شاعر الشعب عمر الزعني ... الرسام بالكلمات
كتب المستشرق جان لوسيرف فقرة في دراسته عن عمر الزعني (1898 – 1961) نشرها في Bulletin d’Etudes Oriontales tome III, 1933، وترجمتها:
«من المؤكد أن نقده السياسي الجريء واللاذع شكل عاملا أساسيا في نجاحه، إلا أن إنتاجه الرئيسي يكمن - في رأينا – في فكر الشاعر الذي لا يتوقف عند الحدث الراهن، بل هو فكر يبحث عن الأسباب الدائمة للمنغصات الاجتماعية التي يشكو منها معاصروه، ويرقى إلى حد الوصول إلى نقد اجتماعي جدي، بل إلى فكر فلسفي، ولكن في صورة هزلية تبرز أهمية هذا الشعر في النهضة الحالية للأدب الشعبي، وهو ما ينفي شك البعض، ممن لا يزالون يعتقدون، أن «اللغة العامية قادرة فقط على التعبير عن الاحتياجات العملية».
تبدو دراسة لوسيرف مميزة عن الدراسات المتواضعة التي نشرت في ما بعد، والتي حاولت أن تجمع قصائده أكثر من محاولة تحليلها، وهذه الكتب هي: «عمر الزعني شاعر الشعب، للقاضي محمود نعمان، طبعة جمعية المقاصد في بيروت، عام 1979». و«عمر الزعني، حكاية شعب، للدكتور فاروق الجمال، طبعة دار الآفاق في بيروت، عام 1979». و«عمر الزعني موليير الشرق، للزعني الصغير (سمير ابن أخيه) بيروت، 1980».
ولد عمر الزعني في بيروت عام 1898 من عائلة مصرية الأصل، والده الشيخ محمد، عالم مؤمن، أدخله الكلية العثمانية، فبقي فيها حتى عام 1914 حين جنده العثمانيون في جيشهم، ولأنه كان قد درس سنة في المدرسة الحربية في حمص، فقد عمل في الجيش مديراً للإعاشة برتبة ملازم.
وبعد الحرب العالمية الأولى، عمل عمر في التدريس، ثم انتقل إلى وظيفة إدارية بمحكمة البداية في بيروت، متابعاً دراسة الحقوق بمنحة من جمعية المقاصد. في هذه الفترة كان عمر ينظم الأناشيد المدرسية والقصائد الوطنية الاجتماعية ويلقيها في المدارس وفي اللقاءات الشعبية، متلقباً باسم مستعار هو «حنين»، وبدأت شهرته بعد أن أنشد قصيدته النقدية اللاذعة في رئيس الجمهورية آنذاك بشارة الخوري «بدنا بحرية يا ريس»، حين غضبت السلطة عليه، فاستقال من الوظيفة وانصرف إلى فنه. تزوج عمر وأنجب محمد ودلال، وعاش من فنه ومن إدارته مكتب محاماة، واستثمار بناية أنشأها في بيروت، وفي بيروت توفي في 11 فبراير 1961.
لكل قصيدة حكاية
كان عمر الزعني «مربيا»، حيث تدرب معلماً في الكلية العثمانية والمدرسة التوفيقية، مبشراً بمحبة الآخرين والوطن والخير، مستوحياً قيم الإسلام والعروبة، منتمياً إلى الشعب المقهور دائماً، فكان في تدريسه ونظمه الشعر بنـّاء للوعي والثقافة وحب الحياة، في سيرته وفي علاقاته كان يرصد مشكلات الناس، متنبهاً إلى أدق التفاصيل في حياتهم - شأن الفنانين الكبار - وهم يتقلبون في أزمنة سياسية اجتماعية مفصلية، من زمن الحرب العالمية الأولى إلى عهد الانتداب فعهد الاستقلال، لذلك نال المحتاجون والمغبونون، كما نالت المرأة في مساراتها كلها، حصة كبرى من قصائده، وهو لم يساوم على مبادئه الأخلاقية والوطنية أبداً، قائلاً:
المبدأ شرف الانسان لازم يفنى من شانه (من أجله)
مهما تلوّع مهما انهان
المبدأ بيعلّي من شانه
من هذا المنظار، كان عمر الزعني، كما قالت الأديبة مي زيادة « كثير الشكوى، ولو لم يكن كذلك لصار شاعر الزمان».شكواه من العيوب الشخصية والسياسية والاجتماعية كانت بالإضاءة عليها وتعرية أصحابها، شكواه كانت في إشهاره وتشهيره في نقد لاذع وساخر، نال رضا الناس وامتعاض بعض المسؤولين، وقصاص السلطة.
لم يرتح الزعني لانتداب فرنسا على لبنان، فهي حاولت أن تدمر المؤسسات الوطنية، وأن تغير في سلوك الناس، وأن تفرز المواطنين بين مؤيد لها ينال امتيازاتها، ومعارض تحاربه، مما قال في هيمنتها في وصف ساخر:
فيف لا فرانس فيف لا فرانس أكبر حظ وأكبر شانص (حظ)
طول الليل سهر ودانص (رقص) وطول النهار ربح وقنص
لا سنكة ولا تنكة وكل سلاحك: فيف لا فرانس
ومما قاله في طلبها تغيير لباس المحامين والقضاة، ساخراً من تغيير الشكل لا المضمون:
عالهوب الهوب الهوب والقاضي لابس روب (ثوب)
والحق آخد مجراه
ما عاد في ظلم منوب ( أبدا)
على حقك ما بقا تخاف
الحكام صارو نضاف
لابسين روبات جداد
ما لبسها الاجداد
ولا شافت هالبلاد
نعمة أحسن من الروب
ولأنه رأى المنتدب الفرنسي لم يصحح من الديمقراطية في الوطن، إذ حل المجلس النيابي وعلق الدستور لينشئ سلطة سياسية تناسبه أنشد:
يا مال الشام يا عوجة
من أصلك عوجة يا عوجة
كما أنشد ساخرا من اعتماد الفرنك الفرنسي الذي أساء في قيمته إلى الاقتصاد اللبناني:
حاسب يا فرنك شد فرامك
شوف النار الدرب قدامك
مجبورين محسوبين
طالبن عفوك وإحسانك
ولما استرجع الفرنك قيمته أمام العملات الأخرى، أنشده ثانية:
عرم يا فرنك وهز كمامك اليوم أعز أيامك المستر شلن خدامك
ولقصائده في «هيئة الأمم» يوم أنشئت، وفي هدر حقوق المسلمين، وإفلاس البلد، وإجراء الانتخابات، والإحصاء السكاني المريب... صدى واسع عند الناس، فصفق كثيرون حين أنشدهم في عام 1928 حالة البلاد في القهر والتشريد والجوع:
اللي جن، واللي كفر، واللي هاجر، واللي باقي تحت الخطر، والطفر عامي البصر... طفح الكيل.
وقبل الانتخابات وصف الحالة كما يأتي:
ما حدا بيعمل إحسان
غير للجاه والإعلان
وإن قدم خدمة خفيفة
يكون طمعان بنيشان
يا موعود بوظيفة
مين بيدعي وبيصلي
وما بيطلب الغفران؟
لكن بعض قصائد الزعني كانت (حكاياتها) شكوى من الدهر القاسي، أو مدحاً للخير في الناس، أو وصفاً لحالته في مناسبات خاصة كالزواج وفقدان الأب، أو في قضايا عامة.
الجرأة الساخرة
لم يتورع عمر الزعني عن انتقاد السياسيين بجرأة، إذا لمس من أحدهم ظلما للآخرين، فتعرض للرؤساء: سامي الصلح، رياض الصلح، صائب سلام، كميل شمعون، بشارة الخوري، ألفريد دباس، وكان هؤلاء يستمعون إليه حين ينشد قصائده فيهم، فيضحكون منها ويصفقون له أمام الجمهور المشاهد المستمع، رغم امتعاضهم من كشف سيئاتهم، قال الزعني في الزعيم هنري فرعون:
جرّد فرعون من اسمه
وشيل تيابه عن جسمه
وتفرج على كسمه (قامته)
شوف القفا وشوف الوش (الوجه)
بتشوف كل شي غش بغش
وفي عام 1946 إثر جلاء الفرنسيين عن لبنان وابتداء العمل السياسي الوطني الحر، هاجم الزعني رجالات لبنان كلهم بأشنع الصفات بعد أن تبين فشلهم:
السياسة ما إلها دين
وبتتمايل شمال ويمين
هي سر الكذابين
هي روح الظالمين
وراح يكيل الأوصاف الساخرة للسياسيين النفعيين الذين يدعون العفة، فكلفته جرأته هذه السجن، بعد أن كلفته الصرف من العمل وعدم إكمال دراسته الحقوقية. فبعد قصيدة «جدد له ولا تفزع» موجهة إلى الرئيس بشارة الخوري، قبض عليه وأحيل إلى القضاء بتهمة التجريح بالسلطة، وفي قاعة المحكمة أكد الزعني قوله في قصيدته بلا وجل، وزاد بأن أنشد شعراً ضد السيدة لور، عقيلة الرئيس الخوري، فانسحب القاضي من القاعة وسط تصفيق الحاضرين للزعني، الذي تابع بقصيدة: ومن القنطاري (حيث بيت رئيس الجمهورية) إلى راس النبع (حيث بيت رئيس الوزارة) روح يا زلط، سلم على بلع، وكله على حساب وضهر الشعب. فأصدر القاضي قراره بسجن الزعني ستة أشهر.
وتجرأ الزعني أيضاً على دخول «عالم المرأة» الخاص، بكلماته الساخرة، حين تحدث عن «المستورة» لاذعا المجتمع الذي لا ينصفها، عزباء أو متزوجة، عاقراً أو ولوداً ... «فكيف ما عملت مقهورة». كذلك عيّر المجتمع الذي يحرم المرأة أبسط حقوقها:
لا تحرموها لا تحبسوها
افتحوا الأبواب
لا تعلوا سورها
لا تحرموها من الشمس نورها
احسبوا لها حساب
لكنه قال في المرأة المستهترة والتابعة للموضة الكثير:
مجنون وما له دوا
مين قال النسوان سوا
في منهن جواهر
وفي منهن قواهر
وفي منهن يا ساتر
للهوا وشم الهوا
وتابع في قصيدة أخرى:
لا تقرب للفواجر
لا بترضيها ولا بتكفيها
ولو غمرتها بالجواهر
وكانت للعيوب الاجتماعية حصة كبرى في قصائد الزعني، فقد أنشد ضد الأناني والغشاش والطميع والحسود والبخيل والمبذر والثرثار... مشهّراً بكل منهم، فدارت قصائده على ألسنة الناس، من ذلك تصويره الطميع:
الطميع حاله عجب
نفسه ما بتشبع طلب
بيظن التلج فضة
والكبريت الأصفر دهب
أما الحشري:
ففي المجالس بيحكي قصص ما بتعنيه
ويا ما بيسمع كلام قاسي ما بيرضيه
والشتايم بيمسحها بجلده
والبخيل هو:
ثيابه بيشتريها بالدين
وبيفصلها بلا جيوب
والمبذر:
واحد ما بيعرف خيره
خيره مرصود لغيره
هي صور جريئة قاربها ساخرا، وغناها للمستمعين شهادات وأمثالا سائرة.
الموسيقى
هذه الأناشيد كان عمر الزعني يلقيها من على منابر مجالس عائلية، أو عامة، بلهجته البيروتية، وعلى إيقاع موسيقي، يقول عمر الزعني عنها: «ليست قصائدي أغاني وأهم ما فيها كلامها», «الألحان» هذه كانت بسيطة، فاستعانته بالأخوين فليفل (الموسيقيين الشعبيين) لوضعها أو لتوزيعها إذا كان هو واضعها، سهلت على الناس حفظها، كذلك اقتبس الزعني ألحانه من أغنيات غربية، فقد نقل عن المربي والصحافي الأستاذ عبدالله المشنوق أنه حين كان يردد على مسامع الزعني بعض ما يحفظه من أغنيات فرنسية، كان الزعني يطرب لها ويحفظها. واقتبس الزعني أيضاً ألحاناً شرقية بسيطة مما كان يتناقله الناس، ساعده في ذلك أستاذ سيد درويش «كميل شامبير» مدرّس الموسيقى العربية.
«ألحان» قصائد الزعني التي رددها الناس طويلاً، سجلت بعد إلقائها على أسطوانات بيعت من المشجعين، ثم أعيدت طباعتها حديثاً بواسطة ابن أخيه سمير «الزعني الصغير» كما يحلو له أن يلقب، حافظاً وناشراً تراث عمه.
كان الزعني ذا ذوق سليم في اختيار ألحانه، وهو وإن كان «مونولوجست» يغني قصائده، فإنه لم يكن يصعد على المسرح إلا في جو صامت ورصين، في بدايته، ليخيم التفاهم والتجاوب التامان بين الجماهير في القاعة والفنان الشاعر، ثم يروح يشيع المرح بينهم، كما يقول الباحث د.أسامة عانوتي، وحين ينهي الزعني كل مقطوعة من قصيدته كان يرفع صوته بكلمة «موزيكا» فتعزف الفرقة الموسيقية نغمة صارت معروفة محفوظة من سامعيه، لتفصل بين «غناء» مقطوعة وأخرى. وكان أصحاب الفنادق والمقاهي الصيفية يتنافسون في دعوته إلى إحياء السهرات عندهم، كما كان يقيم سهرات مشابهة في فنادق بيروت الفخمة أيام فصل الشتاء.
موليير الشرق
ذاعت شهرة عمر الزعني في البلاد العربية وخارجها، وقد قصده المستشرق لوسيرف في بيروت ليتعرف إلى «الناقد الجريء الذي حارب بالكلمة»، وحين حضر إحدى سهراته في فندق نورماندي أعجب به فعقد معه صداقة وكتب فيه كتاباً، وهو الذي أطلق عليه لقب «موليير الشرق».
«اتسمت شخصية الزعني بالظرف والمرح وخفة الروح، وبالرغبة الصادقة في بعث الطمأنينة في نفوس المقهورين، وما كان توجيهه النقد اللاذع إلا لما هو خير وأجدى» كما كتب الباحث والمربي د.زكي النقاش.
فموليير الشرق ذ يتابع النقاش ذ «كان لاذعاً في نقده الحكم والشركاء فيه، وصادقاً في توجهه للشعب لقطف ثمار جهاد طويل من أجل التمتع بالحرية والسيادة والاستقلال... واليقظة فالنهوض إلى مستقبل مشرق».
وإذا عرف موليير، المسرحي الفرنسي، صاحب مسرحيات «تارتوف والبخيل ومريض الوهم» بأنه رائد في إبراز العيوب الشخصية والاجتماعية النمطية على المسرح، فقد كان الزعني قريباً من ذلك تماماً، فاستحق أيضاً لقب «شاعر الشعب»، إذ هو ناقل أمين لانطباعاته وآرائه يغنيها ويمسرحها أمامه، يقول الزعني عن مضامين قصائده:
شوف تفرج آه يا سلام
شوف أحوالك بالتمام
شوف قدامك عجايب
شوف قدامك غرايب
كأن ما تتضمنه قصائده هو ما تراه العين من ثقوب «صندوق الفرجة» الذي كان يدور به صاحبه في الشوارع ليسلي الأولاد برواية القصص الواقعية والخرافية الملائمة لصور دولابه داخل الصندوق. لقد تناول الزعني المواضيع النافرة في حياة الناس، فكان صوتهم، كما كان صوت المربي الرسام، نعم كان رساماً كاريكاتورياً بالكلمات «وإذا كان الرسام يستعمل ريشته وألوانه ليرسم لوحته، فإن الزعني كان يستعمل الكلمة لرسم لوحته الانتقادية، فيخرج منها أجمل تابلوه فني وصائب» كما يقول ابن أخيه سمير، و«التابلوه» الكلامي ينبض بالحركة، يساعده الزعني بإيماءاته على المسرح، وبتنويع صوته، إلى جانب الخلفية الموسيقية المرافقة، فإذا استمعنا إلى هذه الفقرة من قصيدته السياسية التي تصف حال الرئيس الدباس، «نرى» الحركة و«نحس» المعنى معا:
في إيد من فوق (المفوض السامي الفرنسي) نتمشي الجوق
إن خالفوها بتشد الطوق
بتشد الريس، بتحل المجلس
بتهد أركانه من الأساس
وكم هي صائبة قصائد الزعني التي كانت لا تصف فقط، بل تستشرف أحيانا المستقبل، فـ«تخلد» وتبقى شاهدة على حالات مشابهة لحالة إطلاقها، وأختم بقصيدة «يا ضيعانك يا بيروت» التي تؤكد ذلك، رثاء للمدينة التي حضنت عمر الزعني، فكان شاعرها، وهي قصيدة أنشدها في عام 1938، يقول فيها منتقداً:
يا مناظر غشاشة
يا عروس بخشخاشة
يا مصمودي بالتابوت
يا ضيعانك يا بيروت
الجهلا حاكمين
والأرزال عايمين
والأنذال عايشين
والأوادم عم تموت
يا ضيعانك يا بيروت ■