فولتير و«رسالته في التسامح»

فولتير  و«رسالته في التسامح»

‭ ‬أغراني‭ ‬بالكتابة‭ ‬عن‭ ‬الأديب‭ ‬والفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬فولتير‭ ‬أمران،‭ ‬أولهما‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬صُنَّاع‭ ‬عصر‭ ‬التنوير‭ ‬والعقل،‭ ‬أي‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬عامة‭. ‬والأمر‭ ‬الثاني‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬المبادئ‭ ‬التي‭ ‬وهبَ‭ ‬فولتير‭ ‬حياته‭ ‬من‭ ‬أجلها،‭ ‬قولاً‭ ‬وفعلاً،‭ ‬مازالت‭ ‬هي‭ ‬أهداف‭ ‬الإنسانية‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬مثل‭ ‬الحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬والتسامح‭ ‬والمساواة،‭ ‬ونبذ‭ ‬التعصب‭ ‬والاستبداد‭ ‬والخرافات‭.‬

‭ ‬وُلد‭ ‬فرانسوا‭ ‬ماري‭ ‬أرويه‭ (‬وهو‭ ‬اسم‭ ‬فولتير‭ ‬الحقيقي‭) ‬في‭ ‬باريس‭ ‬عام‭ ‬1694‭. ‬ودرس‭ ‬في‭ ‬الكلية‭ ‬اليسوعية‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أفضل‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬آنذاك‭. ‬وقد‭ ‬تلقى،‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬السبع‭ ‬التي‭ ‬قضاها‭ ‬فيها،‭ ‬تدريباتٍ‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬التراث‭ ‬الكلاسيكي‭ (‬اليوناني‭ ‬والروماني‭)‬،‭ ‬وأظهر‭ ‬نبوغاًً‭ ‬مبكراًً‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬الأدب‭. ‬ثم‭ ‬درس‭ ‬القانون‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬رغبة‭ ‬والده،‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬محامياً،‭ ‬ولكن‭ ‬فولتير‭ ‬لم‭ ‬يمارس‭ ‬المحاماة،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬شغوفاً‭ ‬بالأدب‭.‬

 

‭ ‬فولتير‭ ‬في‭ ‬إنجلترا

‭ ‬سُجن‭ ‬فولتير‭ ‬في‭ ‬الباستيل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬كانت‭ ‬الأولى‭ ‬منها‭ ‬عام‭ ‬1717‭ ‬بتهمة‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬قصيدة‭ ‬هجاء‭ ‬بالوصي‭ ‬على‭ ‬العرش‭ ‬الفرنسي،‭ ‬وهو‭ ‬فيليب‭ ‬دوق‭ ‬أورليان‭. ‬وُنفي‭ ‬فولتير‭ ‬إلى‭ ‬إنجلترا‭ ‬عام‭ ‬1726،‭ ‬حيث‭ ‬أمضى‭ ‬فيها‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬تُعدُّ‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬محطات‭ ‬حياته،‭ ‬فقد‭ ‬اطلع‭ ‬على‭ ‬تقاليد‭ ‬المجتمع‭ ‬الإنجليزي‭ ‬ونظامه‭ ‬السياسي،‭ ‬وأُعجب‭ ‬بالدستور‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الذي‭ ‬منح‭ ‬الملك‭ ‬صلاحيات‭ ‬مطلقة‭ ‬لفعل‭ ‬الخير،‭ ‬وقيَّد‭ ‬يديه‭ ‬في‭ ‬فعل‭ ‬الشر‭. ‬كما‭ ‬أُعجب‭ ‬بالتسامح‭ ‬الديني‭ ‬السائد،‭ ‬وقال‭: ‬اهذا‭ ‬هو‭ ‬بلد‭ ‬الملل‭ ‬والنِّحل،‭ ‬والرجل‭ ‬الإنجليزي،‭ ‬باعتباره‭ ‬حراً،‭ ‬يسلك‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬يختارهب‭. ‬وتأثر‭ ‬فولتير‭ ‬بالعالم‭ ‬الإنجليزي‭ ‬نيوتن‭ ‬وشارك‭ ‬في‭ ‬تشييع‭ ‬جنازته‭. ‬كما‭ ‬ألَّف‭ ‬كتاباً‭ ‬بعنوان‭ ‬ارسائل‭ ‬عن‭ ‬الإنجليزب‭.‬

 

‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬إلى‭ ‬برلين‭ ‬

في‭ ‬عام‭ ‬1734‭ ‬نُشر‭ ‬كتابه‭ ‬الآنف‭ ‬الذكر‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬بعنوان‭ ‬ارسائل‭ ‬فلسفيةب‭. ‬ويتألف‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬وعشرين‭ ‬رسالة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬ظاهرها‭ ‬وصف‭ ‬للمجتمع‭ ‬الإنجليزي،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬تحمل‭ ‬نقداً‭ ‬للمجتمع‭ ‬الفرنسي‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬الاستبداد‭. ‬ولهذا‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬السلطات‭ ‬الفرنسية‭ ‬بمصادرة‭ ‬الكتاب‭ ‬وإحراقه‭ ‬بحجة‭ ‬مخالفته‭ ‬االدين‭ ‬والأخلاقب‭. ‬كما‭ ‬صدر‭ ‬أمر‭ ‬بالقبض‭ ‬على‭ ‬المؤلف،‭ ‬ولكن‭ ‬فولتير‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬الفرار‭ ‬إلى‭ ‬دوقية‭ ‬اللورين‭ ‬المستقلة‭. ‬وتلقى‭ ‬بعدها‭ ‬دعوة‭ ‬من‭ ‬ملك‭ ‬بروسيا‭ ‬فردريك‭ ‬الأكبر،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحيط‭ ‬نفسه‭ ‬بالفلاسفة‭ ‬والأدباء‭ ‬والفنانين،‭ ‬وكان‭ ‬فولتير‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬نموذجاً‭ ‬للملك‭ ‬االمستبد‭ ‬المستنيرب‭. ‬وبالفعل‭ ‬وصل‭ ‬فولتير‭ ‬إلى‭ ‬برلين‭ ‬نحو‭ ‬عام‭ ‬1750،‭ ‬وخصص‭ ‬له‭ ‬الملك‭ ‬جناحاً‭ ‬في‭ ‬قصره‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬غادر‭ ‬فولتير‭ ‬ألمانيا‭ ‬استقر‭ ‬به‭ ‬المقام‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬فيروني،‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬ضواحي‭ ‬جنيف،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬حكام‭ ‬ألمانيا‭ ‬وفرنسا‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬وفد‭ ‬إليه‭ ‬كبار‭ ‬علماء‭ ‬وأدباء‭ ‬أوربا‭.‬

 

‭ ‬الوفاة

كانت‭ ‬زيارة‭ ‬فولتير‭ ‬الأخيرة‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬قبل‭ ‬وفاته‭ ‬بعدة‭ ‬أشهر،‭ ‬وأعلنت‭ ‬باريس‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬إجازة‭ ‬رسمية‭ ‬ونصَّبته‭ ‬الأكاديمية‭ ‬الفرنسية‭ ‬رئيساً‭ ‬لها‭. ‬وفي‭ ‬30‭ ‬مايو‭ ‬1778‭ ‬مات‭ ‬فولتير،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬بعام‭ ‬واحد‭. ‬ودفن‭ ‬في‭ ‬االبانتيونب‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬وهي‭ ‬مقبرة‭ ‬عظماء‭ ‬الأمة‭ ‬الفرنسية‭.‬

 

‭ ‬قضية‭ ‬آل‭ ‬كالاس

‭ ‬ترك‭ ‬فولتير‭ ‬تراثاً‭ ‬ضخماً‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬الشعر‭ ‬والرواية‭ ‬والفلسفة‭ ‬والتاريخ،‭ ‬كما‭ ‬ألَّف‭ ‬االمعجم‭ ‬الفلسفيب‭ ‬وشارك‭ ‬في‭ ‬الموسوعة‭ ‬االإنسكلوبيدياب‭ ‬مع‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬فرنسا‭ ‬آنذاك‭. ‬ويُعدُّ‭ ‬كتابه‭ ‬ارسالة‭ ‬في‭ ‬التسامحب‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مؤلفاته،‭ ‬وكان‭ ‬الدافع‭ ‬الرئيس‭ ‬لتأليفه‭ ‬هو‭ ‬إنصاف‭ ‬عائلة‭ ‬كالاس‭ ‬من‭ ‬الظلم‭ ‬الذي‭ ‬حاق‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬قضاة‭ ‬محكمة‭ ‬تولوز‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1762‭. ‬وفحوى‭ ‬هذه‭ ‬الواقعة،‭ ‬كما‭ ‬عرضها‭ ‬فولتير‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬الكتاب،‭ ‬أن‭ ‬العائلة‭ ‬كانت‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬تولوز،‭ ‬وتتألف‭ ‬من‭ ‬الأب‭ ‬جان‭ ‬كالاس‭ ‬وزوجته‭ ‬وولديه‭ ‬مارك‭ ‬وبيير‭ ‬وابنتيه‭ ‬وخادمة‭. ‬وكانت‭ ‬العائلة‭ ‬على‭ ‬المذهب‭ ‬البروتستانتي،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬معظم‭ ‬أهالي‭ ‬تولوز‭ ‬على‭ ‬المذهب‭ ‬الكاثوليكي‭. ‬وكان‭ ‬بيير‭ ‬قد‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬دون‭ ‬اعتراض‭ ‬والده،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬الخادمة‭ ‬التي‭ ‬تشرف‭ ‬على‭ ‬تربية‭ ‬أولاده‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاماً‭ ‬كاثوليكية‭. ‬وكان‭ ‬ابنه‭ ‬مارك‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬الاكتئاب،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يُفلح‭ ‬في‭ ‬التجارة،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الانضمام‭ ‬إلى‭ ‬سلك‭ ‬المحامين‭ ‬لأنه‭ ‬ليس‭ ‬كاثوليكياً،‭ ‬ولهذا‭ ‬قرر‭ ‬الانتحار‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬خسر‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬بحوزته‭ ‬من‭ ‬نقود‭ ‬في‭ ‬القمار‭. ‬وبالفعل‭ ‬شنقَ‭ ‬مارك‭ ‬نفسَه‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬أبواب‭ ‬البيت‭. ‬واحتشد‭ ‬أهل‭ ‬تولوز‭ ‬حول‭ ‬المنزل‭ ‬وصاح‭ ‬أحدُ‭ ‬الرعاع،‭ ‬قائلاً‭ ‬إن‭ ‬والده‭ ‬جان‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬شنقه‭ ‬ليمنعه‭ ‬من‭ ‬التحول‭ ‬إلى‭ ‬الكاثوليكية‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬صدَّق‭ ‬أهل‭ ‬تولوز‭ ‬هذه‭ ‬الفرية،‭ ‬وبلغت‭ ‬الشائعة‭ ‬قاضي‭ ‬المدينة‭ ‬فصدَّقها‭ ‬بدوره‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬دليل،‭ ‬وزجَّ‭ ‬بآل‭ ‬كالاس‭ ‬في‭ ‬السجن‭. ‬ودُفن‭ ‬مارك‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬مهيب‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الكنائس‭ ‬الكاثوليكية،‭ ‬واعتبره‭ ‬بعضهم‭ ‬شهيداً‭ ‬وقديساً‭. ‬وأخيراً‭ ‬قرر‭ ‬قضاة‭ ‬تولوز‭ ‬إعدام‭ ‬جان‭ ‬كالاس‭ (‬وعمره‭ ‬68‭ ‬عاماً‭) ‬بتقطيع‭ ‬أطرافه‭ ‬وعظامه‭ ‬على‭ ‬الدولاب،‭ ‬ونُفّذَ‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬التاسع‭ ‬من‭ ‬مارس‭ ‬1762‭. ‬كما‭ ‬أمرت‭ ‬المحكمة‭ ‬بنفي‭ ‬بيير‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬الأديرة‭ ‬وبالحجر‭ ‬على‭ ‬شقيقتيه‭ ‬داخل‭ ‬دير‭ ‬آخر‭. ‬وأُضيف‭ ‬لاحقاً‭ ‬فصلٌ‭ ‬آخر‭ ‬لكتاب‭ ‬ارسالة‭ ‬في‭ ‬التسامحب‭ ‬يتضمن‭ ‬عرضاً‭ ‬لآخر‭ ‬حكم‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬آل‭ ‬كالاس،‭ ‬وخلاصته‭ ‬أن‭ ‬زوجة‭ ‬جان‭ ‬تشجعت‭ ‬وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬المساعدة‭ ‬والعدالة‭. ‬

وتبنى‭ ‬قضيتها‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المحامين‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مقابل‭. ‬وهناك‭ ‬رواية‭ ‬تقول‭ ‬إنها‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬فيروني‭ ‬وقابلت‭ ‬فولتير‭ ‬الذي‭ ‬تبنى‭ ‬بدوره‭ ‬القضية‭. ‬وتمكن‭ ‬المحامون‭ ‬من‭ ‬استصدار‭ ‬قرار‭ ‬بإعادة‭ ‬المحاكمة‭ ‬لآل‭ ‬كالاس‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬وأمر‭ ‬مجلس‭ ‬الدولة،‭ ‬بموافقة‭ ‬الملك،‭ ‬بجلب‭ ‬ملف‭ ‬المحاكمة‭ ‬السابقة‭ ‬من‭ ‬تولوز‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭. ‬واستمرت‭ ‬جلساتُ‭ ‬إعادة‭ ‬المحاكمة‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭. ‬وفي‭ ‬التاسع‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬مارس‭ ‬1765‭ ‬صدر‭ ‬قرار‭ ‬محكمة‭ ‬باريس‭ ‬بإجماع‭ ‬القضاة‭ ‬بتبرئة‭ ‬جان‭ ‬كالاس‭ ‬وأسرته،‭ ‬وأجازت‭ ‬لآل‭ ‬كالاس‭ ‬مقاضاة‭ ‬قضاة‭ ‬تولوز‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬النفقات‭ ‬والتعويضات‭ ‬منهم،‭ ‬وعمَّت‭ ‬الفرحةُ‭ ‬أنحاء‭ ‬فرنسا‭. ‬ومن‭ ‬المصادفة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قرار‭ ‬البراءة‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬فيه‭ ‬إعدام‭ ‬جان‭ ‬قبل‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭.‬

‭ ‬

‭ ‬رسالة‭ ‬التسامح

‭ ‬ألَّفَ‭ ‬فولتير‭ ‬كتابَه‭ ‬ارسالة‭ ‬في‭ ‬التسامحب‭ ‬ونشره‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تُتخذ‭ ‬فيه‭ ‬إجراءات‭ ‬إعادة‭ ‬محاكمة‭ ‬آل‭ ‬كالاس‭ ‬في‭ ‬باريس‭. ‬وقد‭ ‬استهدف‭ ‬فولتير‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬التشهير‭ ‬بالحكم‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬بحق‭ ‬آل‭ ‬كالاس‭ ‬من‭ ‬قِبَل‭ ‬قضاة‭ ‬تولوز،‭ ‬وإيقاظ‭ ‬الشعور‭ ‬بالعدالة‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬وإعطاء‭ ‬دفع‭ ‬معنوي‭ ‬لقضاة‭ ‬باريس‭ ‬بفِكْره‭ ‬وتحليله‭ ‬العميق‭ ‬لكل‭ ‬جوانب‭ ‬القضية،‭ ‬بغية‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬وإنصاف‭ ‬هذه‭ ‬الأسرة‭ ‬المنكوبة،‭ ‬والتأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬جان‭ ‬كالاس‭ ‬ذهب‭ ‬ضحية‭ ‬التعصب‭ ‬الديني،‭ ‬وأن‭ ‬جريمة‭ ‬قتله‭ ‬قد‭ ‬اقترفت‭ ‬بسيف‭ ‬العدالة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬تولوز،‭ ‬وأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬المتهم‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬سوى‭ ‬فضيلته‭. ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عرض‭ ‬فولتير‭ ‬قضية‭ ‬آل‭ ‬كلاس‭ ‬تناول،‭ ‬بالنقد‭ ‬والتحليل،‭ ‬بعض‭ ‬جوانب‭ ‬موضوع‭ ‬التسامح،‭ ‬التاريخية‭ ‬منها‭ ‬والفلسفية‭ ‬والدينية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬ومنها‭:‬

1 ‭- ‬يقول‭ ‬فولتير‭: ‬لقد‭ ‬أعلن‭ ‬البروتستانت‭ ‬سابقاً‭ ‬العصيان‭ ‬المسلح‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المدن‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬عاملهم‭ ‬الكاثوليك‭ ‬معاملة‭ ‬سيئة‭. ‬والسؤال‭: ‬هل‭ ‬سيعلنون‭ ‬العصيان‭ ‬ثانية‭ ‬عندما‭ ‬يعاملهم‭ ‬هؤلاء‭ ‬معاملة‭ ‬حسنة؟‭ ‬يجيب‭ ‬فولتير‭ ‬بالنفي،‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬معين‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬مغاير،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أن‭ ‬أبناء‭ ‬الجيل‭ ‬الحالي‭ ‬ليسوا‭ ‬على‭ ‬همجية‭ ‬آبائهم،‭ ‬فعامل‭ ‬الزمن‭ ‬وتطور‭ ‬العقل‭ ‬وانتشار‭ ‬الثقافة‭ ‬واعتدال‭ ‬طبائع‭ ‬المجتمع،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬فعل‭ ‬فعله،‭ ‬فقد‭ ‬تغيرت‭ ‬الأزمان‭ ‬وتغيرت‭ ‬معها‭ ‬أساليب‭ ‬المعالجة‭. ‬لذلك‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬المعقول‭ ‬أن‭ ‬ندمر‭ ‬اليوم‭ ‬جامعة‭ ‬السوربون‭ ‬بحجة‭ ‬أنها‭ ‬تقدمت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬بعريضة‭ ‬طالبت‭ ‬فيها‭ ‬بحرق‭ ‬جان‭ ‬دارك‭.‬

2 ‭- ‬يتحدث‭ ‬فولتير‭ ‬عن‭ ‬التسامح‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬بلدان‭ ‬الشرق‭ ‬الأقصى،‭ ‬ويقول،‭ ‬مثلاً،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬إمبراطور‭ ‬الصين‭ ‬يونغ‭ (‬ت‭: ‬1735‭) ‬قد‭ ‬طرد‭ ‬الرهبان‭ ‬اليسوعيين‭ ‬من‭ ‬بلاده،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬نتيجة‭ ‬الاضطهاد‭ ‬الديني،‭ ‬وإنما‭ ‬لأن‭ ‬هؤلاء‭ ‬أثاروا‭ ‬الشغب‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬بسبب‭ ‬مشاحناتهم‭ ‬مع‭ ‬الرهبان‭ ‬الدومنيكان‭. ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬اليابان،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬أهلها‭ ‬أكثر‭ ‬الناس‭ ‬تسامحاً،‭ ‬وتعايشت‭ ‬فيها‭ ‬اثنتا‭ ‬عشرة‭ ‬ديانة‭ ‬بأمان‭ ‬وسلام،‭ ‬ولكن‭ ‬عندما‭ ‬جاء‭ ‬اليسوعيون‭ ‬رفضوا‭ ‬بقية‭ ‬الأديان،‭ ‬وتسببوا‭ ‬في‭ ‬نشوب‭ ‬حرب‭ ‬أهلية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬زالت‭ ‬المسيحية‭ ‬من‭ ‬اليابان،‭ ‬وأغلق‭ ‬اليابانيون‭ ‬إمبراطوريتهم‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬بقية‭ ‬العالم‭. ‬وهذا‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬النتائج‭ ‬الخطيرة‭ ‬للتعصب‭ ‬الديني‭. ‬

3 ‭- ‬يقول‭ ‬فولتير‭: ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تُوفّْر‭ ‬معاهدة‭ ‬وستفاليا‭ (‬التي‭ ‬عُقدت‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1648‭ ‬بعد‭ ‬حروب‭ ‬دينية‭ ‬استمرت‭ ‬عشرات‭ ‬السنوات‭) ‬حريةَ‭ ‬المُعْتقد،‭ ‬لكانت‭ ‬ألمانيا‭ ‬اليوم‭ ‬صحراء‭ ‬تغطيها‭ ‬بقايا‭ ‬عظام‭ ‬البروتستانت‭ ‬والكاثوليك،‭ ‬الذين‭ ‬ذبح‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضاً‭. ‬ويؤكد‭ ‬فولتير‭ ‬أن‭ ‬خير‭ ‬وسيلة‭ ‬للتخفيف‭ ‬من‭ ‬هوس‭ ‬المتعصبين‭ ‬دينياً‭ ‬اعتماد‭ ‬العقل‭ ‬الرشيد‭ ‬الذي‭ ‬يحث‭ ‬على‭ ‬خنق‭ ‬الفتنة‭ ‬في‭ ‬المهد‭ ‬والتمسك‭ ‬بالفضيلة‭.‬

4 ‭- ‬يرى‭ ‬فولتير‭ ‬أن‭ ‬التعصب‭ ‬الديني‭ ‬يخالف‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية،‭ ‬فالمبدأ‭ ‬الأساس‭ ‬لكل‭ ‬القوانين‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أرجاء‭ ‬المعمورة،‭ ‬وهو‭ ‬اعامل‭ ‬الآخرين‭ ‬بالطريقة‭ ‬التي‭ ‬ترغب‭ ‬أن‭ ‬يعاملك‭ ‬الآخرون‭ ‬بهاب‭. ‬وانطلاقاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القانون،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬فولتير،‭ ‬لا‭ ‬يحق‭ ‬لإنسان‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬لإنسان‭ ‬آخر‭: ‬اتخلَّ‭ ‬عن‭ ‬دينك‭ ‬واعتنق‭ ‬ما‭ ‬أؤمن‭ ‬به‭ ‬وإلا‭ ‬مصيرك‭ ‬القتل‭ ‬أو‭ ‬الموتب‭.‬

5 ‭- ‬يشير‭ ‬فولتير‭ ‬إلى‭ ‬التسامح‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬القديمة،‭ ‬ويقول‭ ‬إن‭ ‬الشعوب‭ ‬كانت‭ ‬تحترم‭ ‬آلهة‭ ‬بعضها‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬حرب،‭ ‬فالطرواديون‭ ‬كانوا‭ ‬يُصَلون‭ ‬لآلهة‭ ‬أعدائهم‭ ‬الإغريقي‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬قتالهم‭. ‬وعندما‭ ‬غزا‭ ‬الإسكندر‭ ‬المقدوني‭ ‬مصر‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬الصحراء‭ ‬الليبية‭ ‬لاستشارة‭ ‬الإله‭ ‬المصري‭ ‬آمون‭. ‬ويَخْلص‭ ‬فولتير‭ ‬إلى‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬الدين‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬الحرب‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬البشر‭.‬

6 ‭- ‬يتحدث‭ ‬فولتير‭ ‬عن‭ ‬التسامح‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الروماني،‭ ‬حيث‭ ‬ينفي‭ ‬تعرض‭ ‬المسيحيين‭ ‬للاضطهادات‭ ‬الدينية،‭ ‬لأن‭ ‬الحرية‭ ‬الدينية‭ ‬كانت‭ ‬مباحة‭ ‬في‭ ‬الإمبراطورية‭. ‬ويؤكد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬عانى‭ ‬منه‭ ‬المسيحيون‭ ‬من‭ ‬قتل‭ ‬وتعذيب‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لأسباب‭ ‬دينية،‭ ‬بل‭ ‬لأمور‭ ‬تتعلق‭ ‬بأمن‭ ‬الدولة‭ ‬الرومانية،‭ ‬فبعض‭ ‬المسيحيين‭ ‬احتقروا‭ ‬آلهة‭ ‬الرومان‭ ‬وقوَّضوا‭ ‬معابدَهم‭ ‬ومزقوا‭ ‬مراسيم‭ ‬الأباطرة‭. ‬ويضيف‭ ‬فولتير‭: ‬لو‭ ‬صحَّ‭ ‬أن‭ ‬الرومان‭ ‬اضطهدوا‭ ‬المسيحيين‭ ‬لِمَا‭ ‬وجدنا‭ ‬أساقفة‭ ‬الرومان‭ ‬الأوائل‭ ‬ينعمون‭ ‬بالأمن‭ ‬والسلامة،‭ ‬ولَما‭ ‬سمح‭ ‬الرومان‭ ‬بعقد‭ ‬المجالس‭ ‬الكنسية،‭ ‬ولِمَا‭ ‬تمكن‭ ‬المسيحيون‭ ‬من‭ ‬التبشير‭ ‬بدينهم‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬الإمبراطورية‭. ‬ويقول‭: ‬لو‭ ‬فرضنا‭ ‬أن‭ ‬الأباطرة‭ ‬اضطهدوا‭ ‬المسيحيين‭ ‬بسبب‭ ‬دينهم،‭ ‬فالرومان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬مدانون،‭ ‬فهل‭ ‬نريد‭ ‬اقتراف‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الظلم‭ ‬بدورنا؟

7 ‭- ‬يؤكد‭ ‬فولتير‭ ‬أن‭ ‬السيد‭ ‬المسيح‭ ‬لم‭ ‬يضع‭ ‬قوانين‭ ‬دموية،‭ ‬ولم‭ ‬يأمر‭ ‬بالتعصب‭ ‬أو‭ ‬ببناء‭ ‬سجون‭ ‬محاكم‭ ‬التفتيش،‭ ‬ولم‭ ‬يُنصّب‭ ‬جلادي‭ ‬المحارق،‭ ‬بل‭ ‬توسل‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬كي‭ ‬يغفر‭ ‬لأعدائه‭.‬

8 ‭- ‬يختتم‭ ‬فولتير‭ ‬رسالته‭ ‬بدعوة‭ ‬المسيحيين‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬متسامحين‭ ‬مع‭ ‬بعضهم‭ ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬أصحاب‭ ‬الأديان‭ ‬والعقائد،‭ ‬ويقول‭: ‬إنها‭ ‬جسارة‭ ‬لامتناهية‭ ‬أن‭ ‬نحكم‭ ‬باللعنة‭ ‬الأبدية‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يفكر‭ ‬على‭ ‬منوالنا‭.‬

لقد‭ ‬أحدث‭ ‬كتاب‭ ‬فولتير‭ ‬ارسالة‭ ‬في‭ ‬التسامحب‭ ‬تأثيراً‭ ‬عميقاً‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الفرنسي‭. ‬وأسهم‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬عامة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دعوته‭ ‬إلى‭ ‬التسامح‭ ‬والحرية‭ ‬وتحكيم‭ ‬العقل‭ ‬ونبذ‭ ‬الخرافات‭ ‬والأساطير،‭ ‬وبيَّن‭ ‬أن‭ ‬التعصب‭ ‬يتنافى‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة‭ ‬الإنسانية‭ ‬وجوهر‭ ‬الأديان‭. ‬ولعبت‭ ‬أفكارُه‭ ‬وأفعالُه‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬التمهيد‭ ‬للثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬وصوغ‭ ‬أهدافها‭ ‬في‭ ‬الحرية‭ ‬والمساواة‭ ‬والإخاء‭. ‬ويمثل‭ ‬قوله‭ ‬المشهور‭ ‬اإني‭ ‬أخالفك‭ ‬الرأي‭ ‬ولكني‭ ‬أدافع‭ ‬عن‭ ‬حقك‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬وحرية‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬أفكارك‭ ‬حتى‭ ‬الموتب،‭ ‬دعوة‭ ‬دائمة‭ ‬للتسامح‭ ‬والحرية‭ .