المجتمع العربي وجدلية الحداثة والتحديث

المجتمع العربي  وجدلية الحداثة والتحديث

تعد الحداثة حركة فكرية ورؤية للعالم، تستمد وجودها من العقل، وتسعى إلى التنوير، وتشكل إرثاً كونياً، وهي ليست مفهوماً سوسيولوجياً، أو سياساً، أو تاريخياً بحصر المعنى، وإنما هي صيغة مميزة للحضارة تعارض صيغة التقليد، كما تعتبر مفهوماً يتضمن في دلالاته إجمالاً الإشارة إلى تطور تاريخي بأكمله، وإلى تبدل في الذهنية  وفق تعبير جون بودريار.  يضعنا هذا التعريف أمام سؤال محوري يخص العالم العربي: لماذا لم يحاول العرب بناء حداثة واكتفوا بمحاولات تحديثية؟ هل يرجع ذلك لأسباب موضوعية أم ذاتية؟ 

 

منذ أن سرق بروميثيوس النار من الآلهة - ومنح الإنسان قبساً من جذوتها - إلى إعلان هابرماس عن «مشروع الحداثة الذي لم يكتمل بعد»، ما انفك المفكرون والباحثون يتساءلون عن مفهوم الحداثة، الذي على الرغم من تجليه كمصطلح متجانس من حيث السؤال: ما الحداثة؟ فإنه ينطوي في عمقه على قدر كبير من «اللاوحدة» والتناقض والنسبية، على المستويين السوسيولوجي والإبداعي، وبالتالي فليس من السهل الإمساك بمصطلح الحداثة، والوقوف على تعريف شامل له، ولعله من الصعوبة بمكان ضبط مفهوم محدد لها؛ فهي مفهوم زئبقي.
يعود مصطلح الحداثة، لغة، إلى لفظة «حداثة»، وهي كلمة مشتقة من الفعل الثلاثي «حدث» بمعنى «وقع»، وأحدث الشيء أوجده، والمحدث هو الجديد من الأشياء، ومن الفعل «حدث» تشتق ألفاظ دالة على معاني اللسان في الحديث.
أما على المستوى الاصطلاحي، فهناك من يراها «حالة ثقافية وحضارية ومجتمعية، جاءت كتعبير عن حالة المجتمعات الصناعية الغربية التي بدأت منذ القرنين الـ 19 والـ20، وهي في الوقت نفسه امتداد لجهود حثيثة بدأت منذ القرن الـ 16 في أوربا»، بينما يردها البعض إلى كونها نظرة جديدة للعالم، يتم بموجبها إحداث قطيعة مع سلطة الماضي، وبالتالي البزوغ الرائع للشمس، بتعبير هيجل، فيما يعدها فريق ثالث ظاهرة نشأت عن بعض التحولات العميقة في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، وقد تحققت على مستوى العادات وطرائق العيش وأنماط الحياة اليومية، وهي في تحول دائم، لأنها ليست ثابتة وغير قابلة للرجوع إلا كمنظومة من القيم.

ظاهرة شمولية
وقد ميز المفكر الجزائري محمد أركون، في تعريفه للحداثة، بين نوعين من الحداثة، هما: الحداثة المادية التي تعنى بتحديث الحياة اليومية، والحداثة العقلية التي تعنى بتحديث الفكر؛ أي تحديث نظرة الإنسان إلى العالم، إلى ذاته وإلى الآخرين. ويبقى تمييزه إجرائياً، لأن الحداثة ظاهرة شمولية تتداخل فيها أبعاد متعددة: اقتصادية، واجتماعية وسياسية وفكرية، كما أنها تعد معطى متشابكاً تتلاحم فيه الأسطورة بالواقع، وبسياق تتقاطع فيه كل المجالات: دولة عصرية، وتقنية عصرية، وموسيقى، ورسم وعادات وأفكار عصرية على هيئة مقولة عامة وضرورة ثقافية، كما أنها لا تردّ إلى مجرد حقبة تاريخية ولّت ومضت، لأنها قيمة ومعيار فكر وعمل،  إنها «مفهوم باهر نفتح به كل الأبواب».
تهدف الحداثة إلى إقامة نوع من التوافق والتلاؤم والتطابق بين ثقافة علمية، ومجتمع منظم، وأفراد أحرار، بوساطة قوانين العقل الكفيلة بالسير بالإنسان في اتجاه الوفرة، والحرية، والسعادة. لقد بين «تُورين» أن التصور الكلاسيكي للحداثة يتسم بنوع من العنف، فمن بين ما يقوم عليه هذا التصور رفض التوافق مع الأشكال التقليدية، وخلق عالم وإنسان جديدين بالتخلي عن الماضي والعصور الوسطى، وإعمال العقل كأداة تعطي أهمية مركزية للعمل والتنظيم والإنتاج، وحرية التبادل لعمومية القوانين، وإقامة سلطة عقلانية مشروعة وأخلاق مسؤولة عن هذه المبادئ التي تقوم عليها الحداثة. كما أدت الثورة الفرنسية والتصنيع البريطاني إلى نقل الأفكار السابقة إلى الممارسة الفعلية على الواقع، ما أنتج نوعاً من الحنين إلى الكينونة ومبدأ وحدة العالمين الطبيعي والبشري. إجمالاً تعتبر الحداثة بنية، مما يدعو إلى عدم تجزيء عناصرها، بل النظر إلى هذه الأخيرة من خلال عتباتها ومظاهرها، ففهم مضمونها لا يمكن إرجاعه إلى عنصر وحيد.
تحيل الحداثة إذن إلى نوع من الإرادة الجماعية في زمان ومكان معينين،  وتسعى إلى تعميم نماذج من الأحداث والمكاسب التي وقعت في زمان ومكان معينين، فداخل كل بلدان أوربا، كانت الحداثة شأنها في ذلك شأن الديانات التوحيدية في السابق والأنظمة الاجتماعية الأبوية، قد تم فرضها على الأغلبية من الساكنة من طرف جماعة محدودة، وهنا نجد ذلك الشعاع الاجتماعي للتغيير، أي فئة المثقفين أو ما يعرف بـ«الأنتلجنسيا»، التي توحي أو تقود وتوجه، سواء كانت هذه الفئة سياسية أو عسكرية أو دينية.

حداثة أم تحديث؟
تحمل الحداثة معها انقلاباً في عوائد التفكير، والممارسة على السواء، إذ تمكنت من نقل الإنسان نحو عوالم جديدة غير مألوفة، علما بأن هذه النقلة لم تجر بسلاسة، بل نتجت عن مخاض عسير انعكس على القناعات، الشيء الذي جرح الوعي وألحق به أضراراً بليغة، مثلا الانتقال من حضارة الحجر المصقول إلى حضارة النار كان تغييراً ثورياً بامتياز، كما قال رائد الأنثروبولوجيا الحديثة كلود ستراوس، فهل يمكن إدراج ما يعيشه العالم العربي اليوم من انتقالات اجتماعية وتقنية ضمن دائرة التحديث، أم ضمن دائرة الحداثة؟
إن الكلام عن الحداثة لا يضعنا فقط أمام مسارها التاريخي كحركة كونية مرتبطة بالإنسان وحضاراته ووجوده فقط، بل يفرض علينا التوقف أمام نسق تولّد من خلال الصراع مع التقليد والماضي، وتعد سمات الصراع مع القرون الوسطى وفضاءاتها العقلية بالدرجة الأولى كما ميزها جاك لوغوف من أهم المحددات التي يمكن من خلالها فهم، ولو بشكل ضمني، وضعية العالم العربي في علاقته بالحداثة.
وفي هذا الصدد، يمكن مقارنة ما يعيشه العالم العربي اليوم مع ما عاشته البلدان الأوربية في العصور الوسطى،  فإذا عرَف المجتمع الأوربي آنذاك هيمنة للعقيدة اللاهوتية المسيحية على العقول، حيث إن مجرد الخروج عنها يعني الخروج عن اللامفكر فيه، لأن الفلسفة كانت في خدمة اللاهوت، فبالمقابل عرفت المجتمعات العربية في العقود الأخيرة مداً للفكر الأصولي المتطرف، وللسلفية التي ترفض كل جديد وكأنه لعنة، وتقمع صوت العقل المبطن في كائن الإنسان العربي، وتدعوه إلى الاكتفاء بما قدر له، وعوض دعوته لحياة مفعمة بالأمل والعيش الكريم والتسامح في إطار أخلاق غيرية، تغرُس في أعماقه أحاسيس التشاؤم والضعف والخوف من ارتكاب الخطايا والذنوب في كل لحظة، وتزرع في روحه طابعاً يحتفي بالموت مقابل الحياة، ويتميز بطابع الزهد في الحياة الدنيا التي يعتبرها دار عبور إلى الدار الآخرة التي تجسد الحياة الأبدية وتمثل حياة النعيم والخلود، الشيء الذي ينتج عنه أن الإنسان لا ينال من متع الدنيا إلا القليل أو اللاشيء إذا أمكن.
 كما أن المرجعية الدينية المتطرفة كونت تصوراً، خاصة بين الفئات المتدينة التي تتم السيطرة عليها من قبل السلطة الفقهية، حيث يعد الفقر من سمات التقرب من الله وتقبل حكمه في الحياة، وهذا التصور يعود إلى هيمنة العقلية الرمزية أو الخيالية على وعي الناس، كما كان سائداً في العصور الوسطى، حيث كان الناس سريعي التصديق لما يروى لهم، فكلما كانت الحكاية بعيدة عن الواقع ومبالغاً فيها، كانت أقوى وتحظى بإعجابهم أكثر، وهذا ما كان يجعلهم يؤمنون بالمعجزات وبكل ما هو ساحر خلاب  بذلك الشكل الكبير، أي إن الوعي الأسطوري هو الذي كان مهيمناً على الوعي التاريخي أو الواقعي.
وعلى الرغم من أن بعض المظاهر في العالم العربي توحي بتطورات مادية تتجلى في تطور عمراني وتكنولوجي، في حين أن السياق العربي الإسلامي لايزال في حاجة ماسة إلى مساءلة ذاته في مسألة الحداثة والتحديث، فإن الذي وقع ويقع في الفضاء العربي هو مجهودات تحديثية وليس عملاً يروم إلى تأسيس الحداثة، كما أنه من الصعب الفصل بين هذه الأخيرة ومسار التاريخ، الخاضع لقوانين وحتميات محددة وإيقاع معين؛ أي لقوانين احتمالية، وبما أنه ليس مساراً جزافياً خاضعاً للنزوات والمصادفات والإيحاءات، كما يقول عبدالله العروي؛ فبالتالي ليس له إلا اتجاه واحد، مما يجعل قوانين التطور التاريخي تتسم بقدر من الثبات، وتفرض نوعاً من حتمية المراحل, إضافة إلى أن نسبية الحقائق تتجلى في تطليق الأحكام المطلقة، واعتبار أن العلم ليس مجرد قراءة وتأويل لأقوال العارفين، وأن السياسة جهد إنساني وتوافق بين ذهنيات ومصالح عن طريق النقاش الموضوعي والتجريب المستمر.

الحداثة العربية
كما أن تجاوز واستدراك التراجع التاريخي للعالم العربي يتطلبان تملك روح الحداثة وفكر الحداثة انطلاقاً من نموذجها الكوني، مع استيعاب مقومات ومكاسب العقل الحديث من عقلانية وتاريخانية ونسبية وفردانية، والتمييز بين أيديولوجيا وسياسة الغرب الحالي، والفكر الأوربي العقلاني الحديث ذاته؛ أي بين المنهج والأيديولوجيا. فلو لم تحصل الحداثة في بقعة من الأرض لما تبلور المفهوم، وهذا أمر لا نقاش فيه، لكن هذا الواقع نطّلع عليه من خلال ما يقوله المؤرخون الذين يستعملون بدورهم مفاهيم محددة لكل حدث وظاهرة. وعليه ينبغي الاحتراس دائماً من الاندفاع وراء التعميمات والحكم المسبق قبل الاستماع إلى المؤرخ الذي يسجل أن الحداثة تمت على مراحل وتشكلت كثورة مستمرة. 
إن الفصل بين الحداثة والتحديث كما يرى ألان تورين يسهل «توضيحه اليوم أكثر من الماضي؛ ففي الماضي كان الاعتقاد السائد هو أن الدول الأكثر حداثة هي أكثرها أخذاً بوسائل التحديث، أما اليوم فالأمور تغيرت، حيث أصبح من الممكن لبلدان غير حداثية أن تكون أكثر تحديثاً من أكثر البلدان تقدماً في الحداثة»، وبناء على هذا الطرح - وهذا ما يقع على مستوى البلدان العربية - يمكن ملاحظة أن ما تقدمه الحكومات من سياسات توحي بتحديث القطاعات وتلفيقها للحداثة، ما هو إلا مسألة سياسية، فالمجتمعات العربية لم تشهد بعد ثورة اقتصادية أو علمية مبنية على الملاحظة والتجربة، فالإصلاحات الدينية لاتزال خجولة، يحتكرها حراس التأويل ، وما وقع من ثورات فكرية تعتمد على العقل، ما هي إلا مشاريع خجولة واجهت الفشل أمام صنم الاستبداد، وانحصرت في نقاش معيقات الحداثة من داخل عالم الأفكار، ونسيت أن المعيق الأساسي لكل تحديث أو حداثة مرتبط في الأساس بالإرادة السياسية التي تستعيض بالتحديث عن الحداثة؛ إيهاماً ومخاتلة.
كما أن اصطدام الشعوب العربية بظاهرة الاستعمار تركها أمام إشكاليات عميقة، ليس فقط مع مفاهيم  من قبيل الفرد والديمقراطية والحرية، بل حتى في مواجهتها للعنصر المؤسس للتقدم، وهو العلم التجريبي الذي قدم منافع للناس في ميادين الطب والمواصلات وتحسين الإنتاج، وكذلك العقل الذي ساعد على تخطيط السياسة الاستعمارية ونجاحها.
إجمالاً، يعود استنبات الحداثة في التربة العربية إلى انعدام الإرادة السياسية، بالإضافة إلى العوامل الناتجة عن غياب هذه الإرادة، وعن تكريسها للقمع، ومادام هناك عوامل تعيق تحرير الفرد سياسياً واجتماعياً وعائلياً وعشائريا وفكرياً، والحريات المدنية والسياسية للفرد، وما يعوق الديمقراطية في سيادة الشعب، والعقلانية العلمية (منطق التجريب والاستقراء) من جراء اللجوء إلى الغيبيات في الحياة وفي السلوك، فإن الحداثة لاتزال مسألة لم تشق طريقها كما ينبغي في المجتمعات العربية، وعليه لابد من وعي تلك المعيقات لأجل تجاوزها في أفق استيعاب الحــــداثة التي تستحقها مجتمعاتنا ■