ‬بالاطلاع‭ ‬على‭ ‬تراثهم‭ ‬المكتوب‭ ‬وصحفهم‭ ‬وتصريحاتهم،‭ ‬وبالدراسة‭ ‬في‭ ‬جامعاتهم،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬البيض‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الإفريقي،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬مكتوباً،‭ ‬والتحريم‭ ‬القبلي‭ ‬يمنع‭ ‬اطلاع‭ ‬الأجانب‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يعتبر‭ ‬أسراراً‭ ‬مقدسة‭. ‬

وبعد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬هناك‭ ‬سؤال‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه،‭ ‬سواء‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بشعب‭ ‬‮«‬البانتو‮»‬‭ ‬أو‭ ‬شعب‭ ‬‮«‬الأزتك‮»‬‭ ‬أو‭ ‬شعوب‭ ‬‮«‬أوشانيا‮»‬،‭ ‬وهو‭: ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬الدامي‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭ ‬والغزاة‭ ‬الأجانب‭ ‬مجرد‭ ‬ناتج‭ ‬من‭ ‬نواتج‭ ‬سوء‭ ‬الفهم؟‭ ‬

هنا‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬مختلفين‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الساحر‭ ‬الآسي‭ ‬‮«‬موتوا‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يعتقد‭ ‬بأن‭ ‬معرفة‭ ‬البيض‭ ‬بالثقافة‭ ‬والتاريخ‭ ‬الإفريقيين‭ ‬سيجعل‭ ‬تعاملهم‭ ‬مع‭ ‬الأفارقة،‭ ‬وبقية‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬غزوها‭ ‬ونهبوا‭ ‬ثرواتها‭ ‬وأبادوا‭ ‬بعضها‭ ‬إبادة‭ ‬تامة،‭ ‬مختلفاً‭. ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬صحيحاً‭ ‬لما‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬كتابه‭ ‬بمرارة‭ ‬عن‭ ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬تحوّل‭ ‬بعض‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬‮«‬البانتو‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬المسيحية‭ ‬وتبنيهم‭ ‬للثقافة‭ ‬الغربية،‭ ‬مازالوا‭ ‬يعتبرون‭ ‬جنساً‭ ‬‮«‬وثنياً‮»‬،‭ ‬ولما‭ ‬تحدث‭ ‬بالمرارة‭ ‬نفسها‭ ‬عن‭ ‬أهداف‭ ‬السياسة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬تجاه‭ ‬‮«‬البانتو‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬تحويلهم‭ ‬إلى‭ ‬عبيد‭ ‬في‭ ‬مزارع‭ ‬ومناجم‭ ‬الأقلية‭ ‬البيضاء،‭ ‬سواء‭ ‬ظلوا‭ ‬‮«‬وثنيين‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬مؤمنين‮»‬‭ ‬بديانة‭ ‬الرجل‭ ‬الأبيض‭. ‬ولعل‭ ‬اختراع‭ ‬سياسة‭ ‬التمييز‭ ‬العنصري‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تلغى‭ ‬بعد‭ ‬نضال‭ ‬دام‭ ‬خاضه‭ ‬السكان‭ ‬الأصليون‭ ‬ضد‭ ‬مستعمريهم،‭ ‬هي‭ ‬الدليل‭ ‬الساطع‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أسباب‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬بعيدة‭ ‬كل‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬سوء‭ ‬تفاهم‮»‬،‭ ‬وجهل‭ ‬البيض‭ ‬بعادات‭ ‬ومعتقدات‭ ‬الأفارقة‭. ‬

إن‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أخذه‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع،‭ ‬مع‭ ‬تقدير‭ ‬محاولة‭ ‬المؤلف‭ ‬توضيح‭ ‬وشرح‭ ‬معتقدات‭ ‬وتاريخ‭ ‬شعبه،‭ ‬شأنه‭ ‬شأن‭ ‬أي‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬التنكر‭ ‬لإنسانيتها،‭ ‬هو‭ ‬تفسيره‭ ‬للتاريخ‭ ‬وأحداثه‭ ‬الدموية‭ ‬تفسيراً‭ ‬مبسطاً؛‭ ‬فحواه‭ ‬أن‭ ‬أحداثه‭ ‬المأساوية‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬سوء‭ ‬فهم‮»‬‭ ‬بين‭ ‬جماعتين،‭ ‬وجهل‭ ‬بعضهما‭ ‬ببعض،‭ ‬وإرجاعه‭ ‬سبب‭ ‬المرارة‭ ‬وظلال‭ ‬الدم‭ ‬إلى‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬كلا‭ ‬الفريقين‭ ‬بعضهما‭ ‬بعضاً‭. ‬ولو‭ ‬أخذنا‭ ‬بهذا‭ ‬التفسير،‭ ‬سيبدو‭ ‬سبب‭ ‬ثورة‭ ‬‮«‬الماو‭ ‬ماو‮»‬‭ ‬في‭ ‬كينيا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬قتل‭ ‬مستعمر‭ ‬بريطاني‭ ‬لقطة‭ ‬مقدسة،‭ ‬وتصبح‭ ‬حروب‭ ‬المستعمرين،‭ ‬من‭ ‬برتغاليين‭ ‬وهولنديين،‭ ‬على‭ ‬قبائل‭ ‬‮«‬البانتو‮»‬‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬عجز‭ ‬هؤلاء‭ ‬الغرباء‭ ‬عن‭ ‬فهم‭ ‬السبب‭ ‬الذي‭ ‬يمنع‭ ‬هذه‭ ‬القبيلة‭ ‬من‭ ‬بيع‭ ‬أبقارها‭. ‬

إن‭ ‬ذخيرة‭ ‬هذا‭ ‬السرد‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬التعريف‭ ‬بإفريقيا‭ ‬وثقافتها‭ ‬منذ‭ ‬جذورها‭ ‬حتى‭ ‬الأزمنة‭ ‬الحديثة،‭ ‬يشوبها،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬هذا،‭ ‬نقص‭ ‬خطير‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬استقصاء‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬لجنوب‭ ‬إفريقيا‭ ‬منذ‭ ‬قدوم‭ ‬البرتغاليين‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الانتحار‭ ‬الجماعي‭ ‬لقبيلة‭ ‬‮«‬كوسا‮»‬‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬لفت‭ ‬انتباه‭ ‬الكاتب‭ ‬ودفعه‭ ‬إلى‭ ‬استقصاء‭ ‬الحدث،‭ ‬وتأكيد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬تدبير‭ ‬الحاكم‭ ‬البريطاني،‭ ‬فإن‭ ‬أحداثاً‭ ‬أكثر‭ ‬ضخامة‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تستخلص‭ ‬من‭ ‬الموروث‭ ‬الشفهي‭ ‬الإفريقي‭ ‬وسجلات‭ ‬تاريخ‭ ‬الاستعمار‭ ‬المعاصر‭ ‬لتتكامل‭ ‬قصة‭ ‬ظلال‭ ‬الدم‭ ‬