في الذكرى الــ 125 لميلاد شاعر تتارستان: ربيع «طوقاي» يتجدد

في الذكرى الــ 125 لميلاد شاعر تتارستان: ربيع «طوقاي» يتجدد
        

          بحيرة قابان التي تجمدت مياهها بين شاطئي مدينة قازان ذاب ثلجها. التماثيل التي تقف وحيدة في ميادينها الفسيحة التفت الجموع حولها. شعراء شعوب أمة الترك، تتارًا وأتراكًا وغيرهم تباروا في إلقاء الشعر مديحًا لذكرى الشاعر القومي للتتار عبدالله طوقاي (1886-1913م)، الذي تمر هذا العام 125 سنة على ميلاده، وتحل بعد عامين الذكرى المائة على رحيله. هذا الشاعر الذي رحل شابا يافعا لايزال يلهم الجميع، بين مترجمين ينقلون أبياته عن التترية إلى الروسية، ويقدمون أشعاره بالتركية، ويطبعون دواوينه بالفارسية، وييسرونها للأطفال بالعربية. أما الفنانون، فهناك رسامون يعيدون صياغة حكاياته بالألوان، وممثلون يشاركون في إعادة تقديم سيرته الذاتية، ومطربون يغنون له وعنه، وعازفون يداعبون أوتار آلاتهم احتفاء به.

          إنه الربيع المتجدد، وقد اختاروا من يوم مولده - السادس والعشرين من أبريل -أن يكون عيدًا للشعر والأدب في جمهورية تتارستان، إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية. يستهل الاحتفال بالشاعر، ويختتم بتكريم من يسيرون على دربه مبدعين في الفنون والآداب.

          يبدأ النهار بشمس تودع الشتاء للأبد، معلنة قدوم ربيع طوقاي مع مراسم وضع الزهور على تمثال الشاعر الراحل في ميدان دار الأوبرا، التي أطلق عليها اسم الموسيقار الكبير موسى جليل. رستم ميننيخانوف رئيس جمهورية تتارستان ونائبة رئيس الوزراء زيليا فاليفا، ووزير الثقافة الروسي ألكسندر أفدييف، ووزير الثقافة في تتارستان أيرات سيباغاتوللين يتقدمون الجميع لوضع أكاليل الزهور في تقليد شارك فيه كل سكان قازان، ومع السيدة فاليفا، مرة أخرى، تتكرر مراسم وضع الزهور أمام تمثال ثانٍ لطوقاي في الطرف الآخر من الميدان. نتناول الشكشك، وهو حلوى شعبية تشبه «المشبك» مع الخبز، ثم نعبر موكبًا من النساء والرجال وهم يرتدون الأزياء الشعبية التترية، وبين حين وآخر تظهر لنا فتصافحنا شخصية من شخصيات طوقاي الأسطورية، وهي تشارك بأقنعتها في البهجة، قبل أن يقف الجميع منصتين لكلمة فاليفا تدشن الحفل الجماهيري أمام الآلاف المحتشدة لسماع الشعر، ومتابعة العروض الراقصة.

          غير بعيد عن تمثال طوقاي، تقف أم مع طفليها، الفتاة ولدت في ذكرى مولد طوقاي، وأنجب الصبي في ذكرى يوم وفاة الشاعر، أصبح من الفولكلور أن يشاركا بثيابهما الزاهية كأيقونتين للحضور والرحيل، ومعهم أجيال كبيرة تذكر أيام طوقاي، الذي عاش يتيمًا، في كنف أكثر من أسرة، ثم درس الأدب واللغات، وأحيا تراث أمته، فأعاد صياغة أساطيره، ودعا وهو يعمل صحفيًا في جرائد واكبت التهام الاتحاد السوفييتي لقوميته، فناضل، وقد كتب الشعر، ولكنه ناضل أيضًا بالنثر، فكانت مقالاته دعوة لإحياء الفنون، واللغة، ولكنه لو عاد اليوم لآلمه أن الأبجدية الشبيهة بالحروف العربية التي كان يكتب بها قد استبدلت مرتين، لتكتب التترية اليوم بالأبجدية الروسية، خاصة أن الروسية هي اللغة الرسمية في روسيا، وإحدى اللغات الرسمية في «الأمم المتحدة» وكبرى اللغات الأم في أوربا.

روح قلقة

          «التردد والشّك» هو عنوان إحدى قصائد طوقاي، وهو ملمح مهم لتلك الشخصية التي تفجرت إبداعًا في حيز زمني محدود، يقول في تلك القصيدة:

          ريثما أسمع شخشخة، تصل روحي إلى حلقومي/ أظنّه الضمير قد بدأ يؤنبني / مندهش أنا: لم أعمل حسنات لا صباحًا ولا مساءً/ يأمرني الشيطان كل مرة بمهمة / كم عانيت في هذه الدنيا، ماذا فعلت؟ / أرى، كيف أني فقدت الأثر وانحرفت عن الطريق/ أغني، ولكن هل هناك فائدة لمن غنَّى أغانيه للشعب؟ / من أين يأتي الإلهام لي - من الملاك أم من الشيطان؟ / الحقيقة أنني مريض بالشعر، وحسبي عندما أكتب شعرًا، أن تقف أمامي ملائكة الجنَّة، فتصبح كل ورقة شعر أكتبها روضة، وأظنّ أني أمجِّدُ اسمي بهذه  التفاهات / لست راضيًا عن نفسي وكتاباتي/ تبدو لي دائمًا أنها غير مكتملة / أحيانًا أفقد الأمل في السعادة، ولكن فجأة تظهر في السماء نجمة المستقبل/ تضيء السماء/ فتبعثُ الأمل الملهم للروح/ كأنها محبوبتي اللطيفة قَدّمَتْ إليّ، لتمسح دموعي.

          ويبدو جليًا حيرة الشاعر المسلم، الذي يتكئ على تراث أمة عذبها إسلامها فاضطهدت، ولكن بحث عبد الله طوقاي عن هويته مبكرًا، هو ما جعله يوقن بأن الدين جزء أصيل من تلك الهوية، ولذلك رأيت اليوم في تتارستان، بالرغم من حرمان تلك الأمة من حقوقها الدينية خلال فترة الاتحاد السوفييتي، وحتى قبل عقدين وحسب، أن هناك نهضة تسير على طريقين متوازيين، الأول يستنهض الإسلام معمارًا، وآثارًا، ولغة عربية، وتراثًا، والثاني يأخذ من روح الإسلام النظرة للأمام، والنهضة، كما عبرت لي الدكتورة جيزيل فاليفا سليمانوفا، التي نهجت مسار أبيها في دراسة التاريخ، وهي ترى في الحفاظ على إيجابيات هذا التاريخ دافعًا لتلك النهضة. وعندما تشاركنا في تقديم الكلمة الافتتاحية لمعرض الفن التشكيلي في كرملين قازان، قلت إننا نتذكر اليوم طوقاي الذي أحب الحياة بالرغم من رحيله الباكر، وقالت إن علينا أن ننظر في باقي آثاره الداعية لدعم الفنون لنؤكد هذا التوجه، إنه الأمل الذي بثه طوقاي مجددًا في الحياة:

          أشرقي، يا نور أفكاري! وارحلي بعيدًا يا غيوم/ أيقظي الضمير الميت، وادفئيه بأشعتك/ سأكون تائهًا، إن لم توصليني إلى الطريق الصواب / أنا محاصر بلهيب الفتنة إذا لم تطفئيه أنت / أنا في هاوية الموت، لا خلاص، إن لم تخلصيني أنت / إن لم ترمي لي حبل النجاة، فلا شيء ينجي/ يا نور أفكاري! شمعتي أنتِ في كل مكان! ما الفائدة منك يا شمسي! إن لم ترسلي لي أشعتك/ أظهري وجهك / دعي الأيام الجميلة تأتي/ أنا الآن في ظلام، فليرحل الليل العاتم/ لا آكل الخبز ولكن أبتلع الحجارة/ لا أشرب الماء، وإنما السموم/ وإن وقفت على الأرض الصلبة، غاصت أقدامي/ إني أتقزّز عندما أمسك ضفدعًا عوضًا عن الطيور/ الظلام دامس، فأكاد لا أرى يميني من شمالي/ بل وأصادق العدو وأطعن في الصديق الوفي/ لكي تعود روحي أضيئي لي الطريق/ ألن تساعديني في العثور على الأثر؟ لا، يا شمسي، إني أعلم أنك لن تغيبي إلى الأبد/ أنت، الضمير فاستيقظي، لن تنامي إلى الأبد/ لا، لن تسقط الروح/ ستظل دائمًا في الذرى/ الصدفة وحدها تسقط النّسر في الحفر.

على طريق طوقاي

          برنامجي الحافل الذي أعدّته السيدة رئيسة صافيولينا مديرة القسم الخارجي بوزارة الثقافة جعلني أضع عالم طوقاي بين كفيَّ. البداية كانت حين زرت متحفًا يحمل اسم الشاعر الكبير وقد كان البناء الذي يعود للقرن التاسع عشر بيتًا من بيوت التجار الكبار فتبرع به للدولة ورممته وزارة الثقافة ليصبح معلمًا يعيد رسم رحلة طوقاي في طابقيه.

          حدّثني مدير المتحف الشاعر راميس كياموف عن أقسام المتحف التي أعدت لتقدم صورة لعصر طوقاي ورحلته القصيرة والثرية وطرق العيش البسيطة، والزي، ثم حضرنا افتتاح ندوة دولية أمّها تتار العالم الذين يتوزعون في أكثر من بلد، ومنهم جالية فنلندية كبيرة ألقى رئيسها كلمة مؤثرة عن حياة الأجيال الجديدة هناك، وقد أثارتني كلمته، وعدت فبحثت على «اليوتيوب» لأرى برنامجًا كاملاً عن حياة هؤلاء الذين هربوا من طغيان ستالين، سواء من تتارستان، أو من جزيرة القرم في كرواتيا الحالية، فنجوا بدينهم وحياتهم، وهاهم يعودون مكرمين لبلدهم الأم في ذكرى شاعرهم القومي، بعد أن تأكد لساسة روسيا أن الاحتفاء بالقوميات العرقية وتكريمها هو أكبر دعم للوحدة، وما أدل على ذلك من إقامة روسيا - أثناء وجودنا في قازان - تمثالاً للشاعر طوقاي بمركز مدينة موسكو، واستضاف مسرح بوشكين عرضًا مسرحيًا من وحي إبداعه يحمل عنوان «بيتشان بازار»، وهو اسم سوق تقليدي في مدينة قازان شكل تجمعًا ثقافيًا وتجاريًا في المدينة التترية، ولهذا السوق ذكرى سيئة في حياة الشاعر عبدالله طوقاي. ففيه دفع ضيق العيش بأهله للتخلي عنه ليربيه غرباء.

          ثم كان لقاؤنا على مركب عائم بنهر الفولجا الذي تطل عليه قازان مع الشاعرة ليليا ريفكاتوفنا عزيزوفا التي ترجمت «أنطولوجيا» للشاعر عبدالله طوقاي من التترية إلى الروسية، وبعد ذلك كانت هناك أمسية تكريمية للفائزين بجوائز الدولة للإبداع، قدمتها لهم شخصيات مرموقة، تزامن ذلك مع ربيع طوقاي المتجدد. وكان هناك عرض أوبرالي آخر كتبه الشاعر رينات خاريس عن سيرة طوقاي، التي بدأت في قرية صغيرة مثل قيرلاي، ومرت بمدينة عريقة عمرها أكثر من ألف سنة مثل قازان، وانتهت في حاضرة الفنون الروسية سانت بطرسبرج. ومع مساء بارد قادتنا الخطى على تخوم قازان لنستمع إلى صبية صغيرة عمرها 8 سنوات وحسب، اسمها ليانا حبيبولينا، تؤلف مقطوعات وتعزف على البيانو، وقد استخدمت ألحانها في عروض كثيرة تحتفي بطوقاي. وأسعدنا كذلك أن نرى عرضًا مسرحيًا يحمل اسم «البيت الغربي» ترجمته إلى الإنجليزية على الهواء مباشرة في أسماعنا الدكتورة إلميرا بيرم علي، يحكي عن ثلاثة أجيال في بيت واحد، تود السيدة الهجرة مع ابنها الشاب، وأمها العجوز بحثًا عن فرصة عمل خارج تتارستان. الشاب يحب جارته ولكنه لا يجرؤ على التصريح بحبه لها، والجدة يحبها مسنون في مثل عمرها، بين جار كثير النسيان، وساعي بريد ثائر، وزميل عمل عاشق، وصديق قديم، وهم يحاولون خطب ود الجدة، بل وطلب الزواج منها، في إطار كوميدي، كي تبقى. إنها بالنسبة لهم روح تترية خالصة لا يجب أن تغيب عن مكانها. ولكن ما فشل فيه الأربعة، تنجح فيه الفتاة صديقة الشاب، الجيل الجديد هو قائد التغيير، وهو الذي يصر على البقاء للبناء. يرفض الشاب السفر مع أمه، فترضخ للبقاء، الجميع سيشاركون البناء، وهنا يكون بناء للبيت الشرقي، لا هجرًا له من أجل البيت الغربي.

          بعد الحفل نسير مع المترجمة إلميرا بيرم علي لنفتتح معرض التتار بعدسة زوجها المصور رفعت يعقوبوف، ثم نلتقي بابنتها واسمها «ظريفة» في صباح اليوم التالي، حين دعتني جامعة الدولة للعلوم الإنسانية للقاء مع دارسي اللغة العربية هناك، ولم يغب طوقاي عن الحديث، خاصة أنهم يعرفون أنني ترجمت ملحمته «شورالي» للأطفال، وأصدرتها مجلة «العربي الصغير» في كتاب وزع مجانًا مع العدد في 128 ألف نسخة، وكانت إحدى نسخ هذه الترجمة قد ادّخرتها لأهديها إلى رئيس الجمهورية الذي شكرني على المشاركة في ربيع طوقاي بترجمته إلى اللغة العربية.

 

وصية طوقاي

          ولعلني حين طويت أوراق الرحلة، أقرأ في سطورها الأخيرة وصية طوقاي:

          يا روحي المطمئنة عودي / اذهبي، وارجعي إلى الله، إذا كنتِ قبلُ ذلك مدبرة، فعليك الآن أن تنظري إليه/ أصدقائي وأهلي، قولوا لأئمة المساجد/ إن مِتّ، أن يقرأوا هذه الأبيات على قبري/ليندهش أولئك الذين ظنّوا أني كنت ملحدًا،/ ولينظروا كيف امتلأ صدري إيمانًا وقرآنًا.

--------------------------------

لقد كانَ لي قلبٌ شفوقٌ وأدتُهُ
                              فَوَاراه من ليلِ التباريحِ غيهبُ
فلا ظبية الوادي تعنّ ببالِهِ
                              ولا ودّه بالقصرِ لمياءُ تخطبُ
وإنّي نسيتُ اليومَ أمسي ، فَلَمْ أعد
                              لتطراقِ طيفِ الشركسياتِ أطربُ

عِرَار

 

أشرف أبواليزيد   

 




قازان القديمة، المطلة على بحيرة قازان بعد أن ذاب وجهها المتجمد





عبد الله طوقاي





زيليا فاليفا تقدم حلوى الشكشك لكبار الضيوف





لقاء تلفزيوني مع طفلين ولدا في ذكرى يومي ميلاد ووفاة عبدالله طوقاي





ليانا حبيبولينا تعزف لطوقاي على البيانو مع نظرة إعجاب من والدتها





الشاعر رينات خاريس الذي كتب ملحمة أوبرالية لسيرة طوقاي





طالبات تتاريات يدرسن اللغة العربية في جامعة الدولة للدراسات الإنسانية





الشاعر راميس كياموف مدير متحف عبد الله طوقاي أمام مسيرة مصورة





أشرف أبو اليزيد يقدم نسخة «شورالي» .. للشاعر طوقاي المترجمة إلى العربية بسلسلة كتاب «العربي الصغير» إلى رئيس جمهورية تتارستان رستم ميننيخانوف