وسطية الإسلام وسماحته

وسطية الإسلام وسماحته

قال الله جلّ جلاله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (سورة البقرة - الآية: 143)، لأن أحب الأعمال إلى الله تعالى أوسطها، والأمة الإسلامية أمة وسط باعتدالها واستقامتها على الأخلاق الفاضلة والقيم السامية التي بثّها فيها الإسلام تهذيباً للنفوس، والتي تشهد على الناس جميعاً، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وهي عقيدة وشريعة وسلوك، فلذلك تكون أمة وسطاً في كل شيء، تأمر بالخير، وتنهى عن المنكر، فلا تعصّب ضد الآخرين، ولا رفض لهم ولا إكراه أو إرهاب أو ترويع بغير حق أو قتل الأنفس البريئة. 


المسلم لا يظلم ولا يجور ولا يبغي، لقول الله تعالى: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ  إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (سورة القصص - الآية: 77)، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لا ترَوِّعوا المسلم، فإن روعة المسلم ظلم عظيم، ومَن أشار لأخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كان أخاه لأبيه وأمه». كما نهى عليه الصلاة والسلام عن المغالاة في الدين والغلو والترف، فقال: «إياكم والغلو في الدين، فإنما هَلَك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين». والمفارقة أنه لا توجد حضارة ارتبطت بدين سماوي أو غيره، كما الحضارة الإسلامية، وديننا دين سماحة، أي المعتدل والأيسر من الأديان، مع الاعتراف بالحرية للآخرين، لاسيما الدينية منها، فلا يجوز إجبارهم على الدخول في الإسلام مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (سورة البقرة - الآية: 256). مع دعوة الناس إلى دين التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة، تطبيقاً لقول الحق تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (سورة النحل - الآية: 125) حبّاً في إسعاد البشرية. والأحكام الشرعية قائمة على اليسر والسماحة والتوسط والاعتدال، مصداقاً لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (سورة البقرة - الآية: 268) - ولقول الله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء - الآية: 107). ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا». وقوله أيضاً: «يسِّروا ولا تُعسّروا، وبشّروا ولا تنفرّوا»، و«إنما بُعثت بالحنفية السمحة». وقوله أيضاً: «من لا يَرْحم لا يُرْحُم» و«ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»، والرحمة عامة للمسلم وغير المسلم.
ولا يرفض الإسلام التعددية الدينية في المجتمعات الإنسانية بدليل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (سورة يونس - الآية: 99)، لذا وجّه سبحانه وتعالى خطابه ونداءاته في السور المكيّة بقوله: {يا أيّها الناس...} وليس {يا أيها الذين آمنوا...} لوجود رابطة إنسانية وأخوّة بشرية تسَعُ الناس جميعاً مسلمهم وغير مسلمهم، والله جلّت حكمته يدعو المؤمنين إلى أن يغفروا حتى للذين لا يرجون أيام الله، ونجد ذلك في قوله جلّ وعلا: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} (سورة الجاثية - الآية: 14) كما كرّمهم ربهم لمجرد أنهم بشر لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (سورة الإسراء - الآية: 70).
والمسلم يمارس أخلاقه السامية الهادية مع كل مخلوقات الله، حتى مع الجماد والنبات والحيوان، فإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، وفي رعاية النبات وغرس فسيلة - ولو كانت القيامة تقوم - أجر و«في كل كبد رطبة صدقة». وبالرغم من إشارة القرآن الكريم إلى الاختلافات المهمة، فإنه يحثّ المسلمين على اكتشاف القواسم المشتركة بينهم وبين أهل الكتاب، والاستفادة منها في التواصل معهم، بل والتعاون معهم على البرِّ والتقوى بما لا يُخالف عقيدتنا، وهذه القواسم المشتركة: الوحدانية وأن رسالة الإسلام رحمة للعالمين، وقوله تعالى: {... وتُقسطوا إليهم...} أي تعطوهم أموالهم على وجه الصلة.
كما يدعو الإسلام إلى العدل الشامل مع الجميع بمن في ذلك غير المسلم وحتى مع الأعداء:
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (سورة المائدة - الآية: 8). وقال أحد الحكماء: «اجعل بينك وبين عدوّك العدل، وبينك وبين صديقك الرضا».
وهنا دعوة للقارئ الكريم ليضرب بسهم وافر من ثاقب فكره، حواراً رشيداً، وعطاء موصولاً حول منهجية الإسلام نحو الوسطية والاعتدال، فكراً ومنهجاً ■