غراس... مدينة العطر والجمال

غراس... مدينة العطر والجمال

إنها مدنية صغيرة تشبه إحدى أساطير الحكايات، ليس فقط لأنها معبَّقة بالعطر الذى يدهمك أينما كنت أو ذهبت، ولكن أيضاً لجغرافيتها وتاريخها... هي بلدة غراس التي تقع في مقاطعة بروفانس بجنوب فرنسا، على بعد 20 كيلومتراً من مدينة السينما الفرنسية «كان»، وهذه البلدة رفضت أي نوع من أنواع المعاصرة والحداثة، فكلما تجولت بها تشعر بعبق التاريخ، فالشوارع مبلطة بالبازلت, المباني قديمة، أزقتها عتيقة متعرجة، المقاهي والحوانيت لم تتجدد منذ نشأتها ومازالت تحتفظ بجمالها ورونقها.

على مرمى البصر، يمتد الشريط الساحلي للمدينة في شكل حدوة حصان، تعانقه الحقول المثمرة بمختلف أنواع الأزهار, أشهرها  الخزامى (اللافندر) والياسمين وزهور البرتقال، وهناك أيضاً أنواع كثيرة من الزهور النادرة، وحازت غراس بجدارة لقب عاصمة العطور في العالم، لتاريخها الطويل في هذه الصناعة، الذي بدأ في القرن السادس عشر واستمر حتى الآن. 
ومنذ ذلك الحين وهي تعد المدينة الأولى في العالم في إنتاج المواد الخام، حيث تنتج سنوياً أطناناً من الزيوت العطرية، وذلك بعد عملية قطف الزهور وجمعها ثم عصرها لاستخلاص زيتها، وفي النهاية تصدر هذه الزيوت لشتى بلدان العالم حتى تدخل كعنصر أساسي في صناعة العطر. ولا تستطيع أي مدينة في العالم أن تضاهي غراس، سواء في إنتاج العطر أو في تقنية استخلاصه، التي تعتمد على عدد كبير من الباحثين والنباتيين وصنَّاع العطور من أكبر علماء الكيمياء في العالم، الذين يوجدون فيها باستمرار ويشرفون على العمل بجميع تفاصيله، منذ بدء غرس البذرة في الأرض حتى تغليف قارورة العطر في علبتها الكرتونية الأنيقة.
ومن المثير للدهشة حقاً، أن هذه القرية الصغيرة كانت تعرف في الماضي بقرية الروائح النتنة، لانتشار مدابغ الجلود فيها، حتى أن عمليات دبغ الجلود كانت تقام في الشوارع والطرقات، وكان أكثر سكانها يمتهنون مهنة دباغة الجلود، وفي محاولة منهم لتحسين روائح القفازات المطاطية التي كانوا يستعملونها في أثناء عملية الدبغ، استعانوا بالأعشاب البحرية التي كان يلفظها الساحل في تعطير قفازاتهم، ومن ثم نشأت صناعة جديدة هي صناعة القفازات المعطرة، وبعد ذلك قررت المدينة استخدام هذه الأعشاب العطرة والترويج لها، وهكذا تحولت غراس من النقيض إلى النقيض، فمن الروائح الكريهة إلى الروائح العطرة الفواحة، بل كانت الرائحة الكريهة أحد أسباب إنتاج العطر، فلولا عمل سكانها في دباغة الجلود وفي محاولة منهم لتحسين روائحهم، لما كانت غراس هي عاصمة العطر الآن.
وفي فترة قصيرة حدثت طفرة واسعة في زراعة الزهور مختلفة الأشكال والأنواع فيها، حيث وصل عدد العائلات التي تقوم بزراعة أراضيها إلى حوالي 2000 عائلة في عام 1925، ومع الوقت تقلص هذا العدد لتبقى منه عائلات قليلة لها أسماء رنانة وتاريخ طويل، ظلت هي المسيطرة على أسواق العطور في المدينة، من أشهرها عائلة «مول»، التي تعمل في زراعة الزهور منذ أكثر من قرنين وتوزع المهام على جميع أفراد العائلة، بدءاً من عملية الزراعة مروراً بالإشراف على الحقول وجمع الزهور اليانعة ثم تقطيرها، بالإضافة لأعمال الإدارة والتصدير. وقد أفردت عائلة «مول» مزارعها ومصانعها لعطور «شانيل» فقط، التي تحتاج إلى 120 طناً من الزهور سنوياً من إجمالي 350 طناً تنتجها مدينة غراس. وتعتبر «شانيل» السبب الرئيس في شهرة وثراء عائلة «مول»، التي أصبحت بدورها ثابتة على التقاليد الزراعية القديمة وإنتاج البذور الأصلية للورد والياسمين، ما أكسب عطور «شانيل» الثبات والتميز الخاص بها، فلم تتغير أو تتبدل على مدار السنين. 
وتستيقظ هذه البلدة مبكراً جداً ويخرج سكانها، وأغلبيتهم يعملون في قطف الزهور، ينتشرون في الحقول يعملون بكد وجهد في قطف المحصول اليومي للزهور، التي يتحتم جمعها قبل الثامنة صباحاً، لأن العطر يكون في أقصى درجات فواحه في ذلك الوقت. ونرى العاملات المدربات وهن يقطفن الزهور بسرعة فائقة وبمهارة وحرفية شديدتين، وكل عاملة تقطف حوالي 7 - 8 كيلوجرامات في الساعة، وعكس الياسمين الذي لا يقطف منه أكثر من كيلوجرام في ساعة واحدة، بسبب دقة وصعوبة عملية قطفه، ومن أكثر الزهور جمالاً «السانتيفوليا» الــــتــــي لها رائحة مميزة، ولا يزهر هذا النوع سوى في شهر مايو من كل عام، لذلك أطلق عليه زهور مايو، وهناك أيضاً ياسمين كبير الأزهار Jasminum Gravdi Florum، وهو لا ينتج إلا في حقول عائلة «مول» وخصيصاً لمصانع «شانيل»، حيث يدخل في تركيبة العطر الأكثر شهرة في العالم منذ إنتاجه حتى الآن (شانيل رقم خمسة)، وتنتجه مزارع العائلة منذ 100 عام من دون توقف، وزراعته دقيقة ومرهقة، فهو لا يتحمل الحرارة الشديدة أو البرودة، ويحتاج استخلاص كيلوجرام واحد من زيته العطري إلى 8000 ياسمينة، في حين لا يحتاج كيلوجرام الزيت من الورد لأكثر من 400 وردة، لذلك ليس من المدهش أن يعتبر «شانيل رقم خمسة» العطر الأعلى سعراً وجمالاً من بين جميع العطور. ومن المعروف أن «كوكو شانيل» هي سيدة الموضة في فرنسا والعالم، واقترن اسمها بالأزياء والعطور وأدوات التجميل، ووضعت بصمتها الخاصة على ملابس السيدات في القرن الماضي، حيث كانت ملابس السيدات يغلب عليها التكلُّف والتعقيد، وحولتها لأكثر رقة وبساطة لتناسب العصر وتتماشى معه ولا تعيق المرأة العصرية في مهامها، وسرعان ما اتجهت لصناعة العطور. استعمل عطور «شانيل» عدد كبير من أشهر نساء العالم، منهن نجمة الإغراء مارلين مونرو، التي سئلت ذات يوم: ما الذي تفعلينه عندما يخاصمك النوم؟ فردت بعفوية: أضع بضع قطرات من عطر «شانيل رقم خمسة»، وأيضاً استعملت هذا العطر الممثلة كاترين دونوف وكارول بوكيه. 
ويتساءل البعض: لماذا هذا العطر بالذات؟ لأنه مختلف عن أى عطر آخر، فقد أرادت المرأة الأكثر أناقة في العالم، التي تتسم بالقوة والإرادة الحديدية، أن تنتج عطراً يشبهها ويحمل اسمها، ولم تكن لترضى بأي عطر، وهي التي تؤمن بمقولة الشاعر بول فاليري: «إن المرأة التي لا تتعطر لا مستقبل لها»، وكثيراً ما أكدت أن شخصية المرأة تبدأ بعطرها، وهذه النقطة من العطر التي توضع خلف الأذن أو فوق الرسغ لها أكبر الأثر, حيث استدعت «كوكو شانيل» الكيميائي الروسي الشهير آرنست بو وطلبت منه استخراج تركــــيبة خاصـــــة ومميــــزة لعطــــر يحمل اسمها، فأنتج لها 5 تركيبات مختلفة استعمل فيها بالإضافة للياسمين ثمانين نوعا مختلفاً من الزهور، ولم يعجبها من هذه التركيبات سوى رقم خمسة، ومن هنا جاءت تسمية العطر، وتم طرحه في الأسواق عام 1921، وبعدها أنتجت عطوراً عدة تحمل أرقاماً وأسماء مختلفة، منها «شانيل 19» وهو يوم مولدها، ولكن «شانيل رقم خمسة» هو أكثرها شهرة وجمالاً.
وبالعودة مرة أخرى لمدينة العطر والجمال، نجد أنها بالإضافة لمصنع شانيل الشهير، هناك مصانع عدة للعطور لا تقل شهرة عنه، كمصنع كرستيان ديور وايف سان لوران، وفرغوانار، ويطلق على المطاعم والمقاهي والشوارع أسماء ماركات العطور الشهيرة، فهذا مطعم شانيل، وهذا مقهى كريستيان ديور... وهكذا، بالإضافة إلى أن هذه المدينة كانت مسرحاً لأحداث رواية «العطر» الشهيرة للكاتب الألمـــــاني باتريك زوسكيند، التي تحولت لفيلم سينمائي شهير يحمل الاسم نفسه، وصورت مشاهده في مدينة غراس. وتنظم شركات السياحة رحلات يومية للسياح من مختلف بلدان العالم لزيارة هذه المصانع ومشاهدة عملية تصنيع العطر على الطبيعة، فيستقبلك العمال في مصانع العطور بثيابهم الفلكلورية وقبعاتهم الخوصية فوق رؤوسهم وبالابتــــــسامة التي تغادر وجوههم, وفي غراس أيضاً أكبر متحف عطور في العالم، وعدد كبير من مصانع الصابون بروائحه العطرة.
وتحولت غراس في السنوات الأخيرة لمدينة سياحية من المقام الأول، فتستقبل ما يزيد على مليوني سائح في العام، على الرغم من أن طاقتها الاستيعابية لا تتحمل كل هذا العدد، ولكن شهرة المدينة في إنتاج العطر والترويج لها بشكل جيد على الخريطة الفرنسية أديا إلى اتجاه السياح صوبها، فسحبت البساط من تحت أقدام مدن أخرى، وأصبحت عنواناً رئيساً في مفكرة السائح. 
وقد تتكرر هذه الزيارة مرات أخرى، فغراس من دون شك من أجمل المدن, صباحاً تفوح روائح حقولها العطرة ويعمل أهلها بجد وجهد، وليلاً تتراص الطاولات والمقاعد على أرصفة المقاهي والمطاعم، ويخرج أهلها بعد يوم عمل شاق للحانات والمقاهي، وتمتلئ أرجاء المدينة بالصخب والحياة، فيغادرها السائح وهو معبَّق بروائح عطورها وبابتسامات أهلها التي تظل عالقة في الذاكرة.