أسئلة تاريخية تنتظر الإجابة

 أسئلة تاريخية تنتظر الإجابة

الماضي‭ ‬مؤثر‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬وهما‭ ‬مؤثران‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬وتجب‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬الماضي‭ ‬بقراءة‭ ‬فاحصة‭ ‬ثاقبة،‭ ‬وموضوعية‭ ‬علمية‭. ‬ووثائق‭ ‬تلك‭ ‬التجارب‭ ‬ميسرة‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬بعضها‭ ‬غير‭ ‬متوافر،‭ ‬وقراءة‭ ‬الوثيقة‭ ‬ومدى‭ ‬الاعتماد‭ ‬عليها‭ ‬يختلفان‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬لآخر،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬الوثيقة‭ ‬نفسها‭ ‬وارد،‭ ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬العموم‭ ‬القوى‭ ‬المتنفذة‭ ‬والمسيطرة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تكتب‭ ‬معظم‭ ‬الوثائق،‭ ‬ولذلك‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬منزهة‭ ‬لا‭ ‬يرقى‭ ‬إليها‭ ‬النقد،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تخضع‭ ‬للغربلة‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬التاريخية،‭ ‬أيضاً‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تؤخذ‭ ‬التجارب‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬ظروفها‭ ‬وزمنها‭ ‬دون‭ ‬إسقاط‭ ‬واقع‭ ‬متقدم‭ ‬عليها‭ ‬أو‭ ‬سابق‭ ‬لها‭. ‬أردنا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬التمهيد‭ ‬لطرح‭ ‬إشكالية‭ ‬تنوع‭ ‬الوثائق‭ ‬وتضادها‭. ‬

يواجه‭ ‬دارس‭ ‬التاريخ‭ ‬مشكلة‭ ‬كبيرة‭ ‬وخطيرة‭ ‬تحتاج‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬عميق‭ ‬للتاريخ‭ ‬ومنهجية‭ ‬البحث‭ ‬فيه‭ ‬أولاً،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬وعي‭ ‬عميق‭ ‬بوثائق‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخي‭. ‬وتلك‭ ‬الوثائق‭ ‬متنوعة‭ ‬المصادر‭ ‬وتتوزع‭ ‬بين‭ ‬مستويات‭ ‬عدة،‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬علمي‭ ‬ومعرفي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تدخل‭ ‬للأهواء‭ ‬والاعتبارات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬كتابتها‭ ‬تلك‭ ‬الاعتبارات،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مجهول‭ ‬يظهر‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬طويلة،‭ ‬وإن‭ ‬وعي‭ ‬الباحث‭ ‬بالتاريخ‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يكشف‭ ‬تلك‭ ‬الأبعاد،‭ ‬لتتكون‭ ‬لديه‭ ‬الرؤية‭ ‬العلمية‭ ‬لتلك‭ ‬الوثائق‭ ‬ومدى‭ ‬الاعتماد‭ ‬عليها‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬بحثه‭ ‬التاريخي‭. ‬

ونود‭ ‬أن‭ ‬نضيف‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬وثائق‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخي‭ ‬الواحد‭ ‬مضادة‭ ‬لبعضها،‭ ‬حسب‭ ‬المصادر‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬ذلك‭ ‬الحدث‭.‬

ونتساءل‭ ‬هنا‭: ‬ماذا‭ ‬سيكون‭ ‬موقف‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬التضاد؟‭ ‬يعتمد‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬الوثائق‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬على‭ ‬الوعي‭ ‬التاريخي،‭ ‬وذلك‭ ‬يعنى‭ ‬أن‭ ‬الوثائق‭ ‬لأي‭ ‬حدث‭ ‬تاريخي‭ ‬لا‭ ‬تؤخذ‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تمثل‭ ‬الحقيقة‭ ‬كونها‭ ‬وثائق‭ ‬لذلك‭ ‬الحدث،‭ ‬وإنما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تخضع‭ ‬للغربلة‭ ‬والانتقاء‭ ‬بعلمية‭ ‬وموضوعية‭. ‬

 

الباحث‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬بين‭ ‬الموضوعية‭ ‬والذاتية

علينا‭ ‬أن‭ ‬نقر‭ ‬مبدئياً‭ ‬بأنه‭ ‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬موضوعية‭ ‬كاملة‭ ‬فنحن‭ ‬بشر،‭ ‬عقولنا‭ ‬محدودة‭ ‬مهما‭ ‬اتسعت‭ ‬معارفها،‭ ‬وأناس‭ ‬نعيش‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬لنا‭ ‬انتماءاتنا‭ ‬وتؤثر‭ ‬فينا‭ ‬ظروف‭ ‬الواقع،‭ ‬ويخطئ‭ ‬من‭ ‬يدعي‭ ‬الموضوعية‭ ‬الكاملة‭. ‬المشكلة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬جرعة‭ ‬تكون‭ ‬فيها‭ ‬الموضوعية‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬الذاتية،‭ ‬وهذه‭ ‬كافية‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الأحداث‭ ‬بعقلانية،‭ ‬ونعرف‭ ‬أن‭ ‬أمراً‭ ‬كهذا‭ ‬صعب‭ ‬جداً‭ ‬،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬قد‭ ‬هيأوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬وعقولهم‭ ‬لذلك،‭ ‬نحن‭ ‬عرب‭ ‬ومن‭ ‬الشرق،‭ ‬وثقافتنا‭ ‬وتراثنا‭ ‬وحياتنا‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬سلوكنا‭ ‬ورأينا،‭ ‬رضينا‭ ‬أم‭ ‬أبينا‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬دور‭ ‬مباشر‭ ‬وآخر‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭ ‬للذاتية‭ ‬في‭ ‬حياتنا،‭ ‬وصراع‭ ‬الموضوعية‭ ‬والذاتية‭ ‬أبدي‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬ظاهرة‭ ‬إيجابية‭ ‬لأنه‭ ‬بضدها‭ ‬تعرف‭ ‬الأشياء،‭ ‬ولولا‭ ‬الموضوعية‭ ‬لما‭ ‬طرحت‭ ‬الذاتية‭ ‬والعكس‭ ‬صحيح‭. ‬لكن،‭ ‬والحالة‭ ‬تتعلق‭ ‬بتحليل‭ ‬الأحداث‭ ‬التاريخية،‭ ‬يتطلب‭ ‬الأمر‭ ‬نظرة‭ ‬عقلانية‭ ‬تعتمد‭ ‬العلمية‭ ‬والموضوعية،‭ ‬ونعرف‭ ‬مسبقاً‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬دوراً‭ ‬للذاتية‭ ‬لدى‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬وكل‭ ‬المطلوب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬ذاتيته،‭ ‬ويزيد‭ ‬من‭ ‬جرعة‭ ‬الموضوعية،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬قول‭ ‬الحقيقة‭ ‬التاريخية،‭ ‬وبذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬قدمنا‭ ‬خدمة‭ ‬لمجتمعاتنا‭ ‬ولتراثنا‭ ‬التاريخي،‭ ‬وطرحنا‭ ‬منهجاً‭ ‬سليماً‭ ‬للأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭.‬

إن‭ ‬المشكلة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الطلبة‭ ‬يتعلمون‭ ‬غالباً‭ ‬من‭ ‬أساتذتهم‭ ‬ومن‭ ‬المنهجية‭ ‬المطروحة‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬التاريخي،‭ ‬ولهذا‭ ‬إذا‭ ‬توافرت‭ ‬الشروط‭ ‬الأساسية‭ ‬الجيدة‭ ‬في‭ ‬منهج‭ ‬البحث‭ ‬التاريخي‭ ‬لدى‭ ‬جيلنا،‭ ‬فذلك‭ ‬يعني‭ ‬الامتداد‭ ‬للنهج‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬الأجيال‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الميدان،‭ ‬وبذلك‭ ‬نطمئن‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الدراسة‭ ‬التاريخية‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬التاريخية‭ ‬لذاتها‭ ‬وإنما‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تقدم‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل‭. ‬

 

وفي‭ ‬ما‭ ‬يلي‭ ‬نثير‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬تختلف‭ ‬الإجابة‭ ‬عليها

السؤال‭ ‬الأول‭: ‬هل‭ ‬يعيد‭ ‬التاريخ‭ ‬نفسه؟‭ ‬وماذا‭ ‬عن‭ ‬إعادة‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ؟‭ ‬إن‭ ‬حوادث‭ ‬التاريخ‭ ‬لا‭ ‬تعاد،‭ ‬فهي‭ ‬لها‭ ‬أسبابها‭ ‬وظروفها‭ ‬وزمنها،‭ ‬وقد‭ ‬تتشابه‭ ‬الأحداث‭ ‬شكلاً،‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الأحداث‭ ‬تعود،‭  ‬إن‭ ‬عودة‭ ‬الأحداث‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬الأوضاع‭ ‬لا‭ ‬تتطور،‭ ‬والسكونية‭ ‬علامة‭ ‬التخلف،‭ ‬ويتسرع‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬الأحداث‭ ‬من‭ ‬مظاهرها،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬متأنية‭ ‬وعميقة،‭ ‬وبذلك‭ ‬يتصور‭ ‬أولئك‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه‭. ‬

أما‭ ‬الشق‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬السؤال،‭ ‬والمتعلق‭ ‬بمسألة‭ ‬إعادة‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ،‭ ‬فقد‭ ‬أشاعت‭ ‬ذلك‭ ‬بعض‭ ‬الأنظمة‭ ‬الديكتاتورية‭ ‬حتى‭ ‬تلمع‭ ‬عهودها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجنيد‭ ‬هواة‭ ‬الكتابة‭ ‬التاريخية‭ ‬السياسية،‭ ‬ولإخفاء‭ ‬جرائم‭ ‬وتخلف‭ ‬تلك‭ ‬الأنظمة،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬توضيح‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬شيء‭ ‬اسمه‭ ‬إعادة‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ،‭ ‬لأن‭ ‬التاريخ‭ ‬مكتوب‭ ‬بوثائق‭ ‬أحداثه‭ ‬ومصادرها‭ ‬الأساسية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المطلوب‭ ‬هو‭ ‬إعادة‭ ‬قراءة‭ ‬للأحداث‭ ‬التاريخية‭ ‬وليس‭ ‬إعادة‭ ‬كتابتها‭. ‬لقد‭ ‬قرئت‭ ‬وكتبت‭ ‬تلك‭ ‬الأحداث‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬القوى‭ ‬المسيطرة‭ ‬المستبدة،‭ ‬وقامت‭ ‬ثقافتها‭ ‬على‭ ‬تجيير‭ ‬الوقائع‭ ‬لصالحها‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬افتقدت‭ ‬تلك‭ ‬الأقطار‭ ‬الحرية،‭ ‬ولذلك‭ ‬رأينا‭ ‬عندما‭ ‬سقطت‭ ‬تلك‭ ‬الديكتاتوريات‭ ‬انكشف‭ ‬الوضع‭ ‬على‭ ‬حقيقته،‭ ‬وعندما‭ ‬تستقر‭ ‬الأحوال‭ ‬سيعيد‭ ‬المؤرخون‭ ‬الحقيقيون‭ ‬قراءة‭ ‬ما‭ ‬كتب،‭ ‬وكشف‭ ‬التزييف‭ ‬والتزوير‭ ‬الذي‭ ‬شهدته‭ ‬عهودهم‭. ‬بعدها‭ ‬نكتشف‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الحقائق‭ ‬قد‭ ‬طمست‭ ‬ودفنت،‭ ‬وكثيراً‭ ‬منها‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬لي‭ ‬عنقه‭ ‬لصالح‭ ‬القوى‭ ‬المتنفذة‭ ‬والمتسلطة،‭ ‬ولهذا‭ ‬نقول‭:‬‭ ‬نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬قراءة‭ ‬ما‭ ‬كتب،‭ ‬وليس‭ ‬إعادة‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ،‭ ‬لأنه‭ ‬مكتوب،‭ ‬فإما‭ ‬أنه‭ ‬تم‭ ‬إخفاء‭ ‬وثائقه‭ ‬الأصلية‭ ‬أو‭ ‬تم‭ ‬تزويرها‭. ‬

والسؤال‭ ‬الثاني‭ ‬المهم‭ ‬هو‭: ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬باشا‭ ‬والي‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬تحررية‭ ‬تنويرية‭ ‬وحدودية؟‭ ‬لقد‭ ‬اختلف‭ ‬كثيرون‭ ‬من‭ ‬المؤرخين‭ ‬في‭ ‬تقييمها،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬رأى‭ ‬أنه‭ ‬أحد‭ ‬الطغاة،‭ ‬قتل‭ ‬المماليك‭ ‬ليسيطر،‭ ‬ويبني‭ ‬إمبراطورية‭ ‬موازية‭ ‬للدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬وأن‭ ‬التحديث‭ ‬الذي‭ ‬أجراه‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬كان‭ ‬هدفه‭ ‬امتلاك‭ ‬القوى‭ ‬للتمدد‭ ‬والسيطرة‭ ‬على‭ ‬المناطق‭ ‬الأخرى،‭ ‬لأن‭ ‬تحديث‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬احتلها،‭ ‬مثل‭ ‬السودان‭ ‬والشام‭ ‬ووسط‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭! ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬رأى‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬التحديث‭ ‬الذي‭ ‬أجراه‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬كان‭ ‬شاملاً‭ ‬للإدارة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬والجيش‭ ‬والتعليم،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فهي‭ ‬نهضة‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهلها‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬كانت‭ ‬الولايات‭ ‬العثمانية‭ ‬بحاجة‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الخطوات‭ ‬الإصلاحية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التحديث‭ ‬لم‭ ‬تسبقه‭ ‬أو‭ ‬تواكبه‭ ‬الحداثة‭ ‬الفكرية‭.‬

سؤالنا‭ ‬الثالث‭ ‬هو‭: ‬هل‭ ‬كان‭ ‬العثمانيون‭ ‬حماة‭ ‬أو‭ ‬غزاة‭ ‬للعالم‭ ‬العربي‭ ‬إبان‭ ‬أربعة‭  ‬قرون‭ ‬من‭ ‬سيطرتهم‭ ‬على‭ ‬المشرق‭ ‬وثلاثة‭ ‬قرون‭ ‬على‭ ‬المغرب؟

فمنهم‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬محتلين‭ ‬عنصريين‭ ‬في‭ ‬تعاملهم‭ ‬مع‭ ‬العرب،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬يقول‭ ‬عكس‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬واجهوا‭ ‬الغرب‭ ‬الاستعماري،‭ ‬ووفروا‭ ‬الحماية‭ ‬للعرب‭ ‬والمسلمين،‭ ‬وحافظوا‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬المسلمين،‭ ‬وما‭ ‬كانت‭ ‬حروبهم‭ ‬والضرائب‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬يفرضونها‭ ‬على‭ ‬العرب‭ ‬وغيرهم‭ ‬إلا‭ ‬لتقوية‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬وحمايتها‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬الإسلام،‭ ‬ومبعث‭ ‬الاختلاف‭ ‬في‭ ‬الرأي،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬توافر‭ ‬الوثائق‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬طرف،‭ ‬هو‭ ‬الفكر‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬والخلاف‭ ‬بين‭ ‬القوميين‭ ‬العرب‭ ‬والإسلاميين،‭ ‬وهذه‭ ‬مشكلة‭ ‬عدم‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬الوقائع‭ ‬التاريخية‭ ‬بعقلانية‭ ‬وموضوعية،‭ ‬فتجربة‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬الطويلة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬العقلية‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬ما‭ ‬لها‭ ‬وما‭ ‬عليها‭. ‬

أما‭ ‬السؤال‭ ‬الرابع‭ ‬فهو‭: ‬هل‭ ‬مأساة‭ ‬فلسطين‭ ‬كانت‭ ‬نتيجة‭ ‬مؤامرة‭ ‬استعمارية‭ ‬صهيونية‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬نتاج‭ ‬التخلف‭ ‬وضعف‭ ‬مقومات‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬العثماني‭ ‬وفي‭ ‬عصر‭ ‬السيطرة‭ ‬الاستعمارية؟‭ ‬

إن‭ ‬الذين‭ ‬يريدون‭ ‬توفير‭ ‬الوقت‭ ‬والجهد‭ ‬في‭ ‬تأمل‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬والبحث‭ ‬فيها‭ ‬يلجأون‭ ‬إلى‭ ‬أقصر‭ ‬الطرق،‭ ‬فهي‭ ‬مؤامرة‭ ‬صهيونية‭ ‬استعمارية،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬الاستنتاج‭ ‬صحيحاً،‭ ‬ولكن‭ ‬كيف؟‭ ‬ولماذا‭ ‬حصل‭ ‬ذلك؟‭ ‬أما‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬فهي‭ ‬أن‭ ‬التخلف‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬مأساة‭ ‬فلسطين،‭ ‬والأسباب‭ ‬الأخرى‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬تأثيرها‭ ‬فهي‭ ‬نتاج‭ ‬ذلك‭ ‬الوضع،‭ ‬والحل‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬تقوية‭ ‬مقومات‭ ‬الأمة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المستويات،‭ ‬والمشكلة‭ ‬أن‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المأساة‭ ‬وسيلة‭ ‬سياسية‭ ‬تستخدمها‭ ‬لتظهر‭ ‬قوميتها‭ ‬وعدالتها‭ ‬وحرصها‭ ‬على‭ ‬حل‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬المركزية،‭ ‬وهي‭ ‬فعلياً‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬ذلك،‭ ‬والشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬خدع‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأنظمة،‭ ‬وتم‭ ‬تهميش‭ ‬دوره،‭ ‬ولعب‭ ‬التقادم‭ ‬الزمني‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القضية،‭ ‬واليوم‭ ‬يكثر‭ ‬الجدل‭ ‬حول‭ ‬تحرير‭ ‬الأرض‭ ‬المحتلة‭ ‬وعودة‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬ومسألة‭ ‬القدس‭ ‬والسلام‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الشعارات‭ ‬التي‭ ‬تطلق‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أحداث‭ ‬القضية‭ ‬معاصرة‭ ‬ووثائقها‭ ‬متوافرة‭ ‬من‭ ‬مصادرها‭ ‬الأصلية،‭ ‬فإن‭ ‬الخلاف‭ ‬قائم‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬كإشكالية‭ ‬مركزية‭ ‬وأساسية‭.‬

دعونا‭ ‬نطرح‭ ‬سؤالاً‭ ‬خامساً‭ ‬وأخيراً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يتعلق‭ ‬بأحداث‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬المعاصر‭ ‬هو‭: ‬هل‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬ظاهرة‭ ‬إيجابية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العرب؟‭ ‬

لقد‭ ‬كتب‭ ‬كثيرون‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الثورات،‭ ‬وكان‭ ‬كثيرون‭ ‬ينظرون‭ ‬إليها‭ ‬وهي‭ ‬تندلع‭ ‬في‭ ‬خمس‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬عهداً‭ ‬جديداً‭ ‬يمر‭ ‬على‭ ‬العرب،‭ ‬فهذه‭ ‬ثورات‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬نمط‭ ‬الثورات‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬هي‭ ‬ثورات‭ ‬شبابية‭ ‬سلمية‭ ‬تتزعمها‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى،‭ ‬واستطاعت‭ ‬أن‭ ‬تسقط‭ ‬أنظمة‭ ‬تمتلك‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬القمع‭ ‬والقوة‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يتيسر‭ ‬للثوار،‭ ‬وكان‭ ‬التفسير‭ ‬حينها‭ ‬أن‭ ‬المد‭ ‬جار‭ ‬والقطار‭ ‬قد‭ ‬تحرك،‭ ‬والنهر‭ ‬يجدد‭ ‬وينظف‭ ‬نفسه‭ ‬بعد‭ ‬تكون‭ ‬التلوث‭ ‬في‭ ‬البحيرات‭ ‬الآسنة،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث‭ ‬الخطيرة‭ ‬والمهمة‭ ‬بدأت‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ ‬الثورات‭ ‬تتآكل‭ ‬وتنجرف،‭ ‬ويتحول‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬إلى‭ ‬أسوأ‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الديكتاتوريات،‭ ‬ودخلت‭ ‬نفقاً‭ ‬مظلماً‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬الإثني‭ ‬الطائفي‭ ‬والعنصري‭ ‬الخطير،‭ ‬والذي‭ ‬يهدد‭ ‬شعوبنا‭ ‬بالتمزق‭ ‬والتجزئة‭ ‬الجديدة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬عنصري‭ ‬وطائفي‭. ‬وهناك‭ ‬رأيان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسألة،‭ ‬فالبعض‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬شيء‭ ‬إيجابي‭ ‬وحرك‭ ‬المياه‭ ‬الراكدة،‭ ‬والمتغيرات‭ ‬عميقة‭ ‬ستظهر‭ ‬نتائجها‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬وآخرون‭ ‬يرون‭ ‬عكس‭ ‬ذلك،‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬تخطُ‭ ‬خطوة‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬حتى‭ ‬تعود‭ ‬خطوات‭ ‬إلى‭ ‬الخلف،‭ ‬وأن‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬قد‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬خريف،‭ ‬وكل‭ ‬طرف‭ ‬يطرح‭ ‬مبرراته‭ ‬ورؤيته‭ ‬وقراءته‭ ‬للحدث،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬الحوار‭ ‬جيداً‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المسائل،‭ ‬ولكن‭ ‬عدم‭ ‬إمكان‭ ‬معرفة‭ ‬جذور‭ ‬المشكلات،‭ ‬وأبعادها‭ ‬المختلفة‭ ‬يوقعنا‭ ‬في‭ ‬إشكالية‭ ‬فهم‭ ‬الوقائع‭ ‬التاريخية،‭ ‬وقد‭ ‬أصبح‭ ‬البعض‭ ‬يتحرج‭ ‬من‭ ‬ذكر‭ ‬كلمه‭ ‬الربيع،‭ ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬المآسي‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬دول‭ ‬تلك‭ ‬الثورات‭ ‬باستثناء‭ ‬بعضها‭.‬

هذه‭ ‬بعض‭ ‬الأسئلة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تحسم‭ ‬الإجابة‭ ‬عليها،‭ ‬ويختلف‭ ‬كثيرون‭ ‬في‭ ‬رؤيتهم‭ ‬حولها‭ ‬خاصة‭ ‬المؤرخين‭ ‬والباحثين‭ ‬العرب،‭ ‬ولدينا‭ ‬قائمة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬تنتظر‭ ‬الإجابة‭ ‬أو‭ ‬تصعب‭ ‬الإجابة‭ ‬عليها،‭ ‬وهكذا‭ ‬يستمر‭ ‬الخلاف‭ ‬حولها،‭ ‬وما‭ ‬ذكرناه‭ ‬هنا‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬أمثلة‭ ‬عليها‭ ‬فقط،‭ ‬والذين‭ ‬لديهم‭ ‬الأجوبة‭ ‬جاهزة‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬التاريخ‭ ‬ولا‭ ‬منهجية‭ ‬البحث‭ ‬فيه‭ ‬