سنَّان باشا ... فنان العمارة الإسلامية

إن ما يميز العمارة الإسلامية هو تصميم هندسة المآذن والقباب، فقد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالعمارة الإسلامية، وبخاصة عمارة المساجد، وقد شهدت المزيد من التطوير والإبداع، على أيدي طائفة كبيرة من المعماريين المسلمين إبان العصر الوسيط، حتى صارت تُصنَّف ضمن طُرز مُتعددة أقدمها الطراز الأموي، وأحدثها الطراز العثماني، وهذا الأخير تجسَّد بكل مُقوماته وخصائصه الفنية والهندسية، في المآذن والقِباب التاريخية، التي تزدان بها المساجد الكبرى في مدينة اسطنبول التركية.
مما لا شك فيه أن العمارة العثمانية فريدة تجمع وتمزج بين عدة فنون في وقت واحد، واستطاعت أن تطغى وتنتشر في سائر البلاد التي تم فتحها في أيام الإمبراطورية العثمانية، شرقاً وغرباً.
وأكثر ما تفرَّدَت به هذه العمارة وفرضته على جميع الدول والبلدان هو عمارة المساجد، وشاءت الظروف أن يعاصر معماري عبقري، وهو يوسف الرومي الذي سيعرف لاحقاً باسم سنان باشا، الإمبراطورية العثمانية في أوج قوتها وتألقها، فقد أتاح له عمره الذي قارب المائة عام أن يعاصر العهد الذهبي لسلاطين عدة... السلطان بايزيد والسلطان سليم الأول، والسلطان سليمان القانوني، والسلطان مراد، والسلطان سليم الثاني، ويُعَد أحد أبرز وأشهر البنَّائين المسلمين في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي.
فقد تميَّزَت أعماله البنائية والمعمارية بالكثرة، والقوة والمتانة والضخامة، وبفيض من لمسات الجمال المعماري اللافت، ومن ثَم أطلق الأتراك عليه لقب اأبو العمارة التركيةب وخلال رحلة عمره لم يحدث أن توقف يوماً عن البناء والهندسة والتشييد والتخطيط. وفي الحقيقة كانت هناك عوامل ومؤثرات عدة بمنزلة أدوات نجاح لهذا الرجل، ساعدته ليحقق كل هذه الأعمال المعمارية الشامخة، إنه يوسف بن خضر بك بن جلال الدين الحنفي الرومي، الشهير بـ اسنَّان باشاب، سنَّان أغا، ميمار سنَّان، خوجة باشا، ولد في إحدى قرى الأناضول ويُطلق عليها اأغريناسب لأسرة مسيحية يقال إنها أناضولية، وفي أخرى يونانية، وقد ظهرت عليه موهبة البناء والإنشاء منذ صغره، فكان يجلس بالساعات منهمكاً في بناء الأكواخ والبيوت من الطين.
ولم يكن أكمل العاشرة من عمره بعد، عندما أُخِذ عُنوة من أسرته وفق نظام االدوشيرمةب، وهو نظام يعمل على جمع الفتيان الصغار من جميع المدن التي تقع تحت سطوة الإمبراطورية العثمانية، ومن ثَم يتم إلحاقهم بمدارس خاصة يتعلمون فيها جميع العلوم والفنون، ثم يتم إلحاقهم بعدها بالمدرسة العسكرية ليصبحوا جنوداً انكشاريين، وكان الفتى سنَّان ضمن فتيان عدة من الأناضول وقع عليهم الاختيار لِمَا كان يظهر عليه من نباهة وذكاء، فالتحق أولاً بمدرسة ابتدائية ثم استكمل تعليمه في االأوجاقب، وهي مدرسة معمارية خاصة تخرج فيها كبار المعماريين، ممن شيدوا أعظم الآثار في تاريخ العمارة الإسلامية والعالمية، ثم انضم من بعدها للجيش ليتلقَّى هناك التعليم العسكري، وخرج في حملات عسكرية إلى بلدان عدة، منها بلجراد والمجر والبلقان وفارس والشام و العراق ومصر، وقد حصل على مكانة كبيرة في الجيش نظراً لجهوده في تصميمات بناء السفن الحربية والجسور والقلاع والحصون الحربية.
من العمارة العسكرية إلى المدنية
جاء تفوقه كمعماري كبير في عهد السلطان سليمان القانوني، وهو بلا شك العصر الذهبي للإمبراطورية العثمانية، وفي إحدى الحملات العسكرية مع السلطان سليمان أنشأ المعماري العبقري جسراً فوق نهر بروت خلال 14 يوماً، وبنى آخر على نهر الدانوب، ولذا منحه السلطان لقب كبير مهندسي الدولة العثمانية، وقد أدى خروج المعلم سنَّان لفتوحات الحربية الأوربية مع الجيش العثماني إلى صقل موهبته، فكانت هناك فرصة للاطلاع على العمائر الأوربية والفنون المختلفة، وقد تأثر كثيراً بفنون عصر النهضة، الذي كان في أوجّ شهرته وانتشاره وقتها، وكانت أعمال مايكل أنجلو المختلفة نبراس نور له، بالإضافة لتأثره مسبقاً بالجانب الفني للعمارة السلجوقية، حيث كل ما حوله من مبان وعمائر في الأناضول لا يخلو منها، ونشأت في عقلهِ فكرة المزج بين العمارة الأوربية الضخمة التي تمتاز بالزخارف والتشكيل، والمدرسة السلجوقية المعمارية بمفهومها الإسلامي. من جهة أخرى نشأ الفتى المحب للعمارة والتشييد أمام كاتدرائية آيا صوفيا بإسطنبول، التي تحولت بعد فتح محمد الفاتح إلى مسجد إسلامي ضخم أمامه يحمل الاسم نفسه، ومن خلال هذا الصرح الضخم الذي كان دائماً، فكر لماذا لا يكون العمل الديني ضخماً كما هي ضخامة آيا صوفيا، فالضخامة تعطي وقاراً وجمالاً؟ ويمكننا أن نقول إن سنَّان باشا تأثر بأشكال عدة للعمارة الأوربية، الإسلامية، والسلجوقية، ومر أيضاً بمراحل عدة، هي مرحلة أن كان تلميذاً، مرحلة المعماري المتمكن، وأخيراً مرحلة الأستاذ الذي يخطط للعمل ويشرف عليه. وكان له أربعة من أمهر الطلبة تدربوا علي يديه وتجلت أعمالهم في أماكن مختلفة، ومن تلامذته أحمد أغا، وداوود أغا، ويتيم بابا علي، ويوسف، وسنَّان الصغير، وينسب إليه تشييد قصور لاهور ودلهي وأكرا للسلطان المغولي الشهير جلال الدين أكبر في الهند، وعُيِّن سنَّان باشا كبير المعماريين للدولة العثمانية بعد وفاة علي عجم وكان هذا عام (944 هجرية/1538م).
أسطورة القباب الإسلامية
إن القِباب هي أهم ما يُمَيِّز أعمال سنّان باشا، وقِباب جمع قُبَّة، وهي تستخدم للتسقيف وتُمثل نصف كرة مجوفة تقف على أعمدة وجدران، وعُرِفَت في صورتها البدائية منذ أوائل الألفية الرابعة قبل الميلاد في شمال العراق وشرق سورية، ثم في شمال إفريقيا، ثم اقتبسها الإغريق لتسقيف مقابرهم، ووُجِدَت أيضاً في أعمال المصريين القدماء، وتطورت التطور الحقيقي لها عند الرومان، كالتي تُزَيِّن آيا صوفيا في إسطنبول، وهي بعدد من المآذن، وأشرف على بنائها عند تحويلها لمسجد سنَّان باشا، وقبة المسجد الأقصى ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، إلا أن مسجد شاه زاد هو التجربة الأولى له في تصميم بناء القِباب.
يُعْتَبَر مسجِد السُلَيْمانية في أدرنة هو تُحفته المعمارية، في حين تُعد عِمارة مَجْمَع السُلَيْمانية هي مرحلة النضوج في بناء القباب. ويقول سنَّان عن دواعي إبداعه في هذا المسجد: اإن المعماريين الآخرين يقولون إننا متفوقون على المسلمين، لأن عالم الإسلام يخلو من قبة عظيمة مثل آيا صوفيا، وإن بناء مثل هذه القبة الضخمة أمر غاية في الصعوبة، وكان لكلامهم هذا تأثيره المؤلم في قلب هذا العبد العاجز (يقصد نفسه)، لذلك بذلت الهمةَ العالية في بِناءِ هذا الجامع، وبعون الله ثم بتشجيع السلطان سليم خان، قمت بإظهار المقدرة، وأقمت قُبة هذا الجامع أعلى من قُبة آيا صوفيا بست أذرع وأعمق بأربع أذرعب، وفي حديثهِ حول عبقرية الفن المعماري، في جامع السُلَيْمَانِية، يقول المؤرخ روبير مانتران، إنه بكل تأكيد، هو الأروع والأجمل، بين كل مساجد وجوامع مدينة إسطنبول، اإنه يبدو مُفعما بالوضوح، وببساطة تحجب علماً عميقاً، وتتطابق ترتيباته الداخلية، تطابقاً وثيقاً، مع تراكيب الجهاز الداخلي، الأكبر بكثير مما في آيا صوفياب. ويُضيف برنارد لويس اإن جامع السُلَيْمانية، الذي شُيّد بعد قرن من فتح إسطنبول، يُصوّر هيكل بنائه، وطريقة زخرفته، مدى التأثر بينابيع التقليد الإسلامي الأولى، وأصالة حياته الدينية والجمالية في جوهرها، وتميزها في آن واحدب.
سنان باشا ومايكل أنجلو
وأيضاً قال العالِم الألماني وأستاذ تاريخ العمارة في جامعة فيينا اهـ. كلوكب عن سنَّان باشا: اإنه يتفوق فنياً علي مايكل أنجلو صاحب أكبر اسم فني في الحضارة الأوربيةب.
وكان اميمار سنَّانب (1489م - 1580م) معاصراً لمايكل أنجلو (1475-1564م)، وعاش كلاهما عمراً طويلاً امتد إلى 90 سنة تقريبا، ما أتاح لهما تحقيق إنجازات. وامتدت حياة سنَّان باشا حتى اقترب من المائة، وعاصر خمسة من سلاطين الدولة العثمانية، وبعد حياة مليئة بجلائل الأعمال، تُوفِّيَ سنَّان باشا في (996هـ / 1588م) تاركاً ذكرى لا تضيع، وتقف أعماله التي تزيد على أربعمائة أثر معماري شاهدة على عبقريته في عالم البناء والتشييد، واعتبرته دائرة المعارف الإسلامية التي أصدرها المستشرقون واحداً من أعظم المعماريين الذين ظهروا في التاريخت، والأمر الأكثر غرابة أنه كان في القرن السادس عشر اثنان من أعلام الدولة العثمانية بالاسم واللقب نفسيهما اسنان باشاب، أولهما رائد العمارة العثمانية، والآخر قائد لامع وسياسي عرف بدهائه، ونجح في أن يصبح الرجل الثاني في الدولة العثمانية، هما اسنان باشا المعماريب والوالي والسياسي المحنك سنان باشا بن علي بن عبدالرحمنب. ويخلط البعض بين الرجلين لأن كلاً منهما كان له الاسم والرتبة نفسيهما، وكل منهما جاء في العصر نفسه وليس ذلك فقط، ولكن سنان باشا الوالي كان أيضًا مولعاً بالمعمار، وامتدت حياته لقرابة المائة عام، فقد ولد عام 1506 وتوفي في 1596، وتقلد فيها ولاية مصر مرتين (1567 - 1568) ومرة أخرى في (1571 ذ 1573) وقاد حملات عدة لفتوحات عربية، مثل اليمن وتونس، وتولى منصب الصدر الأعظم، وتقلد ولاية دمشق. ومن الآثار التي أشرف عليها هذا القائد المحب للمعمار، إعادة فتح خليج الإسكندرية وبناء قصر في حي الزيتون، والأهم من كل ذلك هو المسجد الذي يحمل اسمه ويقع في شارع االسنانيةب بمنطقة بولاق، ويعد ثاني جامع عثماني تم بناؤه في القاهرة بعد جامع سليمان بالقلعة، ويبلغ طوله 35 متراً وعرضه 27، ويمتاز بقبة مركزية كبيرة محاطة بكثير من الأيقونات، وكانت القبة مغطاة بالرصاص، كما جاء في اسياحة نامةب ووصفها أُوليا جلبي بقوله: اإنها قبة جميلة كأنها صنعت في مصنع السماءب. وقد جاء تصميم هذا المسجد على النهج المعماري لسنان باشا المعماري التركي، وتجسدت فيه مظاهره البنائية، ويطل على النيل مباشرة.
وله أيضاً مجموعة خيرية في ساحة باب الجابية بدمشق، تضم جامعاً ومدرسة وسبيلا للماء. ويمتاز الجامع الذي شرع الوالي في بنائه عام 1586م عن غيره من مساجد دمشق بمناراته المستديرة والمكسوة بألواح القاشاني الأخضر .